غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

ويمكن أن يقال ـ حتّى على مذهبه قدس‌سره من أنّ الوجوب ينشأ بالصيغة ـ إنّ «ما» إذا أخذت على إطلاقها من الوجوب والاستحباب فيثبت استحباب الإتيان بالممكن من أجزاء الواجب فإذا ثبتت المحبوبيّة ثبت الوجوب لعدم القول باستحباب الإتيان بما هو مقدور ، فإذا ثبتت المحبوبيّة ثبت الوجوب.

وبالجملة ، فما ذكره الآخوند قدس‌سره غير قادح في الاستدلال بها ، نعم الإشكال في أنّ كلمة «ما» الموصولة المبهمة هل اريد منها الواجب ذي الأجزاء أو الواجب ذي الأفراد أو الجامع بينهما؟ لا يمكن إرادة الجامع ؛ لأنّ «لا يترك» الّذي هو الحكم في هذه الرواية إن اريد ب «ما» الواجب ذي الأفراد يكون حكم لا يترك إرشاديّا ؛ لأنّ الوجوب الّذي كان ثابتا على الواجب بنحو الاستغراق يكون أحكاما متعدّدة بحسب الأفراد فيكون لكلّ فرد حكم منها. فقوله «لا يترك» إرشاد إلى حكم العقل بوجوب إطاعة حكم الفرد الممكن الّذي لم يذهب حكمه بتعذّر الفرد الآخر ؛ لأنّ تعذّره رفع حكمه لا حكم صاحبه الّذي هو الفرد الآخر. وإن اريد من الواجب ذي الأجزاء يكون «لا يترك» حكما مولويّا جديدا ؛ لأنّ حكمه السابق قد ارتفع بتعذّر الجزء منه فالوجوب المستوعب لجميع الأجزاء قد ارتفع قطعا فيكون قوله : «لا يترك» حكما جديدا بوجوب بقيّة الأجزاء.

ولا يمكن في «لا يترك» أن يجمع فيها بين الوجوب المولوي والإرشادي ، وظهور الأمر في المولويّة إنّما هو من جهة أنّ الظاهر من المولى أنّ أمره إذا خولف يستحقّ مخالفة العقاب ، وهذا حيث يعلم متعلّق أمره ، أمّا إذا دار بين كون متعلّقه الشيء الفلاني فيكون مولويّا أو الشيء الفلاني فيكون إرشاديّا فليس ظهوره معيّنا لمتعلّقه حتّى يحرز الوجوب المولوي. نعم لو كان ظهوره في المولويّة ظهورا وضعيّا ربّما يتوجّه كلامكم ، فالجامع لا يمكن أن يراد قطعا.

نعم ، يبقى الترديد بين كون الواجب ذا أفراد ليكون الوجوب إرشاديّا أو ذا أجزاء ليكون مولويّا فنقول : إنّها لا ظهور لها في أحدهما ؛ لأنّ استعمالها في الكلّي

٤٤١

ليس بأقلّ من استعمالها في الكلّ ، بل ربّما يدّعى كثرة الاشتهار بهذه الرواية في الامور اللازمة الّتي هي ذوات أفراد لا أجزاء. ويؤيّد استعمالها في الواجب ذي الأفراد أنّه لو بقي من أفراده فرد واحد مقدور يجب الإتيان به بموجب أمره المتعلّق به ، ولو اريد ذي الأجزاء لوجب الإتيان بجزء إن كان مقدورا وتعذّر تسعة عشر جزءا من أجزائه ، وهو بعيد ولا يلتزم به أحد ، فافهم فتأمّل (*).

ونظيره يأتي في الرواية السابقة مع التنزّل وتسليم كون «من» للتبعيض بحسب الأجزاء لا الأفراد كما هو موردها.

الرواية الثالثة : قوله : «الميسور لا يسقط بالمعسور» (١). فإنّها دالّة على أنّ المركّب إذا تعذّر بعض أجزائه لا يسقط البعض الآخر. والكلام فيها سندا هو الكلام في سابقتها راويا وكتابا وإرسالا ومرويّا عنه فلا نعيده.

وأمّا دلالة فقد أشكل الآخوند قدس‌سره بأنّ الميسور شامل للواجب والمستحبّ ، وحينئذ ف «لا يسقط» لا تدلّ على الوجوب.

والجواب هو ما ذكرناه من أنّ الوجوب ليس من المنشآت القوليّة وإنّما هو عنوان انتزاعي من الأمر بالشيء إذا لم يرد فيه ترخيص ، أو يقال بأنّه إذا ثبتت محبوبيّة الإتيان بالباقي ثبت وجوبه لعدم القول بالفصل أو الاستحباب.

ولا يخفى أنّها إمّا أن يكون المراد ب «لا يسقط» الإنشاء أو يراد بها الإخبار.

فإذا اريد بها الإنشاء فإمّا أن تكون إرشاديّا إذا اريد بها أنّ الكلّي إذا تعذّر بعض أفراده لا يسقط الأمر المتعلّق ببعض أفراده الآخر لعدم تعلّق أمره بأمره

__________________

(*) وجه التأمّل أنّ هذا الإشكال مبنيّ على صحّة الإشكال السابق المانع عن إرادة الجامع إذ لو أمكن إرادة الجامع من «ما» يمكن أن يقال بأنّ ذا الأجزاء الّتي تعذّر معظمها قد خرج عن وجوب الإتيان به بالدليل وبقي الباقي. فافهم. (من إضافات الدورة الثانية).

(١) غوالي اللآلي ٤ : ٥٨ ، الحديث ٢٠٥ (مع اختلاف يسير).

٤٤٢

ولكن هذا إرشادي ، وإمّا أن يكون التكليف بها مولويّا لو اريد بها أنّ الكلّ لا يسقط إذا تعذّر بعض أجزائه ، وإرادة الجامع بين الكلّي ذي الأفراد والكلّ ذي الأجزاء مستحيل ، لعدم الجامع بين المولويّة والإرشاديّة ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ـ أي احتمال كون «لا يسقط» إنشاء بأن تكون «لا» ناهية ـ احتمال ساقط ؛ لأنّ السقوط ليس من أفعال المكلّفين حتّى ينهى عنه أو يؤمر به فلا بدّ أن يكون «لا يسقط» نفيا وإخبارا. وحينئذ فإشكال المولويّة والإرشاديّة لا وقع له حينئذ.

