غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا الاصول المحضة الّتي هي القسم الثالث من موارد مخالفة الحكم الظاهري للواقعي الّتي هي عبارة عن اجتماع الضدّين كما توهّم فهنا نعم ، المجعول هو الإباحة الظاهريّة وغيرها من الأحكام التكليفيّة ، فالمجعول هنا حكم تكليفي لعدم نظر لها إلى الواقع حتّى تجعل لها الوسطيّة في الإثبات والإحراز ، ولكنّه مع ذلك لا يلزم اجتماع الضدّين ، لأنّ الحكم الظاهري إمّا الإباحة حيث يكون الحكم الواقعي محرّما أو واجبا كما في الشبهات البدويّة أو يكون الحكم الظاهري الوجوب ـ الإلزام ـ حال كون الحكم الواقعي الإباحة كما في النفوس والأعراض والدماء.

وبالجملة فرفع إشكال التضادّ حينئذ إنّما هو ببيان أنّ الحكم الظاهري ليس في عرض الحكم الواقعي حتّى يلزم اجتماع النقيضين ، بل أنّ الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي ومتفرّع عليه ، لأنّه عند الجهل به تصل النوبة إلى الحكم الظاهري. وحينئذ فكما كان يجوز للشارع حينئذ ـ أي حين الجهل بالحكم الواقعي ـ أن يرجعنا إلى حكم العقل بحسب موارده فإن كان المورد من موارد دفع الضرر المحتمل فيحتم العقل بدفعه ، أو كان المورد من موارد قبح العقاب بلا بيان فيستقلّ العقل بالبراءة العقليّة حينئذ ، كذلك يجوز له أن يجعل الاحتياط في المورد الأوّل والبراءة في المورد الثاني ، فكما لا يكون مضادّة بين حكم العقل المزبور وحكم الشارع كذلك لا مضادّة بين حكمي الشارع.

والسرّ في ذلك أنّ الاحتياط إنّما جعل في الأوّل لإدراك الواقع فحيث يصيب الواقع فلا مناقضة إذ هو طريق آخر إليه نظير «أكرم زيدا» فلو فرض مجهوليّة زيد لدى المخاطب يقال له «أكرم ابن عمرو» وحيث يخطئ الواقع ينكشف أنّه لم يكن حكم بالاحتياط حينئذ وإنّما هو صورة حكم متخيّلة وحينئذ فأين اجتماع الحكمين المتضادّين؟

١٠١

وإن كان المورد من موارد جريان قبح العقاب بلا بيان فكما لا يكون حكم العقل مناقضا للحكم الواقعي كذلك الحكم الشرعي ، لأنّ رتبته رتبة التنجيز والإعذار وهي بمرتبة متأخّرة عن جعل الحكم الواقعي قطعا وحينئذ فلا يلزم التنافي والتضادّ فافهم.

وملخّصه : أنّ رتبة الأحكام الظاهريّة حيث كانت في مرتبة التنجيز والإعذار عن الواقع فيلزم أن تكون بعد جعل الحكم الواقعي وجهله وحينئذ فلا يلزم اجتماع الضدّين ، (على أنّ الشكّ في الحكم الواقعي له حيثيّتان : إحداهما حيثيّة الجهل ، والاخرى حيثيّة كون المكلّف متحيّرا والإطلاق من الجهة الاولى وفي أدلّة الأحكام الواقعيّة لا يقتضيه من الجهة الثانية فلا إطلاق لأدلّة الواقع ليلزم التضادّ) (١).

ولا يخفى عليك ما فيه في كلا الشقّين : شقّ إيجاب الاحتياط ، وشقّ جواز الترك.

أمّا الأوّل فلأنّ الاحتياط وإن كان طريقا إلى إدراك الواقع إلّا أنّ الحكم فيه عامّ لما يصيب الواقع وما لا يصيبه ، وحينئذ فليس في غير صورة الإصابة حكم صوري كما زعم بل هناك حكم حقيقي وإلّا لم يمكن جعل الاحتياط ، لأنّه حينئذ إنّما يجب امتثاله حيث يعلم أنّه مصادف للواقع ، وحينئذ فلا حاجة إلى الامتثال الاحتياطي حينئذ. وحيث عرفت وجود الحكم الحقيقي في كلتا صورتي الاحتياط فيعود إشكال ابن قبة من اجتماع الضدّين ، فافهم.

وكذا الكلام في الشقّ الثاني حيث إنّ الحكم الواقعي باعتبار عدم تقييده بالعلم ولا يعقل الإهمال في الأحكام الواقعيّة لا بدّ من كونه شاملا حتّى لصورة الشكّ فيه ولصورة تحيّر المكلّف بحسب إطلاق دليله أو بمتمم الجعل على مسلكه قدس‌سره فيلزم في صورة الشكّ وهو مرتبة الحكم الظاهري اجتماع الحكمين ويتحكّم إيراد ابن قبة من التضادّ. (نعم لو كانت أدلّة الاصول لم تجعل أكثر ممّا كان يستقلّ به العقل من التنجيز

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٠٢

والإعذار تمّ كلام الميرزا قدس‌سره إلّا أنّها صريحة في جعل الحليّة والطهارة والحرمة والإباحة وهذه أحكام مضادّة للحكم الواقعي مجتمعة معه زمانا فعاد كلام ابن قبة) (١).

وبالجملة لم نر في هذه الأجوبة المسطورة هنا جوابا شافيا ، والتحقيق كما يقتضيه النظر العميق الدقيق أن يقال : إنّ الحكم عبارة عن اعتبار الحاكم الفعل مثلا على ذمّة المكلّف مثل الدين فإنّه عبارة عن اعتبار مال في ذمّة المدين ، وقد اطلق على الواجبات في بعض الأخبار أنّها دين في قوله : إنّ دين الله أحقّ بالوفاء (٢) أو أحقّ أن يقضى (٣). وحينئذ فحقيقة الحكم هو الاعتبار وحيث إنّ الاعتبار سهل المئونة نظير التصوّر ، فيجوز أن يعتبر الوجوب وعدم الوجوب كما يجوز أن يتصوّرها. نعم لا يمكن من ناحية إخلاله بالحكمة وهذا ليس استحالة من جهة التضادّ.

