غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

بل هو أمر واحد) (١) ، فالإكمال في جميع الأزمنة عبارة عن اعتبار هذه الأزمنة المتكثّرة شيئا واحدا وأنّه يجب أن لا ينقض العقد بمعنى أنّ فسخه لا يؤثّر ، وهذا عبارة عن كون العموم الأزماني فيه مجموعيّا ، خرج منه أوّل الأزمنة في خيار المجلس والوسط مثلا في خيار الغبن فيبقى الباقي على عمومه.

التنبيه الخامس عشر : [شمول الشك في الاستصحاب للظن بالخلاف]

إنّ المراد بالشكّ في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» خلاف اليقين ولو كان ظنّا بالخلاف ، لأنّ قرينة المقابلة تعيّنه بعد أن كان أحد معاني المشترك ، مضافا إلى أنّ قوله عليه‌السلام في حديث زرارة : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم فقال : لا (٢) ، أي : لا يعتني فإنّ قوله : «وهو لا يعلم» يشمل ما لو كان ظانّا ، بل تحريك شيء في جنبه ظاهر في غلبة كونه ظانّا به ولا أقلّ من عدم الندور. فلا يقال : إنّ الإطلاق لا يشمل النادر ، كما لا يقال : إنّه بهذا المعنى يمكن أن يكون خاصّا بالوضوء ونقضه ، لأنّ قوله بعد ذلك : «لأنّك كنت على يقين من وضوئك ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا» ظاهر في أنّ هذا المورد من مصاديق هذه الكلّية فيعلم أنّ الكلّية تشمل الظنّ ولا تختصّ بالمتساوي الطرفين.

وقد استدلّ الشيخ بالإجماع على أنّ المراد من الشكّ ما يشمل الظنّ (٣) وقد أورد عليه في الكفاية أوّلا بوجود المخالف ، مضافا إلى احتمال كون الإجماع مستندا إلى قول أهل اللغة أو الروايات فلا يكون إجماعا تعبّديا يكشف عن قول الحجّة (٤).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٤ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٣) انظر الفرائد ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٨.

(٤) كفاية الاصول : ٤٨٥.

٦٦١

واستدلّ أيضا بأنّ الظنّ إن كان معتبرا كالصادر من البيّنة أو قول ذي اليد فهو يقين ، وإن لم يكن معتبرا فإن قام الدليل على عدم اعتباره وفي أنّ وجوده كعدمه عند الشارع [فلا يعتنى به أصلا] ، وإن لم يقم الدليل على اعتباره كالظنّ الحاصل من الشهرة فهو شكّ فيكون النقض نقضا بالشكّ.

وقد أشكل عليه في الكفاية أيضا بأنّ كونه منهيّا عنه أو شكّا يقتضي عدم حجّيته ولا يقتضي أنّ : «لا تنقض اليقين بالشكّ» شامل بمدلوله اللفظي للظنّ الغير المعتبر ، إذ عدم اعتبار الظنّ أمر ودخوله في موضوع دليل الاستصحاب أمر آخر ، ويوضّح ذلك أنّه لو قال : لا تنقض اليقين بالشكّ المتساوي الطرفين أكان عدم حجّية الظنّ يصيّره متساويا؟ كلّا ثمّ كلّا ، مع أنّ ما ذكره في الأخير من كونه نقضا لليقين بالشكّ وهو منهيّ عنه ففيه أنّ مفاد الأخبار النهي عن نقض ما كان على يقين منه بالشكّ فيه لا بما يشكّ في حجّيته ، هذا تمام الكلام في هذا التنبيه.

٦٦٢

خاتمة

ويقع الكلام فيها في موارد :

[الأمر] الأوّل : في اعتبار اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة

والكلام فيها في أمرين :

الأوّل : أنّه هل يعتبر الاتّحاد أم لا؟

الثاني : أنّ العبرة بالاتّحاد الاتّحاد العرفي أو العقلي؟

أمّا الكلام في الأوّل فنقول : لا إشكال في اعتبار اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة في جريان الاستصحاب ، والدليل عليه هو نفس أدلّة الاستصحاب فإنّ التعبير بالنقض إنّما يصحّ إذا كان رفع اليد عن المتيقّن السابق وإلّا لم يصدق النقض ، مضافا إلى غير ذلك من الأخبار الّتي يستفاد منها اعتبار الاتّحاد كقوله : «لأنّك كنت على يقين فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا» (١).

وقد استدلّ الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنّ اعتبار بقاء الموضوع واضح ، وإلّا لزم انتقال العرض من موضوعه إلى موضوع آخر (٢).

ولا يخفى ما فيه أوّلا : فإنّ الاستصحاب لا يلزم أن يكون موضوعه عرضا ، بل قد يكون جوهرا كاستصحاب الوجود للجواهر ، فإنّ الوجود ليس عرضا بالمعنى المصطلح للعرض.

وثانيا : التعبّد الشرعي على تقدير تحقّقه لا يمنع من ذلك تعبّدا.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٦١ ، الباب ٤١ من أبواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٦٦٣

وثالثا : أنّ ترك الاستدلال بدليل الاستصحاب والاستدلال بالدليل العقلي لا داعي له بعد وفائه كما هو الفرض.

وبالجملة ، فاعتبار اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة موضوعا ومحمولا ونسبة ممّا لا ريب فيه ، وتعبير بعضهم بالموضوع مسامحة ، لأنّه أعظم أركان القضيّة أو لأنّه مشعر بالمحمول والنسبة ، بأن يراد الموضوع بما أنّه موضوع وهو ملازم للمحمول والنسبة حينئذ ، أو يكون المراد بالموضوع موضوع دليل الاستصحاب وهو نقض اليقين بالشكّ.