وإنّما الإشكال لو اريد بها الإخبار أيضا حيث إنّ الإخبار بعدم سقوط الميسور يكون إخبارا عن عدم سقوط حكمه بماله من الحكم الوجوبي والاستحبابي أو يراد عدم سقوطه بنفسه بلا عناية ، فإنّ الواجب له نوع تعلّق بذمّة المكلّف ، وكذا المستحبّ فيكون كالدين فيقال : إنّه لا يسقط بالمعسور كما لا يسقط وجوب أداء الدين مع القدرة على أداء بعضه ومطالبة الدائن إلّا أنّ السقوط محتاج إلى ثبوت فما لم يكن ثمّة ثبوت لا يصدق السقوط.

وحينئذ فإنّ إرادة الكلّي ذي الأفراد منه واضحة ؛ لأنّ الكلّي إذا امر به بنحو الاستغراق فيكون كلّ فرد منه مأمورا به بأمر مستقلّ فلا يكون تعذّر بعض الأفراد موجبا لسقوط أمر بعض الأفراد الأخر فيكون إخبارا عن بقائه ، إلّا أنّ إرادة الكلّ ذي الأجزاء غير واضحة حينئذ ؛ لأنّ البعض الميسور من الأجزاء لم يكن وجوبه ثابتا حتّى يقال : لا يسقط ، لأنّ السقوط فرع الثبوت. نعم ، كان واجبا بوجوب ضمني والوجوب الضمني كان في ضمن الكلّ وقد ارتفع الكلّ قطعا فارتفع ما بضمنه فأيّ وجوب كان ثابتا حتّى لا يسقط بالمعسور؟

وبالجملة ، لا يظهر من هذه الرواية بقاء وجوب المركّب إذا تعذّر بعض أجزائه فنبقى على مقتضى القاعدة وهي البراءة إلّا في مورد يكون التعذّر بعد دخول الوقت لجزء لا يخلّ بالتسمية العرفيّة إذا جرى الاستصحاب في المقام وأشباهه من الأحكام الكلّية. هذا ما قرّره الاستاذ في مجلس درسه.

٤٤٣

ويمكن أن يقال : إنّ ظهور «لا يسقط» في الارتباطيّات أكثر من ظهوره في الأفراد وإنّه إخبار عن عدم سقوط المركّب بتعذّر بعض أجزائه ، فيستفاد منه حينئذ أنّ المأمور به له مراتب يؤمر به عند القدرة بالمرتبة العليا وعند تعذّره بالمرتبة الّتي هي دون الاولى وهكذا ، فتأمّل.

فيما إذا تردّد الأمر بين كون شيء شرطا أو مانعا

إذا علم دخل شيء في واجب وشكّ في كون وجوده جزءا أو شرطا وكون وجوده مانعا أو قاطعا بناء على الفرق بين المانعيّة والقاطعيّة فما هو مقتضى القاعدة؟

والكلام يقع في موارد ثلاثة :

أوّلها : أن يتردّد بين كونه معتبرا وجودا أو عدما في واجب شخصيّ ليس له أفراد طوليّة ولا عرضيّة ويقع في العمر دفعة واحدة ، وهذا إذا شكّ في كون دخل الشيء الفلاني فيه معتبر وجودا أو معتبر عدما ، فهذا يدخل تحت القاعدة الّتي ذكرناها في أطراف العلم الإجمالي من أنّ الموافقة القطعيّة فيه واجبة والمخالفة القطعيّة حرام ، فإذا لم تمكن الموافقة القطعيّة سقطت لكن المخالفة القطعية باقية على حرمتها فليس له المخالفة بذاك النحو ، ومقامنا من هذا القبيل فإنّ الموافقة القطعيّة حينئذ غير ممكنة لفرض كون الواقعة واحدة وليس لها أفراد ، ولكن المخالفة القطعيّة باقية على حرمتها فيحرم عليه ترك ذلك الواجب المركّب إمّا من الأجزاء الباقية ووجود هذا أو من الأجزاء الباقية وعدم هذا ؛ لأنّ ترك ذلك المركب مخالفة قطعية.

ثانيها : ما إذا تردّد أمر شيء بين كون وجوده معتبرا أو عدمه معتبرا في واجب ليس له أفراد لا دفعية ولا تدريجية إلّا أنّه وقايع متعدّدة مثل صوم شهر رمضان ، فهنا أيضا لا يمكن الموافقة القطعيّة فيتخيّر بين أن يختار وجوده شرطا أو جزءا أو عدمه شرطا أو جزءا ؛ لأنّه من دوران الأمر بين المحذورين ، لكن بما أنّ له وقايع

٤٤٤

متعدّدة فإذا اختار اعتبار وجوده في الدفعة الاولى فليس له اختيار عدمه في الدفعة الثانية ؛ لأنّه حينئذ يقطع بالمخالفة فالتخيير ابتدائي لا استمراري ، وقد تقدّم الكلام في هذا في التخيير.

ثالثها : وهي التي عقدت لها هذه المسألة في كلام الشيخ الأنصاري ما إذا تردّد أمر شيء بين كون وجوده معتبرا شرطا أو شطرا وبين كون عدمه معتبرا ؛ لأنّه قاطع أو مانع في واجب له أفراد تدريجية مثل الصلاة مثل بين الزوال والغروب وقد أفاد الشيخ الأنصاري قدس‌سره في المقام أنّ المقام من مقامات التخيير (١).

