غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

المتوجّه إليه فيه ، ولكنّه يتخيّل أنّه أمر الذاكر وفي الحقيقة هو أمر الناسي فهو من باب الخطأ في التطبيق. ومن هنا يعلم أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) من إمكان توجّه الخطاب نحو الناسي ويكون عمله خطاء في التطبيق صحيح إن أراد ما ذكرناه ، ولا يرد عليه ما أورده الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من أنّ الخطأ في التطبيق إنّما يكون في ظرف إمكان الأمر ، أمّا مع ما ذكرنا من استحالة توجّه الخطاب إلى الناسي فلا ، وذلك لإمكانه بما ذكرناه ، فافهم.

الثاني من الامور الّتي ينبغي ذكرها هل إنّ القاعدة تقتضي بطلان العمل الّذي نسي جزؤه أو شرطه ووجوب إعادته عند الالتفات مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجيّة أو إنّ القاعدة تقتضي صحّته؟ والكلام في هذا المبحث يقع في مقامين :

أحدهما : فيما يقتضيه الدليل الاجتهادي.

الثاني : فيما يقتضيه الأصل العملي.

وذكر الدليل الاجتهادي في المقام استطرادي ؛ لأنّ الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي.

فنقول : أمّا الكلام فيما يقتضيه الدليل الاجتهادي فلا يخلو إمّا أن يكون لكلّ من دليل أصل الواجب ودليل الجزئيّة إطلاق مثلا ، مثل دليل وجوب الصلاة مع قطع النظر عن حديث : «لا تعاد» فإنّه مطلق بالنسبة إلى الذاكر والناسي وغير ذلك من أحوال المكلّف وأزمانه ، وكذلك دليل الجزئيّة مثل قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (٣) وكذا دليل الشرطيّة مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» (٤) فهنا دليل وجوب الواجب مطلق ودليل جزئيّة الجزء المنسيّ أو الشرط المنسيّ أيضا مطلق.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٣٦٣.

(٢) انظر فوائد الاصول ٤ : ٢١٢ ، وأجود التقريرات ٣ : ٥١٨.

(٣) مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ ، الباب الأوّل من أبواب القراءة ، الحديث ٥.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٢ ، الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث الأوّل.

٤٢١

وقد يكون أحدهما مطلق والآخر لا إطلاق فيه ، فقد يكون المطلق دليل وجوب الواجب ودليل الجزئيّة لا إطلاق فيه ، كدليل وجوب الصلاة وجزئيّة الطمأنينة ، فإنّ الطمأنينة دليلها هو الإجماع وهو مهمل لا إطلاق فيه ، وإن كان هناك خبر استدلّ به على جزئيّة الطمأنينة إلّا أنّه قاصر الدلالة ، وقد يكون المطلق دليل الجزئيّة ودليل أصل الوجوب لا إطلاق فيه كما إذا فرضنا كون دليل وجوب الصلاة هو الإجماع ، ودليل الجزئيّة أو الشرطيّة : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب أو بطهور.

وإن كان لكلّ من دليل الواجب ودليل الجزئيّة أو الشرطيّة إطلاق فمقتضى إطلاق دليل الجزئيّة أو الشرطيّة كون العمل الفاقد له فاسدا حتّى في صورة النسيان ، وحينئذ فيكون دليل الجزئيّة أو الشرطيّة مقيّدا لإطلاق دليل أصل الواجب بالنسبة إلى حال النسيان ، وحينئذ فحال النسيان لذلك الجزء لا أمر بالباقي أصلا فلا يكون فردا للمأمور به.

ودعوى : استحالة شمول إطلاق دليل الجزئيّة لحال النسيان لأدائه إلى التكليف بالجزء المنسيّ وهو تكليف بما لا يطاق ، مدفوعة بأنّا لا نكلّفه بإتيان الجزء المنسيّ وإنّما نبيّن له أنّ الفاقد ليس فردا للمأمور به فقط.

غاية ما يقال : إنّ حديث الرفع لما لا يعلمون وإن لم يشمل الجزء المنسيّ لفرض العلم بوجوبه حتّى حال النسيان ؛ لأنّ الفرض إطلاق دليل الجزئيّة ، ولكن رفع النسيان أو الإكراه أو الاضطرار رفع واقعي لا ظاهري فيكون الجزء المنسيّ أو المكره على تركه أو المضطرّ إلى تركه مرفوعا واقعا بذلك ، فلا تثبت جزئيّته حال النسيان أو الإكراه أو الاضطرار ، والفرض إطلاق دليل الواجب فيجب ما عدا الجزء أو الشرط المنسيّ أو المكره على تركه أو المضطرّ إلى تركه.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ممّا ذكرناه في تحقيق ما يستفاد من حديث الرفع وملخّصه : أنّ حديث الرفع متمحّض في الرافعيّة لمنشا انتزاع الجزئيّة وهو الأمر بالمركّب فإيجاب بقيّة الأجزاء يحتاج إلى دليل ، مضافا إلى عدم جريان حديث

٤٢٢

الرفع فيما هو من قبيل الصلاة ؛ لأنّ دليل الواجب في المقام إنّما أوجب صرف الوجود الغير المقيّد بزمان خاصّ أو مكان خاصّ أو فرد خاصّ ، وإنّما توجّه نحو صرف وجود هذه الطبيعة ، فبصرف الإكراه على ترك جزء أو شرط من فرد خاصّ لا يرتفع أصل التكليف بصرف الوجود ، لإمكان تحصيله بإتيان الفرد الآخر الواجد لذلك الجزء المنسيّ أو المضطرّ إلى تركه أو المكره على تركه ، ووجهه واضح فإنّ حديث رفع النسيان والإكراه والاضطرار وإن كان يرفع جزئيّة المنسيّ أو المكره على تركه أو المضطرّ إلى تركه واقعا إلّا أنّه يرفع خصوص ما وضع ، والوضع حسب الفرض بصرف الوجود ولم يتحقّق الإكراه أو النسيان أو الاضطرار بالنسبة إلى ترك الجزء أو الشرط بكلّي وجود ذلك الواجب.