وتوضيح ما ذكرنا من اعتبار اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة أنّ المحمول في القضيّة المتيقّنة تارة يكون من المحمولات الأوّليّة كالوجود ، واخرى من المحمولات الثانويّة كالقيام ، فإن كان من قبيل الأوّل وهو مفاد «كان» التامّة كما إذا كان زيد موجودا وشككت في أنّه مات أم لا ، فاستصحاب الوجود لا مانع منه.

ودعوى : أنّ الموضوع هو وجود زيد فلا بدّ من تحقّقه في جريان الاستصحاب ، واضحة الضعف ، فإنّ الوجود مع فرض تحقّقه ثانيا فلا شكّ حينئذ حتّى يستصحب.

وإن كان المحمول مفاد «كان» الناقصة المعبّر عنه بالمحمولات الثانويّة.

فتارة يكون الشكّ في بقاء القيام مستندا إلى الشكّ في بقاء الوجود بحيث لو أحرزنا وجوده نقطع بقيامه ، واخرى لا يكون الشكّ مستندا إلى ذلك ، بل على تقدير الوجود أيضا يقع الشكّ في قيامه مثلا.

فإن كان من القسم الأوّل فقد يقال بعدم جريان الاستصحاب ، لأنّ نفس القيام لا شكّ فيه ، بل إنّما الشكّ في الوجود ، فإن لم يجر فيه الاستصحاب فلا يجري في القيام أيضا لعدم أركانه ، وإن جرى في الوجود عاد إلى الأوّل ، مضافا إلى أنّه لا يثبت القيام ، لأنّه ليس من الآثار الشرعيّة للوجود ، بل هو أمر اتّفاقي

٦٦٤

فيكون مثبتا وهو باطل ، فإنّ اتّصاف زيد بالعدالة كان متيقّنا وهو الآن مشكوك ، وإن كان منشأ الشكّ فيه الشكّ في وجوده فإنّه لم يشترط في أدلّة الاستصحاب كون الشكّ فيه أصليّا ، بل هو أعمّ من الشكّ الأصلي والتبعي فيجري استصحاب عدالة زيد ، وإن كان منشأ الشكّ فيها أنّه شرب السمّ فمات أم لا.

وإن كان من القسم الثاني وهو ما لم يكن الشكّ فيه مستندا إلى الشكّ في الوجود (فهو على قسمين ، لأنّه قد يتحقّق حينئذ شكّ في الوجود أيضا ، وقد لا يتحقّق شكّ في الوجود ، فالأوّل يسري فيه الإشكال السابق في القسم الأوّل ، وجوابه مع إمكان إجراء الاستصحاب بالإضافة إلى الوصف أيضا ، لأنّ مدخليّة الوصف بالحكم تؤول بحسب التحليل إلى كون الموضوع مركّبا من الذات والوصف فيجري الاستصحاب فيهما مع الشكّ فيهما وفي أحدهما إن كان الثاني محرزا بالوجدان كسائر الموضوعات المركّبة. وأمّا الثاني) (١) فيجري فيه الاستصحاب أيضا والوجه فيه هو ما قدّمنا ذكره سابقا من أنّ أجزاء الموضوع إذا كانت متيقّنة سابقا ثمّ شكّ في بقائها لا مانع من استصحابها ، نظير ما تقدّم في الماء الكرّ المعلوم أحد أجزائه بالوجدان المحتاج في إحراز الجزء الثاني منه إلى الأصل فيجري فيه الاستصحاب ويلتئم الموضوع ، هذا كلّه في استصحاب الموضوع.

وأمّا الحكم فاستصحابه جائز في بعض الصور وغير جائز في بعضها ، وذلك أنّه تارة يلحظ الحكم بلحاظ المحمولات الأوّليّة يعني يكون الشكّ في وجوده في الآن الثاني بعد اليقين بوجوده في الآن الأوّل ، كما إذا شككنا في أنّ الحكم الفلاني هل نسخ أم لا؟ ولا إشكال في جريان الاستصحاب (*).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(*) لا يخفى أنّ جريان استصحاب عدم النسخ حينئذ غير جائز حتّى لو قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام ، لأنّ النسخ لمّا كان انتهاء أمد الحكم فالشكّ فيه يكون في

٦٦٥

وتارة يلحظ الحكم المشكوك بلحاظ موضوعه ، والشكّ في الحكم بلحاظ الموضوع تارة يكون من ناحية الشبهة الموضوعيّة ، واخرى من ناحية الشبهة الحكميّة ، فإن كان من ناحية الشبهة الموضوعيّة فالشكّ في الحكم الشخصي حينئذ إمّا من جهة اقترانه بمانع أو فقدانه لشرط ، مثلا المتطهّر إذا شكّ في الحدث من النوم أو غيره مثلا فالشكّ في بقاء طهارته السابقة إمّا من جهة أنّه يشكّ في أنّه اقترن بشيء يعتبر عدمه أو فقد شيئا يعتبر وجوده ، فإنّ بقاء الطهارة حينئذ إمّا مشروط بعدم عروض النوم أو إنّ النوم مانع من استمرار الطهارة ، وهذا الشكّ في الحكم مع تحقّقه لا يوجب استصحاب نفس الحكم ، لأنّ استصحاب عدم المانع أو وجدان الشرط حاكم على استصحاب نفس الحكم ، لأنّه بجريانه يرتفع الشكّ ، بل لو لم يجر استصحاب عدم المانع لمعارض مثلا لا يمكن استصحاب الحكم ، لعدم إحراز اتّحاد موضوع القضيّة حينئذ. هذا كلّه إن كان الشكّ في الحكم من ناحية الموضوع واشتباه الامور الخارجيّة.

وأمّا إن كان من ناحية الشكّ في سعة الموضوع وضيقه ، فتارة يعلم أنّ هذا القيد المفقود هو من مقوّمات الموضوع وحينئذ فلا شكّ له في ارتفاع الحكم بارتفاعه فلا يجري الاستصحاب.