وغاية ما يمكن في توجيهه في المقام أنّه مبنيّ على الدوران بين الأقلّ والأكثر ، فمن اختار البراءة فيه اختارها هنا ومن اختار فيه الاشتغال اختاره هنا ، وحيث إنّه قدس‌سره بنى على البراءة فهنا أيضا بنى على البراءة فيكون المقام حينئذ من قبيل الدوران بين المحذورين والعلم الإجمالي لا مانع من جريان الاصول في أطرافه ؛ لعدم استلزامها حينئذ مخالفة عملية والمخالفة الالتزامية غير ضائرة ، ولكن الظاهر أنّه فرض الصلاة متحقّقة على كل تقدير ، وحينئذ فإمّا أن يأتي بذاك المحتمل دخله وجودا أو عدما وإمّا أن يتركه وليس كذلك ؛ لأنّ الشخص يستطيع من الموافقة القطعيّة بأن يأتي بصلاتين ، ومن المخالفة القطعية بأن يترك ذلك المركّب كلية ، وحينئذ فمقتضى تمكّنه من الموافقة القطعيّة لزوم تكرار الصلاة تحصيلا للموافقة القطعيّة الممكنة في حقّه.

وبالجملة ، فمقتضى القاعدة في المقام لزوم الاحتياط بتكرارها تارة واجدة لما يحتمل اعتباره ، واخرى فاقدة له ، فحينئذ يتحقّق الامتثال على جميع التقادير. وليس المقام من مقام الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الشكّ هناك في التكليف وهنا في تعيين ما كلّف به.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٠٠ ـ ٤٠٢.

٤٤٥

نعم ، يبقى هنا شيء وهو أنّ موارد الدوران بين القصر والإتمام كلّها من هذا القبيل ؛ لأنّه إمّا أن يكون السلام بعد الركعتين جزءا لها على تقدير وجوب القصر أو يكون عدمه شرطا على تقدير وجوب التمام. وقد حكم الشيخ في جميع موارده بالاحتياط (١) فكيف تجتمع هذه الفتيا مع ما ذكره من المبنى هنا؟

__________________

(١) انظر فرائد الاصول : ١ : ٤١٦.

٤٤٦

في شرائط جريان الاصول

[الكلام في شروط الاحتياط]

أمّا الاحتياط فلا يشترط في حسنه شيء أزيد من تحقّق كونه احتياطا ؛ لأنّ الاحتياط عبارة عن الإتيان بمطلوب المولى بجميع ما يحتمل كونه جزءا أو شرطا له ومجرّدا عن كلّ ما يحتمل مانعيّته أو قاطعيّته.

نعم ، وقع الكلام في تحقّق مصداق الاحتياط في موارد :

أمّا في المعاملات بالمعنى الأعمّ ـ ونعني بها ما لا يعتبر فيها قصد القربة أصلا ـ فلا إشكال في تحقّق موضوع الاحتياط فيها بإتيان جميع ما يحتمل اعتباره وترك ما يحتمل قادحيّته.

وأمّا في العبادات في فرض عدم التمكّن من الامتثال القطعي التفصيلي فلا إشكال في رجحان الامتثال الاحتياطي أيضا ؛ لأنّ الامتثال الاحتياطي في هذه الصورة هو غاية ما يمكن من مراحل الانقياد ، فإنّ الإتيان بمحتمل المطلوبيّة في صورة عدم التمكّن من العلم بمطلوبيّته رجاء مطلوبيّته هو غاية الانقياد المحكوم بحسنه عقلا. وكذا إذا كان يمكن فيه تحصيل العلم بالفحص إلّا أنّ الشارع لم يوجب الفحص فيه أصلا كالشبهة الموضوعيّة ؛ أو أوجب فيه الفحص ففحص المكلّف الفحص اللازم إلّا أنّه يستطيع أكثر من ذلك الفحص ، فهنا لو لم يفحص وأتى بمحتمل الوجوب رجاء لإدراك الواقع مع أنّ حكمه الشرعي مثلا البراءة عن الوجوب أو استصحاب عدمه فهذا غاية ما يتصوّر من الانقياد أيضا ؛ لأنّ الحكم الشرعي بحقّه عدم الوجوب ، لعدم وجوب الفحص حينئذ عليه فهو محكوم بالبراءة ، فالإتيان بمحتمل الوجوب الواقعي ، مضافا إلى الله رجاء لمطلوبيّته من أعلى مراتب الانقياد ، فإذا تحقّق كونه انقيادا فهو حسن.

٤٤٧

وإنّما الكلام حيث يكون المورد من موارد وجوب الفحص ويتمكّن من تحصيل العلم بالواقع فهل يجوز له ترك الفحص والإتيان بالاحتياط أم لا بدّ من الفحص؟ والكلام يقع في موارد ثلاثة :

الأوّل : ما لا يكون الاحتياط فيه مستلزما للتكرار.

الثاني : ما ليس مستلزما للتكرار لكن مع العلم الإجمالي بالتكليف.

الثالث : ما كان مستلزما للتكرار كان معه علم إجمالي بالتكليف أم لا ، مثل أن يشكّ المكلّف في وجوب الزكاة في مال التجارة وعدمه.

أمّا الكلام في الأوّل فالظاهر كما هو المعروف المشهور حسن الاحتياط فيه ، نعم من اعتبر معرفة الوجه في العبادة التزم بأنّ الاحتياط في طول العلم التفصيلي لا في عرضه.

فيقع الكلام في اعتبار معرفة الوجه ، فنقول : إنّ معرفة وجه العمل ليست بمعتبرة أصلا :

أمّا أوّلا : فلأنّا نقطع بعدم اعتبارها ؛ لأنّ الإتيان بالواجبات تبتلي به العامّة ، فعدم العثور على ذكر له في الأخبار يورث القطع بعدم اعتباره ، فعدم الدليل حينئذ دليل على العدم.

وأمّا ثانيا : فعندنا دليل على عدم اعتباره ، وهو قوله في الوضوء : «إذا كان بنيّة صالحة يقصد بها ربّه» (١) فمثل هذا الخبر لا يعتبر أكثر من القربة. ولو شككنا في اعتباره فالبراءة ترفع التكليف حينئذ فالوجه حينئذ غير معتبر.