وحينئذ فهذا الاعتبار مسبوق بأمرين ، وملحوق بأمرين :

أمّا الأمران السابقان فهما عبارة عن العلم بالصلاح من قبل الله تعالى في العمل وأنّ فيه مصلحة للمكلّف ، وهذا احد الأمرين ، والثاني الشوق إلى ذلك كما في الأوامر الصادرة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الوليّ فإنّها لو لا الشوق إلى ذلك العمل ولو من جهة المصلحة للمكلّف لما أمر النبيّ أو الوليّ بذلك ، فهذان الأمران هما السابقان على الحكم. وأمّا الأمران اللاحقان فهما عبارة عن الوصول والانبعاث والانزجار.

وحينئذ فالحكم الظاهري لا مانع من اجتماعه مع الحكم الواقعي أصلا لأنّ مراتبه خمسة ، فالتضادّ المدّعى غير موجود فيها كلّها ، لأنّ الاعتبارين ليس هناك استحالة في اجتماعهما لما بيّنّا من أنّ الاعتبار سهل المئونة. وأمّا في المراتب السابقة فهما عبارة عن العلم بالصلاح والشوق للمصلحة المترتّبة على العمل ولكنّ الحكم الظاهري

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) كنز العمال ٥ : ١٢٣ ، الحديث ١٢٣٣١ وصحيح البخاري ٣ : ٤٦ كتاب الصوم باب من مات وعليه صوم.

١٠٣

ليس تابعا للمصلحة والمفسدة. نعم الحكمان الواقعيّان باعتبار تبعيّتهما للمصالح والمفاسد لا يمكن اجتماعهما أصلا ، وأمّا الحكمان الظاهريّان فكذلك لأنّ الحكم الظاهري تابع للمصلحة في الجعل لا في المتعلّق. وحينئذ فلا مضادّة في هذه المرتبة أيضا وكذا مرتبة العلم بالصلاح فإنّها في الأحكام الواقعيّة ، كما لا تنافي في المرتبتين المتأخّرتين أيضا وهما مرتبتا الوصول والبعث والانبعاث لأنّ الحكم الواقعي إن وصل فلا يبقى موضوع للحكم الظاهري أصلا.

وبالجملة هما سنخان من الحكم يستحيل اجتماعهما لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشكّ في الحكم الواقعي ومع وصوله لا يبقى شكّ أصلا ، فافهم وتأمّل تعرف أن لا مانع من اجتماع الحكمين اللذين أحدهما ظاهري والآخر واقعي من جهة التضادّ ، إذ قد عرفت أن لا تضادّ أصلا في المراتب الخمسة.

حينئذ فحيث ثبت إمكان جعل الحكم الظاهري ومجامعته مع الحكم الواقعي فيقع الكلام في الوقوع فنقول :

الكلام في وقوع التعبّد بالأمارات الظنيّة

بعد الفراغ عن إمكان التعبّد شرعا بالأمارات الظنيّة وعدم استحالته يقع الكلام في مرحلة وقوعه وقبل الخوض في وقوعه وعدمه نتكلّم في الأصل وما تقتضيه الأصل من حجّية وغيرها.

فنقول : ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ الأصل يقتضي عدم حجّية الظنّ حيث يشكّ في حجّيته ، واستدلّ على ذلك بالكتاب وهو قوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) والسنّة وهو ما دلّ على حرمة التشريع والإجماع والعقل (٢).

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) فرائد الاصول ١ : ١٢٥ ـ ١٢٦.

١٠٤

وقد أشكل عليه الآخوند قدس‌سره بأنّ حجّية الظنّ لو كانت ملازمة للتشريع صحّ ما ذكرتم من قيام الأدلّة الدالّة على حرمة التشريع على حرمتها ، إلّا أنّ الحقّ أن لا ملازمة بينهما ، لأنّ حجّية الظنّ على الحكومة بناء على الانسداد ليس فيه إسناد إلى المولى حتّى يشمله النهي عن حرمة التشريع مع تحقّق الحجّية فظهر أن الحجّية لا تلازم الإسناد (١).

والحقّ هو ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره وما ذكر نقضا عليه من حجّية الظنّ على الحكومة قد بيّنّا فيما تقدّم أنّ الظنّ في الحقيقة ليس بحجّة بل أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف الّتي هي إحدى مقدّمات الانسداد أوجبت تنجّز التكاليف على المكلّف ، والعمل بالظنّ إنّما هو تبعيض في دائرة الاحتياط حيث يتعذّر أو يتعسّر ، نظير إلزام من اشتبهت عليه القبلة بالصلاة إلى أربع جهات من جهة أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فإذا لم يمكنه ذلك إمّا لضيق الوقت أو لغير ذلك من الموانع فيصلّي إلى أيّ الجهات شاء من باب التبعيض في الاحتياط ، فافهم.

وبالجملة فالحجّية في باب الأمارات (بمعنى الوسطيّة في الإثبات لا بمعنى التنجيز والإعذار بل هما من لوازم الحجّية بالمعنى الّذي ذكرناه. وللحجّية بالمعنى المذكور) (٢) ثمرتان تترتّبان عليها :

الاولى : صحّة الاستناد إليها في مقام العمل سواء كانت الشبهة موضوعيّة كما إذا قامت أمارة عيّنت جهة القبلة إلى بعض الجهات المحتملة ، أو حكميّة كما إذا عيّنت التكليف المردّد بين الظهر والجمعة.

الثانية : صحّة إسناد مؤدّاها إلى الله فتقول : مثلا صلاة الجمعة أوجبها الشارع والشارع عيّن جهة القبلة إلى هذه الجهة دون غيرها.

