غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

وتحقيق الكلام في هذا المقام يستدعي رسم مقدّمة ، هي أنّ القطع قد يتعلّق بأمر بديهيّ لا يحتاج إلّا إلى التفات ، مثل تعلّقه بكون الكلّ أعظم من الجزء مثلا ، ومثل هذا القطع لا يتوقّف على مبادئ غير التفات الملتفت نحوها فقط ، وقد يتعلّق بأمر نظري متوقّف على القطع بالملازمة والقطع بالملزوم ، مثل القطع بحدوث العالم مثلا ، فإنّه موقوف على القطع بالملازمة بين الحدوث والتغيّر ، وعلى [القطع ب](١) الملزوم وهو التغيّر ، فإذا أحرز وقطع بهذين الأمرين ـ وهما الملازمة والملزوم ـ يقطع باللازم وهو حدوث العالم مثلا. وكذا الكلام في بقيّة الأشكال الأربعة ، لرجوعها إلى الشكل الأوّل ، فيترتّب الكلام الّذي ذكرناه من أنّ القطع بالملزوم والملازمة يحصّل القطع باللازم ، وانتفاء القطع بأحدهما يوجب الشكّ باللازم ، وهو واضح بحسب الظاهر.

إذا عرفت ما ذكرناه فالقطّاع :

إمّا أن يراد به من كان كثير الاطّلاع بالملازمات والملزومات ـ نظير الطبيب مثلا من جهة اطّلاعه على حال المريض وملزوماته وملازماته فيقطع بأنّ هذا المريض مثلا يصحو غدا أو يموت بعد ساعة مثلا ، بحيث لو فرض حصول العلم بالملازمة والملزوم لغير ذلك الطبيب من آحاد الناس لقطع باللازم ، لكونه من الامور المتعارف حصولها بعد هذه المقدّمات مثلا ، فمثل هذا القطّاع لا ينبغي أن يطرأ الشكّ في حجّية قطعه ، بل إنّ قطعه حجّة بلا كلام ولا نزاع أصلا.

وإمّا أن يكون المراد بالقطّاع من كان كثير القطع ، بمعنى أنّه يرى بعض الأشياء فيقطع بأنّها ملزومات ، وكذا يقطع بالملازمات فيقطع باللازم بحيث أنّ هذه

__________________

(١) زيادة اقتضاها السياق.

٦١

الأسباب الّتي دعته إلى القطع بالملازمة والملزوم لا توجب لغيره من آحاد الناس القطع أصلا. فهذا يخطّئ من لم يحصل له القطع ، لأنّه يرى أنّ الملازمات والملزومات امور لا يحتاج الالتفات إليها إلى تجشّم أصلا ، فهذا يرى قطعه حاصلا من الأسباب المتعارفة ، فلا يمكن نهيه عن العمل بموجب قطعه قطعا.

وإمّا أن يراد بالقطّاع من التفت إلى أفراد قطعه السابقة وعلم بأنّها مخالفة للواقع ، فهو وإن كان لا يرى قطعه الحالي مخالفا للواقع أصلا ، وإنّما يرى بسبب الاستقراء والتتبّع أنّ أفراد قطعه السابقة ليست حاصلة من أسباب يتعارف حصول القطع منها لسائر الناس ، لأنّها قد تحصل لسائر الناس فلا يحصل لهم ما يحصل له أصلا ، فهو وإن كان لا يرى قطعه الحالي قطعا حاصلا من أسباب غير متعارفة ، بل يراه حاصلا من الأسباب الّتي لو حصلت لسائر الناس لحصل لهم ما حصل له من القطع. فهذا حيث هو ملتفت إلى أفراد قطعه السابقة يمكن أن لا يكون الدليل الشرعي الّذي يجعل القطع موضوعا لحكم شرعي شاملا له ، لالتفاته إلى أنّ القطع المأخوذ في الموضوع هو القطع الّذي يحصل من الأسباب الّتي يتعارف حصول القطع منها لسائر الناس وأفراد قطعه السابقة ليست كذلك ، هذا بالنسبة إلى القطع الموضوعي.

وأمّا القطع الطريقي فلا يمكن أن ينهى عن العمل على طبقه ، لأنّه لا يلتفت إلى أنّ قطعه الحالي من أسباب غير متعارفة ، وطريقيّة القطع ذاتيّة لا يمكن التصرّف فيها أصلا.

نعم ، لو كانت الأسباب الّتي يحصل له منها القطع أسبابا معلومة أمكن نهيه عن الخوض فيها ، وحينئذ فلو خاض فيها فحصل له القطع مثلا فعمل لا يكون عمله حينئذ مقبولا ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان ينافيه خطابا ، فافهم وتأمّل.

٦٢

في ما ذكره المحدّثون من المنع عن العمل

بالقطع الغير الحاصل من الكتاب والسنّة

ويقع الكلام في موردين :

أحدهما : صحّة هذه النسبة إليهم وكذبها.

الثاني : أنّه على تقدير صحّة النسبة إليهم هل يمكن الالتزام بما ذكروه أم لا؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل فقد أنكر الآخوند قدس‌سره هذه الدعوى (١) وأنّ نسبة ذلك إليهم غير صحيح ، بل إنّ كلامهم دائر بين أمرين : إنكار الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، أو المنع عن العمل بغير الكتاب والسنّة لعدم إفادته القطع ، والظنّ ليس بحجّة إن لم يدلّ دليل بالخصوص على حجّيته.

والإنصاف أنّ كلام السيّد الصدر صريح في أنّ القطع الغير الحاصل من الكتاب والسنّة ليس بحجّة (٢).