ولكنّ الميرزا النائيني (٢) ذهب إلى كون الامتثال الاحتياطي في طول الامتثال التفصيلي في مثل المقام لا من جهة اعتبار معرفة الوجه والجزم ، بل من جهة أنّ

__________________

(١) الوسائل ١ : ٨٠ ، الباب ٢٤ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٣.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٢٦٩.

٤٤٨

الأوامر التعبّديّة إنّما شرّعت من ناحية التعبّد بها ، والعقل مستقلّ بأنّ الانبعاث من الأمر القطعي حيث يمكن هو الحسن ، والانبعاث من الأمر الاحتمالي حيث يمكن الانبعاث من الأمر القطعي ليس بحسن ، ومع الشكّ فالمرجع قاعدة الشغل.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ اعتبار الانبعاث عن الأمر القطعي لا دليل على اعتبارها لو لم نقل بقيام الدليل على عدم اعتبارها ، ومع الشكّ فالمقام من صغريات دوران الأمر بين اعتبار تعيين القطع بالأمر بخصوصه ـ بمعنى أنّه يعتبر الانبعاث عن الأمر القطعي بخصوصه ـ أو يتخيّر بينه وبين الأمر الاحتمالي ، وقد تقدّم أنّه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فأصالة البراءة من التكليف بالخصوصيّة ترفع التكليف بالخصوصيّة ، فيكون العبد مخيّرا بين الامتثال والانبعاث عن الأمر القطعي وبين الانبعاث عن الأمر الاحتمالي ، فالمقام من مقامات البراءة لا من مقامات قاعدة الشغل.

وأمّا الكلام في المورد الثاني وهو ما كان الاحتياط فيه غير مستلزم للتكرار أيضا لكن كان مع العلم الإجمالي بالتكليف ، مثل أن يعلم إجمالا إمّا بوجوب قراءة الدعاء عند رؤية الهلال أو بوجوب الصلاة ركعتين مثلا ، ولا فرق بين هذا وبين سابقه فيما ذكر فيه إلّا إمكان أن يقال : حيث كان المقام مقرونا بالعلم الإجمالي بالتكليف فلو التزمنا فيما لا علم بالتكليف باغتفار قصد الوجه لا نلتزم هنا لوجود الأمر ، وليس بمتين ؛ لأنّ قصد الوجه إن كان معتبرا في الامتثال وحقيقته فهو معتبر حتّى في صورة عدم العلم بالتكليف مع إمكان تحصيل العلم بالتكليف ، وإن لم يكن معتبرا في حقيقة الامتثال فليس بمعتبر حتّى في صورة العلم بالتكليف وقد ذكرنا الأدلّة على عدم اعتباره في الأوّل فراجع.

كما أنّه يمكن أن يقال : إنّ الانبعاث عن احتمال الأمر مع إمكان الانبعاث عن نفس الأمر القطعي جائز حيث لا يعلم المكلّف بالتكليف ، أمّا حيث يعلم فليس بجائز كما اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره في الدورة الاولى وفي مباحث القطع من الثانية.

٤٤٩

وهو كسابقه لا وجه له ، لعدم الدليل على اعتبار الوجه أصلا الّذي هو دليل على العدم حيث يكون الناس كثير الابتلاء به كما في المقام ، مضافا إلى الرواية الّتي لا تعتبر أزيد من صلاح نيّة يريد بها ربّه ، ومضافا إلى كون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير والمختار فيه البراءة كما تقدّم حتّى في مثل المقام ، فإنّ النيّة عندنا معتبرة بالأمر الشرعي لا بالأمر العقلي ، فتأمّل.

وأمّا الكلام في المورد الثالث وهو المورد الّذي يكون فيه الاحتياط مستلزما للتكرار ، سواء كان فيه علم إجمالي بالتكليف كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، أو لم يكن فيه علم إجمالي بالتكليف كأن يشكّ في أنّه هل عليه تكليف أم لا؟ وعلى تقدير أن يكون عليه تكليف فهو ظهر أو جمعة.

وبالجملة ، فالمنع عن الاحتياط في هذه الصورة ـ حيث يمكن الفحص وتحصيل العلم بالحكم الواقعي ـ إمّا من جهة فوات نيّة الوجه وقد تقدّم عدم اعتبارها وعدم إضرار الإخلال بها ، مضافا إلى أنّها موجودة غاية الأمر عدم تمييزها حين العمل ، فإنّ المكلّف يعلم بأنّ إتيانه من جهة طلب المولى وأمره إلّا أنّه لا يعلم متعلّق أمره فهو يأتي بكلّ من العملين لوجههما وهو الوجوب إلّا أنّه لا يعلم أنّ الوجوب بأيّهما يصادف محلّه.

وإمّا من جهة ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ الاحتياط في المقام مع إمكان الفحص وتحصيل العلم بالحكم الواقعي لعب وعبث بأمر المولى (١).

وقد أجاب عنه الآخوند قدس‌سره بأنّه قد يكون التكرار والاحتياط وعدم الفحص لداع عقلائي ، وبأنّ اللعب والعبث بكيفيّة الإطاعة لا بنفسها (٢).

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٠٩.

(٢) كفاية الاصول : ٤٢٤.

٤٥٠

ولا يخفى أنّ ما ذكره الآخوند فيه مسامحة من جهتين :

الاولى : أنّ الأوّل لا يتمّ بدون الثاني فهما دليل واحد لا دليلان ، وذلك أنّ العمل الواجب إن كان اتي به بداع عقلائي فهو باطل لعدم القربة به حينئذ ، فلا فرق بين أن يكون لداع عقلائي أم لا ، وإن كان التكرار لداع عقلائي فهو اللعب والعبث بالكيفيّة.

