غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ دليل الاستصحاب لم يشترط فيه كون المستصحب حكما شرعيّا أو ذا أثر شرعي ، وإنّما لوّح الأصحاب بأنّ الاستصحاب بما أنّه أمر مجعول للشارع فلا بدّ من كون المستصحب أمرا قابلا للتعبّد الشرعي ولو كان في مقام الامتثال ، ولذا جرت قاعدتا التجاوز والفراغ في مقام الامتثال ، فلا بدّ من أن يكون مقام الامتثال قابلا للتعبّد الشرعي. وحينئذ فلا مانع من أن يكون الاستصحاب في المقام محقّقا لذلك العنوان البسيط الموجود قبل فعل المشكوك ، إذ لا مانع من التعبّد بوجوده ، فافهم.

نعم ، ينبغي التفصيل بين صورة وجود العنوان البسيط بالترك للأفراد العرضيّة أوّل الأزمان فيجري فيه الاستصحاب ـ إلّا أنّا لا نحتاج العنوان البسيط حينئذ لتحقّق الامتثال بتحقّقه حينئذ ، فيجوز حينئذ إيجاد ذلك العنوان البسيط وإعدامه ـ وبين أن يكون العنوان البسيط منتزعا من مجموع التروك العرضيّة والطوليّة بحيث ينتزع العنوان البسيط آخر أوقات التروك ففي مثله لا يجري الاستصحاب ، لعدم اليقين بالعنوان البسيط حتّى يستصحب ، ولا يجوز حينئذ فعل المشكوك أصلا.

وقد فرّق الميرزا النائيني قدس‌سره (١) في الشبهة الموضوعية بين كون التكليف متعلّقا بأمر خارجي ك : أكرم العالم ، فأجرى البراءة عند الشك في فرد لانحلال القضية إلى شرطية وحملية وهي : إن وجد عالم فأكرمه ، لأنّ القدرة من شرائط التكليف فلا بدّ من كون : إكرام العالم ، مقدورا وهو إنّما يكون بتحقّقه ووجوده خارجا وبين كون التكليف متعلّقا بفعل المكلّف من دون تعلّقه بخارج ك : صلّ ، فأجرى الاشتغال عند الشك في الفردية زاعما تحقّق فعلية التكليف لعدم توقّفه على شيء ليس تحت قدرة المكلّف فالشك إنّما هو في الفراغ بعد القطع بالتكليف.

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٣ : ٣٩٢ ـ ٣٩٥ ، وأجود التقريرات ٣ : ٣٤٦ ـ ٣٤٨.

٣٠١

وتفصيل الكلام في المقام أنّه إذا اتجه الأمر المتعلّق بفعل المكلّف فقط مثل قول : تكلم ، مثلا فإن كان بنحو صرف الوجود ـ كما هو الغالب في الأوامر ـ فامتثاله يكون بفرد وعصيانه بترك جميع الأفراد ولا يكتفى بإتيان مشكوك الفردية في مقام الامتثال ، للشكّ في السقوط وهو مجرى الاشتغال.

وإن كان بنحو العموم الاستغراقي للأفراد المقدورة أو المجموعي فيجوز ترك مشكوك الفردية حينئذ للبراءة ، فإنّه من دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين في الأول والارتباطيين في الثاني.

وإن اتجه النهي عن طبيعة فعل من أفعال المكلّف فإن كان بنحو يكون كل فرد منهيا عنه بنهي انحلالي مستقل أو عن المجموع يجوز الإتيان بمشكوك الفردية للشكّ في توجه النهي وانحلاله إليه فتجري البراءة حينئذ ، نعم لو علم بكونه فردا من أفراد الطبيعة وشكّ في تحققه بالعمل الفلاني مثلا وعدم تحقّقه به ، فإن كان هناك أصل مؤمّن من تحقّقه كاستصحاب انعدامه يجوز الإتيان بذلك العمل فإنّ استصحاب استمرار عدمه مؤمّن من تحقّقه بناء على جريان الاستصحاب في الأمور المستقبلة ، وإن لم يجر الاستصحاب فلا يجوز أن يأتي بالعمل الذي يشكّ في تحقق ذلك الأمر المعلوم فرديته للمنهي عنه به ؛ لأنّ الشكّ فيه في الفراغ فلا يجري إلّا الاشتغال كما هو واضح.

فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من جريان قاعدة الشغل في المقام لفعلية التكليف بتحقق الشرائط العامة وعدم توقفه على متعلق خارجي غير تام على عمومه ، بل فيه ما ذكرنا من التفصيل بين كون الشكّ في تحقق الامتثال فالاشتغال ، وبين كون الشك في توجه التكليف فالبراءة.

ودعوى أنّ التكليف فعلي لفعلية جميع الشرائط مسلّمة إلّا أنّ إحراز كون هذا فردا للطبيعة المأمور بها مفقود وهو من شرائط فعلية التكليف أيضا وهو مفقود.

٣٠٢

هذا كلّه حيث يكون المأمور به فعلا محضا أي غير متعلّق بخارج ، وأمّا إذا كان متعلقا بخارج فإمّا أن يكون ذلك الخارج شخصيا كما في قوله : صلّ إلى القبلة ، ضرورة أنّ القبلة شخصية وهي الكعبة ، فلو شك في فرد من أفراد الصلاة أنّه إلى الكعبة أم لا فبما أنّ المأمور به فعل المكلّف وهو الصلاة وقد أخذ بنحو صرف الوجود وإن كان متعلّقه شخصيا فهو شاكّ في تحقّق صرف الوجود بذلك الفرد وهو من مقامات الشكّ في الامتثال للتكليف المعلوم وهو مورد للاشتغال.

وأمّا إذا نهى عن فعل متعلّق لشيء شخصي مثل : لا تبل إلى القبلة ، فلو شكّ في جهة أنّه لو بال إليها بال إلى القبلة أم لا فهنا لا ريب في جريان البراءة لو لا العلم الإجمالي في المقام فإنّ الشكّ في كون جهة هي القبلة أم لا شك في توجه النهي إليها بالانحلال وعدمه ، فالشكّ فيها شكّ في التكليف فتجري البراءة لو لا العلم الإجمالي في المقام.