__________________

الحقيقة شكّا في الحدوث لا في البقاء ، بخلاف غير عدم النسخ من الشبه الحكميّة فإنّ الشكّ فيها في بقاء الحكم لا في حدوثه. ومنه يعلم أنّ ما ذكره المحدّث الأسترآبادي من كون استصحاب عدم النسخ ضروريّا ـ الفوائد المدنية : ١٤٣ ـ باطل إن أراد به الاستصحاب المصطلح ، بل هو أشدّ إشكالا من استصحاب كلّي الحكم ، نعم لو أراد به الحكم ببقائه لإطلاق دليله بالخصوص أو لمثل عموم قوله : «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ـ بصائر الدرجات : ١٤٨ ، الحديث ٧ ، الباب ١٢ باب آخر فيه أمر الكتب ـ فهو صحيح لا شبهة فيه. (من إضافات الدورة الثانية للدرس).

٦٦٦

وإن كان يعلم أنّ هذا القيد المفقود ليس من مقوّمات الموضوع ويحتمل دخله في الحكم فلا يجري فيه الاستصحاب خلافا للمشهور بين الأصحاب ، لتعارض استصحاب الحكم مع استصحاب عدم الجعل للحكم في هذا الموضوع. وقد تقدّم الكلام في تفصيله.

وإن شكّ في أنّ هذا القيد من مقوّمات الموضوع أو ليس من مقوّمات الموضوع فلا يجري فيه الاستصحاب ، لأنّه إمّا مرتفع قطعا ، وإمّا باق قطعا ، فهو نظير العلم بعدالة أحد الشخصين إمّا زيد وإمّا عمرو ، فإن كان زيدا فهي باقية ، وإن كان عمرا فهي مرتفعة قطعا ، فهل يمكن استصحاب العدالة؟ فالمقام من هذا القبيل ، لأنّه إن كان قيدا فهو مرتفع ، وإن كان غير قيد فهو باق قطعا (ولا يجري فيه الاستصحاب ، لأنّه شبهة مصداقيّة بالنسبة إلى اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة الّتي ذكرنا أنّ اتّحادها شرط في جريان الاستصحاب الذي قد اخذ النقض فيه في لسان الدليل) (١).

وفيما لم يكن ذلك الأمر المفقود ممّا يعدّه العرف قيدا مقوّما للموضوع ففيه يقع الكلام في أنّ العبرة بالموضوع هل هو العقلي أو العرفي أو إن المتّبع هو لسان الدليل؟ فنقول (*) : ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ الموضوع في مقام الشبهة الحكميّة لو كان عقليّا لاختصّ جريان الاستصحاب في الشكّ في الرافع (٢).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(*) هنا في الهامش عبارة بديلة عن هذا المقطع هذا نصّها : ثمّ إنه على المشهور من جريان الاستصحاب في الحكم في القيد الغير المقوّم فهل العبرة باتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة هو العقل أم العرف أو لسان الدليل؟ فنقول.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٥.

٦٦٧

وأورد عليه الآخوند قدس‌سره (١) أوّلا بأنّ الموضوع في الشبهة الحكميّة لو كان عقليّا لما جرى الاستصحاب في الشبهة الحكميّة مطلقا ، سواء كان الشكّ في المقتضي أو كان شكّا في الرافع ، لأنّ الشكّ في الحكم لا يكون إلّا بتغيّر ما في موضوعه وإلّا فما معنى الشكّ في الحكم مع بقاء الموضوع من غير تغيير فيه ولا تبديل؟ ضرورة استحالة البداء في حقّه تعالى ، وحينئذ فمع حدوث ذلك التغيّر في الموضوع بحدوث ما يحتمل مانعيته أو فقدان ما يحتمل شرطيّته كيف يجري الاستصحاب مع فرض اعتبار اتّحاد القضيّة عقلا؟

وثانيا : بأنّ حجّية الاستصحاب عند الشيخ مختصّة بالشكّ في الرافع ولا يرى حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي (٢) فليس عدم جريانه في الشكّ في المقتضي محذورا وتاليا فاسدا.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره انتصارا للشيخ الأنصاري ما ملخّصه (٣) أنّ الرافع قد يطلق في قبال المقتضي ويراد من المقتضي في الحكم كون الحكم لو خلّي ونفسه لبقي ولم يكن له رافع ، ويكون المراد من الرافع في الشكّ في الرافع هو عبارة عن كون الحكم لو خلّي ونفسه لم يبق ، بل لو فرض عدم تغيير في الدنيا أصلا إلّا أنّ الحكم مغيّا بغاية ، عند انتهاء تلك الغاية ينتهي. وقد يطلق الرافع في قبال المانع ويكون المراد من الرافع هو الشيء العادم للشيء بعد تحقّق وجوده نظير النار المعدم للماء مثلا ، ويكون المراد من المانع هو الّذي اعتبر عدمه في وجود ذلك الشيء.

وقد زعم الميرزا قدس‌سره أنّ المراد للشيخ الأنصاري من الرافع في المقام هو الرافع بالمعنى الثاني وهو قد يجتمع مع الشكّ في المقتضي ، وذلك مثل الماء المتغيّر المحكوم

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٤٨٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٥٣ ـ ٥٤.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٢٣ ـ ٢٩.

٦٦٨

بالنجاسة ، فإنّ النجاسة من الامور الّتي إذا حدثت استمرّت في عمود الزمان لا ترتفع إلّا برافع شرعي ، فالشكّ في ارتفاعها يوجب جريان الاستصحاب إلّا أنّه إذا ذهب التغيّر مثلا منه بناء على كون الموضوع معتبرا في الشبهة الحكميّة متّحدا بنظر العقل يقتضي أن لا يجري فيه الاستصحاب ، وبهذا يظهر أيضا حينئذ اندفاع الإيراد الثاني الّذي ذكره الآخوند قدس‌سره من عدم اللازم الباطل ، إذ يكون اعتبار كون الاتّحاد في الموضوع بنظر العقل مخرجا لكثير من موارد الشكّ في الرافع بالمعنى الأوّل عن حجّية الاستصحاب وهو لازم باطل بنظر الشيخ.

