غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

المحتمل؟ وعلى تقدير إدراكه من الشرع) (١) فهو واجب مستقلّ يجب العقاب على مخالفته ولو لم يصادف الحرام الواقعي. غاية الأمر أنّه مع عدم المصادفة فالعقاب واحد من جهة مخالفة التكليف النفسي ، ومع المصادفة فعقابان : أحدهما على الحرام الواقعي ، والثاني على ارتكاب محتمل الحرمة. فإذا كان الوجوب نفسيّا فلا يكون بيانا للتكليف الواقعي المجهول أصلا ، إذ المفروض أنّ الوجوب فيه نفسيّ فهو تكليف مستقلّ لا ربط له بالواقع أصلا ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان حينئذ لا معارض لها أصلا. وهذا هو مراد الشيخ الأنصاري قدس‌سره في فرائده ، مع أنّ محتمل الحرمة يلزم أن يكون ذا عقابين ، ومقطوع الحرمة ذا عقاب واحد ، فيكون ارتكاب محتمل الحرمة أشدّ عقابا من ارتكاب مقطوع الحرمة.

(وإن كان الوجوب فيه غيريّا مقدّميّا فهو مضافا إلى وضوح بطلانه ، لعدم توقّف واجب عليه وجدانا. ولو فرض التوقّف فلا معنى لهذا الوجوب ، إذ أنّ إيجابه حينئذ إنّما هو ليحقّق احتمال الضرر ، وهو بنفس وجوب ذي المقدّمة متحقّق فلا حاجة حينئذ إلى القاعدة) (٢).

وإن كان الوجوب طريقيّا فهو من جهة الواقع فيلزم أن يكون احتمال الضرر موجودا حتّى تثبت هذه القاعدة وجوب دفعه ، كما في الفروج والدماء ، فإنّ أدلّة الاحتياط فيها توجب احتمال العقاب في محتمل التحريم فيتحقّق الموضوع للحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وكما في الشبهة البدويّة قبل الفحص عن الحكم في مظانّه. وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنّ المفروض أنّ احتمال الضرر إنّما نشأ من هذه القاعدة ، فإذا كان احتمال الضرر ناشئا من هذه القاعدة فكيف تتكفّل لحكمه؟ فيستحيل أن تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا للتكليف الواقعي.

__________________

(١ و ٢) ما بين القوسين من إضافات الدورات اللاحقة.

٢٤١

فلا بدّ أن تكون هذه القاعدة قاعدة إرشاديّة من إرشادات العقل وإنّها لا يترتّب عليها نفسها شيء ، وإنّما يترتّب العقاب على الحرام الواقعي.

هذا كلّه إن كان المراد من الضرر العقاب ، وإن اريد منه الضرر الدنيوي فيقع الكلام في استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل فإنّه ممنوع. نعم ، لو لم يكن الوقوع في الضرر الدنيوي المحتمل لغرض عقلائي كان إيقاع النفس في الضرر أمرا سفهائيّا ولكن لا بمرتبة يكون العقل ملزما بتركه وبقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع يثبت حرمته الشرعيّة.

ثمّ لو سلّمنا إدراك العقل لقبح الإلقاء في الضرر الدنيوي المحتمل فليس في ارتكاب محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب ضرر دنيوي أصلا ، أمّا في ترك محتمل الوجوب فظاهر ، لأنّ في ترك الواجب ليس إلّا ذهاب نفع ، ففي ترك محتمل الوجوب ليس إلّا احتمال ذهاب النفع. وأمّا في فعل محتمل التحريم فكذلك أيضا ، لأنّ من يشرب ماء الغير لا يبتلي بوجع الرأس أو البطن حتّى يكون ارتكاب الحرام إلقاء في الضرر الدنيوي.

وأمّا إن اريد بالضرر المفسدة فإنّه وإن كان المحتمل التحريم محتمل المفسدة على رأي العدليّة القائلين بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، إلّا أنّ استقلال العقل بلزوم ترك محتمل المفسدة أوّل الكلام ، ولذا أجمع الاصوليّون والأخباريّون على جواز تناول محتمل الحرمة من جهة الشبهة الموضوعيّة مع أنّ استقلال العقل على تقديره شامل للمقام أيضا.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ دليل العقل بقبح العقاب بلا بيان لا وجه للإشكال فيه.

نعم ، هو لا ينفع في قبال الأخباريّين ، لأنّ الأخباريّين يدّعون البيان بأخبار الاحتياط ، فلا بدّ من ملاحظة أخبارنا الّتي تقدّمت ممّا هو دالّ على الترخيص في ارتكاب محتمل التحريم مع أخبار الاحتياط وتقديم بعضها على بعض وسيأتي ذلك.

٢٤٢

[الاستدلال على البراءة بالاستصحاب]

وقد استدلّ أيضا على جواز ارتكاب محتمل التحريم بالاستصحاب ، وهو مقرّر على نحوين :

أحدهما : أن يقرّر باستصحاب عدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب وبراءة الذمّة من التكليف.

وقد اشكل على هذا الاستصحاب بعدّة إشكالات :

أحدها : ما نسبه صاحب الكفاية (١) في ذيل الأصل المثبت إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره ومضمونه : أنّ الاستصحاب يعتبر فيه أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا ذا أثر شرعي ، وعدم المنع عن الفعل ليس حكما شرعيّا ولا له أثر شرعي وعدم العقاب من لوازمه العقليّة.

ولكن لا يخفى أنّ الشيخ لم يرد ما ذكره صاحب الكفاية ، وإلّا فهو مصرّح بجريان استصحاب العدم في باب الاستصحاب.

