غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

والوقت لا يسع إلّا أحدهما ، فكلّ من الاستصحابين في نفسه لا مانع من جريانه ، بل لا مانع من جريانهما معا فيدخلان في باب التزاحم فيقدّم الأهم منهما.

وربّما يتوهّم أنّ دليل الاستصحاب واحد وشموله لهما في آن واحد فكيف يكون أحدهما أهمّ من الآخر؟ وهو باطل ، لأنّ الأهميّة في المتيقّن وهو مجرى الاستصحاب لا في نفس الاستصحاب.

واخرى يكون تنافيهما لتكاذبهما بحيث لا يمكن أن يشملهما دليل التعبّد أصلا ، وهذا على أنحاء :

أحدها : أن يكون أحد الشكّين مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، وليس المراد من السببيّة السببيّة التكوينيّة ، لأنّ الدليل التعبّدي لا مانع من شموله للعلّة والمعلول في آن واحد ، وإنّما المراد منها السببيّة الشرعيّة بحيث إنّ جريان الاستصحاب في أحدهما يكون من أحكامه الشرعيّة رفع الشكّ في الآخر ، ومثاله المعروف مثال ما لو غسل الثوب المتيقّن نجاسته بماء مستصحب الطهارة أو توضّأ بماء مستصحب الطهارة ، فإنّ من أحكام طهارة الماء إزالة الحدث والخبث لما غسل به ، فلا يبقى مجال لجريان الشكّ في طهارة الثوب وارتفاع حدث المتوضّئ ، فلا يجري حينئذ استصحاب النجاسة والحدث ، وهذا إنّما يجري حيث يكون الأثر مترتّبا على الحكم الشرعي أعمّ من أن يكون الحكم واقعيّا أو ظاهريّا كما مثّلنا ، فإنّ طهارة الماء متى تحقّقت بحكم ظاهري أو واقعي ترتّبت عليها إزالة الحدث والخبث.

أمّا لو كان الحكم إنّما يترتّب على الأمر الواقعي فلا ، نظير أن يكون حيوان مشكوك الحلّية والحرمة من غير ناحية التذكية ، فأصالة الحلّية لا يترتّب عليها جواز الصلاة في أجزائه ، لأنّ جواز الصلاة من أحكام الحلّية الواقعيّة ولم تثبت ، وإنّما ثبتت الحلّية الظاهريّة بأصالة الحلّ.

نعم لو جرى استصحاب حلّيته في فرض لا مانع من الصلاة فيه حينئذ لما قدّمنا من أنّ الاستصحاب ناظر إلى الواقع ومحرز للواقع بقاء ، فيكون أمارة حيث

٦٨١

لا أمارة فيحرز الحلّية الواقعيّة ، ومثاله ما لو شكّ في الحيوان أنّه جلّال أم لا ، فباستصحاب عدم الجلل تثبت الحلّية الواقعيّة فتصحّ الصلاة حينئذ ، في أجزائه بناء على شمول تحريم الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه للحرمة الذاتيّة والعرضيّة ، فإنّ الاستصحاب نفى الحرمة وأثبت الحلّية الواقعيّة تعبّدا ، وهذا بحسب الظاهر واضح.

وإنّما الكلام في وجه تقدّم الأصل السببي على الأصل المسبّبي مع كون الدليل بالنسبة إلى كلّ منهما على حدّ سواء ، فلم يقدّم الأصل السببي ليرتفع الشكّ في المسبّب؟ لم لا يعكس الأمر فيجري في المسبّب أوّلا ولا يجري في السبب؟ وأحسن ما افيد في وجه ذلك هو ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) :

وتوضيحه : أنّ الحكم في كلّ قضيّة إنّما هو على تقدير وجود الموضوع ، والقضيّة المتكفّلة للحكم غير متكفلة لوجود موضوعها أصلا ، نظير قولنا : الخمر نجس ـ مثلا ـ يعني على تقدير وجود خمر في الخارج فهو محكوم شرعا بالنجاسة ، وقد ذكرنا أنّ القضيّة الحقيقيّة تؤول إلى قضيّة شرطيّة وحمليّة مرارا كثيرة ، وحينئذ فالسبب باعتبار تحقّق الشكّ فيه المسبوق باليقين فهو موضوع للاستصحاب قطعا ، وبجريان الاستصحاب فيه يرتفع الشكّ في المسبّب تعبّدا ، فيخرج المسبّب عن كونه فردا لما تحقّق فيه اليقين والشكّ لارتفاع الشكّ عنه بحكم الشارع المقدّس.

ولو عكسنا الأمر فأجرينا الاستصحاب في المسبّب أوّلا لكان عدم جريانه حينئذ في السبب إمّا بغير وجه وهذا باطل ، وإمّا لشموله للمسبّب وهذا وجه يلزم منه الدور ، وذلك لأنّ شمول الدليل ـ يعني دليل الاستصحاب ـ للمسبّب موقوف على عدم شموله للسبب وإلّا فلو شمل السبب انتفى موضوع الاستصحاب في المسبّب كما بيّناه ، فلو كان عدم شموله للسبب بلا سبب لزم التخصيص بلا وجه ، وإن كان بسبب شموله للمسبّب لزم الدور الواضح ، فيدور الأمر بين التخصّص لو شمل دليل

__________________

(١) انظر الكفاية : ٤٩٠ ـ ٤٩١.