نعم ، لو تحقّق الإكراه بالنسبة إلى ترك القراءة مثلا في تمام الوقت سقطت جزئيّتها حينئذ ووجب بقيّة أجزاء الواجب حيث يكون لدليل وجوبه إطلاق ، وكذا إذا كان التكليف متعلّقا بالأفراد أيضا.

وعدم شمول حديث رفع النسيان والإكراه لما اريد منه صرف الوجود واضح جدّا ؛ لأنّ المأمور به لم يكره على ترك جزئه وما اكره على ترك جزئه ليس هو المأمور به ، مثلا لو أمر المولى بإكرام عالم فاضطررنا إلى ترك إكرام زيد العالم فهل يتوهّم أحد سقوط خطاب «أكرم العالم» مع وجود عالم غير زيد لم يتحقّق إكراه بالنسبة إلى ترك إكرامه؟ كلّا ، وسببه ما ذكرنا من أنّ وجوب الإكرام لم يتوجّه لخصوص إكرام زيد ، بل إلى صرف إكرام العالم ، فافهم.

هذا تمام الكلام في الصورة الاولى ، وهي ما لو كان لدليل وجوب الواجب إطلاق ولدليل جزئيّة الشيء أو شرطيّته إطلاق أيضا.

أمّا لو لم يكن لدليل الواجب إطلاق وكان لدليل الجزئيّة أو الشرطيّة إطلاق كما إذا فرضنا أنّ دليل وجوب الصوم لا إطلاق فيه بالنسبة إلى الأكل اضطرارا وعدمه ، وكان لدليل شرطيّة ترك الأكل إطلاق بالنسبة إلى صورة الاختيار وعدمها

٤٢٣

ففي مثله لا بدّ من القول بالجزئيّة المطلقة وعدم سقوطها حال الإكراه ؛ لأنّ حديث الرفع لما لا يعلمون لا يأتي هنا ؛ لأنّ إطلاق الدليل علم ومعه لا مجال للأصل العملي وكذا رفع النسيان أو الإكراه.

ولا يخفى أنّه في هذا القسم لا فرق بين كون المطلوب من قبيل صرف الوجود أو من قبيل مطلق الوجود كالصوم ، أمّا إذا كان من قبيل صرف الوجود فواضح ؛ لأنّه حيث كان لدليل الواجب إطلاق لم يرتفع الجزئيّة حال الإكراه أو الاضطرار فكيف بما لا إطلاق فيه؟ وأمّا إذا كان من قبيل مطلق الوجود فإنّه وإن رفع حديث رفع النسيان أو الإكراه أو الاضطرار جزئيّة الشيء أو شرطيّته إلّا أنّ مؤدّى رفع الجزئيّة أو الشرطيّة أنّ هذا ليس جزءا ولا شرطا حال الإكراه أو الاضطرار واقعا ولكن أيّ دليل يثبت وجوب بقيّة أجزاء الواجب أو شرائطه؟ والفرض أن لا إطلاق لدليل الواجب لصورة الإكراه أو الاضطرار فلعلّ وجوبه خاصّ بصورة الاختيار.

وأمّا إذا انعكس الأمر بأن كان لدليل الواجب إطلاق ولم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق وإنّما ثبتت بالإجماع كالاستقرار بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّ لدليل الصلاة إطلاقا مسلّما لجميع الحالات من الذكر والنسيان وغيرهما ودليل الاستقرار ليس إلّا الإجماع. فلو اكره على الحركة أو اضطرّ إليها أو نسي فتحرّك فإطلاق دليل الصلاة يوجبها ولا يسقطها ، إذ لا دليل على ثبوت الجزئيّة في مثل المقام ، ولا فرق حينئذ بين أن يكون المطلوب من قبيل صرف الوجود أو مطلق الوجود ؛ لأنّ الجزئيّة قاصرة الشمول لهذه الصورة ، وليس رفعها بحديث الرفع ليقال : إنّه لا يرفع إلّا ما تعلّق به التكليف فيفرق بين صرف الوجود كما في الواجبات الموسّعة ومطلق الوجود كما في الواجبات المضيّقة ، بل إنّ رفع الجزئيّة بعدم العلم بكونها جزءا حينئذ ، إذ المفروض أن لا إطلاق لدليل الجزئيّة أو الشرطيّة.

بقي هنا شيء وهو أنّه ربّما يتوهّم أنّ من موارد عدم إطلاق دليل الجزئيّة ما إذا كان دليل الجزئيّة أمرا مثل «تشهّد» لا مثل «لا صلاة إلّا بطهور» فإنّ «تشهّد»

٤٢٤

لا إطلاق فيها بالإضافة إلى الناسي ؛ لأنّ الناسي لا يوجّه إليه مثل هذا الخطاب فهو مجمل بالإضافة إلى الناسي فلا إطلاق فيه أصلا.

والجواب أنّ الأمر هنا إرشاد إلى الجزئيّة وليس أمرا مولويّا ، وما لا يوجّه إلى الناسي هو الأمر المولوي ، وأمّا ما يكون إرشاديّا ليثبت الشرطيّة أو الجزئيّة فهو نظير الإخبار بجزئيّة شيء لشيء أو شرطيّته له نظير الأخبار الناهية عن الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه (١) إرشاديّة إلى المانعيّة ؛ ولذا لا حرمة ذاتيّة فيها ، فافهم وتأمّل.

بقي الكلام فيما إذا لم يكن من دليلي الواجب والجزء أو الشرط إطلاق وهو مورد الاصول العمليّة الّذي قد ذكرنا أنّه المقام الثاني للمبحث فنقول وبالله العون :

الكلام في ما إذا علم وجوب شيء مركّب من دليل لا إطلاق فيه وعلمت جزئيّة شيء له في الجملة بدليل لا إطلاق فيه أيضا ، ودار الأمر بين كون ذلك الجزء جزءا مطلقا له حتّى حال النسيان ليكون العمل باطلا حيث كان فاقدا لجزئه وبين كون الجزء جزءا له في خصوص حال الذكر فحينئذ يكون الأصل العملي مرجعا في ذلك.

ومن هنا ظهر أنّ الكلام إنّما يقع حيث يكون وجوب الواجب من قبيل صرف الوجود ليقع الكلام في أنّ الجزء جزء مطلقا ليكون العمل الفاقد للجزء باطلا حتّى يكون الأمر الأوّلي باعثا إلى إتيان فرد آخر من الطبيعة المأمور بها.