وكلام المحدّث الجزائري (٣) ظاهر في ذلك أيضا ، لحصره جواز العمل بالكتاب والسنّة والقطع البديهي ، فإنّ الظاهر منه أنّ القطع العقلي النظري لا يجوز العمل به.

وبالجملة ، فالمنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ثابت عن بعض الأخباريين.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يمكن أن يكون مرادهم أنّ القطع إذا تعلّق بملاكات الأحكام الواقعيّة لا يمكن العمل عليه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١١.

(٢) انظر شرح الوافية : ٢١٤ (مخطوط).

(٣) نقل الشيخ عنه في شرحه على التهذيب ، انظر الفرائد ١ : ٥٤.

٦٣

ويمكن أن يكون مرادهم أنّ إدراك العقل للحسن والقبح ـ بمعنى تحسين العقلاء مدح فاعل العمل الفلاني وتقبيح ذمّه وعقابه ، وتحسين عقاب فاعل العمل الفلاني وتقبيح مدحه ـ لا يكون مدركا لحكم شرعي.

ويمكن أن يكون مرادهم أنّ إدراك العقل وقطعه بالامور التكوينيّة الخارجيّة لا يكون مدركا لحكم شرعيّ أصلا.

فإن كان مرادهم الأوّل ، فإن كان مرادهم أنّ العقل لا يدرك مصالح الأحكام الواقعيّة ـ لقصوره عن إدراكها بحيث يعلم بتحقّقها وعدم المانع عنها ـ فما ذكره الأخباريّون حينئذ صحيح ، لأنّ العقل البشري باعتبار قصوره ـ لكون إدراكه محدودا ـ ليست له القوّة الّتي يقتدر بها على إدراك مصالح الحكم الشرعي ، وعلى تقدير إدراكه لها لا يدرك عدم اقترانها بالمانع ، فلعلّ مصلحة الحكم مثلا وإن كانت موجودة إلّا أنّ هناك مانعا عنها.

وإن كان المراد أنّه لو فرض محالا إدراك العقل لمصلحة الحكم الشرعي وأنّها غير مزاحمة بمانع فلا بدّ حينئذ من الالتزام بالحكم الشرعي ، لأنّه حينئذ ليس له أن لا يجعل الحكم الشرعي لأنّ المفروض وجودها وعدم المانع من الإلزام بها ، فيكون الانتقال إلى الحكم الشرعيّ انتقالا من العلّة إلى المعلول أي من المصلحة إلى معلولها وهو الحكم.

وإن كان مراد الأخباريين أنّ إدراك العقل للحسن والقبح في الأفعال وقطعه بها لا يكون مدركا لحكم شرعيّ :

فإن أرادوا أنّ العقل لا يدرك الحسن والقبح في الأفعال ـ بمعنى أنّه لا يدرك أنّ العمل الفلاني يحسن مدح فاعله وثوابه ، وأنّ العمل الفلاني يقبح مدح فاعله وإعطائه الثواب ـ فهذا أمر غير معقول ، لأنّه لو لا إدراك العقل لحسن الطاعة وقبح المعصية لما كان فائدة لأوامر المولى ونواهيه ، فإنّه لو لا إدراكه حسن المثوبة على الطاعة والعقوبة على المعصية لما كان يجدي أوامر المولى للانبعاث والانزجار نحو

٦٤

الطاعة والمعصية ، وهذا معنى أنّ العقل رسول باطنيّ بمعنى أنّه يدرك تحتّم الواجب لما يترتّب عليه من مثوبة وقبح المحرّم لما يترتّب عليه من عقوبة.

وإن أرادوا أنّ العقل بادراكه لهذه الامور لا يستكشف حكما شرعيّا فهو صحيح ، لأنّ الأحكام الشرعيّة لا دخل لها بحسن الطاعة وقبح المعصية ، وإن وردت فهي أوامر إرشاديّة لا مولويّة ، للزوم التسلسل لو اخذت مولويّة كما تقدّم مرارا ، فافهم.

وإن كان مراد الأخباريين أنّ إدراك العقل للامور التكوينيّة لا يكون مدركا لحكم شرعي ـ مثلا إدراكه للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته وإدراكه للملزوم وهو وجوب ذي المقدّمة لا يكون مدركا لحكم شرعي ـ فقد ذكرنا أنّ القياس البرهانيّ إذا تمّ أمر الملازمة والملزوم وقطع بهما فلا مجال لتخلّف القطع باللازم ، وحينئذ فالقطع بالامور التكوينيّة وهو الملازمة العقليّة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته أمر واقعي وجب شرعا أم لم يجب ، إذا انضمّ إليه القطع بالملزوم وهو وجوب ذي المقدّمة شرعا يترتّب عليهما وجوب المقدّمة أيضا بالوجوب الشرعي وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى كلفة الاستدلال ، فافهم وتأمّل.

[الأمثلة التي يتوهّم منها مخالفة القطع الطريقي]

فانقدح وظهر ممّا ذكرنا أنّ القطع الطريقي لا يمكن أن ينهى عن العمل به بعد حصوله من أيّ سبب اتّفق حصوله ، من الكتاب والسنّة أو من غيرهما ، سواء كان سببا اعتياديّا لحصول القطع أو سببا غير اعتيادي. فما يتوهّم من أنّه قد ورد في الشريعة المقدّسة النهي عن العمل بالقطع الطريقيّ في بعض الفروع لا بدّ من ذكره والجواب عنها.

والجواب أمّا إجمالا فبأنّها شبهة في قبال البداهة لأنّ طريقيّة القطع ذاتيّة لا يمكن النهي عنها شرعا ، للزوم التناقض في نظر القاطع.