وبالجملة ، فيرد على المناقشة المذكورة في جريان الاستصحاب أنّ المستصحب يلزم أن يكون قابلا للتعبّد الشرعي ولا يعتبر أزيد من ذلك ، إذ لم ترد رواية بلزوم كون المستصحب حكما أو موضوعا ذا أثر. وعدم التكليف قابل للتعبّد الشرعي ، إذ الشارع كما بيده جعل الحكم بيده رفعه أيضا. وحينئذ فعدم التكليف بترك محتمل التحريم الّذي هو المستصحب قابل للرفع ولأن يستصحب ، فلا يصلح عدم كونه حكما أو موضوعا ذا حكم لعدم جريان الاستصحاب فيه أصلا (مضافا إلى أنّ المستصحب مجعول في المقام كما سيأتي) (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧٦.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٤٣

الثاني من المناقشات على الاستدلال بالاستصحاب ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وملخّصه : أنّ استصحاب عدم التكليف إنّما هو استصحاب عدمه الثابت حال صغر الإنسان ، وعدم التكليف حينئذ إنّما هو من جهة اللاحرجيّة العقليّة المرتفعة قطعا حال البلوغ ، فلا معنى لاستصحابها ، إذ لا يحتمل بقاؤها أصلا.

والجواب أنّ عدم التكليف حال الصغر له زمانان : أحدهما : حال عدم قابليّته للتكليف ، وهو عقلي بمعنى اللاحرجيّة العقليّة كما ذكره قدس‌سره. والثاني : قبل البلوغ بشهر مثلا فإنّه حينئذ قابل للتكليف ، فعدم التكليف حينئذ مستند إلى الشارع ، إذ بيده جعل الحكم حينئذ ورفعه. ولذا جعله على الانثى قبل إكمال الخمس عشرة ، ورفعه عن الذكر حتّى يبلغها ، وما ذكرناه هو المناسب لقوله : رفع القلم ، المشعر بإمكان الجعل إلّا أنّه رفعه امتنانا ، وحينئذ فهذا الرفع شرعيّ مشكوك في ارتفاعه فلا مانع عن جريان الاستصحاب فيه أصلا.

وممّا ذكرناه ظهر الدفع لإيراد الميرزا النائيني الثاني (٢) الّذي هو الإيراد الثالث على الاستصحاب ، وهو أنّ العدم حال الصغر (أو قبل الشرع) (٣) عدم أزلي ، والعدم بعد البلوغ (أو تشريع الشريعة) (٤) عدم شرعي ، واستصحاب العدم الأزلي لا يثبت العدم الشرعي إلّا بالأصل المثبت الّذي هو ليس بحجّة.

وتوضيح اندفاع هذا الإيراد هو أنّ العدم قبل البلوغ بيسير عدم شرعي لا أزلي ، (وكذا العدم في بدء البعثة) (٥) فيستصحب هو بنفسه فأين الأصل المثبت؟ ولذا عبّر برفع القلم المنبئ عن إسناد الرفع إلى الله تعالى مع وجود مقتضي الجعل وهو القابليّة ، (على أنّه يكفي في كون العدم شرعيّا نسبته بحسب البقاء إلى الشارع بنفس دليل الاستصحاب ، فافهم) (٦).

__________________

(١ و ٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٣١.

(٣ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٦) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٤٤

الرابع من الإيرادات ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) وملخّصه : أنّ هذا الاستصحاب إن أغنى عن قاعدة قبح العقاب من غير بيان فيجدي ، وإن احتاج إليها فلا يجدي.

بيان ذلك : أنّ استصحاب عدم التكليف لو كان أمارة لأثبت لازمه العقلي وهو الترخيص ، وكذا لو كانت حجّيّته تعبديّة ولكن قلنا بحجّيّة الأصل المثبت. وأمّا إذا قلنا بحجّيّته من باب التعبّد وإنّ الأصل المثبت ليس بحجّة فاستصحاب عدم التكليف لا يكون مثبتا للترخيص والإباحة لأنّه لازمه العقلي ، ولا لعدم العقاب لأنّه ليس من المجعولات الشرعيّة ، فبعد جريان الاستصحاب لا بدّ من الالتجاء إلى قاعدة قبح العقاب من غير بيان.

والجواب (أنّ ما ذكره الشيخ تامّ حيث يكون المقصود إثباته بالاستصحاب من الآثار المترتّبة على المستصحب الواقعي ، أمّا حيث يكون المقصود إثباته بالاستصحاب ممّا يترتّب على المستصحب الواقعي والظاهري فلا ، مثلا من استصحب وجوب واجب لم تكن له مقدّمة وتوقّف الآن على مقدّمة ، فهل يتوقّف في وجوب مقدّمته من يرى وجوب مقدّمة الواجب بدعوى أنّ وجوبها من باب الملازمة مثلا؟ ومقامنا من هذا القبيل ، ضرورة) (٢) أنّ عدم التكليف كاف في رفع احتمال العقاب ، وعدم التكليف لا فرق بين أن يثبت بالوجدان أو بالأصل ، والأصل في المقام هو استصحاب عدم التكليف. فكما لا معنى لعقاب الشارع مع ترخيصه ، فكذا لا معنى لعقابه مع عدم تكليفه ولو بالأصل ، فالترخيص من أحكام عدم التكليف ولو ظاهرا ولوازمه الشرعيّة ، على أنّا نستصحب الإذن في الفعل المتحقّق قبل البلوغ ، وحينئذ فالترخيص هو معنى الإذن فلا يتوجّه أنّ الاستصحاب حينئذ مثبت ، فتأمّل.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٩.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٤٥