أقول : لا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره غير نافع في توجيه كلام الشيخ الأنصاري ، لأنّه لو صرّح بكون المراد من الشكّ في الرافع مقابل الشكّ في المانع لم يكن مجديا أيضا ، لأنّ التفرقة بين المانع والرافع إنّما هي بأنّ المانع ما اعتبر عدمه في وجود الشيء والرافع ما يعدمه بعد وجوده ، وهذا إنّما يتصوّر في الامور الخارجيّة مثل الماء وغيرها من الجواهر. وأمّا في الأحكام فليس المقام مقام تأثير وتأثّر حتّى يتصوّر المانع والرافع وهو المعدم بعد الوجود ، إذ لا يصير الشيء رافعا إلّا إذا اعتبر عدمه في الشيء شرعا ، مثلا لا يكون الحدث رافعا للوضوء حتّى يعتبر الشارع عدمه فيه. وحينئذ فقد اتّحد المانع والرافع في الأحكام ، لأنّهما مأخوذ عدمهما في الموضوع.

وحينئذ فاعتبار كون الموضوع للحكم في الشبهة الحكميّة متّحدا عقلا بمعنى كون العبرة باتّحاده عقلا يوجب عدم الجريان في الشبهة الحكميّة وكثير من الشبهة الموضوعيّة ، مثل الماء الّذي كان كرّا إذا اخذ منه شيء قليل جدّا بحيث يكون الموضوع عقلا متغيّرا وعرفا متّحدا ، فيقع الكلام في الشبهة الحكميّة في أنّ العبرة بنظر العرف أو يتبع لسان الدليل؟

فنقول : وقبل الخوض في ذلك لا بأس بذكر إيراد وملخّصه : أنّه أيّ معنى للترديد في كون العبرة باتّحاد الموضوع هو العقل أو العرف أو لسان الدليل ، إذ أنّ العقل ليس مشرّعا حتّى يتّبع نظره في ذلك ، والعرف إن اريد باتّباع نظره اتّباعه فيما

٦٦٩

يفهم من لسان الدليل فليس شيئا غير لسان الدليل حتّى يجعل قبالته في الترديد ، وإن اريد باتّباع نظره اتّباعه في المداليل التصوّرية باعتبار مسامحاته العرفيّة في أسماء المقادير والأوزان ، فمعلوم أنّ نظره لا يتبع في المداليل التصوّرية إذا كانت مصحوبة بالقرينة على خلافها ، ولا يتبع في المسامحات أيضا ، لأنّه لا عبرة بمسامحاته فيتعيّن أن يكون الاعتبار بلسان الدليل.

ولا يخفى أنّ منشأ هذا الإشكال هو عدم التفرقة بين موضوع الدليل بحسب حدوث الحكم وموضوعه بحسب بقاء الحكم ، فإنّ الموضوع الّذي ذكره هذا المورد متين في موضوع الحكم حال ثبوت الحكم له ، مثلا : إذا قال المولى : الكلب نجس ، فهذا الموضوع الاعتبار فيه بلسان الدليل ، وليس للعقل ولا للعرف بالمعنى الثاني مساس فيه أصلا ، لكنّ محلّ كلامنا هو موضوع الحكم بالبقاء بعد ثبوت الحكم حدوثا لموضوع اخذ في لسان الدليل ، فالمناط حينئذ أن ينظر إلى ذلك الدليل الّذي أثبت الحكم حدوثا هل فيه إطلاق يشمله بقاء؟ وحينئذ لا حاجة للاستصحاب لوجود الدليل اللفظي وإن لم يكن فيه إطلاق.

فيقع الكلام في أنّ الحكم إذا ثبت في الآن الثاني فهل يعتبر بقاء للحكم السابق أم لا؟ فقد يقطع المرء بكونه بقاء له وقد يقطع بكونه حكما حادثا آخر وقد يشكّ ، فكلامنا أنّه في مقام الشكّ يعتبر نظر العقل في عدّ الحكم الثابت بقاء للحكم السابق أو العرف أو المتّبع لسان الدليل. والفرق بين هذه الأشياء الثلاثة أنّه إن جعلنا المعيار نظر العقل فلازمه عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، إذ لا يشكّ في الحكم البقائي إلّا إذا تغيّر الموضوع تغيّرا ما ، وإلّا فلو لم يتغيّر الموضوع لم يشكّ في بقاء الحكم من ناحية الدليل الدالّ على الحكم لا من ناحية الاستصحاب ، وكذا لا يجري في كثير من الشبهات الموضوعيّة الّتي يكون منشأ الشكّ فيها عروض تغيير ما في الموضوع كما في مسألة الكرّية واستصحابها. نعم يجري الاستصحاب في مثل حياة زيد وغيرها ممّا لا تغيير فيها عمّا كان متيقّنا سابقا إلّا من ناحية الزمان الّذي

٦٧٠

لا يمكن أن يؤخذ في الموضوع ، وإلّا لغا جعل الاستصحاب كلّية ، هذا إذا كان الاعتبار في وحدة الموضوع بنظر العقل.

وأمّا الفرق بين كونه بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل فهو أنّه إذا كان بحسب لسان الدليل فيفرق بين قوله : «الماء المتغيّر نجس» وبين قوله : «الماء إذا تغيّر ينجس» ففي الأوّل لا يرى بحسب لسان الدليل التغيّر مقوّما لموضوع الحكم بالنجاسة فيجري الاستصحاب لو زال التغيّر ، بخلاف الثاني فإنّه بحسب الدليل يكون التغيّر مقوّما لموضوع الحكم بالنجاسة فبانتفائه ينتفي الموضوع فلا يجري الاستصحاب. وهذا بخلاف ما إذا كان العبرة بنظر العرف ، فإنّه لا يفرق بين أن يكون لسان الدليل المثبت للحكم على النحو الأوّل أو على النحو الثاني ، فإنّ الموضوع عنده هو الماء والتغيّر علّة لحدوث الحكم بالنجاسة.