٦٥

فمن تلك الفروع ما دلّت عليه رواية السكوني في الودعي الّذي اودع عنده درهمان لزيد ودرهم لعمرو ، فتلف أحد الدراهم الثلاثة من غير تفريط من أنّ لزيد درهما ونصفا ولعمرو نصف درهم (١). فهنا نعلم إجمالا بأنّ أحد هذين قد أخذ ما ليس له ، لأنّ الدرهم التالف إن كان من زيد فليس له أن يأخذ نصف درهم عمرو ، وإن كان التالف من عمرو فليس له أن يأخذ نصف درهم زيد ، فلو انتقل هذان النصفان إلى شخص ثالث واشترى بهما جارية فهو يقطع بأنّ بعض هذه الجارية ليس له ، لأنّه يعلم بأنّ أحد النصفين قد انتقل إليه من غير مالكه ، ومع ذلك يجوّزون له وطأها وبقيّة الاستمتاعات من النظر واللمس وغيرها ، فما ذلك إلّا لأنّ هذا القطع التفصيلي قد نهى عن اتّباعه ، بمعنى أنّ الشارع قد جوّز العمل على غير القطع ولم يعتن به أصلا.

وقد اجيب بأنّ الشركة من الأسباب المملّكة فإنّ من كان عنده مقدار من الحنطة فاختلط بمقدار من الحنطة لغيره فقد حكم الشارع حينئذ باشتراكهما في المال المختلط وإن كان واقعا متميّزا ، ففي المقام لمّا اختلط الدرهم بالدرهمين حصلت الإشاعة فصار المال مشتركا واقعا ، فلذا يقسّم هكذا فهما مالكان حقيقة ، هذا لنصف وذاك لدرهم ونصف.

ولا يخفى عليك أنّ هذا ـ (مع عدم انطباقه على ما نحن فيه فإنّ الشركة إنّما تكون إذا كان الاختلاط مقتضيا للمزج بنحو لا يتميّز عرفا لا ما كان من قبيل اشتباه المال مع انفصاله) (٢) ـ يقضي بالتقسيم أثلاثا ؛ فلصاحب الدرهمين ثلثاهما ، ولصاحب الدرهم ثلثهما ولا يقضي بالتنصيف كما هو صريح خبر السكوني.

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ المورد من موارد الصلح القهري ، فإنّ الشارع

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ١٧١ ، الباب ١٢ من كتاب الصلح ، الحديث الأوّل.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٦

في هذه الموارد باعتبار ولايته على الجميع وكونه هو المالك الحقيقي له ولاية ذلك ، فلذا يكون المورد بموجب هذا الخبر مبيّنا بأنّ الحكم في مثل المقام من جهة الصلح القهري ، وحينئذ فبالصلح القهري يكون كلّ منهما مالكا للنصف واقعا ، وحينئذ فلو اشترى من انتقل إليه النصفان بهما جارية فهو مالك لها ، لشرائه لها بمال يملكه لانتقاله إليه من مالكه.

(أو يقال : إنّ الشارع الّذي حكم بحرمة التصرّف في أموال الغير هو الّذي حكم بجواز التصرّف في خصوص المقام من جهة المصلحة النوعيّة) (١).

أو يجاب بأنّ قاعدة العدل والإنصاف من القواعد العقلائيّة ولم ينه عنها الشارع فكان مقرّرا لها ، وذلك أنّ الدرهم المفقود في المقام حيث لا يعلم بأنّه لمن؟ فقاعدة العدل والإنصاف تقضي بأحد الدرهمين الباقيين لمالك الدرهمين إذ لا يدّعيه صاحب الدرهم ، ويبقى الدرهم الباقي يتداعيانه فيقسم بينهما نصفين توصّلا إلى إيصال بعض الحقّ لأهله.

ولا يخفى أنّ هذه القاعدة مفادها الحكم الظاهري بالانتقال بخلاف الصلح القهري ، فإنّ مفاده الحكم الواقعي به. وحينئذ فإذا كان مفاد قاعدة العدل والإنصاف الحكم الظاهري فنقول : إنّ موضوع جواز الاتّهاب والمبايعة والمشاراة بالمال هو جواز التصرّف ظاهرا ، وحينئذ فلو وهبا النصفين لزيد يكون زيد مالكا للنصفين واقعا لا ظاهرا.

ولو لم يمكن الجواب عنها ـ بعدم تماميّة الصلح القهري وبالقول بأنّ ما يترتّب على الإباحة وجواز التصرّف ليس إلّا الإباحة وجواز التصرّف ـ نلتزم حينئذ بحرمة وطء الجارية المشتراة بالنصفين ولا ضير فيه أصلا ، إذ لم يرد نصّ بإباحة وطء مثلها حتّى يستكشف أنّ الشارع جوّز مخالفة القطع.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٧

ومنها : ما لو تنازع البائع والمشتري بأنّ المبيع عبد أو جارية مع اتّفاقهما على وقوع البيع بثمن معيّن فيتحالفان ويرجع الثمن ملكا للمشتري والمثمن ملكا للبائع مع اتّفاقهما على أنّ الثمن قد خرج عن ملك المشتري ، وكذا العكس وهو ما لو اتّفقا على أنّ الجارية هي المثمن ، والثمن أحد أمرين متباينين ، فالبائع يدّعي أنّه عشر دنانير ، والمشتري يدّعي أنّه خمسون درهما مثلا ، فهما في المقام يقطعان بأنّ الجارية قد انتقلت إلى المشتري كما يقطعان في الصورة الاولى بانتقال الثمن إلى البائع ، فقد حكم الشارع بمخالفة القطع ورجوع المثمن إلى البائع والثمن إلى المشتري مع تحالفهما أو نكولهما.