الإيراد الخامس (*) من الإيرادات على جريان الاستصحاب ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وتقريبه : أنّ الاستصحاب إنّما يجري إذا كان الأثر المترتّب على المستصحب من آثار المستصحب الواقعيّة ، مثلا : إذا شككنا في انقلاب الخمر عن خمريّته إلى الخليّة يجري الاستصحاب فيترتّب على المشكوك خمريّته أحكام الخمريّة الواقعيّة من الحرمة والنجاسة مثلا وغيرها. وأمّا إذا كان الأثر مترتّبا على المستصحب الواقعي وعلى الشكّ في المستصحب الواقعي فبمجرّد حصول الشكّ قبل جريان الاستصحاب يترتّب الأثر لوجود موضوعه وهو الشكّ بالوجدان فلا معنى لإجراء الاستصحاب حتّى يثبت الموضوع تعبّدا ، وهل هو إلّا تحصيل للحاصل على أردأ أنحائه؟ لأنّا نرفع اليد عن الموضوع الوجداني إلى الموضوع التعبّدي ، والمقام من هذا القبيل فإنّ صرف الشكّ في التكليف كاف في جريان قبح العقاب بلا بيان ، فلا حاجة إلى الاستصحاب حينئذ ، إذ لا يترتّب على الاستصحاب إلّا قبح العقاب من غير بيان ، والمفروض جريانها بصرف الشكّ.

والجواب : أنّ الاستصحاب على تقدير جريانه يكون بيانا للعدم فيكون ترخيصا ، وحينئذ فيكون رافعا لموضوع قبح العقاب بلا بيان قطعا وحاكما عليه ، إذ هو رافع لموضوع عدم البيان ومبدّلا له ببيان العدم.

واتّحاد النتيجة ـ وهي عدم العقاب ـ غير موجب لعدم جريانه أو لعدم جعله وإلّا لما جعل استصحاب الطهارة ، إذ مع الشكّ تجري قاعدة الطهارة فلا يبقى مجال للاستصحاب.

والجواب الجواب.

__________________

(*) قد ذكر الاستاذ الخوئي أيّده الله هذا الإشكال في الدورة الثانية من إشكالات استصحاب عدم الجعل لا عدم المجعول كما هو مسطور في تقرير الدورة الاولى فتنبّه. (الجواهري).

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٣١.

٢٤٦

(وبالجملة ، أنّ جريان استصحاب عدم الجعل لا يمنع من جريان القاعدة ، لأنّهما حينئذ بملاكين ، فالاستصحاب يثبت عدم التكليف ويكون بيانا لنفي التكليف ، وحينئذ فلا يبقى موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان لتحقّق البيان به ، بل إنّ الاستصحاب كما يحكم على القاعدة المذكورة يثمر لنا ثمرة اخرى وهي أنّا لو قدّمنا أخبار الاحتياط (١) على أخبار البراءة (٢) لكثرتها وشهرته بل لو توقّفنا في تقديم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط فالاستصحاب المذكور يكون رافعا للشبهة الّتي اقتضت الاحتياط ، ويكون من بيّن الرشد الّذي لا هلكة في اقتحامه ، إذ يكون الاستصحاب حاكما على أخبار الاحتياط كحكومته على أخبار البراءة. بل إنّ هذا الاستصحاب ـ يعني استصحاب عدم الفعل ـ يجري في الشبهة الموضوعيّة أيضا فيقال : إنّ هذا المائع الّذي في الإناء لم يكن محكوما بالحرمة قبل وجوده فهو على ما كان ، بناء على إجراء استصحاب الأعدام الأزليّة فتأمّل (*) ، بل وعلى غيره أيضا ، بتقريب أنّه في أوّل

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ، و ٣ : ١٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، الحديث ١٤ ، و ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١ ، و ١٢٤ و ١٢٧ : الحديث ٤٧ و ٥٤ و ٥٦ ، و ٥٨.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، باب جملة مما عفي عنه ، الحديث ١ و ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨ ، وعوالي اللآلي ١ : ٤٢٤ ، الحديث ١٠٩ ، وانظر المستدرك ١٨ : ٢٠ ، باب ١٢ من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث ٤ ، والكافي ١ : ١٦٤ ، باب حجج الله على خلقه ، الحديث ٢ ، والوسائل ٥ : ٣٤٤ ، الباب ٣٠ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث الأوّل ، والفقيه ١ : ٣١٧ ، الحديث ٩٣٧ ، وانظر الوسائل ٤ : ٩١٧ ، الباب ١٩ من أبواب القنوت ، الحديث ٣.

(*) إشارة بالتأمّل إلى أنّه لا يبقى مورد لأصالة البراءة. (الجواهري).

٢٤٧

الشريعة لم يكن ينحلّ النهي عن الخمر إلى النهي عنه ولو لعدم النهي فالآن هو باق كما كان ، فتأمّل) (١).

الإيراد السادس وهو الإيراد الّذي ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) وملخّصه : أنّ الموضوع ـ صاحب الحكم المستصحب ـ يلزم أن يكون متيقّنا سابقا ومشكوكا لاحقا ويكون شيئا واحدا ، وموضوع الحكم في المقام مختلف ، فإنّ براءة الذمّة السابقة براءة ذمّة صبيّ ، والبراءة الّتي نريد إثباتها براءة ذمّة بالغ ، فموضوع الحكم متباين شرعا ومختلف ، وحينئذ فرفع الحكم الكائن حال الصبا قطعا مرتفع ورفع الحكم الكائن حال البلوغ غير معلوم فلا يجري الاستصحاب.

فإن قلت : إنّ الموضوع واحد عرفا.