الثانية : أن لا لعب ولا عبث بكيفيّة الإطاعة ؛ لأنّ الإطاعة هي الإتيان بالواجب وفي الإتيان بالواجب لا لعب ولا عبث ، وإنّما اللعب والعبث في تحصيل القطع بالامتثال ، فاللعب بالمقدّمة العلميّة لا بالواجب ولا بكيفيّته أصلا ، فافهم وتأمّل.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا مانع من الاحتياط حتّى فيما يمكن فيه تحصيل العلم التفصيلي ، سواء كان هناك علم إجمالي بالتكليف أم لا ، كان مستلزما للتكرار أم لا.

وكما ظهر أنّ من عليه القصر أو الإتمام ؛ لأنّه سافر أربعة فراسخ ولا يريد العود ليومه وأراد الاحتياط مع كون فتوى مقلّده لزوم القصر لا يتعيّن عليه تقديم فريضته بحسب تقليده وهي القصر أوّلا ، ويأتي بها بنيّة الوجه الجزميّة ثمّ يأتي بالاحتياط تماما ثانيا ، بل له أن يقدّم الاحتياط وهي التمام أوّلا لعدم اعتبار نيّة الوجه الجزميّة ، على أنّا لو اعتبرنا نيّة الوجه الجزميّة فالقصر ـ سواء قدّمه أو أخّره ـ يأتي به بنيّة الوجه الجزميّة ؛ لأنّ الإتيان بالتمام ليس إتيانا بالواجب بحسب تكليفه.

الكلام في شروط جريان البراءة : [لزوم الفحص]

ولا ريب في اشتراط الفحص في جريان البراءة العقليّة ؛ لأنّ العقل لا يستقلّ بقبح العقاب إلّا حيث لا يكون ثمّة بيان ، فلا بدّ من إحراز عدم البيان وإنّما يحرز إذا فحص فلم يجد بيانا ، فحينئذ يتحقّق حكم العقل بقبح العقاب وهو واضح. وإنّما الكلام في اشتراط الفحص في جريان البراءة الشرعيّة مع إطلاق أدلّتها

٤٥١

كحديث الرفع (١) وغيره (٢) ولكنّ الظاهر عدم مناقشة أحد في اشتراط الفحص في جريانها ، وإنّما الكلام في الدليل المقيّد لإطلاق الأدلّة المذكورة للبراءة الشرعيّة.

وكيف كان فقد زعم أنّ المقيّد لإطلاقها الإجماع ، وهو وإن كان متحقّقا إلّا أنّه ليس تعبّديّا حتّى يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام وإنّما هو مستند إلى الأدلّة الّتي نذكرها ، فالإجماع تقييدي.

وقد زعم بعضهم أنّ المقيّد لإطلاق الأدلّة هو حكم العقل ، وقد قرّر بوجهين :

أحدهما : العلم الإجمالي لكلّ مكلّف بأنّ عليه تكاليف إلزاميّة فما لم ينحلّ العلم الإجمالي لا يمكن جريان البراءة ، فلا بدّ من الفحص حيث تجري البراءة ليعلم أنّ مجراها ليس من موارد التكليف.

وقد أشكل عليه الآخوند قدس‌سره (٣) بأنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى ؛ لأنّ من انحلّ له العلم الإجمالي بالظفر بمقدار المعلوم بالإجمال إذا شكّ بعد ذلك في وجوب شيء وعدمه ينبغي أن يجوز له جريان البراءة من غير فحص ، وليس كذلك.

وقد ردّ عليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٤) بأنّ العلم الإجمالي ليس متعلّقا بشيء ليس له عنوان إلّا العدد حتّى ينحلّ إذا ظفر بذلك العدد ، بل العلم الإجمالي تعلّق بعدد معنون بعنوان كونه مكتوبا في كتب الأخبار ، فالمكلّف يعلم إجمالا بتكاليف إلزاميّة بمقدار خمسمائة تكليف إلزاميّة موجودة في كتب الأخبار ، وحينئذ فجميع ما في الكتب

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

(٢) كحديث الحجب ، وحديث السعة انظر : الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨ ، والمستدرك ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدمات الحدود ، الحديث ٤.

(٣) كفاية الاصول : ٤٢٥.

(٤) أجود التقريرات ٣ : ٥٥٨.

٤٥٢

الأربعة أطراف للعلم الإجمالي ، فبالظفر بخمسمائة لا ينحلّ العلم الإجمالي بما هو مقيّد ، لأنّ كلّما كان معلّما بهذه العلامة يجب الالتزام به وترتيب آثاره ويكون منجّزا ، فمثل هذا العلم الإجمالي لا ينحلّ أصلا ، نظير من علم بدين لزيد عليه لا يعلم مقداره ، بل تردّد بين دينارين أو أكثر لكنّه كان مكتوبا في دفتره فليس له تسليم المقدار المتيقّن ؛ لأنّه لم يحرز المعلوم الإجمالي بما له من الخصوصيّة فيجب الفحص في كلّ مورد ليعلم أنّه ليس من موارد الإلزام.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره متين حيث لا يتردّد المعلوم بالإجمال بخصوصيّته بين الأقلّ والأكثر وإلّا فبقدر المعلوم المتيقّن يتنجّز ، والباقي لا علم بالتكليف بالنسبة إليه فينفى بالبراءة ، ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ التكاليف بما هي معنونة بالعنوان المزبور يؤول الشكّ في التكليف بعد إحراز المقدار المعلوم بالإجمال إلى الشكّ بين الأقلّ والأكثر.

وبعبارة اخرى ، المعلوم بالإجمال بما أنّه مكتوب في كتب الأخبار مردّد بين الأقلّ والأكثر ، فإذا اطّلعنا على المتيقّن ينحلّ العلم الإجمالي بما له من الخصوصيّة.

نعم ، إذا لم يكن مردّدا بين الأقلّ والأكثر فما ذكره متين ، على أنّا يمكننا أن نقول بالانحلال حتّى فيه أيضا لعدم تعارض الاصول حينئذ.