وأمّا حيث يكون المطلوب مطلوبا بنحو مطلق الوجود بحيث ليس له إلّا فرد واحد كالصوم مثلا فلا يقع الكلام فيه ؛ لأنّه على تقدير الجزئيّة المطلقة لا أمر أصلا ؛ لأنّ المكره أو الناسي لا يتوجّه نحوهما الأمر بما هو مركّب من ذلك الجزء المنسيّ أو المكره على تركه فيكون الشكّ في الإطلاق شكّا في توجّه تكليف نحو الناسي حال نسيانه وعدمه فلا يحرز الأمر حينئذ.

إذا عرفت هذا فالأصل حيث يشكّ في الجزئيّة المطلقة أو المقيّدة بحال الذكر يقتضي البراءة من الجزئيّة حال نسيان الجزء ؛ لأنّ الشكّ شكّ في التكليف فنشكّ

__________________

(١) انظر الوسائل ٣ : ٢٥٠ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي.

٤٢٥

في توجّه تكليف للناسي أو المكره بذلك الجزء ليترتّب عليه وجوب إعادتهما بعد الالتفات فينفى ذلك التكليف بالأصل ، ولكن الأمر بالطبيعي موجود قطعا فيكون ما أتى به مجزئا لاشتماله على الطبيعي ، وليس المنسيّ جزءا حال نسيانه فيكون العمل صحيحا لا يحتاج إلى إعادة.

كما لو شكّ في أصل الجزئيّة حتّى حال الذكر ، مثلا لو شكّ في أصل وجوب السورة في الصلاة أليس كان ينفى وجوبها بالأصل ، فكذا إذا شكّ في وجوبها في حال بعد إحراز جزئيّتها في الجملة كحال العمد ، فإنّه لو تركها حال العمد تبطل صلاته حسب الفرض ؛ لأنّ ثبوت الجزئيّة أمر مسلّم في الجملة والشكّ في إطلاقه واشتراطه بحال الذكر.

(هذا كلّه بناء على ما ذكرناه من إمكان توجّه التكليف للناسي بما بقي من أجزاء العمل ، وأمّا بناء على استحالته كما ذهب إليه جماعة فهذا العمل الفاقد للجزء المنسيّ ليس مأمورا به قطعا ، لكنّا نحتمل وفاءه بالملاك فيسقط الأمر بالواجب ، ونحتمل عدم وفائه فيكون مقتضى الأصل العملي هو الاشتغال للشكّ في الفراغ بعد الشغل اليقيني. وهذا من ثمرات مسألة إمكان توجّه الخطاب للناسي ببقيّة الأجزاء واستحالته ، وهي ثمرة مهمّة فافهم) (١).

هذا تمام الكلام في الشكّ في الجزئيّة المطلقة أو المشروطة بحال الذكر والاختيار من حيث الأصل اللفظي والأصل العملي.

[الكلام في مبطلية زيادة الجزء]

أمّا الزيادة فلو شكّ في كونها مبطلة مطلقا أو حال الذكر فقط ، والكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما من حيث الأدلّة الخاصّة.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية للدرس.

٤٢٦

والثاني من حيث الأصل العملي ، وقبل الخوض فيهما لا بدّ من التعرّض لجهتين :

الاولى : أنّه هل يعقل الزيادة الحقيقيّة في الواجب أم لا يعقل وإن أمكنت الزيادة العرفيّة؟

الثانية : في تحقيق مفهوم الزيادة.

أمّا الكلام في الجهة الاولى : فنقول ربما ادّعي استحالة الزيادة بتقريب أنّ الجزء كالسورة مثلا إمّا أن يؤخذ جزءا لا بشرط بمعنى أن يؤخذ طبيعة السورة جزءا في الركعة ، فحينئذ لو أتى بفردين من السورة لم يتحقّق الزيادة لعدم تحقّق الزيادة على الطبيعة بإتيان فردين منها ، وإمّا أن يؤخذ بشرط لا ، فإذا قرن بين سورتين في الصلاة فهو في الحقيقة نقيصة لجزء الصلاة ، إذ لم يأت بما هو جزء للصلاة من السورة ؛ لأنّ السورة الّتي هي جزء مشروطة بعدم الانضمام ولم يتحقّق ، وحينئذ فلا يتحقّق معنى للزيادة في الجزء. وكذا الكلام في غير الأجزاء فإنّ الصلاة إمّا أن تؤخذ لا بشرط من حيث رفع اليد مثلا ، وحينئذ فلا تتحقّق الزيادة ، وإمّا أن تؤخذ بشرط لا فلا يتحقّق حينئذ صلاة مأمور بها.

والجواب أوّلا : أنّ الزيادة أمر عرفي فلا يدور مدار الامور الفلسفيّة من كون الجزء بشرط لا أو لا بشرط بعد صدق الزيادة عرفا ، فإن أمر باكرام خمسة أشخاص فأكرم ستّة يقال عرفا : إنّه زاد في المأمور به.

وثانيا : أنّ الزيادة الحقيقيّة أيضا ممكنة بتقريب أن يكون الوجود الأوّل من وجودات السورة جزءا للصلاة ، ويكون لا بشرط من حيث انضمام الوجود الثاني إليه وعدمه فإنّ انضمام الثاني لا يخرجه عن كونه جزءا وحده ، نعم ما ذكره متين لو اخذ الجزء جزءا بنحو الطبيعة بمعنى كونه بنحو مطلق الوجود لا بنحو صرف الوجود ، وأمّا إذا كان بنحو صرف الوجود فلا ؛ إذ صرف الوجود يتحقّق بالوجود الأوّل فيكون هو الجزء فضميمة الثاني لا تضرّ أصلا. ومنه يظهر الجواب في غير الأجزاء كرفع اليد من حيث اشتراط عدمه في الصلاة.

٤٢٧

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : فنقول : إنّ تحقّق مفهوم الزيادة بالنسبة إلى المركّبات الخارجيّة واضح جدّا وغير محتاج إلى قصد أصلا ، مثلا المعجون الفلاني المركّب من الزيت والسكر إذا اضيف إليه شيء آخر كاللبن مثلا يكون زيادة فيه وإن لم تكن إضافة اللبن إليه بقصد الجزئيّة أصلا ، وأمّا الامور الاعتباريّة فلا يتحقّق الزيادة فيها أصلا إلّا بالقصد أي بقصد جزئيّتها ، وحينئذ فالصلاة وأشباهها من الامور الاعتباريّة لا تتحقّق الزيادة فيها إذا لم يكن إتيان الشيء فيها بعنوان الجزئيّة وبقصد كونه جزءا.