__________________

(١) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٨٣.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٠٥

فإذا عرفت أنّ الثمرة المترتّبة على حجّية الأمارة على تقدير ثبوتها هذان الأمران فليس معنى أنّ الأصل عدم الحجّية أنّ الحجّية المشكوكة بوصف كونها مشكوكة مقطوعة العدم ، وذلك لأنّ الشيء بوصف كونه مشكوكا يستحيل أن يكون مقطوع العدم لتنافي وصفي الشكّ والقطع ، بل معنى عدم الحجّية حال الشكّ عدم ترتيب هذين الأثرين ـ وهما صحّة الاستناد في مقام العمل وصحّة الإسناد ـ لأنّ الحجّية الواقعيّة لا يترتّب عليها هذان الأثران ، وإنّما هما من آثار الحجّية الواصلة لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يستند إلى شيء إلّا بعد إحراز حجيّته ووصولها إليه ، كما أنّ صحّة الإسناد كذلك لأنّه لو أسند من غير علم دخل تحت التشريع ، لأنّه إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين لا خصوص ما علم عدم دخوله فيه فيه ، فافهم. وأمّا تنجيز الأحكام الواقعيّة فليس بالظنّ وإنّما هو بالعلم الإجمالي أو بالشبهة البدويّة قبل الفحص أو بغيرها.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ العقل يحكم بمجرّد الشكّ في حجّية شيء بعدم حجّيته بمعنى عدم ترتّب الآثار المترتّبة على حجّيته من صحّة الاستناد في مقام العمل إليها وصحّة إسناد مؤدّاها إلى الشارع المقدّس ، لأنّ جواز الاستناد والإسناد من آثار الحجّة الواصلة لا مطلق الحجّة وإن لم تصل. وبالجملة فالأدلّة الأربعة دالّة على أنّ الأصل حيث يشكّ هو عدم الحجّية ، فافهم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الأدلّة الخاصّة الدالّة على عدم حجّية بعض الأمارات ـ كالأدلّة الدالّة على عدم حجّية القياس مثلا ـ لا تخل بالأصل المذكور أصلا ، بل يكون جريانها رافعا لموضوع الأصل ، إذ أنّ الأصل حيث يشكّ في الحكم يصار إليه أمّا مع وجود الأدلّة الخاصّة فلا شك حتّى يصار إلى الأصل بمعنى حكم العقل.

١٠٦

(فاندفع ما يتوهّم في المقام من لغويّة هذه النواهي الخاصّة باعتبار كفاية الأصل ، ووجه الاندفاع كون موضوع الأصل يرتفع بقيام الدليل فتأمّل مضافا إلى ورود بعض الأدلّة الدالّة على الإباحة في موارد جريان أصالة الإباحة واستصحابها) (١).

بقي شيء هو أن الأدلّة العامّة الدالّة على عدم حجّية الظنّ مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٢) (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٣) (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)(٤) وشبهها هل يمكن التمسّك بها عند الشكّ في حجّية أمارة من الأمارات لنفيها أم لا يمكن التمسّك بها فلا يبقى إلّا حكم العقل؟ ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى عدم إمكان التمسّك بها لإثبات ذلك ، ووجهه أنّ المقام ليس من قبيل أنّ هذه العمومات تخصّص بالأدلة الدالّة على حجّية الظنّ المخصوص فبمجرّد الشكّ في التخصيص يتمسّك بالعموم ، بل إنّ الأدلّة الدالّة على حجّية الظنون الخاصّة لا تقول : إنّ هذا ظنّ وهو خارج عن حرمة العمل بالظنّ ، بل تقول : إنّه علم ، فيكون خروجه بنحو التخصّص لا بنحو التخصيص. وحينئذ فإذا شكّ في حجّية ظنّ من الظنون ففي الحقيقة يؤول الشكّ إلى الشكّ في كونه علما أو ظنّا. ومعلوم أنّ التمسّك بعموم الآيات حينئذ من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة ولا ريب في عدم جوازه (٥) كما قدّمناه مفصّلا.

والظاهر أنّ ما ذكره قدس‌سره لا يمكن المساعدة عليه لما قدّمناه من أنّ معنى الحجّية المبحوث عنها في المقام الحجّية بمعنى جواز الاستناد إليها في مقام العمل وجواز

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) الاسراء : ٣٦.

(٣) يونس : ٣٦ ، والنجم : ٢٨.

(٤) النجم : ٢٣ ، والانعام : ١١٦.

(٥) انظر أجود التقريرات ٣ : ١٤٨.

١٠٧

إسناد مؤدّاها إلى الشارع ، ومن المعلوم توقّف الحجّية بهذا المعنى على الوصول إلى المكلّف لا على ثبوت الجعل واقعا ، فإنّ ثبوت الجعل واقعا مع عدم الوصول ليس حجّة بالمعنى المقصود ، (ومثل وصول الحجّة لا يتصوّر له شبهة مصداقيّة ، إذ هو أمر وجداني فإنّ الإنسان إذا رجع إلى نفسه فإن أحرز جعل الحجّية كان ذلك الظنّ علما وإن لم يحرز كان ظنّا ولا يتصوّر الشكّ في الإحراز وعدمه) (١). وحينئذ فيكون وصول الدليل على الحجّية واردا على هذه الآيات بنحو الحكومة لا نفسه بوجوده الواقعي وبوصوله يخرج هذا الظنّ عن كونه ظنّا ، وبعبارة اخرى أنّ وصول الحجّية يكون مخصّصا لدليل المنع وبعد التخصيص يخرج عن كونه ظنّا إلى كونه علما تنزيليّا لا بوجود الجعل واقعا.

مع أنّ عدّ هذا من التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة يوجب عدم جريان الاستصحاب حينئذ في موارد الشكّ عند عروض ما يشكّ في حجّيته معارضا ، مثلا لو قام الاستصحاب على نجاسة شيء وأخبر عادل بعروض المطهّر له ولم يكن العادل ذا يد فهل يستطيع فقيه أن يمنع جريان الاستصحاب في المقام بقوله : إنّ قول العادل لو كان حجّة يرفع موضوع الاستصحاب لأنّه يكون علما والاستصحاب إنّما يجري مع الشكّ لا مع العلم.