فقد ظهر أنّ إشكال الآخوند قدس‌سره وارد ، فهذا الوجه من الدليل العقلي لا فائدة فيه فلا يوجب الفحص.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّ من علم إجمالا بدين عليه لزيد يتردّد بين دينارين أو أكثر مثلا ، فمع تعنونه بعنوان أنّه مكتوب في الدفتر لا يجوز له الاقتصار على الأقلّ من دون مراجعة الدفتر. فهو إن قام بناء من العقلاء في المقام على وجوب الفحص كما قام بالنسبة إلى من شكّ في كونه مالكا للنصاب الزكوي أو مستطيعا فهو ، وإلّا فلا نقول فيه أيضا بوجوب الفحص إلّا حيث يطمئنّ بوجود مقدار في الدفتر أزيد من هذا المقدار.

٤٥٣

وممّا يدلّ على ذلك أنّه لو لم يمكنه بعد ذلك الفحص ؛ لأنّ الدفتر احترق مثلا فلا يجب عليه الاحتياط قطعا ، وإنّما يسلّم المقدار المتيقّن ، ولو كان وجوب الفحص من باب العلم الإجمالي لوجب الاحتياط.

الثاني : من وجهي الدليل العقلي المقيّد لإطلاق أدلّة البراءة الشرعيّة هو أن يقال : إنّ العقل كما يحكم بقبح العقاب بلا بيان يحكم على العبد بما هو عبد وبما أنّ له مولى ، وقد اعتاد ذلك المولى إيداع أحكامه في كتاب خاصّ ، فالعقل يحكم على ذلك العبد بلزوم مراجعة ذلك الكتاب عند كلّ مورد يشكّ في توجّه تكليف إليه من قبل ذلك المولى ، ولا يعذره العقل إذا ترك مراجعة ذلك الكتاب فاتّفق له ترك واجب لو رجع إلى ذلك الكتاب لاطّلع عليه.

الدليل الرابع من أدلّة لزوم الفحص في جريان البراءة الشرعيّة هو الأخبار والآيات الدالّة على وجوب التعلّم ، فإنّها مثل قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) ومثل قوله عليه‌السلام (٢) : «يؤتى بالعبد يوم القيمة فيقال له : لم لا عملت؟ فيقول : ما علمت ، فيقال له : لم لا تعلّمت لتعمل؟» فإنّ غير المتفحّص لو أجرى البراءة بلا فحص يكون من مصاديق غير المتعلّم ، وهذه الأخبار أخصّ من أخبار البراءة فتقيّدها بلزوم الفحص.

وبالجملة ، فلزوم الفحص في البراءة النقليّة كالعقليّة لازم ، ودليله إمّا الثاني من وجهي الدليل العقلي ، وإمّا هذا الوجه الرابع. وبهذا أيضا تقيّد إطلاقات أخبار الاستصحاب فيثبت لزوم الفحص فيه حيث تكون الشبهة حكميّة إن قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

__________________

(١) الأنبياء : ٧.

(٢) أمالي الطوسي : ٩ ، المجلس الأوّل ، وتفسير الصافي ٢ : ١٦٩.

٤٥٤

وأمّا إذا كان الاستصحاب في الموضوع فهو كبقيّة الشبه الموضوعيّة لا يجب فيه الفحص ، لرواية زرارة الدالّة على أنّ من شكّ في إصابة الدم لثوبه لا يجب عليه النظر لثوبه حتّى يعلم أنّه أصابه أم لا (١).

وأمّا لزوم الفحص في التخيير العقلي فواضح أيضا ، إذ مورده التردّد بين المحذورين ، ومع عدم الفحص لا يتردّد بين المحذورين فبدون الفحص لا مقتضي للتخيير.

(وأمّا مقدار الفحص المسوّغ للرجوع بعده إلى الاصول فهل يكتفى بحصول الظنّ بعدم الدليل أم لا بدّ من حصول الاطمئنان بعدم الدليل أم لا يكفي إلّا القطع بالعدم؟ لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّ الظنّ لا يغني عن الحقّ شيئا.

نعم ، لو حصل الاطمئنان بعدم الدليل فهو حجّة عقلائيّة لا رادع في المقام عنها ، وبحصول الاطمئنان بالعدم يخرج عن كونه جاهلا بالحكم إلى كونه عالما بمؤدّى الاصول. وحينئذ فلا حاجة إلى القطع بالعدم ، لعدم المقتضي له بعد حصول المطلوب بالاطمئنان ، مضافا إلى ندرته لعدم تيسّره غالبا.

وأمّا ما يحصل به الاطمئنان فهو سهل بعد ثبوت الأخبار في كتب أصحابنا فمن تفحّص في الوسائل في مظانّ الحاجة بحسب الأبواب والوافي ، وأجال نظره في الحدائق أيضا في المحلّ المناسب يحصل له الاطمئنان بالعدم لو لم يجد في هذه الكتب شيئا) (٢).

بقي الكلام في أمرين :

أحدهما : فيما إذا لم يفحص حيث يجب الفحص وعمل بلا فحص فهل يعاقب أم لا؟

الثاني : في حكم عمله وأنّه صحيح أم لا بدّ من الإعادة والقضاء؟

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٦٣ ، الباب ٤٢ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢ و ١٠٦١ ، الباب ٤١ من الأبواب ، الحديث ١.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٥٥

[الأول : في وجوب التعلم]

أمّا الكلام في الأوّل :

فنقول : ذهب جماعة إلى وجوب التعلّم نفسيّا فهو واجب مستقلّ مطلوب ، وحينئذ فلو ترك التعلّم يعاقب لترك التعلّم وإن لم يخالف الواقع ، إذ إنّه ترك التعلّم وهو أمر واجب ، وإلى هذا ذهب الأردبيلي قدس‌سره (١) وصاحب المدارك قدس‌سرهما (٢) وصاحب الكفاية (٣) (مستندين إلى ظهور الأمر بالسؤال والتعلّم في الوجوب النفسي ، وإلى ظهور الأدلّة في عقاب تارك التعلّم حتّى أنّه كان تركه للواجب الواقعي عن غفلة مع ما هو معلوم من قبح تكليف الغافل فحملوا العقاب على ترك التعلّم لا الواجب) (٤) ، غير أنّ المشهور وجوب التعلّم مقدّمة للعمل لا لنفسه. وهو الأقوى ، لظهور الرواية المزبورة في الوجوب للعمل لكون السؤال أوّلا عن العمل ، ولو كان العلم واجبا نفسيّا لسئل عنه أوّلا ، مضافا إلى قوله عليه‌السلام فيها : هلّا تعلّمت لتعمل ، ومضافا إلى رواية المجدور (٥) الّذي أصابته جنابة فغسّلوه فكزّ فمات ، الّتي قال الإمام فيها : قتلوه قتلهم الله هلّا سألوا هلّا يمّموه؟ ومضافا إلى ظهور مادّة السؤال في كون الأمر به مقدّمة لعمل السائل.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ : ١١٠.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ، و ٣ : ٢١٩.