وإمّا أن يكون ذلك الخارج كليّا ، فتارة يكون النهي عن إيجاد الطبيعة السارية واخرى عن مجموع الحوادث وثالثة عن أوّل الوجودات.

فإن كان بنحو الطبيعة السارية فمعناه توجه النهي بنحو الانحلال إلى جميع الأفراد بنحو يخصّ كلّ فرد نهي مستقل ، فلو شك في فرد أنّه من أفراد تلك الطبيعة أم لا فلا ريب في إجراء البراءة عن التكليف بتركه ، والسرّ فيه بحسب ما ذكره جماعة من الأصوليين منهم الميرزا النائيني قدس‌سره هو أنّ الموضوع الخارجي الذي هو متعلّق فعل المكلّف يكون من قبيل شرط التكليف فتنحل القضية الحملية وهي : لا تشرب الخمر ، مثلا إلى شرطية وحملية هي : إن وجد الخمر في الخارج فلا تشربه ، وحيث يشكّ في أنّ هذا فرد للخمر أم لا يشكّ في توجه : لا تشربه ، نحوه فتجري البراءة لكون الشكّ فيه شكّا في التكليف.

وما ذكروه تامّ حيث يكون الموضوع المتعلّق لفعل المكلّف غير اختياري ك : لا تشرب الحامض ، وكذا إن كان اختياريا لكنّه مأخوذ في الموضوع باتفاق حصوله

٣٠٣

بأن تكون المفسدة المترتبة على الفعل المتعلّق به مترتبة عليه إذا اتفق حصوله كما في قوله : المسافر يقصر أو لا يتم صلاته مثلا ، ففي هاتين الصورتين ما ذكروه من توجيه جريان البراءة بانحلال القضية إلى شرطية وحملية متين ؛ إذ الشك حينئذ يكون في الشبهة الموضوعية إنّما هو من جهة الشكّ في تحقق شرط التكليف الذي هو القدرة ، والشكّ في الشرط شكّ في المشروط فيكون التكليف مشكوكا أيضا فتجري البراءة ولا فرق بين كون التكليف تحريميا كما ذكرنا أو إيجابيا في أنّ أخذ الموضوع الخارجي يقتضي انحلال القضية إلى شرطية وحملية فيشكّ في الشرط المقتضي للشكّ في التكليف فتجري البراءة من ذلك التكليف.

وأمّا إذا كان الموضوع مما يكون محققا لاستيفاء المصلحة الإلزامية بحيث كان الملاك الملزم محقّقا لكن وجوده خارجا يكون مشروطا بشرط وجودي كما في المريض الذي يتوقف شفاؤه على شرب المسهل في مكان بارد مثلا ، فأصل شرب المسهل هو ذو الملاك الإلزامي إلّا أنّ استيفاء ذلك الملاك موقوف على برودة المكان الذي يتناول فيه ، فمثل هذا القيد لا تنحلّ القضية فيه إلى شرطية وحملية ، إذ بعد فرض كون الملاك ملزما وكون الكون في المكان البارد مقدورا له لا معنى لعدم الأمر حينئذ بتلك الطبيعة المطلوبة فلا تنحلّ القضية حينئذ لفرض تحقّق الملاك والقدرة على ما يحصل الملاك حينئذ فيأمر به فلا يكون مثل هذا القيد شرطا للتكليف ، فالكلية المزعومة للميرزا النائيني من انحلال القضايا الحملية إلى شرطية وحملية غير تام على عمومه كما هو واضح ، وإن كان المقام أيضا مما تجري فيه البراءة لكونه مما يشكّ في انطباق المأمور به عليه وعدمه ، فمثلا لو شكّ في كون المكان الفلاني باردا أم لا مع عدم قدرته على غيره فيجري البراءة حينئذ من التكليف لعدم إحرازه القدرة على متعلّق التكليف لاحتمال كونه غير بارد.

وإن كان التكليف قد أخذ فيه أول الوجودات من تلك الطبيعة فإن شكّ في فرد أنّه من أفرادها أم لا فهو مجرى البراءة ، مثلا إذا كان وجوب الزكاة

٣٠٤

مشروطا بوجود الفقير المؤمن أو وجوب الخمس مشروطا بوجود السيد الفقير ، فحيث يشكّ في إيمان شخص أو سيادته تجري البراءة من وجوب الخمس والزكاة للشكّ في تحقّق شرط الوجوب.

وربما يتخيل أنّ منه ما لو علم بوجود ماء ولكنه لا يدري أنّه يكفيه لوضوئه مثلا أم لا فيجري البراءة من وجوب الوضوء وليس كذلك ؛ لأنّ هنا تكليفين : أحدهما وجوب الوضوء على تقدير كفاية الماء ، و [الثاني] وجوب التيمم على تقدير عدم كفايته فالعلم الإجمالي في المقام يحتم عليه الفحص لتعيين تكليفه. وليس من قبيل المقام ؛ لأنّ عدم وجوب الوضوء لعدم شرطه معارض بعدم وجوب التيمم لعدم شرطه ، والطرفان مجرى للعلم الإجمالي فلا تجري البراءة حينئذ وهو واضح ، وقد رتبنا على ذلك أنّ دليل وجوب الفحص عن الماء بغلوة أو غلوتين توسعة من الشارع ، إذ لو لا ذلك لوجب الفحص حتّى يحصل اليأس أو يصل إلى العسر والحرج ، لأنّ العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين من الوضوء أو التيمّم معلوم فلا بدّ من إحراز شرط أحدهما ، فإما أن يكون الماء الموجود كافيا للوضوء مثلا فلا بدّ منه أو لا يكون كافيا فلا بدّ من التيمّم فتحديد الشارع مقدار طلب الماء بغلوة سهم في الحزنة وسهمين في السهلة توسعة على المكلّف وإرفاق به ، وإلّا لوجب الفحص حتى يحصل اليأس من الماء أو يصل إلى حد الحرج.

وإن شكّ في فرد من أفراد تلك الطبيعة بعد إحراز فرد آخر غيره ففي المقام بوجود ذلك الفرد اليقيني قد حصل العلم بفعلية التكليف فلا يكتفي في الفراغ بذلك الفرد المشكوك فرديته ؛ لأنّ الشكّ فيه في مرحلة الامتثال وهو مجرى قاعدة الاشتغال.