مضافا إلى أنّ هذا الكلام يوجب عدم فائدة في هذه الآيات المصرّة على النهي عن العمل بالظنّ ، لأنّ في صورتي العلم بالحجّية والعلم بعدم الحجّية لا يتمسّك بالآيات وفي صورة الشكّ أيضا لا يتمسّك بها فما فائدتها؟ واحتمال كون النهي فيها إرشاديّا إلى حكم العقل غير صحيح ، لأنّ مؤدّاها عدم الحجّية واقعا لا عند العقل (*) ، فافهم.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(*) وأفاد الاستاذ في دورته اللاحقة أنّ هذه النواهي إرشاديّة إلى حكم العقل بلزوم الاستناد في تفريغ ذمّته إلى مؤمّن جزمي يقطع معه بأنّ تكليفه قد عمل به وأنّه ليس عليه تبعته.

١٠٨

بقي الكلام في أنّه مع الإغماض عن حكم العقل وعن هذه العمومات اللفظيّة هل يمكن التمسّك باستصحاب عدم جعل الحجّية في المقام بناء على جريان استصحاب عدم الجعل في الأحكام أم لا يمكن جريان استصحاب عدم الجعل في خصوص المقام وإن قلنا بجريانه في بقيّة موارد الشكّ في الجعل؟

ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره عدم جواز جريان الاستصحاب في خصوص المقام (١) وذلك لما هو معلوم من أنّ المستصحب سواء كان حكما من الأحكام الشرعيّة أم موضوعا من الموضوعات الخارجيّة إنّما يجري فيه الاستصحاب إذا كان هناك أثر شرعي مترتّب على الوجود الواقعي لذلك الحكم الشرعي أو الموضوع الخارجي ، فبالاستصحاب يثبت وجود ذلك الشيء تعبّدا ، وبدليل حجّية الاستصحاب يثبت وجوده الواقعي تعبّدا ، مثلا الوجوب الواقعي أثره لزوم العمل ، والملكيّة الواقعيّة أثرها جواز تصرّف المالك ، والخمر الواقعي أثره الحرمة ولزوم الاجتناب وتنجيس الملاقي لها. وكلّ هذه الأحكام المذكورة مترتّبة على الوجود الواقعي لهذه الأشياء ، فإذا شكّ في بقاء الوجوب والملكيّة والخمريّة فبالاستصحاب يثبت وجودها الواقعي تعبّدا فتترتّب عليه هذه الأحكام.

أمّا إذا لم يكن الأثر للوجود أو العدم الواقعيّين وإنّما كان الحكم من الأحكام المترتّبة على الجهل بالواقع فلا حاجة حينئذ إلى إثبات الوجود أو العدم الواقعيّين لعدم جدواهما حسب الفرض ، إذ الفرض أنّ الوجود الواقعي لا أثر له وإنّما الأثر للجهل بالواقع فلا يكون للاستصحاب حينئذ فائدة أصلا. وكذا إذا كان الأثر مترتّبا على الجهل بالحكم الواقعي وعلى عدم ثبوت الحكم الواقعي واقعا فلا يجري الاستصحاب حينئذ ، إذ بمجرّد الشكّ الّذي هو من مقدّمات الاستصحاب يحصل الموضوع للحكم الشرعي وهو الجهل ، فلا حاجة إلى الاستصحاب لإثبات موضوع

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ١٤٨.

١٠٩

الحكم إذ هو تحصيل الحاصل ، بل أنّه أردأ أنواع تحصيل الحاصل في المقام إذ الموضوع الموجود وجدانا يطلب تحصيله بالتعبّد.

هذا كلّه بحسب الكبرى الكلّية وقد عرفت انطباقها حينئذ ، إذ أنّ أثر جعل الحجّية في المقام إنّما هو جواز الاستناد إليها في مقام العمل وجواز إسناد مؤدّاها إلى الواقع.

أمّا جواز الاستناد فمعلوم أنّه من آثار الحجّة الواصلة فلو انتفى الوصول فلا يمكن الاستناد ، وحينئذ فعدم جواز الاستناد من آثار الجهل بجعل الحجّية لا من آثار عدم الجعل الواقعي ، وحينئذ فلا فائدة في الاستصحاب أصلا ، لأنّ عدم الجعل الواقعي لا أثر له حتّى يرتب عليه عند ثبوته تعبّدا وما هو موضوع الأثر محرز وجدانا.

وأمّا جواز الإسناد فمبنيّ على أنّ معنى التشريع ما هو ، فإن جعلناه إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين فبالجهل بالجعل يتحقّق الموضوع للتشريع المحرّم فلا داعي للاستصحاب حينئذ ، وإن جعلنا الجامع بين إدخال ما ليس من الدين في الدين وإدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين (١) فيكون الأثر مترتّبا على عدم الجعل الواقعي وعلى الجهل أيضا ، فبمجرّد الشكّ يتحقّق أحد فردي موضوع التشريع فتثبت الحرمة ، ويكون إجراء الاستصحاب لإثبات الفرد الثاني تحصيلا للحاصل على أردإ الوجوه ، إذ هو إثبات الفرد الموجود وجدانا بالتعبّد ، وهو قبيح. ولا يجري الاستصحاب ، إذ الأثر وهو حرمة الإسناد موجودة بدونه.

ولا يخفى عليك أنّ الحقّ هو إمكان جريان الاستصحاب وإن كانت الكبرى المذكورة في كلام الميرزا النائيني قدس‌سره من كون تحصيل الحاصل محالا مسلّمة إلّا أنّها غير منطبقة على المقام ، ضرورة أنّ المحرز عدم وصول الحجّة لا عدم الجعل ، وبالاستصحاب يثبت عدم الجعل تعبّدا ، فما هو حاصل لا ربط للاستصحاب به ،

__________________

(١) انظر عوائد الأيّام : ٣١٩.