نعم ، نقول بأنّ صورة السجود فيه زيادة وإن لم يكن مقصودا ، للدليل الدالّ على ذلك ، وهو ما ورد من المنع عن قراءة العزائم في الصلاة معلّلا بقوله : «فإنّ السجود زيادة في المكتوبة» (١) مع كون السجود ليس بقصد الجزئيّة ، والحق به الركوع لعدم الفرق بينهما أو للأولويّة القطعيّة ، أمّا غيرهما فالزيادة لا تتقوّم بغير القصد ، نعم في السجود دلّ الدليل على أنّ الصورة أيضا زيادة.

ومن هنا ظهر أنّ قراءة العزائم في الصلاة ممنوعة ولو كان في التشهّد بموجب تعليل الرواية وليس المنع عنه عن خصوص قراءتها بدلا عن السورة بعد الحمد.

ومنه ظهر أيضا عدم جواز إدخال صلاة في ضمن صلاة لو تضيّق وقت إحداهما ؛ لأنّ الصلاة الداخلة فيها صورة سجود وإن لم يتوقّف المنع على ذلك ، لوجود دليل آخر يقضي بالمنع وهو ما دلّ على أنّ السلام يفصل ما قبله عمّا بعده وأنّه هو المحلّل ، فلا تكون الأجزاء السابقة قابلة لضمّ الباقي إليها ، فافهم.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية.

وأمّا الكلام في أصل المسألة وهي أنّ الزيادة مبطلة أم لا ، فقد ذكرنا أنّ الكلام يقع فيها في مقامين :

أحدهما : ما تقتضيه القواعد الأوّليّة.

الثاني : ما تقتضيه الأدلّة الخاصّة.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٧٧٩ ، الباب ٤٠ من أبواب الصلاة ، الحديث الأوّل.

٤٢٨

أمّا الكلام في الأوّل : فنقول : إذا شكّ في كون الزيادة مبطلة أم لا ، فمقتضى القاعدة عدم إبطال الزيادة العمديّة فضلا عن السهويّة ؛ لأنّ الشكّ في إبطال الزيادة وعدمها معناه الشكّ في أنّه اعتبر في المأمور به عدم هذه الزيادة جزءا أو شرطا أم لم يعتبر ، فهو من قبيل الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة ، بل هو منه ، وحيث يكون الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة فالأصل عدم اعتباره والأصل البراءة من التكليف به ، وحينئذ فمقتضى القاعدة عدم قدح الزيادة العمديّة فضلا عن الزيادة السهويّة.

وأمّا الكلام في المقام الثاني وهو ما تقتضيه الأدلّة الخاصّة فنقول : إنّه لم يرد دليل خاصّ في أغلب الواجبات عباديّة كانت أو توصّليّة كالصوم والاعتكاف وغيرها فيبقى على حكم القاعدة الأوّلية من عدم البطلان.

نعم ، ربّما يحصل الفرق بين العبادات والتوصّليات بأنّ العبادات في صورة الزيادة العمديّة ربّما تكون الزيادة العمديّة موجبة لعدم تحقّق قصد القربة بها من جهة التشريع فتفسد لذلك لا لأجل نفس الزيادة من حيث نفسها ، وحينئذ فهي خارجة عن محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّ كلامنا البطلان من حيث الزيادة بما هي زيادة.

وبالجملة ، فالمنصوص في الزيادة مقامان :

أحدهما : في الطواف فقد ورد أنّ من زاد في طوافه فطوافه باطل إذا كان عمدا ، (أمّا إذا كان سهوا فإن التفت إلى الزيادة قبل إكمال الشوط الثامن فيرفع اليد عن الزائد ، وإن كان بعد إكماله فهو بمقتضى النصوص الخاصّة مخيّر بين رفع اليد عن الزائد وإكماله طوافا ثانيا مستحبّا. وما دلّ على المنع عن القران بين طوافين بل لا بدّ من الفصل بصلاة الطواف مخصّص بصورة السهو المذكور ، وكذا السعي) (١).

الثاني : في الصلاة والأخبار الواردة في الزيادة في نفس الصلاة [وهي] على طوائف :

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٢٩

إحداها ما ورد من قوله : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» (١) وهذه الرواية مطلقة من حيث كون الزيادة عمديّة أو سهويّة ، ومطلقة من حيث كون الزائد ركنا أم غير ركن.

ثانيتها : قوله : «من استيقن أنّه زاد في صلاته فليستقبل الصلاة استقبالا» (٢) وهذه الرواية ظاهرها الزيادة السهويّة ؛ لأنّ قوله : «استيقن» ظاهر في حصول اليقين بعد ذلك ـ ويمكن أن يستفاد منها وجوب الإعادة في العمدية بالأولويّة ـ إلّا أنّها مطلقة من حيث كون الزائد ركنا أم غيره ، وحينئذ فلا فرق بينها وبين سابقتها في الإطلاق أو فائدته.

ثالثتها : قوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس : الوقت والقبلة والطهور والركوع والسجود» (٣) وهذه الرواية ظاهرة أو مشعرة بكون الزيادة غير عمديّة ؛ لأنّ قوله : «لا تعاد» ظاهرة في الإنسان بصدد الطاعة ، ومن كان بصدد الطاعة لا يزيد عمدا ، وحينئذ فلها إشعار بالسهو. فهي أخصّ من الروايتين إلّا أنّ لها عموما من ناحية أن «لا تعاد» من حيث الزيادة والنقيصة ، فبينها وبين الروايتين عموم من وجه ، من جهة أنّ النقيصة السهويّة بالنسبة إلى غير الخمسة يدلّ على عدم الإعادة بها حديث «لا تعاد» ولا تعارضه الروايتان. كما أنّ الروايتين في الزيادة العمديّة تدلّ على البطلان ولا يعارضها «لا تعاد». والزيادة السهويّة للخمسة موجبة للبطلان بمقتضى الجميع.