وإن كان التكليف متّجها نحو مجموع الأفراد فإن كان أمرا فلا بد من إكرام الأفراد المعلومين لتكن الطبيعة بنحو المجموع ، وأمّا الفرد المشكوك فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين.

٣٠٥

وإن كان نهيا فإتيان ما عدا هذا المشكوك فرديته لا بأس به ، لعدم إحراز كونه مجموعا لتلك الطبيعة إذ يحتمل أن تكون هذا المشكوك من أفرادها ، وحينئذ فلا يحرم فعل غيره من الأفراد لكونه ليس هو المجموع. وقد اتّضح ممّا ذكرنا أنّ موارد الشكّ في تحقق امتثال عنوان المأمور به لا بدّ من إجراء قاعدة الاشتغال ، وفي مقام الشكّ في انطباق المأمور به على فرد لا مانع من جريان البراءة ، وهذا مبني على إجراء البراءة في مقام الشك بين الأقل والأكثر مطلقا كما سيأتي وعلى جريان البراءة في التكاليف المنحلّة.

ولا فرق فيما ذكرناه بأسره في المقام بين التكاليف المستقلة التي ذكرناها وبين التكاليف الضمنية من الجزئية والشرطية والمانعية ، فكلّ مورد جرى فيه البراءة في المستقلّة يجري في الضمنية أيضا وكلّ مورد جرت قاعدة الاشتغال في المستقلّة جرت في الضمنية أيضا ، ولا فرق بينهما إلّا في تحقّق العلم الإجمالي بالتكليف في التكاليف الضمنية دون الاستقلالية.

[استطراد الكلام في اللباس المشكوك] :

وحيث انجرّ الكلام إلى هنا فلا بأس بالبحث في اللباس المشكوك فنقول :

لا يخفى أنّ عمدة الكلام بين الأساطين في اللباس المشكوك مبنيّ على ما ذكرنا من صور توجّه النهي وأنّ المطلوب به ترك كلّ فرد فرد بنحو يكون لكلّ فرد امتثال وعصيان ، أو أنّ المطلوب به مجموع التروك ، أو المطلوب العنوان البسيط المنتزع من هذه التروك ، ولا فرق بين مقامنا ومسألة اللباس المشكوك إلّا أنّ مورد كلامنا النهي النفسي والنهي عن اللباس المشكوك نهي غيري ضمني.

وتحقيق الكلام في اللباس المشكوك بنحو الاختصار هو أنّه بعد الفراغ عن كون لبس غير المأكول من أجزاء الحيوان مانعا عن صحّة الصلاة ، لا أنّ الصلاة في غير

٣٠٦

ما لا يؤكل واجبة بنحو يكون شرطا في صحّتها ، لظهور الأخبار (١) في النهي عن لبس غير المأكول في الصلاة لا في الأمر بالصلاة في غير ما لا يؤكل لحمه حتّى تنتزع الشرطيّة ، عدا موثّقة ابن بكير فإنّها توهم الشرطيّة في بدء الأمر ، لقوله في ذيلها : لا يقبل الله تلك الصلاة حتّى يصلّيها في غيره ممّا أحلّ الله أكله (٢) إلّا أنّها بعد التأمّل فيها وكون ما ظاهره الأمر متفرّعا على ما يستفاد منه المانعيّة يكون ظهورها كظهور بقيّة الأخبار في المانعيّة محكّما ، فبعد الفراغ عن كون لبس غير المأكول مانعا عن صحّة الصلاة ، وبعد الفراغ أيضا عن جريان البراءة في الشكّ بين الأقلّ والأكثر بالنسبة إلى الزائد المشكوك ، فبعد الفراغ عن هذين الأمرين تتفرّع مسألة اللباس المشكوك على ما ذكرنا من الشقوق في طلب الترك.

والصور المحتملة في المقام أربعة :

[الأوّل :] أن يكون النهي عن الصلاة في غير المأكول نهيا منحلّا إلى نواهي متعدّدة بتعدّد أفراد غير المأكول من الأجزاء بحيث يكون النهي بنحو النهي الاستغراقي.

الثاني : أن يكون النهي نهيا عن إيجاد الصلاة في هذه الطبيعة من اللباس.

الثالث : أن يكون النهي نهيا عن مجموع الأفراد بحيث يكون إيجاد فرد مانعا عن اشتمال الصلاة على ملاكها.

الرابع : أن يكون النهي طلبا لعنوان بسيط منتزع عن مجموع هذه التروك.

أمّا بناء على الاحتمال الرابع فلا ريب في جريان قاعدة الاشتغال في كلّ ما يشكّ في كونه من أجزاء مأكول اللحم أو غيره ، لعدم إحراز ذلك المأمور به وهو العنوان البسيط مع ايجاد ذلك الفرد المشكوك ، وكلّ من منع عن لبس اللباس المشكوك هذا وجهه (*).

__________________

(١) راجع الوسائل ٣ : ٢٥ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي.

(٢) المصدر السابق ، الحديث الأوّل.

(*) ولا يخفى أنّه بناء على الوجه الرابع يكون العنوان البسيط شرطا ، فتأمّل. (الجواهري).

٣٠٧

ولكن هذا الوجه لا تساعده الأدلّة ، إذ ظاهرها النهي ـ كما ذكرنا ـ لا الأمر بعنوان بسيط ، فيدور الأمر بين الوجوه الثلاثة المتقدّمة.

والظاهر منها هو الوجه الأوّل ، إذ الحكم قد اخذ بنحو القضايا الحقيقيّة ، فالظاهر أنّه كلّما وجد فرد من أجزاء ما لا يؤكل لحمه يتوجّه إليه نهي ، وحينئذ فلو شكّ في فرد أنّه من أفراد ما لا يؤكل لحمه أم لا يشكّ في توجّه النهي إليه فيكون مجرى للبراءة. والظاهر أنّ هذا الوجه قد استظهره جميع الفقهاء لا الوجهين الآخرين ، لحكمهم بأنّ من اضطرّ إلى لبس غير المأكول من أجزاء الحيوان في الصلاة يقتصر على خصوص ما اضطرّ إليه ، فلو اضطرّ إلى ثوب واحد ليس له أن يلبس ثوبين ، وهكذا.