١١٠

وما يثبت بالاستصحاب لم يكن محرزا بالوجدان حتّى يكون الاستصحاب محصّلا للحاصل.

بقي الكلام في أثر هذا الاستصحاب فإنّ الاستصحاب إن لم يكن له أثر لا يكون حجّة بل لا يكون مجعولا لاستلزامه اللغويّة.

والجواب أوّلا : بالنقض بالأدلّة الخاصّة الدالّة على عدم الحجّية في بعض الظنون والمنع عن العمل بها نظير النهي عن القياس أو غيره من الأمارات ، مع أنّ محذور تحصيل الحاصل بعينه حاصل فيها.

وثانيا : بالنقض بحديث الرفع ، مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وغيرها من الأحكام الشرعيّة المجامعة للحكم العقلي.

وثالثا : بالحلّ وهو أنّ الحكم العقلي إنّما يثبت على تقدير ثبوت موضوعه وليس له إثبات الموضوع بنفسه ، كما في جميع [الأحكام](١) وحينئذ فبحديث الرفع يثبت بيان لعدم الجعل فيرتفع عدم البيان للجعل فلا يبقى موضوع حكم العقل حينئذ ، وكما في الأدلّة الخاصّة الدالّة على عدم حجّية بعض الظنون والمقام من هذا القبيل فإنّ الشكّ في الحجّية الّذي هو موضوع حكم العقل يرتفع قطعا ببيان عدم الحجّية الثابت بالاستصحاب ، وحينئذ فيترتّب الأثر وهو عدم جواز الإسناد والاستناد مستندا إلى حكم الشرع الثابت بالاستصحاب وكفى بذلك أثرا.

(ولا يخفى أنّ المستفاد من الكتاب العزيز تحريم التقوّل على الله تعالى بغير علم مثل قوله : (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) وتحريم التقوّل مع العلم بعدم قول الله تعالى مثل قوله : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٣)

__________________

(١) في الأصل : جميع الحاكمين.

(٢) البقرة : ٨٠.

(٣) آل عمران : ٧٥.

١١١

ولا ريب أنّ قبح الثاني كتحريمه أشدّ من الأوّل ، فالأصل العقلي وتحريم العمل بالظنّ به يقتضي ثبوت العقاب الأخفّ ولكنّ الاستصحاب يثبت العقاب الأشدّ ، ومع اختلاف العقاب يختلف الأثر) (١) ، فافهم.

(بقي هناك إشكال ثالث وهو أنّ المتيقّن الواقعي لا أثر له وإنّما الأثر للمتيقّن الواصل كما عرفت ، فلا معنى للنهي عن نقض المتيقّن الواقعي ولزوم ترتيب آثاره.

ولكن هذا الإيراد لا يرد على مسلكنا ، لأنّا قد بنينا كالميرزا النائيني (٢) على قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي وإنّ المنهيّ عنه هو نقض نفس اليقين لا المتيقّن ، وحينئذ فمعنى النهي عن نقض اليقين هو لزوم فرض الإنسان نفسه متيقّنا بعدم الحجّية وعالما بعدمها ، وحينئذ فإسناده واستناده حينئذ يكون مع العلم بعدم الحجّة وإثمه وعقابه حينئذ أشدّ من صورة الشكّ بها) (٣).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٩.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١١٢

[الكلام في حجية الظواهر]

إذا عرفت ما ذكرنا فيقع الكلام حينئذ في وقوع التعبّد الشرعي ببعض الأمارات وعدمه فنقول : الحقّ هو وقوع التعبّد بجملة من الأمارات الظنيّة ، فمنها : الظهور فإنّ بناء العقلاء على اتّباع ظهورات كلمات المتكلّمين في مقام النزاع والمخاصمات والإقرارات وغيرها وحيث لم يردع الشارع المقدّس عن هذا البناء في الجملة فيثبت إمضاؤه بناء العقلاء باتّباع ظواهر الألفاظ في الجملة. وبالجملة فتعبّد الشارع بحجّية الظواهر في الجملة لا يختلف فيه اثنان ، بل هو من الامور المعلومة بالضرورة.

وإنّما وقع الكلام في بعض خصوصيات المقام وهي ثلاثة امور :

الأوّل في أنّه هل يعتبر في حجّية الظواهر الظنّ بالوفاق أو عدم الظنّ بالخلاف أم لا يعتبر شيء من ذلك؟

الثاني في أنّه هل يعتبر في حجّية ظواهر الألفاظ كون المخاطب مقصودا بالخطاب أو مقصودا بالإفهام أو لا يعتبر ذلك؟

الثالث في أنّ ظواهر الكتاب حجّة وإن لم يرد تفسيرها من الأئمّة أم أنّ حجّية ظواهر الآيات مختصّ بخصوص ما ورد تفسيره منهم عليهم‌السلام؟

أمّا الكلام في الأمر الأوّل فينبغي أن يقال : إنّ موارد العمل بظهور الألفاظ تختلف ، فتارة يكون في مقام إدراك الواقع وتحصيله نظير الطبيب الّذي يأمر المريض بالدواء الفلاني فهنا لا بدّ من حصول الظنّ له بل الاطمينان بكون ظاهر كلامه موافقا لمراده لا أقلّ من انتفاء الظنّ بالخلاف ، وتارة يكون مقام العمل بالظواهر مقام احتجاج العبد على ربّه واحتجاج الربّ على عبده فهنا لا يعتبر الظنّ بالوفاق أو عدم الظنّ بالخلاف ، ومقامنا مقام الحجّية الّتي هي بمعنى جواز الإسناد والاستناد وهما لا يفتقران إلى الظنّ بالوفاق أو إلى عدم الظنّ بالخلاف أصلا ،

١١٣

يدلّ على ذلك أنّه لو كان ظاهر كلام المولى وجوب الصلاة ومع ذلك لم يحصل للمكلّف ظنّ بالوفاق أو حصل له ظنّ بالخلاف فترك فهل يقبّح أحد أخذ المولى له ومؤاخذته إيّاه؟ وبالعكس لو فعل ما دلّ الظهور على وجوبه فقال المولى بعد ذلك : «لم ارده» فللعبد الاحتجاج عليه بظهور كلامه. وبالجملة فالنزاع في الأمر الأوّل نشأ من خلط الجهة الثانية بالجهة الاولى.