وإنّما جهة الاجتماع الّذي به تحصل المعارضة زيادة غير الخمسة سهوا فحديث «لا تعاد» يقتضي عدم الإعادة به ، والخبران الأوّلان يقتضيان الإعادة بإطلاقهما

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

(٢) المصدر السابق : الحديث الأوّل مع تفاوت يسير.

(٣) مستدرك الوسائل ٥ : ١٣ ، الباب ٥ من أبواب التشهّد ، الحديث ٣.

٤٣٠

فيتعارضان في المقام إلّا أنّ القاعدة تقتضي ترجيح «لا تعاد» لأنّها حاكمة على دليل الجزئيّة أو الشرطيّة ، فإنّ الإعادة المستفادة من الخبرين السابقين معناه اعتبار عدم تلك الزيادة في الصلاة ، وحديث لا تعاد ناظر إلى تلك الأجزاء المأتيّ بها زائدة أو المتروكة سهوا فنقول : إنّها لا تعاد الصلاة منها إلّا من خمسة ، فهو رافع لاعتبار عدمها حال النسيان ووجودها حال عدم الترك العمدي ، فافهم فإنّها وإن كان بين قوله : «فعليه الإعادة» وقوله : «استقبل الصلاة استقبالا» وبين «لا تعاد» تعارض بحسب النظر البدوي إلّا أنّها بعد التأمّل في «لا تعاد» وكونها رافعة للجزئيّة أو الشرطيّة حال السهو تكون حينئذ حاكمة على ما دلّ على وجوب الإعادة فتأمّل. وعلى تقدير التعارض وعدم الحكومة فالمرجع هو البراءة.

فيما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب

إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب أو شرائطه فهل مقتضى القاعدة وجوب الباقي أو سقوطه؟ ويقع الكلام تارة فيما يقتضيه دليل الواجب ودليل الجزئيّة ، واخرى فيما يقتضيه الأصل العملي ، وثالثة فيما هو مقتضى الأدلّة الخاصّة.

أمّا الكلام فيما يقتضيه دليل أصل الواجب ودليل الجزئيّة أو الشرطيّة فقد ظهر الكلام فيه ممّا مرّ ، من أنّه إن كان لكليهما إطلاق فدليل الجزئيّة بإطلاقه يكون مقيّدا لإطلاق دليل الواجب بخصوص المختار القادر فيقتضي بطلان الباقي عند التعذّر.

وإن كان دليل الجزئيّة مطلقا بلا أن يكون إطلاق لفظي لدليل أصل الواجب ، فمقتضى إطلاق دليل الجزئيّة اعتبار الجزء حتّى حال التعذّر ، فإذا تعذّر الجزء سقط وجوب الباقي ، لعدم العلم بوجوب الباقي حينئذ.

وإن كان لدليل الواجب إطلاق وليس لدليل الجزئيّة أو الشرطيّة إطلاق فمقتضى إطلاق دليل الواجب سقوط المتعذّر ، لعدم العلم بجزئيّته حال التعذّر وإنّما المتيقّن من جزئيّته حال القدرة فيبقى الباقي واجبا بمقتضى إطلاق دليل الوجوب وقد تقدّم تفصيله.

٤٣١

وأمّا ما يقتضيه الأصل العملي حيث لا يكون لهما إطلاق فالّذي يقتضيه الأصل العملي ابتداء هو البراءة ؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف به مركّب من أشياء فإذا تعذّر بعضها فقاعدة تعذر الكلّ بتعذّر جزئه محكّمة ، بمعنى أنّ المركّب من هذا الجزء وغيره متعذّر والخالي من هذا الجزء لا نعلم توجّه أمر به فبحديث الرفع نرفعه.

وربّما يفرق في الجزء المتعذّر بين ما يكون متعذّرا من أوّل الوقت إلى آخره ، وبين ما كان مقدورا فتعذّر في أثناء الوقت فيلتزم بالبراءة في الأوّل لما ذكرنا ويتمسّك بالاستصحاب في إثبات وجوب الباقي ، وقد قرّب جريان الاستصحاب بوجوه :

أوّلها : أن يقال بأنّ هذه الأجزاء كانت واجبة بالوجوب الضمني ونشكّ الآن في وجوبها فنستصحب كلّي الوجوب.

ثانيها : أن يقال : إنّه كان علينا عند إمكان الإتيان بجميع الأجزاء واجب قطعا فنشكّ الآن في سقوط وجوب ذلك الواجب بتعذّر بعض أجزائه فيستصحب.

ثالثها : أن يقال : إنّ هذا الفاقد لذلك الجزء المتعذّر هو عين الواجب الأوّل عرفا وحينئذ فيستصحب وجوبه ؛ لأنّ المناط في الاستصحاب الوحدة العرفيّة لا الوحدة الحقيقيّة ولا الوحدة بحسب الدليل.

والفرق بين هذا التقرير الثالث والثاني أنّ الاستصحاب في الثاني بنحو «كان» التامّة بمعنى أنّه كان واجب علينا نشكّ في سقوطه ، وهنا بنحو «كان» الناقصة وهو أنّ هذا الفاقد للجزء المتعذّر كان واجبا فيستصحب وجوبه. وثانيا أنّ هذا الأخير لا يجري إلّا حيث يتّحد الموضوع عرفا بخلاف الأوّلين فإنّهما يجريان وإن لم يبق إلّا جزء واحد من أجزاء الواجب العشرة ، وهو واضح جدّا فتأمّل فإنّه واضح.

ولا يخفى أنّ التقريب الأوّل من تقريبات الاستصحاب لا يمكن التعويل عليه ؛ لأنّ الوجوب المتيقّن هو الوجوب الضمني وقطعا قد ارتفع بتعذّر المركّب منه ومن غيره ، والوجوب المشكوك هو الوجوب الاستقلالي ، فما كنّا على يقين منه قد ارتفع يقينا وما نشكّ فيه مشكوك الحدوث ، فلا تتمّ أركان الاستصحاب فلا يجري

٤٣٢

كما في كلّ موارد القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلّي ، فإنّ المشكوك فيها غير المتيقّن ، وخصوصا هذا القسم من القسم الثالث ممّا كان الوجوب الّذي يراد إثباته غير محتمل التحقّق عند تحقّق الوجوب الضمني الأوّلي.