وهذا إنّما يتمّ إذا قلنا بكون النهي عن كلّ فرد بنحو العامّ الاستغراقي ، وأمّا إذا قلنا بأنّ النهي نهي عن الطبيعة ـ كما هو مقتضى الوجه الثاني ـ أو عن مجموع الأفراد كما هو الوجه الثالث لم يكن لحكمهم بوجوب الاقتصار على خصوص الفرد المضطرّ إليه معنى ، إذ لا دليل حينئذ على النهي عن الفرد الثاني من أفراد غير المأكول.

ثمّ إنّا لو قلنا بالوجه الثاني والثالث لقلنا بصحّة الصلاة في اللباس المشكوك أيضا ، غاية ما هناك أنّه يكون أقلّ وأكثر في أقلّ وأكثر ، إذ المانع تردّد بين الأقلّ والأكثر والصلاة أيضا تردّدت بين الأقلّ والأكثر. وحينئذ فالنهي إنّما توجّه نحو مجموع أفراد غير المأكول ، ولم يعلم أنّ هذا المشكوك من أفراده أو عن إيجاد الصلاة في هذه الطبيعة الخاصّة ، ولم يعلم أنّ الصلاة بهذا اللباس صلاة بهذه الطبيعة أم لا ، فيجوز حينئذ الصلاة بذلك اللباس المشكوك ، فافهم.

ثمّ إنّا لو تنزّلنا عن جريان البراءة في المقام فهل يمكن جريان الاستصحاب أم لا؟ فنقول : إنّ المانع عن صحّة الصلاة هل هو لبس المصلّي لجلد غير المأكول بحيث يكون المانع عن صحّة الصلاة وصفا للمصلّي؟

أو أنّ المانع عن صحّة الصلاة وصف للّباس نفسه بحيث إنّ شرط صحّة الصلاة عدم اتّصاف اللباس بأنّه من غير المأكول فيكون المانع حينئذ وصفا للّباس؟

أو أنّ المانع عن صحّة الصلاة اتّصاف الصلاة بمقارنتها مع لباس غير المأكول؟

٣٠٨

فإن قلنا بالأوّل فلا مانع من جريان الاستصحاب له ، إذ أنّه قبل لبسه لهذا الثوب كان يصحّ منه الصلاة فإذا شكّ استصحب حاله السابق.

وإن قلنا بالثاني فلا يمكن جريان الاستصحاب في نفس اللباس ، لعدم مسبوقيّته بالحالة المتيقّنة حتّى تستصحب. نعم ، لو شكّ في أنّ الشعرات الّتي سقطت على هذا اللباس شعرات غير المأكول ، أو شعرات المأكول وكان اللباس سابقا يصحّ الصلاة فيه توجّه جريان الاستصحاب حينئذ.

وإن قلنا بالثالث فلا يمكن جريان الاستصحاب ، لعدم اتّصاف الصلاة بهذا الثوب بحالة ؛ إذ لم تكن حتّى تستصحب.

نعم ، لو صلّى بثوب مأكول اللحم ، ثمّ في أثناء الصلاة فيه سقطت عليه شعرات يشكّ فيها ، أو لبس ثوبا آخر يشكّ فيه لا مانع من استصحاب الصحّة في تلك الصلاة ، لأنّ لها حالة سابقة متيقّنة فتستصحب ، والظاهر من المانع كون اتّصاف نفس الصلاة بوقوعها في لباس غير المأكول مانعا ، بمعنى أنّ الظاهر هو الاحتمال الأخير ، لأنّه المستفاد من الأخبار لمن أمعن النظر فيها ، فلا يجري الاستصحاب لنفس الصلاة ، لعدم وقوع الصلاة بهذا الثوب المشكوك حتّى يستصحب حكمها.

نعم ، لو قلنا باستصحاب العدم الأزلي لقلنا بجريان الاستصحاب في الصلاة لو وقعت بهذا الثوب المشكوك ، لأنّ الصلاة قبل لم تكن موجودة ولم تكن مقترنة بالمانع والآن وجدت الصلاة نفسها واقترانها بالمانع غير معلوم فيستصحب عدمه. بل يمكن الاستصحاب وإن لم نقل باستصحاب العدم الأزلي ، وذلك بتمهيد مثال هو : أنّه لو شكّ في انقلاب الخلّ مثلا إلى الخمر فلا ريب في استصحاب الخلّية ، أمّا لو علم بعدم بقائه على الخلّية قطعا لكنّه شكّ في أنّه انقلب خمرا أو شيئا آخر غير الخمر فهنا لا يمكن استصحاب الخلّية ، لفرض العلم بانتفائها إلّا أنّ عدم كونه خمرا لا مانع من استصحابه ، فإنّ هذه المادّة الخاصّة لم تكن خمرا قطعا في زمن ويشكّ في صيرورتها خمرا فيستصحب عدمه.

٣٠٩

وهذا بعينه جار في المقام ، بتقريب أنّ أجزاء الحيوان إنّما تتكوّن من النباتات والأهوية والمياه وغير ذلك ، فهذه الأشياء هي الّتي تكون مادّة لأجزاء الحيوان ، فإذا شكّ في انقلابها إلى أجزاء حيوان مأكول أو حيوان غير مأكول يستصحب عدم انقلابها إلى غير المأكول ، وأثره حينئذ جواز الصلاة فيه. ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم انقلابه إلى المأكول ، لعدم أثر له إلّا بناء على جريان الأصل المثبت ، فإنّ عدم انقلابه إلى المأكول لا حكم له ، إذ الحكم مانعيّة غير المأكول ، نعم ، من باب ملازمة عدم انقلابه إلى المأكول لانقلابه لغير المأكول فلا تصحّ الصلاة فيه ؛ لاقترانها بالمانع هو معنى الأصل المثبت ، فافهم.

[حكم الفوائت المردّدة بين الأقل والأكثر]

(وحيث عرفت أنّ المقام من مقامات البراءة فلا بأس بالتعرّض لمقام آخر من مقامات البراءة وهي ما لو تردّدت الفوائت بين الأقلّ والأكثر.