والجواب : أنّ التحالف في المقام يوجب انفساخ المعاملة واقعا فيعود كلّ من العوضين إلى ملك صاحبه ، فلو لم نقل بالفسخ بالتحالف أو إنّهما نكلا معا لقلنا بالفسخ القهري في المقام ، وإلّا فنلتزم بأنّ في هذا الحال يحكم ظاهرا لعدم البيّنة على أحد الأمرين فيحكم الحاكم حكما ظاهريّا برجوعه إلى مالكه بالفسخ الظاهري ، وجواز انتقاله واقعا إلى غيره موقوف على جواز تصرّف الناقل لا على ملكه الواقعي. أو يقال بأنّ الشارع المانع من التصرّف في مال الغير جوّز في خصوص هذا المورد التصرّف في مال الغير كما أجازه في حقّ المارّة وشبهه من الموارد الأخر ، فافهم.

ولو لم نقل بهذا نلتزم بأنّه لا يجوز المبايعة بذلك الثمن كما لا يجوز لأحد شراء تلك الجارية ووطؤها ، ولا ضير في الالتزام به لعدم ورود نصّ ينافي ذلك ، فافهم.

ومنها : ما لو وجد في الثوب المشترك بينه وبين شخص آخر منيّا فقد أفتى جمع من الفقهاء (١) بجواز ائتمام أحدهما بالآخر وبجواز ائتمام ثالث عالم بجنابة أحد هذين

__________________

(١) منهم العلّامة في التذكرة ١ : ٢٢٤ ، والتحرير ١ : ٩٠ ، ونهاية الأحكام ١ : ١٠١ ، والسيّد العاملي في المدارك ١ : ٢٧٠.

٦٨

بهما في صلاة واحدة أو صلاتين مترتّبتين فيما بينهما ، مع أنّه يعلم تفصيلا في الصورة الاولى ببطلان صلاته إمّا لجنابته أو لجنابة إمامه ، وفي الثانية يعلم ببطلان صلاته لائتمامه بفاقد الطهور. وفي الصلاتين المترتّبتين ببطلان الثانية إمّا لجنابة إمامه فيها أو لجنابة إمامه في الاولى فتكون الاولى باطلة والمفروض أنّ الثانية مترتّبة على الاولى الصحيحة فتكون باطلة ، فيكون الحكم بالصحّة في هذه الموارد كاشفا عن جواز مخالفة الحكم المقطوع.

والجواب : أنّ هذه المسألة لا ربط لها بالقطع وجواز مخالفته ، وذلك لأنّها مبتنية على أنّ شرط صحّة الائتمام هو صحّة صلاة الإمام عنده نفسه ، أو صحّتها الواقعيّة ، فإنّ قلنا بالأوّل فالصلاة للمأموم حينئذ صحيحة ولو علم تفصيلا بطلان صلاة إمامه فضلا عن العلم الإجمالي إذا لم يكن الإمام عالما ببطلانها ، وإن قلنا بالثاني نقول بعدم جواز ائتمام أحدهما بالآخر ، لعدم إحرازه لشرط صحّة الائتمام ، (واستصحاب طهارة إمامه معارض باستصحاب طهارته لوجود الأثر لهما. ولا يجوز لثالث الائتمام بهما أو بأحدهما مع عدالتهما ، لتعارض الاستصحابين.

نعم ، مع فسق أحدهما أو خروجه عن جواز الإمامة أو محلّ الابتلاء لا مانع من الائتمام بالثاني ، لعدم الأثر لاستصحاب طهارة الآخر ، فلا معارض حينئذ لاستصحاب طهارة الإمام) (١) ، وحينئذ فلا ربط لهذه المسألة بجواز مخالفة القطع أصلا ، إذ على الأوّل لا مخالفة للقطع ، لأنّه لا يعلم بطلان صلاته لا تفصيلا ولا إجمالا.

ومنها : ما لو علم بملكيّة زيد لهذا المال فادّعى عمرو أنّه باعه عليه ، فزيد مالك له لبيع عمرو له عليه ، وانكر زيد البيع وادّعى أنّه وهبه له فلا يستحقّه بالثمن ، فقد حكم في هذه الواقعة برجوع العين لعمرو مع العلم تفصيلا بانتقالها عنه ، فليس ذلك إلّا من جهة جواز مخالفة القطع.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٩

والجواب : أنّ هذه الهبة المدّعاة تارة تكون جائزة فإنكارها رجوع حينئذ فعمرو يستحقّ العين ، لأنّه إمّا بائع لم يقبض الثمن أو واهب راجع بهبته ، وحينئذ فمن أين يحصل العلم بأنّه أخذها من غير حقّ؟ وتارة تكون لازمة كما إذا كان زيد ولد عمرو أو من أرحامه الّذين تلزم الهبة بالنسبة إليهم أو قصد بها القربة أو كانت معوّضة بعين خارجية مثلا ، (فحكم الشارع بجواز أخذ العين لعلّه من جهة التقاصّ بالثمن لكونه في الواقع بائعا لها عليه فأين المخالفة للعلم التفصيلي؟

ولو فرض زيادة قيمتها على الثمن المدّعى فتحالفا) (١) فهنا لا بدّ في الحكم بالإرجاع للعين لعمرو من التزام حكم الشارع بالانفساخ بالتحالف وهو واضح جدّا.