الأمر الثاني : وهو أنّه هل يعتبر في حجّية ظواهر الألفاظ كون المخاطب مقصودا بالخطاب أم لا يعتبر ذلك؟ ذكر صاحب القوانين قدس‌سره أنّه يعتبر في حجّية ظواهر الألفاظ كون المخاطب مقصودا بالخطاب (١) وعليه بنى عدم حجّية ظواهر الأخبار المذكورة في الكتب الأربعة وقال بانسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة (٢) لأنّ الكتاب والإجماع والعقل لا يدلّان (٣) بحسب فهمنا إلّا على أقلّ قليل من الأحكام ، والسنّة المتواترة قليلة أيضا ، وخبر الآحاد ليس بحجّة إمّا لعدم حجّية ظهوره كما عليه صاحب القوانين (٤) أو للخلل في سنده كما اختاره غيره (٥) فتبقى جلّ الأحكام الشرعيّة قد سدّ فيها باب العلم.

ويمكن أن يستدلّ على اختصاص حجّية ظواهر الألفاظ بخصوص المقصود بالخطاب بامور :

الأوّل : أنّ مبنى حجّية الظهور إنّما هو أصالة عدم الغفلة ، وهي غير جارية بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٣٩٨ ، ٤٠٣ ، ٤٥١ و ٤٥٢.

(٢) قوانين الاصول ١ : ٤٤٠ وما بعدها.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) المصدر المتقدّم ١ : ٤٣٠.

(٥) انظر رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ والعدّة ١ : ١٢٦.

١١٤

بيان ذلك : إنّا إذا شككنا في ظهور كلام متكلّم أنّه أراد ما هو ظاهر كلامه أم أراد خلاف ظاهره فمنشأ شكّنا حينئذ أنّه غفل عمّا يفتقر إليه بيان مراده أو أنّه بيّن تمام مراده إلّا أنّ المخاطب غفل عن بعض كلمات المتكلّم ممّا كان لها دخل في إفهام مراده ، فبأصالة عدم الغفلة ينتفي هذان الاحتمالان فيؤخذ بالظهور ، لكن أصالة عدم الغفلة إنّما تجري في المخاطب الّذي قصد إفهامه ، أمّا من لم يقصد إفهامه فلا يجري فيه أصالة عدم الغفلة ، لأنّه قد يقصد المخاطب التعمية عليه لأنّه لم يرد البيان وإنّما أراد البيان لمخاطبه خاصّة.

وفيه : أنّ منشأ حجّية الظهور ليس هو ما ذكر من أصالة عدم الغفلة ، بل أنّ أصالة عدم الغفلة وأصالة الظهور بينهما عموم من وجه ، لجريان أصالة عدم الغفلة في فعل الإنسان وعدم جريان أصالة الظهور ، وجريان أصالة الظهور في قول المعصوم وعدم جريان أصالة عدم الغفلة فيه. بل أنّ مدرك حجّية الظهور هو بناء العقلاء المستقرّ بالنسبة إلى المقصود بالإفهام وغيره ، كما يشهد به مؤاخذة المرء بإقراره بشهادة الشهود على الإقرار ، ومؤاخذة المرء بمجرّد سبّه لإنسان بينه وبين صديقه سرّا لو اطّلع المسبوب عليه ، ووشاية الجاسوس بالكتاب الّذي يبعثه المرء إلى طرفه وغير ذلك.

الثاني : أنّ أصالة عدم الغفلة وإن لم يجر في كلام الأئمّة عليهم‌السلام كما ذكرتم إلّا أنّا علمنا من سيرة الأئمّة سلام الله عليهم أنّهم يذكرون اللفظ ويذكرون القرينة الصارفة له عن ظهوره بعد مدّة غير قليلة ، فلا يمكن التمسّك بظهور كلامهم عليهم‌السلام.

وفيه : أنّ هذا وإن كان صحيحا إلّا أنّه لا يقتضي إلّا لزوم الفحص عن القرينة بقدر الإمكان وهو كما أنّه لازم في غير المقصود بالإفهام لازم بالنسبة إلى المقصود بالإفهام أيضا.

الثالث : أنّ الأخبار لو كانت على ما هي عليه حال صدورها عنهم عليهم‌السلام لعملنا بظواهرها إلّا أنّها قطّعت ، وحينئذ فمن المحتمل أن يكون صدر الخبر قرينة على ذيله أو ذيله قرينة على صدره ، فلذا لا يمكن لنا نحن ـ يعني غير المقصودين بالإفهام ـ التمسّك بظواهرها ، بخلاف المخاطب بها لعدم تقطيعها حينئذ فيكون مطّلعا على قرائنها.

١١٥

وفيه : أنّ عدالة المقطّع وفقاهته وتقواه والاعتماد عليه تقضي بعدم احتمال كون المقطوع قرينة على الموجود وإلّا لذكره متّصلا به ، خصوصا والمقطّع مثل الكليني والشيخ وابن بابويه الذين هم قطب الدين ورحى الفقاهة والتقوى فكيف يجوز عليهم التقطيع مع احتمال كون المقتطع فيه قرينة دالّة على خلاف ظهور للكلام المتقدّم ، نعم لو كان المقطّعون ممّن لا يعتمد عليهم لجاز ما ذكر من عدم التمسّك حينئذ بالظهورات ، فافهم.