والظاهر أنّ العبرة بنظر العرف ، لأنّ العقل لا يرجع إليه في فهم الأدلّة اللفظيّة وإنّما المرجع هو الفهم العرفي ، ودليل الاستصحاب هو «لا تنقض اليقين بالشكّ» ولا يرجع إلى العقل في تعيين مصداق النقض ، والرجوع إلى لسان الدليل يحتّم كون الموضوع بنظر العرف ، لأنّ حديث : «لا تنقض ... الخ» من جملة الأدلّة ، وحينئذ فالعبرة بنظر العرف ، فما عدّه العرف لو ثبت له الحكم المماثل للحكم السابق بقاء للحكم السابق فيعدّ خلافه لو ثبت نقضا ، وما عدّه العرف حكما آخر مماثلا للحكم السابق فليس ثبوت حكم آخر على خلافه نقضا ، وهذا يختلف باختلاف الموارد ففي مثل قوله : المجتهد العادل يجب تقليده ، يرى العرف من مقوّمات جواز التقليد هو الاجتهاد والعدالة لا ذات زيد ، وفي مثل غيره قد يجزم بعدم إخلال الموضوع بفقدانه أصلا ، وقد يشكّ فلو جزم بكون الأمر المفقود من مقوّمات الموضوع لا يجري الاستصحاب لعدم وجود النقض حينئذ ، وفيما لو شكّ في كون المفقود من مقوّمات الموضوع أولا فالشبهة مصداقيّة فلا يجري الاستصحاب ، لعدم إحراز اتّحاد الموضوع فيبقى المورد الثالث مجرى للاستصحاب.

٦٧١

هذا كلّه بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام ، وإلّا فلو قلنا بعدم جريانه في الأحكام للمعارضة بل يختصّ بالشبهات الموضوعيّة فلا يحتمل حينئذ أن تكون العبرة باتّحاد الموضوع لسان الدليل ، لعدم لسان دليل في الشبهات الموضوعيّة ، بل يتردّد الأمر بين أن تكون العبرة نظر العقل أو العرف ، فافهم وتأمّل.

الأمر الثاني : في أنّ قاعدة اليقين هل تستفاد من أخبار الاستصحاب أم لا؟

قد ذكرنا الأخبار الواردة في باب الاستصحاب وبيّنّا دلالتها على حجّيّة الاستصحاب ، وإنّما يقع الكلام في أنّ هذه الأخبار هل يمكن أن تدلّ على قاعدة اليقين مضافا إلى دلالتها على الاستصحاب أم لا يمكن؟ المعروف أنّه لا يمكن ذلك.

وربّما يقال : إنّ هذه الأخبار وان كان موردها الاستصحاب إلّا أنّ المورد لا يخصّص الوارد ، فهي بعموم اليقين فيها والشكّ شاملة لكلّ يقين وشكّ ، سواء كان اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء أو كان الشكّ ساريا إلى الحدوث بحيث تبدّل ذلك اليقين في ظرفه إلى الشكّ واحتمل كونه جهلا مركّبا ، وقد اختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره عدم استفادة قاعدة اليقين من هذه الأخبار (١) نعم يمكن أن تكون قاعدة اليقين حجّة بغير هذه الأخبار ، أمّا هذه الأخبار فيستحيل دلالتها على كلتا القاعدتين ، وحيث إنّ موردها الاستصحاب فهي صريحة في حجّيته.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) وجوها ثلاثة أثبت بها استحالة أن يراد من الأخبار كلتا القاعدتين ثبوتا ، ـ وما ذكره في الحقيقة توضيح لكلام الشيخ الأنصاري قدس‌سرهما ـ :

الوجه الأوّل : أنّ حمل الأخبار على الاستصحاب يقتضي كون اليقين بالحدوث متحقّقا والشكّ في البقاء ، وحملها على قاعدة اليقين يقتضي كون اليقين منتفيا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٠٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٨٨ ـ ١٩٠.

٦٧٢

في ظرف الحدوث ، ولا يمكن في التعبّد الواحد أن يلحظ اليقين بالحدوث متحقّقا وزائلا ، ضرورة أنّهما لحاظان متنافيان ، فالتعبّد بالحدوث مع التعبّد بالبقاء وجعل الحدوث متحقّقا متنافيان.

الوجه الثاني : أنّ اليقين في أخبار الاستصحاب كلّي يشمل جميع أفراده المختلفة من حيث متعلّق اليقين والمتيقّن ، لكنّ اليقين في قاعدة اليقين والاستصحاب فرد واحد ، وإنّما العبرة بالشكّ ، فتارة يكون في البقاء واخرى يكون في أصل الحدوث ، فليس في المقام فردان من أفراد اليقين ليتوهّم شمول اليقين في الأخبار لهما بعمومه.

ثمّ أشكل على نفسه بأنّا سلّمنا عدم كون المورد من موارد العموم الأفرادي فما المانع من شمول الأخبار له بالعموم الأحوالي؟ فإنّ هذا اليقين الواحد بلحاظ وقوع الشكّ بعده تارة يزول واخرى يبقى.

وأجاب بأنّ حال انعدام اليقين كما في قاعدة اليقين لا يصدق نقض اليقين ولو بناء على كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ ، لأنّه بالنسبة إلى غير المنتزع عن مقام الذات كالإنسانيّة واليقين ممّا انتزع من مقام الذات.

(ثمّ أشكل بأنّ اليقين قد وجد في الجملة فلا مانع من الإشارة إليه في مقام التعبّد. وأجاب بأنّ اليقين طريقي وطريقيّته دائرة مدار تحقّقه وجودا وعدما) (١).