ومنها : ما لو أقرّ بمال لزيد ثمّ أقرّ به لعمرو فيعطى المال لزيد ثمّ يغرم مثله لعمر مع العلم بأنّ أحد هذين قد أخذ ما لا يستحقّ ، لاستحالة كون مال واحد مملوكا بنحو الاستقلال لأكثر من واحد. فلو انتقل العين ومثلها إلى ثالث لا يجوز له التصرّف فيهما لعلمه بعدم انتقال أحدهما إليه لأنّه من غير مالكه الواقعي ، فجواز التصرّف ليس إلّا من جهة عدم الاعتناء بهذا القطع.

والجواب : أنّه أقرّ بالعين وهي في يده فإقراره إقرار في حقّ نفسه وهو مقبول ، ثمّ أقرّ بها بعد حكم الشارع بكونها للمقرّ له ، وحينئذ فهي بحكم ما لو أتلفها المقرّ فلا بدّ من الانتقال إلى المثل.

وأمّا جواز تصرّف من انتقل إليه العين والمثل أو القيمة فهو من جهة أنّ جواز تصرّف ذي اليد ظاهرا كاف في ترتيب المنتقل إليه الأحكام الثابتة للملكيّة الواقعيّة وتثبت نفس الملكيّة الواقعيّة ، وإلّا فلا نلتزم بجواز تصرّف المنتقل إليه فيهما.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٧٠

(ومنها : الحكم بجواز ارتكاب جميع أطراف الشبهة الغير المحصورة.

والجواب : أنّ جواز الارتكاب لعدم تنجيز العلم الإجمالي لأنّ بعض الأطراف خارج عن محلّ الابتلاء أو يكون حكم غير المحصورة كالمحصورة في لزوم الاجتناب) (١).

وبالجملة ، فقد ظهر أن ليس مورد من الموارد الشرعيّة قد نهى الشارع عن الجري على طبق القطع لأدائه إلى المناقضة في نظر القاطع أو واقعا فالنهي عنه مستحيل بعد كون طريقيّة القطع ذاتيّة غير قابلة للإثبات والنفي شرعا ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٧١

في العلم الإجمالي

والكلام في العلم الإجمالي يقع تارة في كون الامتثال الإجمالي في عرض التفصيلي أم لا؟ وسيأتي الكلام فيه ، واخرى في تنجّز التكليف به كالعلم التفصيلي وهو يقع في مقامين :

في وجوب الموافقة القطعيّة ، وهو موكول إلى مبحث الشكّ في إجراء البراءة في نظير المقام أو الاشتغال.

وفي حرمة المخالفة القطعيّة ، والكلام في حرمة المخالفة القطعيّة يلزم أن يكون من جهات :

الاولى : أنّ المقتضي لحرمة المخالفة القطعيّة في العلم الإجمالي موجود كالعلم التفصيلي أم لا؟

الثانية : أنّه هل رتبة الحكم الظاهري محفوظة في الأطراف مع العلم الإجمالي أم لا؟

الثالثة : أنّه بعد فرض حفظ رتبة الحكم الظاهري في الأطراف فهل هو واقع أم لا؟

أمّا الكلام في الجهة الاولى فنقول : ربّما يقال إنّه قد اخذ في مفهوم المخالفة المحرّمة العلم بالمخالفة حين العمل تفصيلا وأنّ المخالفة الغير المعلومة حين العمل لا يترتّب عليها أثر من عقاب ونحوه ، ولذا لا يترتّب على المخالفة الواقعيّة في الشبهات البدويّة والغير المحصورة أثر أصلا. وحينئذ فلو علم إجمالا نجاسة أحد الإناءين فهو حين شربه للأوّل لا يعلم بأنّه بخصوصه نجس ، وكذا حين استعماله للثاني عينا.

والجواب : أنّ الوصول قد اخذ في موضوع المعصية ، لأنّ المعصية عبارة عن الخروج عن الطاعة ، ولا يتصوّر الخروج عن الطاعة إلّا إذا احرز كون هذا الإناء نجسا ـ مثلا ـ وأنّ النجس يحرم تناوله ، فهو بعد إحراز الصغرى والكبرى إذا أقدم

٧٢

على العمل يكون عاصيا. وأمّا أنّ المعرفة التفصيليّة بمعنى تمييز الحرام وتشخيصه شرط فلا. وهذا معلوم بالوجدان فإنّ من أحرز أنّ مبغوض المولى مثلا مردّد بين شيئين لا يتوقّف في لزوم تركهما أصلا ، وكان منشأ المغالطة في المقام هو الخلط بين الوصول وبين التمييز والعلم التفصيلي والغفلة عن أنّ الوصول متحقّق في العلم الإجمالي كتحقّقه في العلم التفصيلي ، وهذا بخلاف ما نظّروا به المقام من الشبهة البدويّة فإنّها لا وصول فيها.

وأمّا الشبهة الغير المحصورة فسيأتي الكلام فيها في موردها إن شاء الله تعالى.

وأمّا الجهة الثانية : وهي أنّه هل مرتبة الحكم الظاهري محفوظة في أطراف المعلوم إجمالا فيمكن إجراء الاصول فيها عقلا أم لا يمكن ذلك عقلا؟ ذهب الآخوند قدس‌سره (١) إلى الإمكان مدّعيا أنّ مرتبة الحكم الظاهري هي الشكّ وهي محفوظة في المقام ، لأنّ العلم الإجمالي مشوب بالشكّ من ناحية الخصوصيّة وعدم تعيينها ومنظّرا لذلك بإجراء الاصول في الشبهة الغير المحصورة وبالشبهة البدويّة أيضا ، لأنّ المرتبة للحكم الظاهري في الجميع موجودة.