قلت : الوحدة العرفيّة إنّما تجدي في المستصحب ما لم يخالفها عرف الشارع فلو خالفها عرف الشارع حمل عليه ، لأنّه إن لم يحمل عليه لا يصدق موضوع النقض عنده المحمول كلامه عليه ، فتأمّل (*).

وبعبارة اخرى ، الصبا هو تمام الموضوع لرفع القلم ، ومعلوم انتفاء الصبا في الإنسان بعد البلوغ فلا يجري الاستصحاب.

وهذا الإيراد حسب ما قرّر الاستاذ الخوئي أحسن الإيرادات ، ومن أجله لا يقول الاستاذ بالاستصحاب في أمثال المقام ، هذا كلّه لو قرّر الاستصحاب بهذا النحو الّذي هو الوجه الأوّل.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٠.

(*) وجه التأمّل المذكور هو أنّ النقض وإن لم يصدق شرعا لكنّه صادق عرفا وهو كاف ، لأنّ المراد صدقه العرفي لا الشرعي ، إذ كلام الشارع محمول على العرف ، فافهم. (الجواهري).

٢٤٨

أمّا لو قرّر على الوجه الثاني من تقريراته وهو أن يستصحب عدم الجعل الكائن أوّل زمن البعثة ، فيقال إنّ في أوّل زمن البعثة قطعا لم تجعل حرمة شرب التتن فيستصحب.

فلا يرد على هذا الاستصحاب هذا الإيراد أصلا.

نعم ، ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره إيرادين :

(وهناك إيراد آخر ملخّصه : أنّ الاستصحاب معارض ، فإنّ استصحاب عدم جعل الحرمة ساقط بمعارضة استصحاب عدم جعل الإباحة ، فإنّ كلّا منهما مسبوق بالعدم.

والجواب :

أوّلا : أنّ هذا مختصّ باستصحاب العدم الأزلي ، وأمّا العدم الشرعي الّذي ظرفه أوّل تشريع الشريعة المقدّسة فالإباحة حينئذ مجعولة بقوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ...)(١) ، وبمفاد رواية سراقة وغيرها. وثانيا : بأنّ المعارضة في المقام لا تقتضي التساقط ، لعدم اقتضائها المخالفة القطعيّة ، فإنّ عدم الإباحة لا أثر له فيما يهمّنا من العقاب ، إذ ليس العقاب من آثار عدم جعل الإباحة بل من آثار جعل التحريم ، فافهم.

وأمّا إيرادا الميرزا النائيني قدس‌سره (٢)) (٣) :

فأحدهما : أنّ هذا الاستصحاب لا يثبت العدم المنتسب إلى الشارع إلّا بالأصل المثبت.

والجواب : أنّ هذا العدم عدم نعتي وليس عدما محموليّا حتّى لا يثبت العدم النعتي ، فإنّ المستصحب عدم جعل الشارع في أوّل زمن البعثة ، فعدم جعل الشارع في أوّل زمان البعثة هو المستصحب لا عدم الجعل قبل الشرع.

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٤٩

الثاني : أنّ استصحاب عدم الإنشاء لا يثبت عدم الفعليّة إلّا بالأصل المثبت ، توضيحه : أنّ الاستصحاب بالنسبة إلى تكليفي إنّما يكون المستصحب فيه حكما إنشائيّا ، لأنّ الموضوع الخاصّ وهو المكلّف الخاصّ لم يكن حينئذ ، فالتكليف بالنسبة إلى المستصحب إنشائي ، فإذا استصحب المكلّف عدم ذلك الحكم الإنشائي في أوّل البعثة مثلا فبالملازمة العقليّة تنتفي فعليّة التكليف ، فإنّ عدم الجعل لا تثبت عدم المجعول وهذا معنى المثبت.

والجواب نقضا وحلّا.

أمّا الأوّل : فباستصحاب بقاء الجعل المعبّر عنه بعدم النسخ فإنّ استصحاب عدم النسخ ثابت لدى الاصوليّين والأخباريّين مع أنّ المحذور بعينه ثابت ، فإنّه كما أنّ عدم الجعل لا يثبت عدم المجعول ، فكذلك بقاء الجعل لا يثبت بقاء المجعول ، فمن شكّ في وجوب صلاة الجمعة عليه يومها يستصحب عدم النسخ بلا نكير ، مع أنّ الحكم الإنشائي لا يثبت باستصحابه الحكم الفعلي على ما ذهب إليه الميرزا قدس‌سره.

وأمّا الثاني : وهو الحلّ ، وتقريبه : أنّ الحكم كما ذكرنا ليس إلّا اعتبار المولى كون العمل على ذمّة المكلّف ، فإذا كان الحكم هو الاعتبار فيجوز أن يتعلّق بأمر متأخّر كما يتعلّق اللحاظ والتصوّر الذهني له ، وحينئذ فالحكم الإنشائي هو عين الحكم الفعلي ، ولا فرق بينهما أصلا إلّا وجود الموضوع وعدمه ، فإنّ صيرورة الحكم فعليّا بوجود موضوعه أمر قسريّ ، وإلّا فالحكم في عالم الإنشاء هو صرف الاعتبار ، وفي عالم الفعليّة هو صرف الاعتبار ، فليس أحدهما غير الآخر حتّى لا يثبت أحدهما باستصحاب الثاني. فظهر أنّ هذا الاستصحاب لا إيراد عليه ، وحينئذ فإذا كان استصحاب عدم الجعل ثابتا لا يبقى مورد لأخبار البراءة حينئذ ، إذ حينئذ يصير علما بالعدم ، فتختصّ أخبار البراءة بالشبهة الموضوعيّة والحكميّة الغير المسبوقة بالحالة السابقة.