٦٨٢

الاستصحاب السبب فيلزم خروج المسبّب عن موضوع الاستصحاب لعدم الشكّ شرعا ، وبين التخصيص بلا وجه لقاعدة حرمة نقض اليقين بغير اليقين ، فإنّ الإنسان حينئذ ينقض اليقين بطهارة الماء الّذي هو بمعنى ترتيب آثارها ومنها طهارة ما غسل به بغير اليقين ، وهذا التخصيص إمّا بلا وجه أو بوجه دائر كما قرّرناه الآن. وهذا بحسب الظاهر واضح وأمتن ما ذكر وجها ، وغيره ضعيف قابل للمناقشة.

ودعوى : أنّ الحكومة غير معقولة في دليل واحد بالنسبة إلى فرديه لاستحالة شرح نفس الدليل لنفسه ، مسلّمة في الحكومة ، بمعنى كون الحاكم شارحا للمحكوم وناظرا إليه ، وأمّا الحكومة بمعنى الإخراج عن الموضوع فهي غير دائرة مدار شرح أحد الدليلين للآخر أصلا ، فالحكومة بالمعنى الأوّل مستحيلة في فردي الدليل الواحد ، لا الحكومة بالمعنى الثاني ، فإنّ شمول الدليل لأحد الفردين يوجب أن لا يكون في الفرد الآخر شكّ أصلا ، فهو رافع لموضوع الاستصحاب في الثاني.

وإذا كان أحد الدليلين الاستصحاب والآخر قاعدة الطهارة ، كما إذا كان الماء المغسول به الثوب النجس قد جرت فيه قاعدة الطهارة ، فالحكومة لقاعدة الطهارة على استصحاب النجاسة بالمعنى الأوّل ، لأنّ معنى حكم الشارع بطهارة الماء ترتيب آثار طهارته من ارتفاع الحدث والخبث لو غسل به ، فهو ناظر إلى قطع استصحاب النجاسة وشارح له فالحكومة فيه بالمعنى الأوّل.

الوجه الثاني لصورة تعارض الاستصحابين المتكاذبين : أن لا يكون بينهما سببيّة ومسببيّة بل يكون هناك علم إجمالي بكذب أحدهما ، وهذا على نحوين : فإنّ جريان الاستصحاب تارة يكون موجبا للمخالفة القطعيّة ، واخرى لا يكون موجبا لها ، وذلك فإنّ المستصحب تارة يكون حكما ترخيصيّا ، واخرى يكون إلزاميّا.

٦٨٣

مثال الأوّل أن يعلم طهارة كلّ من الإناءين ثمّ يعلم إجمالا بوقوع قطرة بول في أحدهما ، فهنا جريان كلا الاستصحابين يلزم منه مخالفة عمليّة قطعيّة لحكم إلزامي ، فإنّ حرمة تناول النجس مثلا أو حرمة الوضوء به حكم إلزامي ، فإجراء استصحاب الطهارة في كليهما فيه مخالفة عمليّة فيتساقط الاستصحابان ويرجع بعد تساقطهما إلى قاعدة الاشتغال.

ومثال الثاني أن ينعكس المثال الأوّل بأن يقطع بنجاسة كلّ من الإناءين ثمّ يعلم بطهارة أحدهما لإصابة المطر ، فهنا استصحاب النجاسة لا يلزم منه مخالفة عمليّة ، لأنّ غايته أن يكون أحدهما طاهرا ويجتنبه بموجب الاستصحاب فهو تارك لأمر مباح ، لأنّ الطاهر لا يجب تناوله.

وقد وقع الكلام بين الأعلام في جريان الاستصحاب هنا وعدمه فذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) وتبعه الميرزا النائيني (٢) وجماعة (٣) إلى عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ، وذهب الآخوند قدس‌سره إلى جريان الاستصحاب (٤) وتظهر الثمرة في الملاقي لأحد الإناءين ، فهو على الأوّل طاهر لأنّه ليس طرفا للعلم الإجمالي ، وعلى الثاني نجس لملاقاته مستصحب النجاسة.

وقد ذكر الشيخ في مقام الاستدلال على عدم جريان الاستصحاب مانعا إثباتيّا ، ولكنّ الميرزا قدس‌سره ذكر مانعا ثبوتيّا.

أمّا ما ذكره الشيخ فملخّصه : أنّ دليل الاستصحاب بالنسبة إلى أطراف العلم الإجمالي مجمل ، لأنّ فيها لفظ «شكّ» في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ»

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٩٣ و ٢ : ٢٠٠.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٩٢ و ٤١٥.

(٣) منهم المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ٣ : ٤٦ ـ ٤٧ ، والسيّد الحكيم في حقائق الاصول ٢ : ٤٩.

(٤) كفاية الاصول : ٣١٣.

٦٨٤

وهو بموجب إطلاقه شامل للشكّ البدوي والمقرون بالعلم الإجمالي ، وفيها أيضا لفظ «بيقين» في قوله : «ولكن تنقضه بيقين مثله» وهو شامل لليقين التفصيلي والإجمالي معا.

وإبقاء هذين اللفظين على إطلاقهما مستحيل ، لأنّه يؤدّي إلى جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي وعدم جريانه ، فلا بدّ من تقييد أحدهما فإمّا أن يقيّد الأوّل وهو لفظ «الشكّ» بالشكّ البدوي فلا يشمل المقرون بالعلم الإجمالي فيجوز النقض به ، أو يقيّد لفظ «اليقين» بالتفصيلي ـ ولكن تنقضه بيقين تفصيلي ـ ليجري الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي لعدم اليقين التفصيلي ، وحيث لا دليل على تقييد أحدهما فيكون دليل الاستصحاب حينئذ مجملا بالنسبة إلى أطراف العلم الإجمالي فلا يجري أصلا (١).