(٣) كفاية الاصول : ٤٢٦.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٥) انظر الوسائل : ٢ : ٩٦٧ ، الباب ٥ من أبواب التيمّم ، الحديث ١ و ٦ ، النصّ المذكور مأخوذ من روايتين : الاولى : في من أصابته جنابة وهو مجدور فغسّلوه فمات ، وجاء فيها : «قتلوه ألا سألوا؟ ألا يمّموه ...» والثانية : في من أصابته جنابة على جرح كان به فأمر بالغسل فاغتسل فكزّ فمات فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قتلوه قتلهم الله ..

٤٥٦

وعليه فلو ترك التعلّم وعمل فإن خالف الواقع عوقب على مخالفة الواقع ، وإن صادف الواقع فلا عقاب إلّا على التجرّي إن قيل به ، وهذا بالنسبة إلى الواجبات المطلقة في غاية الوضوح ، أمّا الواجبات المشروطة أو المؤقتة بوقت فهل يجب التعلّم لها قبل دخول وقتها أم لا يجب إلّا بعد دخول وقتها؟

ينبغي أن يقال : إنّ هذه الواجبات المشروطة أو المؤقّتة إمّا أن يسع وقتها بعد حصول شرطها للتعلّم والامتثال وإحرازه ، وفي مثله لا يجب التعلّم قبل دخول الوقت قطعا ، وإمّا أن يسع التعلّم والامتثال ولا يسع إحراز الامتثال. أمّا إذا تعلّم قبل دخول الوقت أو قبل حصول شرط الواجب فهو يستطيع الامتثال وإحرازه ، وفي مثل هذا يجب التعلّم قبل دخول الوقت من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، فإنّ ما يترك على تقدير التعلّم بعد دخول الوقت يحتمل أن يكون هو الواجب ، مثلا إذا كان فرضه الصلاة إلى أربع جوانب وإذا تعلّم الصلاة قبل دخول الوقت يستطيع إحراز الامتثال حينئذ لتمكّنه منها.

أمّا إذا تعلّم بعد دخول الوقت فلا يستطيع إلّا صلاة واحدة فهذا يجب عليه التعلّم قبل الوقت من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ؛ لأنّه ترك التعلّم قبل الوقت فيحتمل حينئذ ترك الواجب وبتركه ضرر فيجب دفعه بالتعلّم قبل الوقت ، ولا نحتاج هنا إلى القول بالوجوب النفسي أصلا.

وإمّا أن لا يسع التعلّم والامتثال بمعنى أنّه لو ترك التعلّم قبل دخول الوقت أو قبل حصول شرط الواجب المشروط فبعد الوقت أو بعد حصول الشرط لا يسع الوقت للتعلّم والامتثال ، فهل يجب على مثل هذا التعلّم قبل دخول الوقت وقبل حصول الشرط أم لا يجب ذلك؟ فنقول هذا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون ذلك الواجب ذا ملاك ملزم وكانت القدرة المعتبرة فيه قيدا وشرطا عقليّا من باب قبح تكليف العاجز ، وفي مثل هذا لا محيص عن القول بوجوب التعلّم ؛ لأنّ ترك التعلّم مفوّت للملاك الملزم الحاصل من الآن ، وقد ذكرنا

٤٥٧

أنّ المقدّمة المفوّتة أي التي يكون تركها مفوّتا للواجب أو الملاك الملزم واجبة ولو قبل وجوب الواجب ، وقد مثّلنا ذلك بالعبد المسافر مع مولاه العالم بأنّ مولاه غدا يعطش ويعلم بأنّ الطريق خال من الماء ، فمثل هذا العبد إذا ترك أخذ الماء معه يكون مستحقّا للعقاب ؛ لأنّ هذا الترك يؤدّي إلى هلاك المولى والمولى يجب حفظه ، فهو وإن لم يأمره الآن بحمل الماء ولم يطلب منه الآن الماء لكن علمه بأنّ المولى يطلبه بعد ذلك حيث لا ماء يحتّم عليه حمله معه.

الثاني : أن تكون القدرة المعتبرة فيه قيدا شرعيّا نظير الوضوء ، فإنّ غير القادر عليه ليس للوضوء ملاك ملزم بالنسبة إليه أصلا ، بل يكون الملاك في التيمّم حينئذ ، فمثل هذا يؤول التكليف إلى كون المكلّف إنّما هو القادر ، فهذا التكليف بالنسبة إلى العاجز خال عن الملاك وعن المصلحة أصلا ، فمثل هذا لا يجب عليه التعلّم خارج الوقت ؛ لأنّه حينئذ لا وجوب نفسي للتعلّم ولا مقدّمي لعدم وجوب ذي المقدّمة حينئذ ، ولا عقلي لعدم الملاك حينئذ ولعدم احتمال الضرر ؛ لأنّه بعد الوقت عاجز فلا يتوجّه إليه التكليف لفرض كون موضوع التكليف هو القادر ، فلا يجب عليه التعلّم ليدرج نفسه في موضوع التكليف ، نظير من كان عنده ماء قبل دخول الوقت أو كان متطهّرا فله أن يهريق الماء أو يحدث وإن علم بعدم الماء بعد ذلك ؛ لأنّه بهذا العمل يجعل نفسه عاجزا ، فلا يتوجّه إليه التكليف ؛ لأنّ موضوعه هو القادر.