٢٥٠

(لا يقال : إنّ استصحاب عدم الجعل لو جرى في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة لم يبق مورد لاخبار قاعدة البراءة ، لأنّ كلّ جعل حادث ومسبوق بالعدم خصوصا لو استصحب العدم الأزلي.

لأنّه يقال : إنّ أخبار البراءة جعلت بنحو تعمّ الاستصحاب ، فإنّ قوله : «الناس في سعة ما لا يعلمون» قد ورد في حليّة اللحم المشكوك تذكيته مع كونه في بلد الإسلام ، ولا ريب في وجود أمارة التذكية حينئذ فكأنّه يقول : الناس في سعة من تكليف لا يعلمونه بالعلم الوجداني ، سواء كان لقيام أمارة على الحليّة أو صرف الشكّ.

وثانيا : أنّ موارد تعارض الاستصحابين في ما كان محكوما بحكمين الإباحة والحرمة مثلا وشكّ في المتقدّم منهما يرجع إلى البراءة بعد تعارضهما ، وكذا في مورد الأقلّ والأكثر فباستصحاب عدم الأكثر لا يثبت كفاية الأقلّ لو لا جريان البراءة من التقييد ، لأنّ استصحاب عدم التقييد يسقط بمعارضة استصحاب عدم الإطلاق إلّا أنّ رفع التقييد لا يعارضه رفع الإطلاق ، لأنّ رفع الإطلاق لا منّة فيه حتّى ترفعه أخبار البراءة الّتي وردت في مقام الامتنان بقرينة قوله : «عن امّتي» فتأمّل) (١).

في أدلّة الأخباريّين على لزوم اجتناب محتمل التحريم

وقد استدلّوا بأدلّة عديدة :

الأوّل : الآيات ، فمنها : الآيات الناهية عن القول بغير علم ، مثل قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٢).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) الإسراء : ٣٦.

٢٥١

ومنها : الآيات الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة ، مثل قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١).

ومنها : الآيات الآمرة بالتقوى ، مثل قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(٢).

ولا دلالة في جميع هذه على ما يدّعون من لزوم ترك محتمل التحريم.

أمّا الاولى ، فالقول بغير علم وإن كان محرّما إلّا أنّه مشترك بين الطائفتين ، فكما يكون القول بالبراءة محرّما إذا كان قولا بغير علم فكذلك القول بالاحتياط محرّم إذا كان قولا بغير علم ، مع أنّ القائل بالبراءة مستند إلى الحجّة ، وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو حديث الرفع أو غيرهما ممّا سطرناه ، فلا يكون قوله بالبراءة قولا بغير علم.

وأمّا الثانية ، فلو سلّم شمول التهلكة للعقاب إلّا أنّ القائل بالبراءة مستند إلى ما يرتفع بسببه العقاب ، فإنّ القائل بالبراءة لا يحتمل العقاب أصلا بلحاظ قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو حديث الرفع أو غيرهما ، فلا يكون الترخيص إلقاء للنفس بالتهلكة أصلا.

وإن كان المراد عدم جواز إلقاء النفس في المفسدة الواقعيّة ففيه أنّه لا دليل على النهي عن إلقاء النفس في المفسدة الواقعيّة مع وجود المرخّص والمؤمّن من العقاب قطعا ، مع أنّه حينئذ جار في الشبهة الموضوعيّة مع اتّفاق الأخباريّين على جواز ارتكابها.

وأمّا الثالثة ، فليس في ارتكاب محتمل التحريم مع وجود المرخّص الشرعي والعقلي من أدلّة البراءة مخالفة للاتّقاء أصلا.

نعم ، لو اريد من الاتّقاء اتّقاء المفسدة وإن لم يكن في ارتكابها عقاب أصلا ، فمعلوم أنّ ترك المفسدة حينئذ ليس بواجب وإنّما هو راجح ومن مراتب التورّع.

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

(٢) آل عمران : ١٠٢.

٢٥٢

وقد استدلّ الشهيد (١) على رجحان إعادة ما احتمل واقعا فساده من العبادات بقاعدة الفراغ أو غيرها من الأدلّة الشرعيّة بهذه الآية ، مع أنّ الآية لو اريد منها ترك المفسدة الواقعيّة فهي شاملة للشبهة الموضوعيّة الّتي قد أجمع الأخباريّون على إجراء البراءة فيها وللشبهة الوجوبيّة الّتي قد ذهب المشهور منهم بل معظمهم إلى إجراء البراءة فيها.

الثاني من أدلة الأخباريّين : الأخبار وهي على طوائف ثلاث :

الاولى : الأخبار الآمرة بالوقوف عند الشبهة ، وأنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (٢).

الثانية : أخبار التثليث (٣).

الثالثة : أخبار الاحتياط (٤).

والكلام في الأخبار يقع في مقامين :

الأوّل : في دلالتها. الثاني : في معارضة أخبار البراءة لها ووجه العلاج.

أمّا الكلام في الأوّل ، فنقول : أمّا الأخبار الآمرة بالوقوف عند الشبهة وأنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة فهي تبيّن حكم الشبهة ، فلا تصلح أن تكون محقّقة للشبهة.

__________________

(١) الذكرى ٢ : ٤٤٤.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، و ١٢٦ : الباب ٥ ، وذيل الحديث ٥٠ ، و ١١٥ : الحديث ١٣ ، و ١١٦ : الحديث ١٥.

(٣) الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ، و ١١٨ : الباب ١٢ ، الحديث ٢٢ و ٢٣.