(وقد سلك في المقام مسلكه المشهور من أنّ الحكم الواقعي إن كان فعليّا من جميع الجهات فلا مجال حينئذ للترخيص فيه حتّى في ظرف الجهل به ، لاستلزامه الترخيص في فعله المستلزم لاحتمال جمع الضدّين في الشبهة البدويّة الّذي هو على حدّ العلم بجمع الضدّين في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي في الاستحالة. وإن لم يكن فعليّا من جميع الجهات ، بل كان فعليّا من بعضها دون بعض كان مجال الترخيص حينئذ موجودا فيمكن جعل الحكم الظاهريّ) (٢) ، ولا ينافيه الحكم الواقعي للزومه في كلّ حكم ظاهري. والجواب الجواب.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١٣.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٧٣

وبالجملة ، الحكم الظاهري والحكم الواقعي إن كان بينهما منافاة ـ من جهة كون الواقعي فعليّا من تمام الجهات ـ فلا يمكن اجتماعهما حتّى في الشبهة البدويّة والمقرونة بالعلم الإجمالي إذا كانت غير محصورة. وإن لم يكن بينهما منافاة أصلا ـ كما إذا كان الحكم الواقعي فعليّا من بعض الجهات ـ فلا مانع عن اجتماعهما.

[الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي]

والجواب موقوف على مقدّمة وهي عبارة عن بيان الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي فنقول : بعد أن كان الحكم هو عبارة عن الاعتبار النفسانيّ ـ يعني اعتبار كون العمل الفلاني على ذمّة المكلّف ـ فليس بين نفس الاعتبارين تمانع أصلا ، لأنّ الاعتبار سهل المئونة جدّا. (وكذا الكلام بناء على أنّ الحكم هو نفس الإنشاء وأنّه نوع من الوجود كما اختاره الآخوند (١) نفسه فإنّ الإنشاءين لا يتمانعان بأنفسهما) (٢) ، وإنّما التمانع بين الأحكام إنّما هو إمّا من جهة العلّة للحكم أو المعلول ، بيان ذلك : أنّ الأحكام باعتبار كونها معلولات للمصالح والمفاسد الواقعيّة فالمصالح والمفاسد علل لها ، وإذا كانت عللا فهي تكون منشأ لتضادّ الأحكام المعلولات ، لأنّ الوجوب معلول للمصلحة في الفعل والتحريم معلول لمفسدة في الفعل ، والمصلحة والمفسدة متضادّان.

وأمّا من جهة المعلول للحكم وهو الانبعاث والانزجار فإنّهما معلولان للخطابين ، وحيث إنّهما متضادّان فتكون عللهما وهي الأحكام متضادّة أيضا. وبعبارة اخرى أنّ مرتبة الامتثال مرتبة الانبعاث والانزجار ، فإنّ البعث نحو الشيء ينافي الترخيص في تركه مثلا.

__________________

(١) الكفاية : ٣٢١ ـ ٣٢٢

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٧٤

وحينئذ فقد ظهر جليّا أنّ نفس الأحكام يعني الاعتبارات لا مضادّة بينها ، وإنّما التضادّ إمّا في جهة عللها أو في جهة معلولها ، فننقل الكلام إلى الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي ، فنقول : الحكم الظاهري والحكم الواقعي ليس بينهما تضادّ أصلا لا في مرتبة علل الأحكام ، لأنّ الحكم الواقعي قد أجمع العدليّة على كونه تابعا للمصلحة في متعلّقه ، وأمّا الحكم الظاهري فليس تابعا للمصلحة في المتعلّق فقد تكون مصلحته في نفس الجعل كمصلحة التسهيل على المكلّفين مثلا. وحينئذ فلو كان الحكم الواقعي الوجوب فهو ناشئ عن مصلحة في الفعل ، فلو كان الحكم الظاهري من جهة عدم الوصول الإباحة فليس معنى الإباحة أنّ هذا الفعل واقعا لا مصلحة فيه ولا مفسدة حتّى ينافي الوجوب الكاشف عن المصلحة في الفعل.

كما أنّه لا مضادّة ولا منافاة بين الحكم الظاهري والواقعي في مرحلة الامتثال أيضا ، لأنّ الحكم الظاهري قد اخذ فيه الجهل بالحكم الواقعي والشكّ فيه ، وحينئذ فيستحيل أن يكونا واصلين إلى مرتبة الامتثال ، لأنّ وصول الحكم الواقعي يوجب ارتفاع موضوع الحكم الظاهري.

ومن هنا ظهر أنّ قياس الآخوند (١) جريان الاصول في الشبهة البدويّة بجريان الاصول في العلم الإجمالي غير مستقيم ، لأنّه في الشبهة البدويّة لم يصل الحكم الواقعي إلى المكلّف فجاز جعل الحكم الظاهري ، بخلاف صورة العلم الإجمالي فإنّ الوصول متحقّق فيه فلا يمكن جعل الحكم الظاهري حينئذ أصلا ، (لأنّ المناط الموجب لاستحالة الجعل هو أنّه مع وصول الحكم الواقعي لا يبقى موضوع الحكم الظاهري وهو الجهل بالحكم بخلاف صورة الشبهة البدويّة فإنّه لا وصول فيها للحكم.

__________________

(١) انظر الكفاية : ٣١٣.

٧٥

نعم ، لو كان المنشأ المضادّة بين الحكمين لم يكن فرق كما ذكره الآخوند قدس‌سره وسيأتي الكلام فيما ذكره : من أنّ الحكم الواقعي قد يكون فعليّا من بعض الجهات ، وردّه بأنّه إمّا أن يكون فعليّا إذا تحقّق موضوعه بجميع قيوده وإلّا فلا يكون فعليّا ، فالفعليّة من بعض الجهات أمر لا نتعقّله) (١).