فتلخّص أنّ التعلّم واجب إلّا حيث تكون القدرة قيدا شرعيّا لموضوع التكليف فلا يجب التعلّم حينئذ ، غاية الأمر أنّ وجوب التعلّم قبل دخول الوقت إمّا من باب وجوب المقدّمة الّتي يكون تركها مفوّتا أو من باب وجوب دفع الضرر المحتمل فهما مشتركان في كون الوجوب عقليّا ، إلّا أنّهما مختلفان في الملاك.

وممّا يترتّب على الاختلاف أنّ ما كان وجوبها من باب وجوب دفع الضرر المحتمل لو ترك التعلّم فإنّما يعاقب عند ترك الواجب النفسي الّذي كان ترك التعلّم سببا له ، وما كان وجوبها من باب المقدّمة المفوّتة فالعقاب على ترك

٤٥٨

الواجب النفسي الّذي كان ترك التعلّم مسبّبا له من حين ترك التعلّم ؛ لأنّه من ذلك الحين فوته ؛ لأنّه بعد ذلك يصير عاجزا فلا يتوجّه إليه تكليف أصلا.

وبالجملة ، فالعقاب في الثاني من حين ترك التعلّم على ترك الواجب النفسي أو فعل الحرام النفسي ، وفي الأوّل من حين ترك الواجب النفسي لا من حين ترك التعلّم.

ثمّ إنّه كما يجب عليه التعلّم لو علم الفوات يجب عليه التعلّم لو احتمل الفوات أيضا ؛ لأنّ قبح العقاب بلا بيان لا يجري فلا مؤمّن مع احتمال التكليف وتنجّزه ، فافهم.

وينبغي التنبيه على أمرين :

الأوّل : أنّا قد ذكرنا وجوب التعلّم على من قطع بتوجّه التكليف إليه بنفسه أو ملاكه بعد ذلك قبل الوقت ، سواء علم بعدم التمكّن لو لم يتعلّم أو احتمل عدم التمكّن من الامتثال أو من إحرازه لو لم يتعلّم ، ولكن من احتمل توجّه التكليف إليه بعد ذلك فهل يجب عليه تعلّم حكمه كالقاطع أم لا يجب عليه؟ قد يقال بعدم الوجوب استنادا إلى استصحاب عدم الابتلاء به ، فإذا كان المكلّف لا يبتلي به فلا يجب عليه التعلّم. ولكنّ الكلام في أنّ هذا الاستصحاب يجري أم لا يجري من جهتين :

إحداهما : أنّه يجري بالنسبة إلى زمن الاستقبال أم يختصّ بالزمان الفعلي ، وهذه الجهة يأتي الكلام عليها إن شاء الله في باب مجاري الاستصحاب وإن لم يتعرّض لها الشيخ الأنصاري وصاحب الكفاية قدس‌سرهما.

الثانية : خصوص هذا الاستصحاب في المقام فنقول : هذا الاستصحاب لا يجري لعدم أثر له بالفعل ، إذ الابتلاء المستصحب عدمه لا أثر له ووجوب التعلّم عقلي من آثار احتمال الابتلاء ؛ لأنّ احتمال الابتلاء بذلك التكليف يحتّم عليه تعلّم حكمه إلّا أن يكون هناك مؤمّن ولا مؤمّن ، إذ الاستصحاب الرافع للابتلاء تعبّدا لا أثر له بالفعل. وبالجملة ، وجوب التعلّم من أحكام احتمال الابتلاء بذلك التكليف ،

٤٥٩

والمرفوع بالاستصحاب نفس الابتلاء لا احتماله فالاستصحاب لا أثر له ، فافهم وتأمّل ، (فإنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو لم يقم الاستصحاب مقام القطع الطريقي ، أمّا لو قلنا بقيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي كما اختاره الميرزا النائيني (١) وتقدّم الكلام فيه مفصّلا فهذا الشخص عالم بعدم ابتلائه بذلك الحكم بمقتضى الاستصحاب. إلّا أن يقال : إنّ الرواية المزبورة الدالّة على وجوب التعلّم موردها صورة الشكّ فلا بدّ من تقديمها على الاستصحاب وإلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن ، فافهم وحينئذ فيلزم الفحص في هذه الصورة أيضا) (٢).

وبالجملة ، فمثل هذا الشخص المحتمل لتوجّه التكليف إليه بذلك الشيء يجب عليه تعلّم حكمه ، إذ احتمال التكليف منجّز فلو لم يتعلّم حكمه فصادف أنّه كلّف به مثلا فتركه لعدم تعلّم حكمه ، يتوجّه إليه قوله : «هلّا عملت؟ فيقول : ما علمت ، فيقال له : هلّا تعلّمت؟».

وبالجملة ، فالمؤمّن من احتمال التكليف قبح العقاب بلا بيان وهو لا يجري في مثل المقام ؛ لأنّ احتمال الضرر موجود ودفع الضرر المحتمل لازم. فهذا باحتماله توجّه التكليف إليه في ظرفه إذا لم يتعلّم حكمه فهو محتمل للوقوع بالضرر بترك الواجب أو ملاكه ومصلحته ، ودفع الضرر المحتمل لازم. (والاستصحاب لا يجري كي يكون مؤمّنا من جهة إطلاق أدلّة وجوب التعلّم ، إذ تخصيصها بصورة العلم بالابتلاء تخصيص بفرد نادر مستهجن) (٣). ومن هنا حكم الشيخ الأنصاري (٤) بوجوب تعلّم حكم ما احتمل الابتلاء به أو علم الابتلاء به وحكم بعدم وجوب تعلّم حكم ما لا يحتمل الابتلاء به احتمالا عقلائيّا بل هو احتمال ضعيف.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ١٩ ـ ٣٠.

(٢ و ٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢ و ٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٤) فرائد الاصول ٢ : ٤١١.

٤٦٠