وقد أورد عليه الآخوند قدس‌سره (٢) بإيرادين :

أحدهما : أنّ المراد باليقين في قوله : «ولكن تنقضه بيقين مثله» هو اليقين التفصيلي والرواية ظاهرة في ذلك ، لأنّ اليقين السابق إنّما تعلّق بنجاسة كلّ واحد من الإناءين بخصوصه ، والعلم الإجمالي بطهارة أحدهما إنّما أحدث الشكّ بالنسبة إلى كلّ واحد منهما بخصوصه ولم يكن المعلوم بالإجمال معيّنا حتّى في الواقع. وحينئذ فأركان الاستصحاب كاملة ، فإنّ كل واحد منهما كان متيقّنا سابقا ومشكوكا لاحقا فيجري فيه الاستصحاب ، والعلم الإجمالي إنّما تعلّق بأحدهما المجمل فليس في جريان الاستصحاب حينئذ محذور أصلا.

الثاني : أنّا لو سلّمنا أنّ مثل هذا الدليل من أدلّة الاستصحاب مجمل إلّا أنّ غيره ممّا لم يذيّل بهذا الذيل لا إجمال فيه أصلا ، بل هو شامل لأطراف العلم الإجمالي فإنّ

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٤١٠ ـ ٤١١.

(٢) انظر الكفاية : ٤٩٢.

٦٨٥

فيها : «لا تنقض اليقين بالشكّ» (١) وهذا لا إجمال فيه أصلا ، ولا يسري إجمال دليل إلى الآخر ليصير مجملا أيضا لو لم نقل بالعكس.

وهذان الإيرادان واردان ، وقد اعترف النائيني قدس‌سره بورودهما فأعرض عن دعوى المانع الإثباتي وادّعى أنّ هناك مانعا ثبوتيّا عن جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي (٢).

وملخّصه : أنّ الاصول المحرزة الّتي لها نظر إلى الواقع لا يعقل أن تجري حيث يعلم بمخالفتها للواقع ، لأنّه يستحيل على الشارع أن يعبّدنا بما هو مخالف للواقع بحسب علمنا ، وحينئذ فحيث إنّ المكلّف عالم بطهارة أحد الإناءين قطعا فكيف يعقل أن يعبّدنا الشارع بنجاستهما معا مع أنّ فيه علم قطعي بالمخالفة؟

ويرد عليه أوّلا : النقض بأنّه كيف يجري الاستصحاب وقاعدة الفراغ معا فيمن صلّى ثمّ شكّ في أنّه كان متطهّرا أم لا ، مع أنّ حالته السابقة الحدث؟ فإنّ قاعدة الفراغ الّتي هي أصل محرز بل لعلها أقوى من الاستصحاب تجري بالنسبة إلى الصلاة واستصحاب الحدث أيضا يجري ، فتقدّم قاعدة الفراغ لأخصيّتها بالنسبة إلى العمل الّذي قد فرغ منه ثمّ يجري استصحاب الحدث بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة ، مع أنّه يعلم إجمالا بكذب أحدهما ، لأنّه إمّا يجب عليه إعادة تلك الصلاة أو لا يجب عليه الوضوء للصلاة اللاحقة ، فكيف التزموا بجريانهما معا؟ مع مخالفتهما لما هو المعلوم قطعا مع كونهما محرزين معا.

وثانيا بالحلّ وملخّصه : أنّ العلم الإجمالي إنّما هو بالجامع وهو طهارة أحدهما المفهوم المردّد الغير المعيّن حتّى واقعا ، ومتعلّقا اليقين والشكّ كلّ من الطرفين بالخصوص ولا مخالفة عمليّة في إجراء الأصلين حسب الفرض ، فليس حينئذ مانع

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢١ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤١٥.

٦٨٦

إلّا العلم بكذب أحدهما ، وليس هذا مانعا لإمكان أن يحكم الشارع بحرمة شيء محلّل حفظا لغرضه في ترك المحرّم ، كما أجرى قاعدة الاشتغال فيما لو علم بأنّ إحدى هاتين المرأتين محلّلة ولكنّه لم يعرفها بعينها فإنّه يحرم عليه النظر إلى كلّ منهما.

وقد التزم الميرزا (١) تبعا للشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) بجريان استصحاب طهارة أعضاء الوضوء واستصحاب بقاء الحدث فيمن توضّأ بماء مسبوق بالنجاسة ثمّ التفت بعد الفراغ مع جريان نفس المحذور فيه أيضا ، نعم قد لا يجري الاستصحاب في كلا الطرفين معا لمانع آخر غير العلم الإجمالي من إجماع أو غيره ، ومثاله الماء النجس الّذي هو أقلّ من الكرّ لو تمّم كرّا بماء طاهر ولم نستفد من الدليل أنّ تتميم الكرّ رافع للنجاسة السابقة ، فهنا مقتضى الاستصحاب بقاء الطاهر على طهارته والنجس على نجاسته إلّا أنّ قيام الإجماع على أنّ الماء الواحد لا يتبعّض مانع عن جريان الاستصحاب ، فافهم.

[الأمر] الخامس : في تعارض الاستصحاب وقاعدة الفراغ

لا إشكال في تقدّم قاعدة الفراغ أو التجاوز الّتي هي عبارة عن أصالة الصحّة في فعل النفس ، كما لا إشكال في تقدّم أصالة الصحّة في فعل المسلم على الاستصحاب ، ولذا لم نر فقيها توقّف في ذلك أصلا ، إنّما الكلام في وجه التقديم فنقول : أمّا بناء على أنّ قاعده الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة أمارة كما هو الصحيح بدعوى أنّها من باب الأخذ بظاهر حال المسلم بحسب الظنّ النوعي ، بمعنى أنّ الظاهر من حاله وكونه في مقام الامتثال أن لا يترك الجزء أو الشرط عمدا ، وأصالة عدم الغفلة والخطأ تجري في نفي السهو أيضا ، ونفس أدلّة قاعدة الفراغ تدلّ على ذلك أيضا فإنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٧٢.