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، و ١٢٦ : الباب ٥ ، وذيل الحديث ٥٠ و ١١٥ : الحديث ١٣ و ١١٦ : الحديث ١٥.

٢٥٣

وبعبارة اخرى يلزم أن تكون الشبهة محرزة بالوجدان مع قطع النظر عن هذه الرواية فتكون هذه الرواية مبيّنة لحكمها. ومع الأدلّة الشرعيّة والعقليّة الّتي أقمناها على البراءة لا يكون هناك احتمال شبهة أصلا ، فلا بدّ من اختصاصها بالشبهة قبل الفحص أو بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي بناء على تنجيزه ، فإنّ الشبهة هناك محقّقة قبل هذه الأخبار ، بقرينة أنّ مورد جملة منها الشبهة قبل الفحص ، مع أنّ عمومها شامل للشبهة الموضوعيّة والحكميّة الوجوبيّة الّتي قد أجمعتم وذهب مشهوركم إلى عدم التوقّف فيها فلا بدّ حينئذ من التخصيص ، ومعلوم أنّ لسان هذه الأخبار لسان آب عن التخصيص.

فلا بدّ من حمل هذه الأخبار على الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي حتّى لا يلزم التخصيص أو يقال بأنّ الأمر فيها أمر إرشادي لا مولوي بقرينة التعليل المذكور ، إذ لا يترتّب على الاقتحام غير ما يترتّب على الواقع. فكأنّه يقول : الوقوف عند الشبهة خير من الوقوع في الشبهة المحتملة أحيانا ، فمعلوم أنّ الأمر إرشادي. كما لا يمكن أن تكون هذه الأخبار نظير الأخبار الواردة في مثل قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ)(١) ممّا هو بيان للحكم بلسان العقاب عليه ، إذ لا يترتّب العقاب مع فرض إباحة الفعل ، فبدلالته الالتزاميّة نستكشف الحرمة ، وذلك لأنّ تلك صريحة في كون العقاب على نفس الحكم المذكور ، بخلاف المقام في أخبار الاحتياط فإنّها صريحة في كون العقاب على الواقع ، مع أنّ قوله : «خير من الاقتحام في الهلكة» لسانه ليس لسان العقاب كالآية وأشباهها.

ولا ينبغي أن يتوهّم فيقال : إنّ أدلّة التوقّف بعمومها وإطلاق الوقوف فيها تكون كاشفة عن أنّ التكاليف المجعولة الواقعيّة لا يرفع الشارع يده عنها بمجرّد عدم وصولها ، فيستكشف بذلك وجوب الاحتياط.

__________________

(١) النساء : ٩٣.

٢٥٤

ووجه فساد هذا التوهّم أنّ أدلّة الاحتياط هل وصلت أم هي غير واصلة؟ المفروض أنّها غير واصلة ، لأنّ المفروض استكشاف أدلّة الاحتياط وإيجابه من أدلّة التوقّف. فإذا لم تكن أدلّة الاحتياط واصلة فلا يعاقب على مخالفتها ، لأنّ أدلّة الاحتياط كأدلّة الأحكام الواقعيّة إنّما يجب العمل بها مع فرض الوصول والمفروض أنّها غير واصلة.

وقد أجاب الشيخ (١) عن هذه الشبهة بأنّ الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن العقاب الواقعي فهو قاض بثبوت العقاب على التكاليف المجهولة ، وإن كان العقاب على مخالفة نفسه بما أنّه حكم ظاهري فالعقاب حينئذ ليس على الواقع ، وصريح الهلكة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعيّة ، وأنت خبير بأنّ وجوب الاحتياط لا ينحصر في النفسيّة والغيريّة كما ذكره الآخوند (٢) بل هناك وجوب طريقي وهو غيرهما ، نظير وجوب العمل بالطرق والأمارات ، فافهم.

وهذا الكلام بعينه جار في أخبار التثليث.

(وبالجملة ، أنّ أخبار الوقوف عند الشبهة لا يحقّق الشبهة فلا بدّ من إحراز الشبهة قبل ذلك.

فإن قيل : إنّ أخبار الاحتياط تحقّقها.

قلنا : رواياتها خمسة :

واحدة صحيحة ، وهي الواردة في الصيد الّذي اصطاده محرمان ، حيث يسأل السائل عن وجوب فدائه على كلّ منهما مستقلّا أم مشتركا بينهما ، فهي واردة في الشبهة الوجوبيّة قبل الفحص.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧١.

(٢) كفاية الاصول : ٣٩٣.

٢٥٥

وأربعة منها بين ضعيفة ومرسلة ومرفوعة ، وهي بإطلاقها شاملة للشبهة الموضوعيّة والحكميّة الوجوبيّة والتحريميّة ، ولا يقول الأخباريّون بوجوب الاحتياط في الجميع ، مع أنّ لسانها آب عن التخصيص فلا بدّ من حملها على الإرشاد إلى رجحان الاحتياط ، فافهم) (١).

وأمّا أخبار الاحتياط مثل قوله : «أخوك دينك فاحتط لدينك» وقوله : «خذ بالحائطة لدينك» وقوله : «ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط» فهي وإن كانت متواترة أو مستفيضة كأخبار التوقّف إلّا أنّ الكلام في دلالتها.

فنقول : لا ريب في حسن الاحتياط عقلا ، فإنّ ترك المحرم الواقعي ممّا لا كلام في حسنه عقلا كحسن الإطاعة ، وحينئذ فلو حمل على الوجوب المولوي لزم تخصيصه بالشبهة الموضوعيّة مطلقا وبالشبهة الحكميّة الوجوبيّة. ومعلوم أنّ لسانها لسان آب عن التخصيص ، فلا بدّ من كون الأمر فيها أمرا إرشاديّا أو يكون الأمر أمرا يفيد كلّي الرجحان ، إذ لو لا هذين الأمرين لزم تخصيص الأمر فيها بما ذكرنا ، ومعلوم أنّ لسانها لسان آب عن التخصيص.