ثمّ إنّا لو سلّمنا ما ذكره الميرزا القمّي ـ من عدم حجّية الظهورات لغير المقصودين بالإفهام ـ لا يكاد يترتّب عليه ما زعم قدس‌سره ترتّبه عليه من انسداد باب العلم لعدم حجّية الأخبار المودعة في الكتب الأربعة ، وذلك لأنّها حجّة حتّى على تقدير اختصاص حجّية الظواهر بالمقصودين بالإفهام ، وذلك لأنّ الراوي الّذي سمع من الإمام عليه‌السلام كان مقصودا بالإفهام للإمام قطعا فالظهور حجّة بالنسبة إليه ، ثمّ إنّ هذا الراوي قد قصد إفهام من ينقل إليه هذا الخبر ، وهكذا حتّى تنتهي إلى أرباب الجوامع. ثمّ إنّ أرباب الجوامع أيضا كانوا مقصودين بالإفهام لمن نقل وروى تلك الأخبار لهم ، والمقصود لهم بالإخبار بما في جوامعهم جميع من ينظر إلى تلك الجوامع لا خصوص شخص خاصّ أو جماعة معيّنة كما هو شأن أرباب التأليف ، هذا تمام الكلام في الأمر الثاني.

[حجية ظواهر القرآن]

وأمّا الكلام في الأمر الثالث : وهو حجّية ظواهر القرآن وعدم حجّيتها فنقول : ذهب إخواننا الأخباريّون قدّس الله أسرارهم (١) إلى عدم إمكان العمل بظواهر

__________________

(١) انظر الفوائد المدنيّة : ١٧ و ١٢٨ ، وشرح الوافية (مخطوط) : ١٣٧ ـ ١٥٠ ، والحدائق ١ : ٢٧ ـ ٣٥ ، والدرر النجفيّة : ١٦٩ ـ ١٧٤ ، والفوائد الطوسية : ١٨٦.

١١٦

القرآن المجيد إلّا أن يرد من الأئمّة سلام الله عليهم تفسير له ، فلو لم يرد تفسير آية لا يمكن الأخذ بظهورها في العمل ، واحتجّوا واحتجّ لهم بوجوه :

أحدها : أنّ القرآن من قبيل الطلسمات والرموز كما هو مسلّم في أوائل بعض السور نظير (الم) و (حم عسق) وغيرها ، وحينئذ فكما أنّ أوائل السور لا نعلم لها معنى فكذا جميعه وإنّما يتخيل للإنسان أنّه فهمه ، ويدلّ على ذلك الرواية الّتي تضمّنت قول الإمام عليه‌السلام لأبي حنيفة ما مضمونه : «ويلك أنّك لم تعرف حرفا من كتاب الله» (١) وقوله عليه‌السلام لقتادة : «ويحك أنّك لا تعرف حرفا من كتاب الله تعالى» (٢).

الثاني : أنّ القرآن باعتبار اشتماله على علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ـ كما هو المستفاد من كثير من الأخبار ـ فهو رموز وإشارات ، فلا يجوز العمل به لغير من يعرف ذلك منه ، وهمّ الأئمّة سلام الله عليهم (٣).

الثالث : إنّا نعلم إجمالا بطروء التخصيصات والتقييدات بالنسبة إلى العمومات والمطلقات وإرادة خلاف ظواهر بعض الكلمات ، والمفروض أنّ هذا العلم الإجمالي منجّز فلا يمكن ترتيب آثار تنجيزه إلّا بترك العمل بكلّ ظاهر لم يرد من الأئمّة تفسيره.

الرابع : وقوع التحريف في القرآن ، فإنّه مانع له عن انعقاد الظهور.

وهذه الوجوه الأربعة المذكورة في الحقيقة إنّما تمنع انعقاد الظهور لا أنّ الظهور ليس بحجّة. نعم هناك وجهان صريحان في أنّه مع انعقاد ظهوره ليس بحجّة :

__________________

(١) انظر الوسائل ١٨ : ٣٠ ، الباب ٦ من صفات القاضي ، الحديث ٢٧ و ٢٨.

(٢) لم نقف عليه بعينه ولكن انظر مضمونه في الوسائل ١٨ : ١٣٦ ، الباب ١٣ من صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

(٣) انظر الوسائل ١٨ : ١٣٥ و ١٤٥ ، الباب ١٣ من صفات القاضي ، الحديث ٢٠ و ٤٨.

١١٧

أحدهما : أنّ القرآن قد أخبر بوقوع المتشابه فيه والمتشابه متشابه ، فلعلّه يشمل حتّى الظواهر لأنّها متشابه أصلا ، ويختصّ النصّ بالخروج ، ولا أقلّ من احتمال شمول المتشابه له ، وهو كاف في عدم جواز العمل.

الثاني : الأخبار الدالّة على المنع عن التفسير بالرأي (١) وأنّ القرآن إنّما يعرفه من خوطب به (٢) وهذا الوجه هو عمدة وجوههم.

ولا يخفى عليك أنّ هذه الأخبار الناهية عن العمل بظواهر القرآن من دون دلالة الأئمّة عليهم‌السلام وإن بلغت التواتر حتّى ادّعى بعضهم بلوغها مائتين وخمسين حديثا (٣) إلّا أنّ لها معارضات أقوى منها تدلّ على جواز العمل بالقرآن ، منها : أخبار العرض (٤) ومنها : أخبار الثقلين (٥) ومنها : أخبار الشروط (٦) ومنها : الأخبار الّتي استشهد الإمام بها كخبر المرارة (٧) ومكان الباء في (بِرُؤُسِكُمْ)(٨) وغيرها (٩) وهي كثيرة لا تحصى. وحينئذ فلا بدّ من حمل الأخبار الناهية على أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ : فإمّا أن تحمل على التفسير بالرأي والإعراض عمّا ورد من أئمّة الهدى

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢٠ ، الباب ٦ من صفات القاضي ، الحديث ٢٢ ، ٢٧ ، ٢٨ و ١٢٩ ، والباب ١٣ من صفات القاضي ، الحديث ٣٥ ، ٣٧ ، ٦٧ و ٧٦.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٣٦ ، الباب ١٣ من صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

(٣) انظر الوسائل ١٨ : الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من صفات القاضي.