وأمّا قياس المقام بالشبهة الغير المحصورة فإن قلنا بأنّ الشبهة الغير المحصورة هي عبارة عن كون الشبهة كثيرة الأطراف ـ ككونها خمسين طرفا مثلا ـ وجوّزنا ارتكاب جميع الأطراف كان النقض واردا لا محيص عنه ، لكنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة إنّما هو عدم قدرة المكلّف على المخالفة القطعيّة ، لأنّ الأفراد غير مقدورة له كلّها ، أو لخروج بعضها عن كونها محلّا لابتلائه. فالشبهة الغير المحصورة المجوّزة للارتكاب فيها ليس صرف كونها غير محصورة ، بل إمّا كون بعض الأطراف فيها غير مقدور للمكلّف مثلا أو خارجا عن محلّ ابتلائه.

نعم ، قد يحكم الشارع بجواز ارتكاب بعض الأطراف أو كلّها في غير المحصورة من جهة أنّ التزام تركها حينئذ عسر أو حرج أو ضرر أو غير ذلك. وحينئذ فقد ظهر أنّ مرتبة الحكم الظاهريّ غير محفوظة مع العلم الإجمالي بالشيء.

ثمّ إنّه لو تنزّلنا فقلنا بحفظ مرتبة الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي وإمكان جعله فهل هو واقع أم لا؟ بمعنى أنّ أدلّة الاصول هل تكون شاملة لأطراف العلم الإجمالي أم لا؟ يظهر من الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) عدم الشمول ، وذلك لزعمه الإجمال الناشئ من المنافاة بين الصدر والذيل لو عمل بعمومهما أو إطلاقهما فإنّ صدر الخبر مثل قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» إن شمل الشكّ البدوي والمقرون بالعلم الإجمالي كليهما كان منافيا للذيل ، لأنّ قوله : «ولكن انقضه بيقين مثله»

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) انظر الفرائد ١ : ٨٦ و ٩٣.

٧٦

أيضا شامل لليقين الإجمالي فيجوز نقض الشكّ باليقين الإجمالي ، وقد فرض أنّ مؤدّى الصدر عدم الجواز فيلزم المنافاة.

وبالجملة ، عموم الشكّ في الصدر للشكّ المقرون بالعلم الإجمالي مع إطلاق اليقين في الذيل للإجمالي والتفصيلي محال للزوم المناقضة ، ورفع اليد عن أحدهما ترجيح بلا مرجّح فيلزم الإجمال.

ثمّ إنّه قدس‌سره تعرّض إلى ما اشتمل الذيل فيه من الأخبار (١) على لفظ : «حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» الظاهر في اليقين التفصيلي ، فزعم عدم ظهوره في اليقين التفصيلي (٢) بدعوى أنّ المراد من «بعينه» التأكيد لا التعيين نظير أن يقول القائل الّذي قد اشتبه عليه إناء زيد بين إناءين أنا أعلم أنّ إناء زيد بعينه موجود بين هذين الإناءين ، فافهم.

والظاهر أنّ ما ذكره قدس‌سره غير مستقيم ، وذلك لأنّ الظاهر من الأخبار هو تعلّق اليقين الواقع في ذيل الأخبار بعين ما تعلّق به اليقين الواقع في الصدر ، ولا ريب أنّه اليقين التفصيلي. وحينئذ فمعنى الأخبار أنّ اليقين التفصيلي لا تنقضه إلّا بيقين تفصيلي ، ومن المعلوم أنّ اليقين الإجمالي حينئذ غير صالح لأن ينقض به اليقين التفصيلي ، فيتحكّم الحكم الظاهري حينئذ في أطرافه ، مع أنّه يلزم أن يمنع جريان الاصول وإن لم يكن العلم منجّزا ولا يلتزم بعدم جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي فيما إذا لم يكن منجّزا ، فإنّ من علم إجمالا بموت مقلده أو شخص آخر بناء على مذاق الشيخ ليس له استصحاب حياة مقلّده مع أنّه نلتزم بجريان الاستصحاب في المقام ونظائره ممّا لم ينجّز فيه العلم الإجمالي.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر الفرائد ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٢.

٧٧

وأمّا ما ذكره في لفظ «بعينه» فهو مع أنّه خلاف الظاهر منها أنّ في الأخبار ما لا يمكن حمله على ما ذكره ، وهو قوله : «حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١) فإنّ المقام ممّا لا يمكن فيه إجراء ما زعمه في اللسان الأوّل من الخبر ، (لأنّ قوله : «حتّى تعرف أنّه حرام» يمكن فيها أن يكون ضمير «أنّه» للشأن فيكون المعنى حتّى تعرف حرمته إلّا أنّ هذا اللسان الثاني قد اشتمل أوّلا على لفظ «الحرام» الّذي هو اسم لذات الحرام مع اتباعه بلفظ «بعينه» ثانيا ، وبلفظ «فتدعه» ثالثا الظاهر في تشخيصه فيتركه. ثمّ لو فرض إجمال ما اشتمل على الذيل من الأخبار ففي الخالي عن الذيل منها كفاية ، فإنّ إجمال أحد الدليلين لا يرفع ظهور الآخر) (٢) ، فافهم.

وبالجملة ، فلو لم يكن مانع في مقام الثبوت عن جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي لا يكون في مقام الإثبات مانع أيضا ، لظهور الأخبار ذيلا في العلم التفصيلي فقط فافهم ، وتأمّل.