وأمّا التقريب الثاني من تقريبات الاستصحاب فإن اريد به استصحاب الوجوب مع قطع النظر عن متعلّقه فلا يثبت وجوب الباقي إلّا بالأصل المثبت ، وإن اريد به مع لحاظ المتعلّق فيأتي فيه الكلام في الوجه الأوّل حرفا بحرف بأن يقال : إنّ الوجوب المتيقّن سابقا ضمني وقد ارتفع ، والوجوب المشكوك استقلالي وهو مشكوك الحدوث فلا تتمّ أركان الاستصحاب.

وأمّا التقريب الثالث فلا بأس به حيث لا يكون المتعذّر قواما للمركّب بحيث لو أنّ الشارع أوجب الباقي بوجوب آخر لما رآه العرف وجوبا آخر ، بل يراه أنّه إبقاء للوجوب السابق ، وهو واضح.

وربّما يقال بأنّ ما ذكر تامّ في المركّبات العرفيّة الخارجيّة كالمعاجين ، ولا يتمّ في المركّبات الشرعيّة ، إذ لعلّ المتعذّر مقوّم للواجب الشرعي عند الشارع فلا يكون صدقه العرفي على الباقي مجديا ، بل لا بدّ من الصدق الشرعي.

ولا يخفى عليك أنّ المراد صدق كون الباقي هو الأوّل عرفا بعد ملاحظة صدور الأمر الشرعي بالمركّب ، فإن رأى العرف بعد التفاته إلى متعلّق الأمر أوّلا ورأى أنّ الفاقد ليس من جوهرياته ومقوّماته عنده فهو يرى أنّ الموضوع واحد فتوجّهت عليه حينئذ «لا تنقض اليقين بالشكّ» لأنّ رفع الوجوب عنه نقض عند العرف بعد فرض أنّه هو. وحينئذ فلا مانع من جريان الاستصحاب بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة الإلهيّة كما هو المشهور والمعروف.

ثمّ إنّ ظاهر كلام الميرزا النائيني قدس‌سره في المقام هو ما ذكرنا من التفصيل بين من كان من أوّل الوقت قد تعذّر عليه ذلك الجزء فتجري فيه البراءة ؛ لعدم توجّه الوجوب نحوه حتّى يستصحب ، وبين من طرأ التعذّر لذلك الجزء عليه

٤٣٣

بعد دخول الوقت فيستصحب الوجوب حينئذ لغرض فعليّة الوجوب بالنسبة إليه (١) وقد وافق الشيخ الأنصاري (٢) في ذلك وتابعة.

ولكنّه ـ يعني الميرزا النائيني ـ في باب الاستصحاب (٣) لم يفرّق بين الصورتين في جريان الاستصحاب الكلّي ، بدعوى أنّ استصحاب الحكم الكلّي غير محتاج إلى فعليّة محقّقة ، بل يكفي فرض الفعليّة كما في فتوى المجتهد بطهارة الماء المسبوق بالكرّيّة إذا لاقاه النجس ، فإنّه لا يحتاج إلى وجود ماء كان مسبوقا بالكرّيّة ولاقته النجاسة في زمن الشكّ ، وكذا حكم المجتهد بحرمة وطء الحائض بعد طهرها من الحيض إن لم تغتسل إنّما هو بالاستصحاب ، مع عدم الاحتياج إلى فعليّة ذلك الحكم بفرض حائض حينئذ قد طهرت من الدم ولم تغتسل بعد ، فكذا مقامنا.

والتحقيق أنّ جريان الاستصحاب في الأحكام يتصوّر على ثلاثة أنحاء :

الأوّل : أن يجري الاستصحاب في الحكم الكلّي من جهة احتمال النسخ ، وهذا لا يحتاج إلّا إلى ثبوت الملازمة بين طرفي القضيّة الحقيقيّة وإن لم يتحقّق طرفاها ؛ لأنّ المدار في الصدق فيها هو ذلك فقوله : الخمر نجس ، مثلا معناه كلّما وجد الخمر فهو محكوم بالنجاسة ، فالاستصحاب لنجاسة الخمر إنّما هو من جهة احتمال طرو النسخ ، وهذا الاستصحاب من الاستصحابات المتّفق عليها بين الاصوليّين والأخباريّين كما زعمه المحدّث الاسترآبادي (٤).

الثاني : الاستصحاب للحكم الكلّي أيضا لكنّه من جهة سعة الموضوع وضيقه ، مثلا الماء المتغيّر إذا زال تغيّره من قبل نفسه فهل يحكم بنجاسته بمقتضى

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ٥٣٥.

(٢) انظر الفرائد ٢ : ٣٧٨ ـ ٣٩٤.

(٣) انظر أجود التقريرات ٤ : ٨٨ ـ ٨٩.

(٤) انظر الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

٤٣٤

الاستصحاب أم لا؟ فإنّ الشكّ من جهة أنّا لا نعلم أنّ موضوع حكم الشارع بالنجاسة طارئ على التغيّر حدوثا وبقاء أم حدوثا فقط ، وهذا الاستصحاب أيضا لا يتوقّف على تحقّق موضوع له خارجا ، بل يكفي الموضوع التقديري ، وأغلب الاستصحابات في الأحكام الكلّية من هذا القبيل.

الثالث : الاستصحاب الشخصي ، وهو استصحاب الإنسان حكم نفسه من جهة الشكّ في تغيّر حكمه من الامور الخارجيّة ، كاستصحاب المتطهّر بقاء طهارته للشكّ في أنّه أحدث أم لا ، وشكّ الإنسان في طهارة يده من جهة أنّها أصابها بول أم لا ، وهذا الاستصحاب بعد أن يحكم المجتهد بأنّ المتيقّن إذا شكّ يستصحب لا يحتاج المقلّد في جريان الاستصحاب إلّا إلى فعليّة الحكم عنده وإن لم يكن فعليّا عند المجتهد.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المقام حيث يكون المكلّف من أوّل الوقت متعذّرا عليه ذلك الجزء فجريان الاستصحاب في الأجزاء الباقية ليس من القسم الأوّل ولا من القسم الثاني ولا من القسم الثالث فلا يجري.