فمقتضى تسليم جريانها في مقام الدوران بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين لانحلال العلم الإجمالي إلى الأقلّ المتيقّن والأكثر المشكوك فينفى بالبراءة ، هو إجراء البراءة من الأكثر مع أنّ المشهور هو القول بوجوب القضاء حتّى يحصل العلم بالفراغ أو الظنّ به فكيف توجّه فتوى المشهور.

والّذي ينبغي أن يقال في أصل المسألة هو : أنّ القضاء بأمر جديد ، ولا فرق في الفائت الّذي يجب قضاؤه بين كون فوته من جهة نسيان أو غفلة وبين كون فوته عمديّا في أنّ قاعدة الحيلولة تقضي بعدم إتيانه عند الشكّ ، ولزوم إتيانه إن شكّ في الوقت ثمّ تيقّن أنّه لم يأت به بعد ما شكّ فيه ، فلو شكّ في الوقت أنّه أتى بالصلاة أم لا؟ لا بدّ من أن يصلّي حينئذ أداء. فإذا ترك فلا بدّ من القضاء ، لأنّه قد فات منه الواجب الظاهري ، ولا فرق بين كون الفائت ظاهريّا أو واقعيّا في وجوب القضاء ، والقضاء معلّق على الفوت وهو عنوان وجودي ، وأصالة عدم الإتيان بالصلاة في

٣١٠

الوقت لا يحقّقه ، لأنّه مثبت. ولو شككنا في كونه وجوديّا أو عدميّا فهو كاف في عدم إجراء الاستصحاب للشكّ في إحراز الموضوع حينئذ ، فالبراءة حينئذ محكّمة.

ولكنّ صاحب الوسائل عقد في الوسائل بابا للزوم القضاء حتّى يظنّ الفراغ ، وذكر فيها (١) أنّ كفاية الظنّ فيها أو اعتباره تقدّم في قضاء الفوائت من النوافل ، وفي ذاك الباب رواية إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الصلاة تجتمع عليّ قال عليه‌السلام : «تحرّ واقضها» (٢) فلعلّ المشهور فهم منها ـ أي من لفظ «تحرّ» ـ كفاية الظنّ أو اعتباره ، ولكن حيث لم تشتمل الرواية على جهل بعدد الفوائت يحتمل أن يراد منها : اقصد واقضها مثل قوله : (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً).

وربّما وجّه فتيا المشهور بأنّهم يقولون بلزوم اليقين بالفراغ فيما لو تنجّز التكليف بالقضاء سابقا كما لو كان يعلم مقدار الفائت ثمّ نسي لا مطلقا. وحينئذ ففتياهم بوجوب القضاء حتّى يعلم الفراغ صحيح ، لكون الشكّ حينئذ بعد تنجّز التكليف ، فلا بدّ من إحراز الفراغ. ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ العلم إنّما ينجّز ما دام موجودا ، فإذا انعدم انعدم تنجيزه ، فلا بدّ من إجراء البراءة مطلقا حيث يشكّ في الأقلّ والأكثر من الفوائت ، فافهم) (٣).

في حسن الاحتياط

نقل عن بعض الأخباريّين (٤) التشنيع على الاصوليّين من جهة عدم قولهم بحسن الاحتياط ، وليس الاصوليّون قائلين بعدم حسن الاحتياط ، بل لا منكر منهم لحسن الاحتياط حتّى إذا قامت حجّة على الترخيص ، لبقاء احتمال مخالفة تلك الحجّة للواقع.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٦٤ ، الباب ١١ من أبواب قضاء الصلوات.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٨ ، الباب ١٩ من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٢.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٤) انظر الفوائد الطوسية : ١٩٦ ـ ٢٢٠ ، والحدائق ١ : ٤٠ ـ ٥٠.

٣١١

نعم ، هذا الاحتمال مرفوع تعبّدا ، ولكنّه ليس بمرفوع وجدانا.

ولا يخفى أنّ حسن الاحتياط إنّما هو إذا لم يستلزم اختلال نظام البشر ، أمّا إذا استلزم ذلك ، فتارة يكون كلّ فرد من أفراد الاحتياط لهذا الشخص موجبا لاختلال النظام فلا ريب في مبغوضيّة هذا الاحتياط له.

وتارة لا يكون الاحتياط مخلّا كلّية لقلّة أعمال هذا الشخص ، فلا ريب في حسن الاحتياط له كلّية.

وتارة يكون الاحتياط التامّ في جميع أعماله إلى موته مخلّا بالنظام فلا ريب في قبحه حينئذ ، لكنّه يمكنه أن يبعّض في الاحتياط ، وله في التبعيض طريقان :

أحدهما : أن يحتاط في جميع أفعاله مدّة لا توجب الإخلال بالنظام ، مثلا يحتاط مدّة شهر ثمّ بعد الشهر لو احتاط يحصل الإخلال ، فهو يحتاط مدّة لا يحصل بها الإخلال ، ثمّ يتركه عند وصوله إلى حدّ الإخلال إلى آخر عمره فلا يحتاط.

الثاني : أن يحتاط ببعض أفعاله إلى آخر عمره ، إذ الاحتياط التامّ له مخلّ بالنظام لا الاحتياط ببعض الأفعال ، وحينئذ فهو يختار ما كان احتمال الإلزام فيه أقوى فيمتثله ويترك الاحتياط بما كان احتمال الإلزام فيه ضعيفا ، أو يختار الاحتياط مثلا بأموال الناس ويترك الاحتياط في الطهارة مثلا.

والظاهر من بعض الأخبار ـ في نهج البلاغة : قليل مدوم عليه خير من كثير مملول (١) ـ القائلة بأنّ الخير القليل إذا داوم عليه المكلّف خير من الخير الكثير الّذي لا مداومة عليه ترجيح الثاني من طرق الاحتياط ، وهو الاحتياط ببعض الأعمال إلى آخر عمره ، لا القسم الأوّل وهو الاحتياط بجميع أعماله مدّة من الزمن ثمّ يترك حيث يستلزم إخلالا بالنظام.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الحكمة : ٤٤٤ و ٢٧٨ ، ومعجم غرر الحكم : ٣٦٣.