(٢) انظر الفرائد ٣ : ٣٩٦.

٦٨٧

قوله : «بلى قد ركعت» (١) وقوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (٢) وغيرها (٣) من أدلّتها كالصريحة في كونها أمارة من باب الظنّ النوعي ، فبناء على كونها أمارة وكون الاستصحاب أصلا يكون التقدّم بالحكومة كما تقدّم بيانه ، وبناء على كونها أصلا أو بناء على كونها أمارة ، إلّا أنّ الاستصحاب أيضا أمارة كما هو الصحيح وقد اخترناه فيما سبق فيقع الكلام في وجه التقدّم وقد ذكر الميرزا قدس‌سره (٤) وجها بناء على كونها أصلا وكون الاستصحاب أصلا أيضا ، وملخّصه : أنّه يدّعي الحكومة وكون أدلّة قاعدة الفراغ ناظرة إلى أدلّة الاستصحاب وحاكمة عليها.

ولا يخفى أنّه قدس‌سره إن أراد الحكومة بمعنى أنّ دليل الحاكم ناظر إلى دليل المحكوم بحيث لو لا دليل المحكوم لم يكن معنى لدليل الحاكم نظير قوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ». ونظير قوله : «لا ربا بين الوالد وولده» فلا معنى لدعواه في المقام ، فإنّ قاعدة الفراغ غير موقوفة على الاستصحاب بحيث لا ربط لها به ، لأنّها قاعدة مستقلّة وأجنبيّة عنه.

وإن أراد من الحكومة كون مورد قاعدة الفراغ غالبا مسبوقا بالحالة السابقة وأنّه لو قدّم الاستصحاب لم يبق مورد لقاعدة الفراغ إلّا نادرا ، بخلاف العكس فهو صحيح إلّا أنّه لا يختصّ بقاعدة الفراغ ، بل كلّ دليلين بينهما عموم من وجه إذا لزم من تقديم أحدهما على الآخر عدم مورد للآخر أو ندوره بخلاف العكس يقدّم عليه بلا كلام والمقام من موارده ، فإنّ قاعدة الفراغ إنّما تجري في غير موارد الاستصحاب في موردين فقط :

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٩٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٣٢ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٣) راجع الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٤) أجود التقريرات ٤ : ٢٠٩.

٦٨٨

أحدهما : في صورة تعارض الاستصحابين ، كما لو تيقّن الطهارة والحدث وشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر بعد الفراغ من الصلاة ، فإنّ الاستصحابين يتساقطان وتجري قاعدة الفراغ.

الثاني : حيث يكون الاستصحاب موافقا لها في النتيجة ، كما في ما لو شكّ في عروض المانع في أثناء العمل فإنّ أصالة عدم المانع تكون مثبتة لصحّة العمل كقاعدة الفراغ. ولا يخفى أنّ تخصيص قاعدة الفراغ بالثاني لا وجه له ، لكفاية الاستصحاب ، وتخصيصها بالأوّل أيضا كذلك لندرته أوّلا ، ولأنّه خلاف صريح مورد أخباره ، فإنّ موردها صورة عدم تعارض الاستصحابين. فتلخّص أنّ وجه التقدّم هو بقاء قاعدة الفراغ بلا مورد إلّا نادرا لو قدّم الاستصحاب عليها بخلاف العكس ، وهذا من وجوه ترجيح أحد العامّين من وجه على الآخر ، فافهم.

الأمر السادس : في تعارض الاستصحاب وقاعدة اليد والقرعة

أمّا قاعدة اليد فهي من الأمارات ، وحينئذ فيقع التعارض بينها وبين الاستصحاب حيث تجري قاعدة اليد ، ولا ريب في تقدّم اليد على الاستصحاب لعين ما قدّمناه في قاعدة الفراغ من لزوم عدم المورد لها إلّا نادرا ، فإنّ اليد مسبوقة دائما بعدم الملكيّة بناء على استصحاب العدم الأزلي ، بخلاف الاستصحاب فتقدّم قاعدة اليد على الاستصحاب حيث تجري قاعدة اليد. وحيث لا تجري قاعدة اليد يصار إلى بقيّة الأدلّة ومنها الاستصحاب ، فحيث يجري الاستصحاب في بعض الموارد فليس من جهة تقديمه على قاعدة اليد ، بل من جهة عدم جريانها أصلا في ذلك المورد وهما موردان :

أحدهما : ما لو أقرّ بكون اليد السابقة على يده يد زيد المدّعي أنّ الدار له مثلا فهنا لا اعتبار ليده ، لقصور قاعدة اليد عن شمول مثل ذلك ، فإنّ دليلها إمّا السيرة

٦٨٩

وهي غير مستقرّة على ذلك ، وإمّا قوله : «لو لا ذلك لما بقي للمسلمين سوق» (١) ومعلوم أنّه لا يشمل هذه الصورة ، لأنّ المقصود جواز شراء ما بيده عند عرضه للبيع وشبهه لا مثل هذا.