بيان ذلك أنّ المقام ليس من المقام الأوّل ؛ لأنّ الشكّ ليس شكّا في النسخ بل إنّ قوله عليه‌السلام : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» (١) ، ليس منسوخا قطعا حتّى يجري فيه أصالة عدم النسخ واستصحابه. وكذا ليس من المقام الثالث قطعا ؛ لأنّ الشكّ ليس من جهة عروض الامور الخارجيّة فإن كان فهو من القسم الثاني.

والتحقيق أنّه ليس منه أيضا ؛ لأنّ تكليف المكلّف لم يعلم شموله لهذا المكلّف العاجز إتيان الواجب بجميع أجزائه ، فلعلّه غير شامل له من أوّل الأمر فليس التكليف حينئذ متيقّنا حتّى يستصحب. وبعبارة اخرى هو محتاج إلى فرض المجتهد

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨٣ ، الباب ١٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢ ، وفيه : إذا دخل الوقت وجب الطهور.

٤٣٥

شخصا قد تعذّر عليه بعض أجزاء الواجب ، ومع ذلك قد توجّه الوجوب نحوه حتّى يستصحب ذلك الوجوب الأوّلي ، كما في جميع موارد فتوى المجتهد فإنّ المجتهد لا يعتبر في حكمه الموضوع الفعلي لكنّه يعتبر الموضوع التقديري ؛ لأنّه لا يجري الاستصحاب وإنّما يحكم بإجراء الاستصحاب عند فعليّة ذلك الموضوع المقدّر وجوده ، وفي المقام لا يمكن فرض فعليّة الوجوب فيه ، وهو واضح بحسب الظاهر.

فتلخّص أنّ الاستصحاب إنّما يجري حيث يكون الموضوع المقدور عليه نفس المكلّف به المتعذّر جزؤه عرفا حيث يطرأ التعذّر ، وإلّا فلو كان التعذّر من أوّل الوقت موجودا فالأصل البراءة من التكليف بالباقي ، هذا ما يقتضيه الأصل العملي في المقام ، وقد ذكرنا أنّه البراءة في غير المتعذّر بعد دخول الوقت ممّا يعدّ والواجد واحدا عرفا ، فافهم وتأمّل.

[في قاعدة الميسور]

فيقع الكلام في المقام الثالث وهو : فيما تقتضيه الأدلّة الخاصّة :

فنقول : أمّا الصلاة فهي بموجب ما اشتهر من أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فجميع أجزائها أو شرائطها إنّما تكون أجزاء وشرائط لها مع القدرة.

نعم ، خصوص الطهارة من الشرائط الّتي لا تسقط شرطيّتها بحال من الأحوال. ومن ثمّ ذهب المشهور إلى سقوط الصلاة بتعذّرها ولزوم القضاء حينئذ وإن ذهب كثير ممّن تأخر إلى سقوط اعتبارها عند التعذّر فيجب الإتيان بالصلاة وإن كانت فاقدة للطهارة أيضا (١).

وإنّما الكلام في غير الصلاة فنقول : قد ذهب بعضهم إلى وجوب باقي أجزاء الواجب بعد تعذّر بعض أجزائه متمسّكا بالروايات الثلاثة المعروفة :

__________________

(١) انظر الجواهر ٥ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ و ١٣ : ١٠ ـ ١١.

٤٣٦

الاولى : هي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (١) (والكلام فيها سندا فهي نبويّة ضعيفة يرويها ضعيف عن مثله حتّى تنتهي إلى أبي هريرة المعلوم كذبه باعترافه في غير مقام ، مضافا إلى أنّها في صحيح مسلم بهذا المتن وفي صحيح النسائي : «فخذوا به ما استطعتم» وعن الذكرى : فأتوا به ما استطعتم (٢). ولم يعلم جبر سندها بفتوى المشهور ؛ لأنّهم في غير الصلاة من الطهارة والصوم والحجّ وغيرها لم يلتزموا بإتيان الميسور وفي الصلاة التزموا لدليل آخر ، وعلى تقدير كون فتوى المشهور مطابقة فلم يعلم استنادهم إلى هذه الرواية مع اضطراب في متنها كما ذكرناه) (٣).

وأمّا دلالتها فبدعوى ظهور «من» في التبعيض وتعلّقها ب «استطعتم» وكون «ما» في : ما استطعتم موصولة ، أمّا ظهور «من» في التبعيض فمسلّم ، بل ربّما ادّعى بعضهم أنّها لا تستعمل في غيره موجّها البيانيّة بأنّها للتبعيض أيضا فإنّ التبعيض فيها باعتبار الأفراد ، بخلاف التبعيض في غير البيانيّة فإنّها باعتبار الأجزاء.

وبالجملة ، فدعوى ظهور كلمة «من» في التبعيض لا ينكر إلّا أنّ الإشكال في خصوص هذه الرواية ، فإنّ حملها على التبعيض المتعارف لا يلائم موردها كما هو معلوم لمن لاحظ المورد ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهورها في التبعيض ليلائم موردها وهو قضية الحجّ الّذي سئل صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه أنّه في كلّ سنة أم في سنة واحدة فأجاب بما اشتمل على قوله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

__________________

(١) صحيح مسلم باب فرض الحجّ مرّة في العمر ، الحديث ١٣٣٧ ، وسنن النسائي ، كتاب الحج الباب الأوّل ، الحديث الأوّل.

(٢) الذكرى ١ : ٢٣ وفيه : منه.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٣٧

وتفصيل ما ذكرنا أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فأتوا ، من الأفعال المتعدّية بنفسها بمعنى أوجد ، وكما في قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ)(١) بمعنى يوجدونها ، وحينئذ فمفعولها إمّا أن يكون الضمير في «منه» بدعوى زيادة «من» وحينئذ فيلزم الفصل بين الفعل ومفعوله ويكون حينئذ : ما استطعتم «ما» ظرفية أي مدّة استطاعتكم ، وهو إمّا غلط أو خلاف الظاهر فيلزم أن لا يكون الضمير في «منه» مفعولا لها ، وحينئذ فلا بدّ من أن يكون مفعولها هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما استطعتم» فيكون المعنى : فأتوا ما استطعتم منه ، فتكون «من» بيانيّة لما استطيع الإتيان به ولكنّها لا تنافي التبعيض بالمعنى المتقدّم.