٣١٢

ويقع الكلام في دوران الأمر بين المحذورين

قد ذكرنا أنّ التكليف تارة يدور بين الوجوب وغير الحرمة ، واخرى بين الحرمة وغير الوجوب ، وثالثة بين الوجوب والحرمة وهو المعبّر عنه بدوران الأمر بين المحذورين.

ولا يخفى أنّ محلّ كلامنا في ما إذا كان الاحتمال دائرا بين الوجوب والحرمة فقط ، وأمّا إذا احتمل غيرهما ، كما إذا احتمل الوجوب والحرمة والإباحة فلا إشكال في جريان البراءة فيه ، لعدم العلم بالإلزام ، فتجري أدلّة البراءة العقليّة والنقليّة ، إذ الإلزام غير معلوم ولا بيان به أيضا ولا مخالف حتّى من الأخباريّين ، لأنّهم يخالفون في الشبهة التحريميّة أو الوجوبيّة حيث يمكن الاحتياط لا مثل المقام.

كما أنّ محلّ الكلام ما إذا لم يكن العلم الإجمالي منحلّا من جهة أصل من الاصول يعيّن أحد الأمرين ، كما إذا كان الوجوب بحسب الحدوث معلوما ودار الأمر بين بقائه وبين حرمته فالاستصحاب القاضي ببقاء الوجوب موجب لانحلال العلم الإجمالي ، فهو خارج عن محلّ الكلام أيضا.

فمحلّ الكلام يقع في مقامين :

أحدهما : ما إذا كان الواجب والمحرّم توصّليين بمعنى كون الواجب توصّليّا والمحرّم توصّليّا.

والثاني : إذا كان أحدهما تعبّديّا أو كلاهما.

٣١٣

ويقع الكلام الآن في الأوّل وهو تارة يكون في واقعة واحدة ، واخرى يكون في واقعتين.

[دوران الأمر بين المحذورين في واقعة واحدة توصلية]

أمّا الكلام في الأوّل فهو مثل أنّه لا يعلم أنّه حلف على السفر أو على ترك السفر ففي هذا المقام الأقوال خمسة :

الأوّل : جريان البراءة عقلا ونقلا ، لأنّ وجوب السفر كحرمته غير معلوم ولا بيان فيه.

الثاني : تقديم جانب الحرمة ، لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.

الثالث : التخيير الشرعي.

الرابع : عدم الحكم الشرعي في المقام ـ لعدم شمول أدلّة الاصول للمقام ـ ولكنّ التخيير بين الفعل والترك عقلا واختاره الميرزا النائيني قدس‌سره (١).

الخامس : التخيير العقلي والحكم بالإباحة شرعا واختاره الآخوند قدس‌سره (٢).

قال الاستاذ الخوئي : والأقوى من هذه الأقوال الأوّل ، وهو جريان البراءة شرعا وعقلا.

ثمّ إنّ الأقوال الباقية لا بدّ من التعرّض لها فإذا بطلت تعيّن الأوّل.

فنقول : أمّا تقديم جانب الحرمة ؛ لكون ترك المفسدة أولى من جلب المصلحة ، فهذه القاعدة أيّ دليل دلّ عليها؟ وليست خبرا حتّى يتعبّد به ، ولا آية حتّى تكون حجّة علينا ، نعم هي عبارة مشهورة ولكن ربّ مشهور لا أصل له.

وثانيا : على تقدير التسليم إنّما يتمّ هذا إذا كانت المصلحة معلومة والمفسدة معلومة ودار الأمر بينهما ، أمّا إذا كانتا محتملتين فلا ؛ إذ لو دار الأمر بين الحرمة

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٣ : ٤٤٥.

(٢) كفاية الاصول : ٤٠٤.

٣١٤

والإباحة لا يعتنى باحتمال الحرمة مع أنّه احتمال مفسدة لا يعارضه احتمال مصلحة ، فكيف إذا انضمّ إلى احتمال المفسدة احتمال المصلحة؟ فعدم الاعتناء باحتمال المفسدة حينئذ أولى ، فتأمّل.

وأمّا القول بالتخيير الشرعي ، فإن اريد من التخيير الشرعي التخيير في المسألة الاصوليّة كما احتمل أن يكون هو المراد في الأخبار العلاجيّة أيضا ، بمعنى أنّ المجتهد يختار أحد الأمرين من الوجوب والحرمة فيفتي به ، فهو ـ مع أنّه لا دليل عليه أصلا لورود الأخبار العلاجيّة بالتخيير في تعارض الخبرين تعبّدا ـ تشريع محرّم وقول بغير علم ، إذ لو سئل ما مدركك في الحكم بالتخيير؟ لا يرى له حجّة يعتدّ بها.

وإن اريد من التخيير التخيير في مقام العمل فهو غير معقول ، لأنّ الشارع إنّما يبعث نحو شيء يمكن أن يفعل وأن يترك ليجعل الباعث نحو أحدهما ، أمّا ما لا بدّ من وقوعه فلا يعقل للشارع طلبه ، إذ هو تحصيل للحاصل ، والتخيير بين الفعل والترك في المقام لا بدّ منه ، إذ هو إمّا أن يفعل أو يترك.

وأمّا التخيير العقلي والحكم بالاباحة شرعا كما اختاره الآخوند قدس‌سره مستندا في الحكم بالإباحة شرعا إلى قوله : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه» (١) إذ لم يعرف في المقام المحرّم بعينه فهو حلال.

فلا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ محلّ الكلام في دوران الأمر بين المحذورين ، سواء كان في الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة وإن لم نطّلع على مثال له في الفقه في الشبهة الحكميّة ، وما ذكره من الدليل على الحكم بالإباحة ظاهرا خاصّ بالموضوعيّة بقرينة «بعينه».

وثانيا : أنّ جعل الحكم الظاهري مطلقا مشروط باحتمال موافقة الواقع ، إذ هو طريق إليه فلا بدّ من احتمال الإيصال فلا يمكن في المقام جعل الحكم ، إذ الحكم الظاهري مقطوع بعدمه في الواقع فلا يمكن الجعل الشرعي الظاهري أصلا.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ و ٤.