الوجه الثالث : أنّ اليقين في قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين طريقي فلا بدّ من لحاظ المتيقّن ، وحينئذ فالمتيقّن في باب الاستصحاب يؤخذ الزمان فيه ظرفا ، وفي قاعدة اليقين يؤخذ قيدا ، لأنّه في باب الاستصحاب لا بدّ من عدم أخذ الزمان قيدا وإلّا لم يصدق النقض ، وفي قاعدة اليقين لا بدّ من أخذ الزمان قيدا لأنّ الشكّ قد تعلّق بنفس الزمان الّذي تعلّق به اليقين فلا بدّ من لحاظ الزمان قيدا في الموضوع ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين ، فافهم.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٧٣

ولا يخفى عليك ما في هذه الوجوه الّتي ذكرها وزعمها مانعا ثبوتيّا :

أمّا الأوّل : فلأنّ ما ذكره ـ من كون اليقين متحقّقا في الاستصحاب ومتعبّدا به في قاعدة اليقين ـ وإن كان حقّا إلّا أنّ امتناع ذلك بتعبّد واحد ممنوع ، إذ لا يزيد على الأمرين المتضادّين ، فمثل : «لا تنقض اليقين بالشكّ» شاملة لما لو تيقّن بتحقّق الكرّية وشكّ في ارتفاعها ، وشاملة أيضا لما لو تيقّن بعدم الكرّية وشكّ في تحقّقها ، فهل يمكن أن يقال بأنّ الاستصحاب لا يشمل استصحاب الوجود والعدم؟ فإنّ مقامنا من هذا القبيل.

وحلّه أنّ الموضوع في الدليل هو اليقين والشكّ ، وما ذكر وإن كان متنافيا إلّا أنّها خصوصيّات خارجة عن الموضوع ، فلا مانع من عدم ملاحظة المولى لها في مقام التعبّد ، وتعبّده بنحو مطلق ، كما لو صرّح بذلك. وبعبارة اخرى : اليقين واحد ، وإنّما الاختلاف في المتيقّن وهو متعلّق اليقين فلا مانع من شمول الحديث لها من هذه الجهة أصلا ، فتأمّل.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما ذكره ـ من كون اليقين في الموردين واحد وليس في المقام يقينان حتّى يشمله لا تنقض اليقين بعمومه الأفرادي ـ وإن كان حقّا إلّا أنّ الشمول باعتبار اختلاف الشكّ ، فإنّ الشمول لا ينحصر بتعدّد أفراد اليقين ، بل يكون بتعدّد أفراد الشكّ ، فإنّ الشكّ تارة يكون متعلّقا بالحدوث ، واخرى بالبقاء ولا مانع من أن يقول لا تنقض اليقين بكلّ شكّ تعقّبه ، سواء كان متعلّقا بالبقاء أو بالحدوث.

(وما ذكره : من دوران طريقيّة اليقين مدار تحقّقه ، متين في نفي طريقيّته حينئذ فيهما معا وجدانا بانتفائه ، وأمّا التعبّدية فقابلة للجعل في القاعدة وفي الاستصحاب) (١).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

٦٧٤

وأمّا الثالث : فإنّ ما ذكره أيضا وإن كان متينا فإنّ الزمان في الاستصحاب ظرف وفي القاعدة قيد إلّا أنّ الزمان لا يلزم أن يلحظه المولى ، بل يجوز أن يقول : «لا تنقض ... الخ» من دون لحاظ الزمان أصلا لا قيدا ولا ظرفا ، لأنّهما من الخصوصيّات.

وبالجملة ، فهذه الوجوه لا تصلح مانعا عن شمول هذه الأخبار للاستصحاب وقاعدة اليقين ، إلّا أنّ هناك مانعا إثباتيّا فإنّ نفس الأحاديث ليس لها مانعا ثبوتي ، وإنّما المانع فيها إثباتي ، فانّها لا تدلّ على غير الاستصحاب ، وذلك أنّ ظاهر كلّ قضيّة أثبت فيها المحمول لموضوع كون الموضوع بذلك الوصف المأخوذ فيه ـ سواء كان ذاتيّا أم عرضيّا ـ موجودا. فلو قال : أكرم العالم ، فمعناه أكرم الرجل الّذي يكون حين الإكرام عالما وليس معناه أكرم من كان عالما. وكذا إذا قال : لا تصلّ في الثوب النجس ، وغيرها من الأمثلة. وإرادة ما كان متّصفا قبل ذلك بالوصف خلاف ظاهر الجملة.

فحينئذ قوله : لا تنقض اليقين بالشكّ ، بحسب ظاهرها تقتضي أن يكون اليقين موجودا بالفعل ، وذلك ليس إلّا الاستصحاب. وأمّا قاعدة اليقين فاليقين فيها زائل بالشكّ الساري ، (مضافا إلى أنّ هذه الأخبار مع تسليم دلالتها على حجّية الاستصحاب ـ كما هو المفروض ـ تكون دالّة على عدم حجّية قاعدة اليقين ، لأنّ كلّ يقين إلّا ما ندر مسبوق بعدم المتيقّن كعدالة زيد مثلا فإنّها مسبوقة بالعدم ثمّ تيقّن بها ثمّ زال بالشكّ الساري فإنّ استصحاب عدمها يقضي بعدم بقائها إلى زمن اليقين فتعارضه) (١).