الثاني : ما لو علم بكون يد صاحب اليد قد كانت يد أمانة أو عارية ثمّ شككنا في أنّها صارت يد ملك أم لا؟ فلا يمكن التمسّك بقاعدة اليد لا لما ذكره الميرزا من أنّ أدلّة اليد خاصّة باليد المشكوكة (٢) وهذه اليد بموجب الاستصحاب فيها نفسها يحرز أنّها يد عارية أو وديعة ، لما عرفت أنّه ليس في أدلّة قاعدة اليد تقييد باليد المشكوكة أصلا ، وإنّما الوجه في عدم إجراء قاعدة اليد ما ذكرناه في سابقة من قصور دليلها عن شمول ذلك ، سواء كان الدليل هو السيرة أو الدليل اللفظي المذكور سابقا.

وأمّا وجه تقديم الاستصحاب على القرعة فقد ذكروا وجوها :

الأوّل : أنّ دليل القرعة لكثرة تخصيصه سقط ظهوره فلا ظهور له ليعارض الاستصحاب.

وفيه : أنّ كثرة التخصيص مبنيّ على أخذ «مشتبه» بمعنى : غير معلوم ، وحينئذ فيتّجه ما ذكر من كثرة التخصيص في موارد أخبار الآحاد وبقيّة الأمارات ، أمّا لو اريد من «مشتبه» معناه الّذي نذكره لم يكن ثمّة كثرة تخصيص أصلا.

الثاني : ما ذكره بعضهم (٣) من كون دليل الاستصحاب أخصّ ، فإنّ القرعة لكلّ أمر مشتبه (٤) والاستصحاب في خصوص ما لوحظ فيه الحالة السابقة.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٢. (ونصّ الحديث هذا : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) وهكذا ورد في الكافي.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٩٦.

(٣) انظر كفاية الاصول : ٤٩٣.

(٤) انظر الوسائل ١٨ : ١٨٩ ، الباب ١٣ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ١١ بمعناه.

٦٩٠

وقد أشكل عليه بأنّ القرعة أيضا أخصّ من جهة اختصاصها بالموضوعات وجريان الاستصحاب في الموضوعات والأحكام.

وقد أجاب الآخوند قدس‌سره (١) بأنّا لا نسلّم انقلاب النسبة ، بل كلا المخصّصين يجريان معا في آن واحد فلا يخرج الاستصحاب عن الأخصّية ، فافهم.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ انقلاب النسبة هو الصحيح كما سيأتي في بحث التعادل والترجيح.

وثانيا : أنّ دعوى أخصيّة الاستصحاب مبنيّة على أخذ «مشتبه» بمعنى غير معلوم ، وهو باطل كما سيأتي بيانه.

الثالث وهو الصحيح : أنّ المراد من المشتبه والمشكل في لسان الروايات ما لم يتّضح وليس المراد منه غير المعلوم ، بل الّذي غمض وتحيّر فيه من حيث العمل وعدم معرفة الوظيفة الشرعيّة ولو ظاهرا ، ومع قيام الاستصحاب باعتبار أنّ موضوعه الشكّ في الواقع وهو حاصل يرتفع الغموض والتحيّر ، لعدم الاشتباه حينئذ لتعيين الوظيفة ولو بحسب الظاهر. وحينئذ فالمراد من المشتبه والمشكل : الغامض من حيث الحكم ولو ظاهرا ، وبوجود إحدى الأمارات كالاستصحاب يرتفع موضوعها ويختصّ موردها بمورد الغموض والتحيّر ، كما فيما لو علمنا أنّ زيدا وقف داره ولا نعلم أنّه وقفها على تعزية الحسين أو على تعمير المسجد مثلا ، أو علمنا أنّه طلّق إحدى نسائه ولا نعلمها بعينها وقد مات الزوج وأشباهها من الموارد ، ففي مثل هذه الموارد يعلم بالقرعة ولا تحتاج حينئذ إلى جبر بعمل المشهور أصلا ولا تكون كثيرة التخصيص أصلا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٤٩٣.

٦٩١

بقي الكلام في أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «إنّ القرعة سهم من سهام الله وسهم الله لا يخطئ» (١). أنّه يعتبر في جريان القرعة أن يكون المشتبه معيّنا في الواقع مجهولا عندنا ، لأنّه هو المناسب بقوله : «لا يخطئ» فكان المقصود إصابة الواقع المجهول. فدعوى الميرزا قدس‌سره عمومها للمشتبه عندنا (٢) ـ سواء كان مشتبها في الواقع أم لا ـ دعوى لا تساعدها أدلّة القرعة بل لا تفي بها.

هذا تمام الكلام في الاستصحاب والحمد لله أوّلا وآخرا وصلّى الله على محمّد وآله ظاهرا وباطنا.

تمّ على يد محرّره ومقرّره محمّد تقي آل مفخرة الأوائل والأواخر زعيم الطائفة الحقّة صاحب الجواهر قدس‌سره.

__________________

(١) لم نقف عليه بعينه ، وانظر الوسائل ١٨ : ١٨٩ ، الباب ١٣ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ١١.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ٢٦٠ ـ ٢٦١.

٦٩٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله

الطيّبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم

أعداء الدين من الأوّلين والآخرين من الآن

إلى قيام يوم الدين

وبعد فيقع حينئذ منّا الكلام في :

قاعدتي التجاوز والفراغ

ويقع الكلام في امور :

الأوّل : في أنّ قاعدة التجاوز والفراغ من المسائل الاصوليّة أم من المسائل الفقهيّة؟

فنقول : الميزان في كون المسألة اصوليّة هو كونها واقعة في طريق استنباط الحكم الكلّي بحيث لو ضمّ إليه صغراه لأنتج مسألة فقهيّة ، مثلا حجّيّة خبر الواحد من المسائل الاصوليّة لأنّ نتيجة البحث عنها هي الحجّية ، فلو جاء خبر واحد بوجوب السورة مثلا فبعد ثبوت حجّيته للمجتهد يستنبط منه وجوب السورة ، فيحكم حكما كليا بوجوب السورة في الصلاة ويدلي به إلى المكلّف فيطبقه على مصاديقه الخارجيّة فيأتي بالسورة في كلّ صلاة يصلّيها.