(٥) البحار ٢٣ : ١٠٦ ـ ١٠٨ ، الحديث ٧ و ٨.

(٦) الوسائل ١٣ : ٤٤ ، الباب ٥ من أبواب بيع الحيوان ، الحديث الأوّل.

(٧) الوسائل ١ : ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

(٨) الوسائل ١ : ٢٩٠ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٩) مثل ما ورد في الوسائل ١ : ٢٩٥ ، الباب ٢٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٠.

١١٨

في تفسيرها كما هو الظاهر من جملة من الأخبار ، وإمّا أن تحمل على التفسير بما تشتهيه أنفسهم وإن كان غير ظاهر بل أحد محتملات الظهور من غير ترجيح يقتضي تعيينه.

وممّا ذكرنا تعرف الجواب عن دعوى التحريف بأنّها مع بطلانها قطعا بل أنّ القرآن هو هذا الموجود بين الدفّتين بأيدينا لم يزد فيه إجماعا ولم ينقص منه قطعا ، وذلك لكثرة اهتمام الصدر الأوّل بحفظ القرآن حتّى أنّ بعضهم يحفظ بأسره وبعضهم نصفه. ومعلوم أنّ ما هو مشهور عند الكلّ ومحفوظ عند الأكثر كيف يمكن عروض التحريف بالنسبة إليه ، فلا بدّ من حمل أخبار التحريف على التحريف المعنوي كما في قوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ)(١) يريد بهم اليهود فإنّ تحريفهم إنّما كان بحمله على غير ظاهره بتمحّلات وتكلّفات حتّى حملوا ما في التوراة من النص على نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله على إرادة غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله فضلّوا وأضلّوا فذمّهم الله تعالى. وحينئذ فالتحريف بهذا المعنى يكون شاهدا لحجّية الظهور لا للعدم ، فتأمّل. مع أنّ التحريف لو سلّم فإنّما هو في زمان عثمان لعنة الله عليه ، مع أنّ الأخبار الآمرة باتّباعه في زمان الصادقين عليهم‌السلام فهم عليهم‌السلام أمرونا باتّباع الموجود ، فتحريفه لا يضرّ.

والجواب عن كون القرآن قد نهى عن اتّباع المتشابه ، والظاهر من المتشابه يقينا أو احتمالا لتشابهه : أنّ الظهور ليس من المتشابه قطعا ، لأنّ المتشابه ليس بمتشابه لأنّه هو الّذي يتشابه طرفاه بمعنى أنّ له معنيين يمكن أن يحمل عليهما ، والظهور مع استقراره ليس أحد طرفين متساويين في الاحتمال.

ومنه يعرف الجواب عن العلم الإجمالي بطروء التخصيص والتقييد وإرادة خلاف الظاهر ، فإنّ العلم الإجمالي لا يمنع عن العمل بالظهورات لانحلاله بما وجد مبيّنا لبعض الظواهر ومخصّصا ومقيّدا بمقدار المعلوم بالإجمال. وحينئذ فلا مانع من التمسّك بالظهورات الّتي لم يرد منهم عليهم‌السلام تفسير لها بخلاف ظاهرها.

__________________

(١) النساء : ٤٦.

١١٩

ومنه أيضا يظهر الجواب عن كونه جامعا لعلم ما كان وما يكون وما هو كائن ، فإنّه إن لم يكن له ظهور كيف يكون جامعا لذلك؟ بل معنى كونه جامعا أنّ كلّ إنسان يستفيد من ظهوره بمقدار استعداده.

كما ظهر الجواب أيضا عن كونه من قبيل الرموز والإشارات والطلسمات ، فإنّه مسلّم في أوائل السور ، لعدم ظهور لها ، وأمّا ما له ظهور فكونه رمزا بمعنى أنّه ليس له ظاهر ممنوع ، وبمعنى آخر لا يقدح في المدّعى.

وبالجملة فقد ظهر أنّ القرآن ظهوره حجة ومعلوم المعنى وإلّا لم يكن معجزا ولما دعا جميع من أسلم أوّلا إلى الإسلام لفصاحته وبلاغته التي جلبت الالوف من الكفرة المعاندين إلى الإسلام. هذا تمام الكلام في حجية الظهورات.

وقد ظهر من مجموع ما ذكر في حجية الظواهر أنّ حجية الظواهر قد استقرّ عليها بناء العقلاء وأنّ احتمال إرادة خلاف الظاهر ـ بمعنى عدم مطابقة الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدّية ـ إمّا لاحتمال غفلة المتكلم عن نصب القرينة أو لاحتمال كون المصلحة في إخفاء القرينة والمفسدة في إظهارها أو لاحتمال اعتماده على قرينة مقالية منفصلة ولم تصل ملغى عندهم كافة لا يلتفتون إليها أصلا. فإنّها لا توجب ارتفاع الظهور وإنّما ترفع حجّيته ومعلوم أنّ الحجّة إنّما ترتفع بالحجة الأقوى وكونها حجّة إنّما هو فرع وصولها ، فإذا فرض أنّها لم تصل فلا حجّة أقوى حتّى يرفع اليد بواسطتها عن حجّيّتها هذا الظهور ، فافهم.

وبما ذكرنا ظهر أنّ مرجع العقلاء في المقام إلى أصالة الظهور الّذي هو أصل وجودي لا إلى أصالة عدم القرينة الّذي هو أصل عدمي في دفع هذه الاحتمالات الثلاثة ، لعدم جريان أصالة عدم القرينة ؛ لأنّ القرينة في الصورتين الأولتين مقطوع بعدمها حسب الفرض ، وفي الصورة الثالثة لا أثر مترتّب على عدم القرينة واقعا حتّى يجري الأصل ، وعدم الوصول محرز بالوجدان فلا يحتاج إلى أصل يحرزه فافهم ، نعم إذا شك في معرفة السامع بمعاني تلك الألفاظ أو من جهة احتفاف الكلام

١٢٠