ثمّ إنّ أدلّة الاحتياط لو سلّم دلالتها بنحو لا يلزم منه محذور التخصيص ، لكنّ الاستصحاب الّذي ذكرنا جريانه ـ وهو استصحاب عدم الجعل ـ لا يبقي مجالا للاحتياط حينئذ ، إذ بعد جريان استصحاب عدم الجعل لا يبقى احتمال التكليف كي يحتاط حينئذ. هذا إذا قلنا بجريان استصحاب عدم جعل الشارع للحرمة في محتمل التحريم ، وإلّا فتصل النوبة إلى معارضة هذه الأخبار بأخبار البراءة :

فنقول : إنّ أخبار التوقّف والاحتياط شاملة بعمومها ما قبل الفحص وما بعده والمقرون بالعلم الإجمالي وغيره ، ولكنّ أخبار البراءة إمّا لا تشمل موارد العلم الإجمالي أصلا ، إذ لا معنى لجعل الأصل في مورد العلم ، أو إنّها وإن كانت شاملة له

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٥٦

إلّا أنّها مخصّصة بالدليل العقلي فلا تبقى موارد العلم الإجمالي تحتها ، وكذا عدم شمولها للشبهة قبل الفحص أيضا ، إذ لا معنى لشمول قوله : «الناس في سعة ما لا يعلمون» لمن يذهب ويجلس في قعر داره ولا يفحص عن الأحكام. فأخبار البراءة أخصّ ، فإذا كانت أخصّ فيخصّص أخبار التوقّف والاحتياط بغير موارد الشبهة البدويّة بعد الفحص خصوصا. وفي أخبار البراءة ما هو خاصّ بخصوص الشبهة التحريميّة مثل قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١) مع أنّ في خصوص أخبار الاحتياط ظهور في وجوب الاحتياط من جهة الصيغة واللسان ، ولكنّ أخبار البراءة صريحة في الترخيص فيمكن الجمع بحمل أوامر الاحتياط على الاستحباب ، فتأمّل (٢).

(والأولى أن يقال : إنّ خروج ما قبل الفحص من أدلّة البراءة إن كان من جهة الحكم العقلي الّذي هو كالقرينة المتّصلة بحيث يكون مانعا عن انعقاد الظهور له في الإطلاق فأدلّة البراءة أخصّ من أخبار الاحتياط والتوقّف ، والخاصّ مقدّم على العامّ بمقتضى الجمع العرفي.

وإن قلنا بأنّ خروجها من جهة التخصيص بالمخصّص الخارجي فإن لم نقل بانقلاب النسبة ـ كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري والآخوند قدس‌سرهما ـ فأخبار البراءة مع أخبار الاحتياط والتوقّف متباينة فيرفع اليد عن ظهور أوامر التوقّف بنصوصيّة أخبار البراءة ، فتحمل أخبار التوقّف على الاستحباب.

وإن قلنا بانقلاب النسبة كما هو الظاهر فنقول : إنّ قوله : «قف عند الشبهة ... إلى آخره» ظاهر في خصوص الشبهة التحريميّة إلّا أنّه عامّ لما قبل الفحص وما بعده

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.

(٢) أشار بالتأمّل إلى ما تقدّم من دعوى عدم قابليّة هذه الأخبار للتخصيص في الشبهة التحريميّة ، فكيف صارت الآن قابلة لأن تخصّص بما ذكره ، فافهم. (الجواهري).

٢٥٧

ولموارد العلم الإجمالي والشبهة البدويّة إلّا أنّه خاصّ بالشبهة الحكميّة ، لخروج الموضوعيّة عنه بالتخصيص.

وقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» أيضا مختصّ بالشبهة التحريميّة إلّا أنّه لا يشمل المقرون بالعلم الإجمالي إمّا لعدم قابلية جعل الأصل في مورد العلم وإمّا للتخصيص ، كما لا يشمل ما قبل الفحص قطعا لعدم ترخيص من يجلس في قعر داره بلا سؤال قطعا إلّا أنّه يعمّ الموضوعيّة والحكميّة. فالنسبة هي العموم من وجه بين هذين النوعين من الأخبار لشمول الاولى موارد العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص بلا معارض ، كشمول الثانية للشبهة الموضوعيّة ، ومورد اجتماعهما الشبهة الحكميّة بعد الفحص ، فالاولى بإطلاقها توجب التوقّف والثانية بإطلاقها تقتضي الرخصة ، فيتساقط الإطلاقان للعلم بعدم إرادة أحدهما ولا مرجّح لأحدهما ، ويرجع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان الّتي سلّم الأخباري حجّيتها إلّا أنّه ادّعى وجود البيان ، وقد سقط البيان فتحقّق موردها.

والنسبة بين قوله : «قف عند الشبهة» وحديث الرفع أيضا العموم من وجه ، غير أنّ حديث الرفع يشمل الشبهة الوجوبيّة أيضا إلّا أنّه لا يخرج عن العموم من وجه بذلك ، فالمرجع بعد التساقط هي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فافهم.