٦٩٣

والمسألة الفقهيّة ليست كذلك فإنّها عبارة عن الحكم الملقى إلى المكلّف فيطبقه عملا ، كما إذا حكم المجتهد بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال فيلقي هذا الحكم إلى المكلّف فيطبقه على مصاديقه ، كما في الحكم المرتّب على المسألة الاصوليّة المستنبطة منها.

وبالجملة ، تطبيق صغرى المسألة الاصوليّة وضمّ الكبرى الكلّية إليها شأن المجتهد ، وتطبيق الحكم الشرعي المستنبط على أفراده ومصاديقه شأن المقلّد بحيث لا ربط للمجتهد به كما في قاعدة الفراغ ، فإنّ الشكّ بعد الفراغ بعد بيان حكمه شرعا وإنّه لا عبرة به فتطبيقه بيد المقلّد ، فلو شكّ بعد الفراغ وإن لم يشكّ مقلّده ، بل وإن قطع بأنّه لم يأت المقلّد بما شكّ فيه يجري قاعدة الفراغ في حقّه فيصحّح صلاته.

الأمر الثاني : أنّ الأخبار في قاعدة التجاوز والفراغ كثيرة متفرّقة في باب الوضوء والصلاة ، إلّا أنّ الأخبار الّتي يستفاد منها أنّها قاعدة كلّية ـ لا اختصاص لها بباب دون باب ـ ستّة :

الأوّل : روى زرارة في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» (١).

الثاني : روى إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» (٢).

الثالث : الموثّقة : «كلّ شيء شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو» (٣).

الرابع : موثّقة ابن أبي يعفور : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» (٤).

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ٤ : ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

(٣) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٤) الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٦٩٤

الخامس : قوله في الشكّ الصلاتي : «هو حين يصلّي أقرب إلى الحقّ منه حين يشكّ» (١).

السادس : قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (٢).

فإنّ مورد هاتين الأخيرتين وإن كان خاصّا إلّا أنّ عموم التعليل في الاولى والأذكريّة حين العمل منها بعد الفراغ يعطيان العموم.

الثالث : في أنّها أمارة أو أصل؟ الظاهر أنّها أمارة فإنّ الظاهر من أخبارها أنّها قاعدة جارية على مقتضى طبيعة العبد في مقام الامتثال ، فإنّ الظاهر من حاله بحسب نوعه أنّه يأتي بأجزاء العمل مترتّبة وأنّ الجزء الثاني مثلا لا يأتي به إلّا بعد الأوّل وكذا الثالث لا يأتي به إلّا بعد الثاني وهكذا ، فإذا رأى المكلّف نفسه في الجزء الثالث وشكّ في أنّه أتى بالجزء الثاني فمقتضى وضعه وطبعه أنّه لا يأتي بالثالث إلّا بعد الإتيان بالثاني بمقتضى ارتكازه لعلمه بترتّب الثالث على الثاني ، فالشارع المقدّس قد اعتبر هذا الظاهر أمارة وتعبّدنا بها ، وإلى هذا يشير قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» ، وقوله : «هو حين يصلّي أقرب منه إلى الحقّ حين يفرغ» وكذا غيرها من الأخبار (٣) فإنّها تشير إلى ذلك كقوله : «بلى قد ركعت» (٤) وكذا البواقي.

وحينئذ فقد ظهر أنّها أمارة لا أصل ، ولكنّ الإشكال في أنّها لو كانت أمارة لكان لوازمها حجّة كبقيّة الأمارات. والظاهر من الفقهاء قاطبة عدم ترتيب اللوازم

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٤٢ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣ ، مع اختلاف يسير.

(٢) الوسائل ١ : ٣٣٢ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٣) راجع الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، و ٥ : ٣٤٢ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٤) الوسائل ٤ : ٩٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

٦٩٥

الشرعيّة عليها ، فإنّ من صلّى وبعد الفراغ شكّ في أنّه كان متطهّرا أم لا يجرون قاعدة الفراغ في تصحيح تلك الصلاة ويوجبون له الوضوء بالإضافة إلى بقيّة ما هو مشروط بالطهارة ، وما ذلك إلّا لأنّها أصل لا أمارة ، ولكنّ الإنصاف أنّ ما هو المعروف من أنّ الأمارة يثبت لوازمها ، وأنّ الاصول لا تثبت لم يرد في نصّ ولا دليل ، وإنّما المتّبع الأدلّة الدالّة على حجّية ذلك المجعول فيثبت الحجّية بمقدار دلالته.

نعم ، فيما كان من قبيل الأقوال يثبت لوازمه من دليل خارج نظير الإقرار والبيّنة وأشباهها ، وأمّا غير ما كان من قبيل الأقوال ، سواء كان أمارة أو أصلا فإنّما يثبت بها بمقدار الدليل الدالّ على حجّيتها ، وما دلّ عليه الدليل في قاعدتي الفراغ والتجاوز إنّما هو البناء على الصحّة بالنسبة إلى ما مضى. وكذا جملة من الأمارات فإنّ التحرّي الّذي جعله الشارع حجّة في باب القبلة لو حصل له الظنّ بكون القبلة بهذا الجانب مثلا فلو وصلت إليه الشمس لا يحكم حينئذ بدخول الوقت ، لأنّ الشارع قد حكم بكون الظنّ أمارة على القبلة لا على الوقت ، وقد ذكرنا في الاستصحاب ما ينفعك في المقام.