٣١٥

وأمّا الحكم بالتخيير العقلي فقط مع عدم الحكم شرعا كما اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره بتقريبين :

أحدهما : عدم تناول أدلّة جعل الاصول للمقام ، إذ لا أثر له فإنّ الفعل أو الترك لا بدّ أن يتحقّقا فلا أثر لجعل الاصول حينئذ ، إذ جعل الأصل لا بدّ أن يكون له أثر فإذا لم يكن له أثر استحال الجعل ، ولا أثر في المقام فإنّ إمكان الفعل والترك موجود وأحدهما واقع لا محالة.

الثاني : أنّ الرفع إنّما يمكن حيث يمكن الوضع ، إذ لو كان الوضع مستحيلا لم يكن معنى للرفع ، والوضع في المقام مستحيل ، إذ الاحتياط الإلزامي غير ممكن حتّى يضعه ، لدورانه بين المحذورين فيكون الرفع كذلك مستحيلا.

ولا يخفى عليك إمكان جريان البراءة النقلية وشمول أدلة جعلها للمقام ، وذلك أنّ مورد اجتماع دوران الأمر بين المحذورين قابل للجعل الشرعي ، فإنّ الشارع له أن يجعل الإلزام بالفعل في مثل المقام فيقول : إذا دار الأمر بين المحذورين فقدّم جانب الأمر ، إذ احتمال الوجوب أولى بالمراعاة. وكذلك يستطيع أن يجعل الالتزام بالترك فيقول : إذا دار الأمر بين المحذورين فقدّم جانب التحريم مثلا ؛ لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، وحديث الرفع إنّما يرفع كل حكم من غير أن يكون لرفع الثاني به دخل أصلا ، وحينئذ فالوجوب بخصوصه في مقام الدوران بين المحذورين غير معلوم فيشمله رفع ما لا يعلمون ، وكذلك التحريم بخصوصه أيضا غير معلوم فيشمله رفع ما لا يعلمون.

نعم ، في المقام مخالفة التزامية ، إذ نعلم نحن أنّ أحد هذين الأصلين غير مطابق للواقع فنعلم نحن حينئذ أنّه بترك كل منهما خالفنا مخالفة التزامية ، وسيأتي عدم إحرازها عن قريب إن شاء الله تعالى.

ومن هذا البيان ظهر إمكان جعل الاستصحاب في دوران الأمر بين المحذورين في الموضوع والحكم ، فمثل ما لو علم أنّه حلف إمّا على السفر أو على تركه

٣١٦

فيجرى استصحاب عدم الحلف على السفر واستصحاب عدم الحلف على تركه أيضا غايته المخالفة الالتزامية ، وقد ذكرنا أنّها غير قادحة ، كما يمكن استصحاب حكمه السابق أيضا.

نعم ، يبقى أنّ لنا علما بإلزام لم نعلم بخصوصيته ولكن مثل هذا العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا حيث يمكن الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، كأن يعلم أنّه إمّا حلف على فعل المطالعة أو على ترك الخروج إلى خارج البلد فهنا يمكنه أن يطالع ولا يخرج إلى خارج البلد فيحظى بالموافقة القطعية ، أو يترك المطالعة ويخرج إلى خارج البلد فيجزى بالمخالفة القطعية فهنا يكون العلم الإجمالي منجزا. أمّا مثل النقيضين إذا دار الأمر بينهما فلا معنى ، على أنّه يمكن تحصيل الموافقة الالتزامية بالالتزام بحكم الله الواقعي ولو إجمالا.

ومن هذا الكلام ظهر أنّ الوجه الثالث من وجوه المنع عن جعل الإباحة وهو أنّ الحكم الظاهري إنّما يجعل في مقام يكون فيه احتمال إصابة الواقع لا في مثل المقام مما يعلم أنّه لا يصيب الواقع أصلا ؛ لأنّ الإباحة قطعا ليس هو الحكم الواقعي واضح الدفع ، إذ إنّ هذا يرد على مثل الميرزا النائيني الّذي استند في الإباحة إلى الروايات (١) أمّا نحن فنستدل بحديث الرفع في كل واحد من الاحتمالين بخصوصه ، فالوجوب في نفسه غير معلوم فيرفعه حديث الرفع ، والتحريم في نفسه كذلك فيرفعه حديث الرفع ، والموافقة الالتزامية غير واجبة كما مرّ مضافا إلى إمكانها لتنجيز العلم الإجمالي حينئذ ، إذ الامتثال القطعي مستحيل والاحتمالي واقع قهرا.

الوجه الرابع من وجوه المنع دعوى تمامية البيان من قبل المولى وحصول العلم بنوع الإلزام ، وإنّما العجز عن الامتثال فلا تجري فيه أدلة البراءة ؛ لأنّ موردها الشكّ.

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٣ : ٤٤٥.

٣١٧

والجواب أنّ البيان التام هو ما كان فيه باعثية أو زاجرية ، والعلم بتكليف لا يكون باعثا ولا زاجرا لا أثر له ولا يكون بيانا أصلا.

ومن هنا ظهر جريان البراءة النقلية وفساد ما ذكره الآخوند (١) من تمامية البيان حينئذ ؛ إذ البيان التام ما كان قابلا لأن يكون باعثا أو زاجرا ، أمّا ما لا قابلية له للبعث أو الزجر فلا يكون بيانا ، فظهر أنّ قبح العقاب بلا بيان أيضا شامل للمقام فتأمّل حتّى تعرف أنّ دوران الأمر بين المحذورين الّذي جعلوه قسما ثالثا وجعلوه من الشكّ في المحصل هو من قبيل القسمين الأولين شكّ في التكليف ، وهو مجرى البراءة العقلية والنقلية وأثره إنّما هو عدم الالتزام بأحد الشقوق وهو الفعل بخصوصه ، أو الترك بخصوصه كما أنّه لو جعل الإلزام في المقام لكان أثره هو وجوب الالتزام بالفعل والترك.

الوجه الخامس ما ذكره بعض الأساطين (٢) من أنّ الترخيص محقّق قبل الشكّ من جهة الاضطرار إلى أحدهما الرافع حينئذ للتكليف والمثبت للترخيص فلا مجال حينئذ للبراءة.