لا يقال : إنّ العموم في أخبار التوقّف وضعي ، وفي أخبار البراءة إطلاقي ومعلوم تقدّم الوضعي ؛ لكونه بيانا ورافعا لإطلاق المطلق الموقوف على عدم البيان. لأنّ يقال : لو سلّم ظهوره في العموم وضعا إلّا أنّ شمولة للشبهة بعد الفحص إنّما هو بالإطلاق الأحوالي للشبهة فإنّ الشبهة بعد الفحص هي الشبهة قبله بعينها ، ولا ريب أنّ شمولها لو كان بالإطلاق فلا فرق بين الإطلاقين حينئذ ، وإلّا فليس صرف كون العموم بالوضع مقتضيا للتقدّم ما لم يكن شموله لمورد المعارضة بنحو يكون مورد المعارضة فردا له في قبال بقيّة الأفراد ليكون أظهر وبيانا وليس في المقام كذلك.

٢٥٨

وأمّا أخبار الاحتياط فنسبتها مع أخبار البراءة عين هذه النسبة ، والعلاج عين العلاج ، غير أنّ الشبهة الأخيرة غير جارية ؛ لأنّ العموم فيها إطلاقي) (١).

هذا تمام الكلام في استدلال الأخباريّين بالأخبار.

وأمّا استدلالهم بدليل العقل :

فتقريره أن يقال : إنّ المكلّف عند بلوغه أوان تكليفه يعلم إجمالا أنّ عليه تكاليف فيجب عليه مراعاتها للعلم الإجمالي بها ، فهي حينئذ منجّزة ، فالتكليف حينئذ متعيّن بالاحتياط في جميعها ، وليس العلم بجملة منها نافيا لثبوت أحكام أخر ، فلا يمكن بالعلم بجملة منها نفي الباقي أصلا. وبهذا التقرير علم أنّ جواب الآخوند قدس‌سره (٢) من أنّ هذا العلم منحلّ نظير أن يعلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ تقوم البيّنة بأنّ النجس الواقعي هو هذا الإناء بخصوصه ، فإنّ الثاني يجوز استعماله حينئذ غير صحيح ، لأنّ هذا الكلام حيث يكون العلم الإجمالي علما بنجاسة أحد الإناءين وطهارة الآخر صحيح ، إذ إثبات نجاسة النجس الواقعي في أحدهما تنفي نجاسة الآخر ، والمقام ليس من هذا القبيل ، فإنّ ثبوت جملة من الأحكام لا تنفي البقيّة ، فالمثال المناسب للمقام أن يعلم بنجاسة أحد الإناءين فتقوم البيّنة على أنّ هذا الإناء نجس ، فإنّه لا ينفي نجاسة الآخر ، إذ من المحتمل نجاسة كليهما ، والمقام من هذا القبيل.

والجواب عن هذا العلم الإجمالي نقضي تارة ، وحلّي اخرى.

أمّا الجواب النقضي ، فهو أنّ هذا الدليل قاض بلزوم الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة أيضا ، فما جوابكم عنه في الشبهة الوجوبيّة يكون جوابا لنا في الشبهة التحريميّة فتأمّل (*).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) كفاية الاصول : ٣٩٥.

(*) أشار بالأمر بالتأمّل إلى احتمال كون الدليل لهم هو الإجماع وهو مفقود في غير الشبهة الوجوبيّة فتأمّل. (الجواهري).

٢٥٩

وأمّا الحلّ (*) فتقريبه أن يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ بموارد الأخبار.

__________________

(*) كتب المقرّر في أوراق ملحقة ما يلي : هذه المقدمة ذكرها الأستاذ في الدورة المتأخرة عن دورة الكتابة المتنية وهي مقدمة لحل دليل الأخباري العقلي على لزوم اجتناب محتمل الحرمة.

بسم الله وله الحمد ومنه العون

(فائدة مهمّة)

العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين مع العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما بعينه يتصور على وجوه :

أحدها : أن يتقارن العلمان الإجمالي والتفصيلي وفي هذه الصورة ينحل العلم الإجمالي الذي ملاكه العلم بالجامع والشك في التشخيص بمعنى الترديد في الخصوصية وذلك لأنّ الإناء اليميني معلوم النجاسة تفصيلا والنجاسة الواحدة بحسب نوعها يستحيل أن تؤثّر في إناء واحد نجاستين إذا تكررت ضرورة أنّ المتنجس بالدم مثلا لا يتنجس بالدم ثانيا فقد خرج الإناء اليميني عن كونه محتمل النجاسة إلى كونه مقطوعها بمعنى أنّه لم يمر عليه زمان كان محتمل النجاسة حسب ، وبعبارة اخرى أنّ هذا الشك شك في توجه التكليف للمكلّف باجتناب محتمل النجاسة وهو الإناء اليساري وهو مجرى للبراءة فليس هنا علم إجمالي بتكليف الزامي.

ودعوى : أنّ العلم التفصيلي في المقام لا يوجب انحلال العلم الإجمالي ، لعدم التنافي بين العلمين فإنّ متعلّق العلم الإجمالي هو مفهوم أحدهما الذهني ، ومتعلّق العلم التفصيلي هو ذات المعيّن ، وهو مباين لمتعلّق العلم الإجمالي ؛ لأنّ كلّ ذات من الخارجيّين ذات للمعلوم الإجمالي لا بصفة كونه معلوما إجماليّا ، بخلاف متعلّق العلم التفصيلي فإنّه الذات الخارجيّة بما هي معلومة تفصيلا كما أفاده بعض الأساطين ـ مقالات الاصول ٢ : ١٨٧ ـ لا يخفى ما فيها ، فإنّه وإن لم يكن تناف بين العلمين إلّا أنّ هنا تنافيا بين المعلومين ؛ لأنّ الإناء المعيّن لا يتنجّس نجاستين بنجس واحد يصيبه مرّتين ، وحينئذ فقوام العلم الإجمالي

٢٦٠