وأمّا الكلام في عدم شمول هذه الأخبار لقاعدة المقتضي والمانع ، فلأنّ ظاهرها كون متعلّق الشكّ واليقين واحدا ، أمّا حيث يكون متعلّقهما متغايرا فلا تدلّ على إلغاء ذلك الشكّ.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٧٥

وبالجملة ، فليس ظاهر هذه الأخبار أنّ كلّ يقين تعلّق بشيء إذا تعلّق شكّ بشيء آخر لا ترفع اليد عن اليقين بالشكّ بالآخر إذا كان بينهما ربط ، مضافا إلى أنّ هذه الأخبار بمقتضى دلالتها على حجّية الاستصحاب تقتضي عدم حصول أثر المقتضي بحسب الاستصحاب ، وذلك مثلا إذا دخل خزينة الماء فمقتضى وصول الماء إلى البشرة متيقّن ، فإذا شكّ في وجود المانع فاستصحاب الحدث متحقّق فهو يرفع أثر اليقين بالمقتضي ، فهذه الأخبار حينئذ دالّة على عدم حجّية قاعدة المقتضي والمانع ، لأنّها دائما مسبوقة بعدم حصول أثر المقتضي. وبهذا يمكن أيضا أن يقال بدلالة هذه الأخبار على عدم حجّية قاعدة اليقين أيضا ، فإنّ اليقين بالحدوث مسبوق باليقين بالعدم وبعد حصول الشكّ الساري يشكّ في أنّ ذلك العدم السابق تبدّل بالحدوث أم لا فاستصحاب ذلك العدم يرفع حجّية قاعدة اليقين أيضا ، لأنّها دائما مسبوقة بالعدم.

فتلخّص أنّ هذه الأخبار لا تدلّ إلّا على حجّية الاستصحاب ولا تدلّ على حجّية قاعدة اليقين ولا على حجّية قاعدة المقتضي والمانع لو لم نقل بدلالتها على عدم حجّيتهما.

وربّما يستدلّ لقاعدة المقتضي والمانع ببناء العقلاء ، فإنّ بناءهم مستقرّ على عدم الاعتناء باحتمال المانع.

وفيه : أنّ هذه الدعوى عهدتها على مدّعيها ، نعم الداخل في الماء للغسل لا يتفحّص عن بدنه غالبا ، لكن لعلّ ذلك منه لاطمئنانه بعدم الحائل أو لغفلته عن الحائل كلّية ، فافهم وتأمّل.

الأمر الثالث : في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب

لا شبهة في تقديم الأمارة القائمة على خلاف الحالة السابقة على الاستصحاب ، فمن شكّ في الحدث بعد اليقين بالطهارة فشهد عنده عدلان بصدور الحدث منه يرتّب

٦٧٦

آثار المحدث بلا ريب ، وإنّما الكلام في وجه ذلك وأنّ تقدّم الأمارة على الاستصحاب هل هو من جهة التخصيص أو الورود أو الحكومة؟ وقد اختلف كلام الأعلام في هذا المقام ، فذهب الآخوند قدس‌سره إلى كون تقديم الأمارة إنّما هو لورود دليلها على دليل الاستصحاب (١) وذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) وتبعه الميرزا قدس‌سره (٣) وجملة من المحقّقين (٤) إلى أنّ الوجه في تقديم الأمارة إنّما هو الحكومة.

أمّا القول بالتخصيص فهو مبنيّ على بطلان هذين القولين ، وأمّا مع ثبوت صحّة أحدهما لا يبقى مجال للقول بالتخصيص ، مضافا إلى أنّ ألسنة أدلّة الاستصحاب بما أنّها إشارة إلى أمر ارتكازي عقلائي فهي غير قابلة للتخصيص أصلا ، فيقع الكلام في الأوّلين ، وقد ذكرنا أنّ الآخوند قدس‌سره اختار الورود ، ويمكن توجيهه بوجوه وكلّها يمكن أن تكون مراده قدس‌سره من عبارته في الكفاية :

أحدها : أن يقال بأنّ الحكم في هذه الأخبار المذكورة بتحريم نقض اليقين بغير اليقين كما يقتضيه قوله : ولكن تنقضه بيقين مثله ، فالمراد باليقين الثاني هو مطلق الحجّة ، والحكم بجواز النقض باليقين الآخر بما أنّه فرد لمطلق الحجّة لا لخصوصية فيه ، وحينئذ فالأمارة حجّة فهي ممّا جاز النقض بها.

ولا يخفى أنّ ما ذكره خلاف الظاهر ، فإنّ الظاهر أنّ المحكوم عليه هو خصوص المذكور بما هو هو لا بما أنّه فرد من أفراد الحجّة. وبالجملة ، فما ذكره وإن كان ممكنا إلّا أنّه خلاف الظاهر.

الثاني : أنّ الشارع إنّما حرّم نقض اليقين بالشكّ والبيّنة مثلا ليست بشكّ فلا يحرم نقض اليقين بها.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٨٨.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٣١٤ و ٣٢١ و.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ١٩١.

(٤) كالمحقّق العراقي في نهاية الأفكار ٤ : ١٩.

٦٧٧

ولا يخفى عليك ما فيه أيضا ، فإنّ المراد من الشكّ ما عدا اليقين ، وليس المراد لا تنقض يقينك بسبب الشكّ ، أمّا لو كان له سبب آخر وإن كان التماس مؤمن مثلا فلا بأس بالنقض ، بل المراد بالشكّ ما عدا اليقين أيّ شيء كان لقوله : «ولكن تنقضه بيقين مثله» ولقوله : «حتّى تستيقن ...».

الثالث : أنّ النقض بالأمارة باعتبار اليقين بحجّيتها نقض باليقين.

ولا يخفى أيضا ما فيه ، فإنّ ظاهر الأخبار كون متعلّق اليقين والشكّ واحدا لا أنّ المراد لا تنقض اليقين بالطهارة بالشكّ بها ولكن تنقضه باليقين بحجّية البيّنة ، بل المراد ولكن تنقضه بيقين متعلّق به.

وقبل الخوض في بيان الواقع لا بأس ببيان الفرق بين الحكومة والورود فنقول : إنّ الدليلين المتنافيين إمّا أن يكون أحدهما مفسّرا للمدلول اللفظي للدليل الآخر فهو أظهر أفراد الحكومة ، وهذا نظير قوله (١) : «ما أعاد الصلاة فقيه قط يحتال ...» مع قوله : «إنّما عنيت في الشكّ بين الثلاث والأربع» (٢) فإنّ هذا الدليل الثاني مفسّر لمدلول الدليل اللفظي الأوّل. (كما أنّه يكون من موارد الحكومة أيضا ما لو كان الدليل الثاني لاغيا لو لا الدليل الأوّل كما في قاعدتي الضرر والحرج ، فإنّه لو لا الأدلّة الأوّلية الدالّة على جعل الحكم الإلزامي مطلقا لم يكن معنى لحديث نفي الضرر والحرج) (٣).