والجواب أنّ الاضطرار إلى غير المعين لا يقتضي حلية كما سيأتي في مبحث العلم الإجمالي ، وإنّما يقتضي رفع الاحتياط بالنسبة إلى أحدهما.

ثمّ إنّه بناء على ما ذكرنا من جريان البراءة العقلية والنقلية لا يبقى مجال للكلام في أنّه إذا احتمل أهمية أحد الإلزامين بخصوصه على الآخر ذهب الآخوند قدس‌سره أنّه إنّما يحكم العقل بالتنجيز في صورة تساوي الاحتمالين وتساوي أهمية المحتملين ، أمّا إذا احتمل أهمية أحدهما أو كان أحد الاحتمالين أقوى فتبنى على قاعدة دوران الأمر بين التعيين والتخيير والحكم حينئذ بتقديم محتمل التعيين (٣).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٥.

(٢) انظر نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٢.

(٣) كفاية الاصول : ٤٠٦.

٣١٨

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره عدم ابتناء المقام لو قلنا بالتخيير على قاعدة دوران الأمر بين التعيين والتخيير لو احتمل أهمية أحدهما أو كان أحد الاحتمالين أقوى ، وذلك أنّ قولنا في دوران الأمر بين التعيين والتخيير إنّما نقول بإتيان محتمل التعيين فيه إنّما هو لدليل مفقود في المقام (١).

بيان ذلك أنّه لو ورد خطابان مثل : صلّ وأزل النجاسة عن المسجد وكان إطلاق الخطابين شاملا حتّى لصورة اجتماعهما ، فمثل خطاب : صلّ ، بإطلاقه يشمل حتّى صورة ورود خطاب : أزل ، وكذلك خطاب : أزل ، شامل حتّى لصورة وجود خطاب : صلّ ، فلو لم يحتمل أهمية أحد هذين الأمرين فلا بدّ من رفع اليد عن كلا الإطلاقين في المقام ؛ لاستحالة التكليف بالمحال وقبح الترجيح من غير مرجح فلا بد من سقوط كلا الإطلاقين.

أمّا لو علم أهمية أحدهما تفصيلا كما لو علم أهمية الإزالة فلا بدّ من رفع إطلاق خطاب المهم وبقاء إطلاق خطاب الأهم لوجود المرجح حينئذ ، ولو احتمل أهمية أحدهما كما إذا أراد إنقاذ غريقين لا يمكنه إلّا إنقاذ أحدهما واحتمل كون الغريق الّذي على يمينه نبي ولم يحتمل ذلك في الّذي على شماله ، فهنا دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، إذ يدور الأمر بين سقوط إطلاق كلا الخطابين لو لم يكن الّذي على يمينه نبيا ، بل كان مثل الّذي على شماله من سائر الناس ، وبين سقوط إطلاق خطاب الّذي على شماله ؛ لأنّ الّذي على يمينه نبي ، فسقوط إطلاق خطاب الغريق الّذي على شماله مقطوع ، وأمّا سقوط إطلاق خطاب إنقاذ الّذي على يمينه فغير معلوم ، وعند الشكّ في التقييد يتمسّك بالإطلاق ، فالحكم بتعيين محتمل التعيين إنّما هو من جهة هذه القاعدة المعلومة ومعلوم أنّه لا ربط لمقامنا بها ، إذ التكليف بخصوصه هنا غير معلوم حتّى يكون له إطلاق يشكّ في تقييده والتكليف هنا واحد ، فلا ربط لهذه المسألة بتلك ولا تكون من صغريات تلك الكبرى الكلية أصلا.

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٥٠ ـ ٤٥١.

٣١٩

إن قلت : إنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير لا يخصّ الأوامر والنواهي اللفظية ، بل يشمل المأمور به والمنهيّ عنه اللذين استفيدا من إجماع أو شبهه ، وعلى تقدير اختصاص دوران الأمر بين التعيين والتخيير بالأمر والنهي المستفادين من الأدلّة اللفظية ، فلا يخصّ خصوص ما إذا كان لهما إطلاق ، بل قد لا يكون للدليلين اللفظيين إطلاق ، فلعلّ المقام وهو دوران الأمر بين المحذورين من هذا القبيل.

قلت : ليس من هذا القبيل وذلك أنّ صورة كون الوجوب والتحريم مستفادين من إجماع أو دليل لا إطلاق له يدور الأمر فيهما بين التعيين والتخيير ، والقول بالاتيان بمحتمل التعيين حينئذ إنّما هو من جهة إحراز الملاك في كل من الإلزامين ، وإنّما المانع عدم القدرة على الإتيان بكلا الملاكين فلو احتمل حينئذ أهمية أحد الملاكين فهو مجز قطعا في مقام الامتثال ، إذ الملاك فيه إمّا مساو لملاك الآخر أو أرجح من ملاك الآخر فهو مجز قطعا ، بخلاف الإتيان بالثاني فإنّه لا قطع بالإجزاء بالنسبة إليه لو أتى به لاحتمال كون الآخر أهم ، ولا يجزي عقلا الإتيان بالمهم عند التمكّن من الإتيان بالأهم ، وليس المقام من هذا القبيل إذ لا إحراز فيه إلّا لأحد الإلزامين فلا إحراز إلّا لأحد الملاكين ، إلّا أنّا نعلم أنّه على تقدير كون الملاك ملاكا للوجوب هو مقدّم وأقوى من ملاك التحريم مثلا ، فافهم.

هذا كله فيما إذا كان دوران الأمر بين المحذورين في واقعة واحدة شخصية وكانتا توصليّتين.

[دوران الأمر بين المحذورين في التعبديّات]

أمّا لو كانا أو أحدهما تعبديا أو كان الدوران في واقعتين فالآن نتكلم عنهما :

أمّا إذا كانا أو أحدهما تعبديا مثل المرأة في أيام الاستظهار حيث لا يجري الاستصحاب ، فإنها يدور أمرها بين كونها طاهرة فتجب عليها الصلاة أو حائضا فتحرم عليها الصلاة بناء على حرمتها الذاتية حال الحيض ، ففي مثل هذا المقام

٣٢٠