في الاكتفاء بالامتثال الإجمالي عن التفصيلي وعدمه

والكلام يقع تارة فيما لا يمكن فيه الامتثال التفصيلي أصلا وهنا لا إشكال في كفاية الامتثال الإجمالي مطلقا لعدم القدرة على غيره ، واخرى فيما يمكن فيه كلا النحوين من الامتثال بمعنى أنّه يمكن الامتثال الإجمالي ويمكن الامتثال التفصيلي فنقول : أمّا في التوصّليّات فلا إشكال في كفاية الامتثال الإجمالي حتّى مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ سواء كان الامتثال الإجمالي مستدعيا للتكرار أم لا ، لأنّ المقصود من التوصّليّات صرف حصولها خارجا. وكذا الكلام بالنسبة إلى الامور الوضعيّة المترتّبة.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٧٨

وربّما يقال بالإشكال في الامور الوضعيّة الموقوفة على إنشاء صيغة بأنّ قصد الإنشاء يفقد حيث لا يعلم المأمور به تفصيلا ، واعتبار قصد الإنشاء ممّا لا بدّ منه في وقوع العقد صحيحا.

والجواب : أنّ ما ذكر غير صحيح ، لأنّ الإنشاء سهل المئونة وقصده موجود ويمكن إيجاده في نفس المنشئ حيث شاء سواء كان المنشأ المطلوب إنشاؤه معلوم تفصيلا أنّه كذا بعينه أم أنّه أحد الإنشاءين فافهم.

هذا كلّه في التوصّليّات.

أمّا في العبادات فمع عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي أو عدم تنجّزه كما في الشبهة الموضوعيّة لا ريب في حسن الاحتياط ، وأمّا مع التمكّن من العلم التفصيلي بالواجب وتنجّزه عليه فهل يكون الامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي مجزئا ويكون الاحتياط حسنا أم لا يكون مجزئا ولا يكون الاحتياط حسنا إلّا حيث لا يمكن الامتثال التفصيلي؟ والكلام يقع في موردين :

الأوّل : فيما لا يكون الامتثال الإجمالي والاحتياط محتاجا إلى التكرار.

الثاني : فيما يكون محتاجا إلى التكرار وكلّ منهما تارة يكون الأمر محرزا بأصل العمل والشكّ في كيفيّة الأمر به وأنّه هل هو إلزامي أم لا؟ واخرى يكون الشكّ في أصل الأمر به.

[في الاحتياط الغير الموجب للتكرار في العبادة]

والكلام يقع الآن في الأوّل ، وهو ما لا يحتاج إلى تكرار ويكون الشكّ الموجب للاحتياط احتمال كون الأمر إلزاميّا ، وذلك مثلا لو شكّ في أنّ الصلاة المأمور بها قطعا عند رؤية الهلال هل هي واجبة أم مستحبّة ، فمع إمكان الرجوع إلى الدليل ومعرفة وجوبها أو استحبابها تفصيلا هل يجوز ترك ذلك والإتيان بها رجاء؟ لا ريب في جواز ذلك ، إذ لا وجه للاستشكال فيها إلّا احتمال اعتبار قصد الوجه

٧٩

متميّزا للقاصد ، ولا ريب في عدم اعتباره ، أمّا على ما اخترناه ـ من إمكان أن يأخذه الشارع جزء أو شرطا ـ فلإطلاق الأدلّة لو كان وإلّا فلجريان البراءة ، وأمّا بناء على كونه جزء عقليّا لا شرعيّا لعدم إمكان كونه شرعيّا فلأجل أنّه من الأمور الّتي يغفل عنها العامّة ولا بدّ من التنبيه عليها من قبل الشارع ، فعدم التنبيه كاشف عن عدم اعتبارها شرعا وحينئذ فلا ريب في صحّة الاحتياط حينئذ والامتثال الإجمالي.

الثاني : ما لا يحتاج إلى التكرار مع كون منشأ الاحتياط والامتثال الإجمالي الشكّ في توجّه الأمر الإلزامي إليه وعدمه ، مثل ما لو شكّ في شيء أنّه واجب أم لا ، فمع إمكان تحصيل العلم التفصيليّ به يقع الامتثال امتثالا قطعيّا فهل يجوز الإتيان به رجاء أم لا؟ وبعبارة اخرى هل حسن الاحتياط مخصوص بصورة عدم إمكان تحصيل العلم التفصيلي أم حتّى مع إمكان ذلك هو حسن؟ المشهور بين المتأخّرين جواز الاحتياط ، لأنّ المطلوب في العبادة على تقدير وجوبها واقعا هو وقوع ذات الفعل متقرّبا به إلى الله تعالى ، وهو حاصل في المقام.

نعم ، العبادة هنا فاقدة لقصد الوجه مميّزا ، وقد ذكرنا عدم اعتباره لجريان البراءة الشرعيّة عنه ، أو لأنّ عدم البيان بيان للعدم في مثله ممّا يكون الابتلاء به كثيرا عند العامّة.

هذا هو المشهور عند كافّة المتأخّرين من الفقهاء والأصوليّين ، لكنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ذهب إلى عدم جواز الاحتياط في المقام مع التمكّن من المعرفة تفصيلا ، لأنّه زعم أنّ التحرّك عن إرادة المولى مقدّم في مقام الامتثال على التحرّك عن احتمال الإرادة ، وزعم أنّ العقل قاض بذلك مع أنّ وجوب الإطاعة للواجبات عقلي لا شرعي. وحينئذ فإذا شك في كيفية الإطاعة عقلا ينبغي أن يؤتى بكلّ

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٣ : ٧١ و ٤ : ١٤١.

٨٠