فإذا كانت للتبعيض فالتبعيض يتصوّر بصورتين :

الاولى : أن يكون التبعيض في الأفراد فيكون كلّ بعض ممّا ينطبق عليه عنوان الواجب كما في قولك : أكرم من العلماء ما استطعت ، فإنّ كلّ واحد من العلماء ممّا يصدق عليه جنس المأمور به ، وهذا التبعيض لا يحتاج إلى عناية أصلا ؛ لأنّ الفرد نفس ذلك العنوان منطبق عليه.

الثانية : أن يكون التبعيض بلحاظ الأجزاء لا الجزئيّات ، وهذا التبعيض يحتاج إلى لحاظ المركّب كلّا وأنّه شيء واحد فتكون حينئذ أجزاؤه أبعاضا له وإلّا فالأجزاء غير المركّب ؛ لأنّ كلّ جزء لا ربط له بالجزء الآخر فيحتاج إلى لحاظ وحدة اعتباريّة تضمّ المجموع وتعتبره شيئا واحدا ، فيكون التبعيض بهذا المعنى الثاني محتاجا إلى زيادة مئونة ، فإذا كانت «من» تستعمل في كلّ من المعنيين فالمورد يكون هو المعيّن للمعنى.

ولا ريب أنّ المورد في المقام هو النوع الأوّل من نوعي التبعيض ، فحمله على غيره موجب لخروج المورد عن معنى التبعيض ، وخروجه مستهجن في الكلام

__________________

(١) النساء : ١٥.

٤٣٨

العربي خصوصا مثل هذا الكلام الّذي يعطي بظاهره أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بصدد بيان كلّية ، المورد مصداق من مصاديقها ، مضافا إلى عدم الالتزام به في خصوص الحجّ فإنّ الإتيان ببعض أفعال الحجّ عند تعذّر البعض الآخر لا يجب أصلا. وحينئذ فلا دلالة لها على لزوم الإتيان ببعض أجزاء المركّب الواجب إذا تعذّر بعض أجزائه ، وهذا بحسب الظاهر واضح.

نعم ، لو كان استعمال «من» في التبعيض بالمعنى الثاني هو المعروف بحيث يكون استعماله في الأوّل خلاف الظهور لكان لزوم الحمل على الظاهر يثبت لنا العناية الزائدة الّتي يفتقر إليها التبعيض بالمعنى الثاني ، لكنّ الظاهر أن لا غلبة في الاستعمال ولا ظهور أيضا بل إنّ استعمالها في التبعيض من حيث الجزئيّات كاستعمالها في التبعيض من حيث الأجزاء والمورد هو المعيّن.

فتلخّص أنّ هذه الرواية لا يمكن الاستدلال بها على لزوم إتيان الباقي.

قال الاستاذ الخوئي أيّده الله ولا يناسب موردها أيضا حملها على التبعيض من حيث الأفراد ؛ لأنّ لزوم تكرار ما أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله به قول بالتكرار ولا يلتزم به أحد ، فلا بدّ من الالتجاء إلى القول بكون «من» زائدة والضمير مفعول «فأتوا» ويكون المعنى : فأتوه إذا كنتم مستطيعين الإتيان به ، فيكون عبارة اخرى عن اعتبار القدرة في متعلّقات الأحكام ، فتأمّل وافهم ما فيه وتأمّل.

الرواية الثانية : قوله : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (١) والكلام فيها أمّا من حيث السند فقد رواها ابن أبي جمهور الأحسائي مرسلة عن عليّ عليه‌السلام في كتابه عوالي اللآلي وقد طعن فيه وفي كتابه صاحب الحدائق (٢) الّذي ليس من ديدنه الطعن في الأخبار الضعيفة ، وعلى تقدير وثاقته ووثاقة كتابه فهي فيه مرسلة.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ ، الحديث ٢٠٧.

(٢) لم نقف عليه.

٤٣٩

ودعوى الجبر بفتوى الأصحاب معلوم عدمها ؛ إذ لم تذكر قبل ابن أبي جمهور في مؤلّف حتّى يطّلعوا عليها ، فمن المظنون قويّا أنّهم لم يطّلعوا عليها ، فدعوى الجبر فيها مجازفة واضحة.

وأمّا الكلام فيها من حيث الدلالة فإن معناها أنّ ما لا يمكن إدراك كلّه ، أي إدراك مجموع أجزائه أو مجموع أفراده لا يترك جميع أجزائه أو جميع أفراده بل يؤتى بما تيسّر من أجزائه أو من جزئيّاته إذا لم يمكن إدراكها بأسرها.

وقد أشكل عليها الآخوند قدس‌سره (١) بأنّ كلمة «ما» شاملة للمستحبّ والواجب وظهور «لا يترك» في الوجوب لا ينبغي أن يناقش فيه ، وحينئذ فإمّا أن يكون الأوّل قرينة على أنّ «لا يترك» مستعملة في الاستحباب فلا تفيد وجوب الإتيان بالمتيسّر من الأجزاء أو الأفراد ، أو يكون «لا يترك» قرينة على كون «ما» للوجوب فقط ، وحيث كان هكذا فلا جزم بالثاني حتّى يكون دالّا على المقصود بل احتمال الأوّل موجود فهو ممّا احتفّ بما يصلح للقرينيّة ، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال ، هذا ملخّص ما أشكله على الرواية الآخوند قدس‌سره.

ويمكن أن يجاب عمّا ذكره بأنّ الوجوب معنى منتزع من الأمر كما أنّ التحريم أمر منتزع من النهي ، فإذا ورد أمر فمقتضى قانون المولويّة والعبوديّة لزوم الإتيان به ما لم يرد فيه ترخيص من قبل المولى ، فلو سلّمنا شمول «ما» للواجب والمستحبّ فنقول بمقتضى قوله : «لا يترك» أنّه لا يجوز ترك الميسور من الواجب والمستحبّ ، فإذا ورد دليل بجواز ترك ميسور المستحبّ يبقى الواجب على وجوب الإتيان بميسوره نظير : اغتسل للجنابة والجمعة ، فإنّ ورود الترخيص في ترك غسل الجمعة لا يوجب كون غسل الجنابة مرخّص الترك فافهم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٢٢.

٤٤٠