وإمّا أن لا يكون أحدهما مفسّرا لمدلوله اللفظي فإمّا أن يعارضه مع حفظ الموضوع فيهما ، وإنّما التنافي في الحكم ، ويسمّى بالمخصّص وهو على نوعين ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٤٤ ، الباب ٢٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ٥ : ٣٢٠ ، الباب ٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣. وفيه : إنّما ذلك في الثلاث والأربع.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٧٨

لأنّه قد يتعيّن أحدهما أن يكون مخصّصا كما في العموم والخصوص المطلق ، وقد لا يتعيّن كما في العامّين من وجه ، فإنّ كلّا منهما قابل لأن يخصّص الآخر.

وإمّا أن يكون مع رفع الموضوع لا مع حفظه ، وحينئذ فإن كان نفس التعبّد رافعا للموضوع فهو الورود ، وإن كان المتعبّد به رافعا للموضوع فهو الحكومة ، مثال الأوّل البراءة العقليّة بالإضافة إلى الأمارة فإنّ موضوعها عدم البيان ، فإذا ورد دليل التعبّد بخبر الواحد فهذا التعبّد بخبر الواحد أمر وجداني ، وهذا الأمر الوجداني يجعل خبر الواحد بيانا فيرتفع موضوع عدم البيان بنفس التعبّد وهذا هو الورود. وإن كان المتعبّد به رافعا فهو الحكومة مثل قوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» (١) فإنّ صرف الجعل والتعبّد الوجداني لا يرفع الشكّ وإنّما المتعبّد به وهو عدم الشكّ يكون رافعا لموضوع الشكّ.

وبالجملة ، فإن كان رفع الموضوع بأمر وجداني وهو نفس التعبّد فهو الورود ، وإن كان بأمر تعبّدي وهو المتعبّد به فهو الحكومة. وبعبارة اخرى الفرق بين التخصيص والورود والحكومة هو أنّ التخصيص رفع الحكم مع حفظ الموضوع ، والورود رفع الحكم برفع الموضوع وجدانا من جهة التعبّد ، والحكومة بينهما فإنّها رفع الحكم برفع الموضوع تعبّدا.

إذا عرفت هذا عرفت أنّ الأمارة القائمة على خلاف الاستصحاب دليل تعبّدها يرفع موضوع الاستصحاب وهو الشكّ بما يتعبّدنا به لا بنفس تعبّده وهذا هو معنى الحكومة ، والظاهر أنّ الآخوند أخذ الحكومة خصوص ما يكون أحد الدليلين فيه مفسّرا لمدلول الآخر اللفظي (٢) وسمّى غيره باسم الورود فيعود النزاع لفظيّا لأوله إلى الاختلاف في الاصطلاح ، فالحكومة باصطلاحه قدس‌سره غير متحقّقة في

__________________

(١) قاعدة فقهيّة استفيدت من أخبار كثير السهو انظر الوسائل ٥ : ٣٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، انظر الجواهر ١٢ : ٤١٦ ـ ٤١٨.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٤٨٩ و ٤٩٧.

٦٧٩

الاستصحاب بالنظر إلى دليل الأمارة ، وحيث إنّ الحكومة عند الشيخ (١) والميرزا (٢) بمعنى تشمل بعض أفراد الورود على رأي الآخوند عبّروا عنها بالحكومة ، فافهم.

فتلخّص أنّ تقدّم الأمارات على الاستصحاب تقدّم بالحكومة بالمعنى المذكور لا بالمعنى المشهور ، لأنّ نفس دليل حجّية الأمارة الّذي هو دليل التعبّد رافع للشكّ الّذي هو موضوع الاستصحاب. وبهذا الاعتبار يتقدّم دليل الاستصحاب على الاصول الشرعيّة المحضة كأصالة الطهارة والحل والبراءة الشرعيّة ، فإنّ الاستصحاب كما قرّرنا أمارة حيث لا أمارة ، لأنّه ناظر إلى الواقع فهو يحكم ببقاء المتيقّن السابق ، فإنّه وإن اخذ فيه الشكّ ابتداء إلّا أنّه بعد جريان الاستصحاب يرتفع الشكّ بقاء ، وحينئذ فلا موضوع لأصالة الطهارة والحلّ والبراءة الشرعيّة ، لأنّه حينئذ يكون له علم فيرتفع عدم العلم بحكم الشارع المقدّس ، فبنفس دليل التعبّد يرتفع موضوع بقيّة الاصول.

ولكن تقدّم دليل الاستصحاب على الاصول العقليّة ـ كالتخيير والبراءة العقليّة الّتي موضوعها اللابيان ـ بالورود ، لأنّه إنّما يرتفع اللابيان وعدم المرجّح في التخيير بنفس التعبّد وبه يتحقّق البيان ويثبت المرجّح ، وهذا بحسب الظاهر واضح جدّا ، وبقي تقدّم الاستصحاب على قاعدة اليد والفراغ والتجاوز نتكلّم فيها بعد [الكلام عن] تعارض الاستصحابين.

الأمر الرابع : في تعارض الاستصحابين

إذا تنافى الاستصحابان فتارة يكون تنافيهما ناشئا من عدم إمكان الامتثال لا من جهة تكاذبهما ، بل يمكن أن يكونا صادقين مثل ما لو كان متيقّنا بنجاسة المسجد ثمّ شكّ فيها وأنّ المسجد طهر منها أم لا وشكّ في أنّه صلّى أم لا؟

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٣١٤ و ٤ : ١٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ٣ : ١٩٢.

٦٨٠