هذه هي الامور الّتي ينبغي تقديمها ، ونتكلّم الآن في مسائلها فنقول :

المسألة الاولى : هل مقتضى أدلّة قاعدتي الفراغ والتجاوز العموم ، فيجريان في جميع الأشياء من العبادات والمعاملات جميعا أو أنّها خاصة في باب الوضوء والصلاة؟ الظاهر أنّ قاعدة الفراغ عامّة لكلّ ما ذكر عملا بمقتضى العموم الموجود في أدلّتها ، وأمّا قاعدة التجاوز فصريح كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره عمومها ، لأنّه أخرج الطهارات الثلاث من قاعدة التجاوز بالتخصيص ، الوضوء بالنصّ ، والغسل والتيمّم بالإجماع (١) وصريح كلام الميرزا النائيني قدس‌سره أنّ

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٣٦.

٦٩٦

قاعدة التجاوز خاصّة بباب الصلاة وأنّ الطهارات (١) كغيرها جارية على طبق القاعدة الأوّلية.

وحيث إنّ الكلام في هذا المبحث موقوف على كونهما قاعدة واحدة أو قاعدتين فيقع الكلام في ذلك أوّلا.

فنقول : ذكر الشيخ الأنصاري استحالة دلالة دليل واحد على كلتا القاعدتين ، لأنّ مفاد قاعدة الفراغ الشكّ في صحّة الموجود ومفاد قاعدة التجاوز هو الشكّ في أصل الوجود ، فمفاد إحدى القاعدتين البناء تعبّدا على أصل وجود الشيء ، ومفاد الثانية التعبّد بصحّته بعد فرض وجوده ، فالجمع في التعبّد بين أصل الوجود وصحّة الموجود بعد الفراغ عن وجوده جمع بين ضدّين.

وقد أجاب عن ذلك بأنّ كلتا القاعدتين التعبّد فيهما بأصل الوجود غير أنّه في قاعدة التجاوز بأصل وجود الذات المطلقة وفي قاعدة الفراغ بوجود الذات الصحيحة ، فيمكن أن يكون دليل واحد يتكفّلهما لإمكان التعبّد بالجامع بينهما وهو أصل الوجود (٢) ، فافهم.

وقد اشكل على ما ذكره الشيخ من الجواب بإيرادين :

أحدهما : ما ذكره الميرزا قدس‌سره من أنّ الظاهر من الأدلّة مثل قوله : «كلّما شككت في شيء ممّا قد مضى فامضه كما هو» البناء على صحّة الموجود لا على وجود الصحيح ، فيعود الإيراد من عدم إمكان الجمع بين التعبّد بالوجود والتعبّد بصحّة الموجود (٣).

الثاني : ما ذكره الميرزا قدس‌سره تبعا للآخوند في حاشيته على الرسائل (٤).

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٧.

(٢) انظر فرائد الاصول ٣ : ٣٢٥ ـ ٣٣٠.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٢١٢.

(٤) لم نعثر عليه.

٦٩٧

وملخّصه : أنّ ما ذكره يتمّ في العبادات لعدم تعلّق الحاجة بصحّة الموجود فيها وإنّما المقصود فيها وجود الصحيح وقد عبّدنا الشارع بوجود الصحيح ، لكن في المعاملات المقصود الحكم بصحّة الموجود ، فإنّ المرأة إنّما تحلّ إذا حكم بصحّة العقد الموجود وإلّا فمجرّد وجود الصحيح من العقد لا يجدي في حلّيتها (١).

ولا يخفى أنّ هذا الإيراد المشترك بين الميرزا والآخوند غير وارد ، فإنّه في المعاملات أيضا المقصود وجود الصحيح ، ولا فرق بين المقامين أصلا فإنّ حكم الشارع بوجود الصحيح من العقد عليها كاف في جواز الاستمتاع ، فهذا الوجه لا يجدي. نعم الوجه الأوّل وهو كونه خلاف ظاهر الأدلّة إيراد متين ، فبقي استحالة التعبّد بهما معا في دليل واحد لا دافع له.

فالصحيح في الدفع أن يقال : إنّ الشيء في قوله عليه‌السلام : «كلّما شككت في شيء ممّا قد مضى فامضه كما هو» مطلق ، وقد ذكرنا مرارا أنّ معنى الإطلاق رفض القيود ، فكلّما صدق الشكّ في شيء ممّا قد مضى على ما يأتي من معنى المضيّ فقد ألغاه الشارع ، سواء تعلّق الشكّ بوجوده أو بصحّته ، وبهذا يظهر حينئذ إنّ الإشكال مندفع.

نعم ، تبقى هنا شبهة ملخّصها كما ذكره الشيخ الأنصاري : أنّ ظاهر الشكّ في الشيء الشكّ في أصل وجوده لا في صحّته بعد الفراغ عن وجوده ، فاستعماله في هذا الظاهر خال عن العناية ، فاستعماله في غير هذا الظاهر وهو الشكّ في الصحّة يحتاج إلى عناية ، فالجمع في كلام واحد بين ما يحتاج إلى العناية وما لا يحتاج إلى العناية غير ممكن فلا بدّ من كونهما قاعدتين لا قاعدة واحدة (٢) ، فافهم.

والجواب عن هذه الشبهة هو أنّ الشكّ في الصحّة يرجع إلى الشكّ في منشأ انتزاع هذا الوصف وأنّه متحقّق أم لا ، مثلا الشكّ في الصحّة يرجع إلى الشكّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٢.

(٢) انظر فرائد الاصول ٣ : ٣٢٩.

٦٩٨

في تحقّق الجزء المشكوك تحقّقه أو الشرط. وبعبارة اخرى الشكّ في الصحّة يرجع إلى الشكّ في وجود شيء ممّا اعتبر في المأمور به فهو يؤول إلى الشكّ في أصل الوجود ، فيكون «كلّما شككت في شيء ممّا مضى فامضه كما هو» شاملا للشكّ في الوجود أو الشكّ في الصحّة ، لأنّ الشكّ فيها يؤول إلى الشكّ في وجود جزء أو شرط.

وربّما يقال بأنّ هذا يتمّ في الشكّ في الجزء دون الشرط ، لأنّ الشكّ في الشرط إن كان يحكم الشارع بوجود الشرط في الشكّ بعد الفراغ فقد حكم بتحقّق الطهارة فلا حاجة إلى الطهارة للصلاة المستقبلة.

والجواب : أنّ الطهارة وإن كانت أمرا واحدا إلّا أنّ الشرط هو اقتران الصلاة الظهريّة بالطهارة وقد تحقّقت ، واقتران العصر بالطهارة شرط للعصر ، وقد حكم الشارع بوجدان الظهر لشرطها ، ولا يلزم منه الحكم بوجدان العصر لشرطها إلّا من باب ترتيب الأثر على اللازم. وقد ذكرنا أنّ قاعدة الفراغ لا تثبت اللوازم فالطهارة وإن كانت أمرا واحدا بسيطا إلّا أنّه بحسب الزمان قابل للتجزئة وقد جزّأه التعبّد بحكم الشارع.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ قوله : «كلّما شككت في شيء ممّا قد مضى» شامل لقاعدة التجاوز والفراغ معا ، لصدق الشكّ في الشيء وإن عاد إلى الشكّ في وصف الصحّة ، لأنّه يؤول إلى الشكّ في الوجود.

الشبهة الثانية : المانعة عن كون قاعدة الفراغ والتجاوز واحدة ، هي ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من كون قاعدة الفراغ ناظرة إلى مجموع العمل فنظرها إلى الأجزاء تبعي لا استقلالي فلحاظ الأجزاء فيها تبعي ، وقاعدة التجاوز نظرها إلى الأجزاء استقلالا فلحاظ الأجزاء فيها استقلالي ، فكيف يجمع في تعبّد واحد بين لحاظين متنافيين (١)؟

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١١.

٦٩٩

والجواب عن ذلك أوّلا : أنّ بناء على جريان قاعدة الفراغ في الأجزاء ، مثلا إذا شكّ في الركوع بعد الفراغ منه قبل السجود لزم الجمع بين اللحاظين ، إذ تجري قاعدة الفراغ في مجموع العمل وفي الأجزاء فيلزم الجمع بين لحاظين متنافيين في تعبّد واحد ، فهذا الإشكال مشترك الورود.

وثانيا : أنّ كون الأجزاء سابقة بحسب الرتبة لا يلزم منه عدم إمكان لحاظها مع لحاظ الكلّ المتأخّر عنها بحسب الرتبة ، والسرّ في ذلك هو أنّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود فقوله : «كلّما شككت في شيء ممّا قد مضى» غير ناظر إلى كونه جزءا أو كلّا لأنّه مطلق غير ناظر إلى شيء من خصوصيّات ما مضى أصلا.

وثالثا : أنّ قاعدة الفراغ إنّما تجري في الشكّ في الصحّة المسبّب عن الشكّ في وجود جزء أو شرط فاللحاظ فيه للأجزاء استقلالي كقاعدة الفراغ ، فأين الجمع بين اللحاظين الاستقلالي والتبعي؟ على أنّ هذا الإيراد مبنيّ على كونهما قاعدتين ، وأمّا بناء على أنّها قاعدة واحدة وأنّ الفراغ كما يأتي بالنسبة إلى تمام العمل يأتي بالنسبة إلى كلّ جزء فرغ منه فلا يأتي هذا الإيراد أصلا ، فافهم.

الشبهة الثالثة : أنّ المضيّ بالنسبة إلى قاعدة الفراغ محمول على حقيقته وبالنسبة إلى قاعدة التجاوز باعتبار الشكّ في فعل الجزء ، المضيّ إنّما يكون لمحلّه لا لنفسه للشكّ في وجوده ، فإسناد المضيّ إليه بنحو المجاز باعتبار الحالّ والمحلّ فكيف يجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي بإطلاق واحد؟ فلا بدّ من كونهما قاعدتين دلّ بعض الأخبار على الفراغ وبعضها على التجاوز.

والجواب : أنّ المضيّ بالنسبة إلى الفراغ والتجاوز مجازي حقيقة ، لأنّ الفراغ إنّما هو عن الصلاة ولا شكّ في تحقّق صدق الصلاة وإنّما المطلوب الفراغ عن الصلاة الصحيحة ، ووصف الصحّة كما تقدّم وصف انتزاعي من وجدان الأجزاء والشرائط ، وحينئذ فهي بهذا الوصف ممّا يشكّ في مضيّها فلا بدّ من كون المراد المضيّ بالنسبة إلى المحلّ أو مضيّ معظم الأجزاء تغليبا ، وعليه فالمضيّ بالنسبة إلى كلتا القاعدتين يلزم أن يكون مجازيّا ، فلا يلزم الجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي بإطلاق واحد.

٧٠٠