غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

الشبهة الرابعة : أنّ المجعول أصالة هو قاعدة الفراغ من العمل بأسره ، ثمّ إنّ الشارع ألحق الخروج ـ الفراغ ـ من الجزء بالفراغ من العمل كلّية فيكون حاكما على مفهوم قاعدة الفراغ من لزوم الاعتناء بالشكّ قبل الفراغ من العمل كلّية ، وحينئذ فلو جعلنا قاعدتي الفراغ والتجاوز قاعدتين قد دلّ على كلّ منهما دليل غير الدليل الدالّ على الآخر لا يلزم محذور ، لحكومة أدلّة قاعدة التجاوز وتوسعتها للفراغ بنحو يشمل الفراغ من الجزء أيضا. وهذا بخلاف ما إذا جعلناها قاعدة واحدة ، فإنّه يلزم التنافي في كلّ واحد من أدلّتها.

بيان ذلك : أنّك لو شككت في الركوع مثلا بعد التجاوز عنه فبموجب أنّه لم يفرغ من العمل يقتضي أن يعتني بشكّه ، وبموجب أنّه مضى محلّه يقتضي أن لا يعتني بشكّه ، وحيث إنّ الدليل واحد فلا يحكم على نفسه فيقع التنافي. وهذا الوجه هو الّذي اعتمد عليه الميرزا النائيني قدس‌سره في عدّهما قاعدتين (١).

ولا يخفى أنّه لو كان عندنا شكّ واحد لكان كلامه متينا إلّا أنّه في الحقيقة لنا شكّان : أحدهما في إتيان الركوع وعدمه ، وثانيهما في صحّة الأجزاء الّتي نأتي بها الآن ولم نجزها ، وحيث إنّ أحدهما ـ وهو الثاني ـ مسبّب عن الأوّل ـ لأنّ الشكّ في صحّة هذه الأجزاء مسبّب عن ترك الركوع وعدمه إذ ليس مطلق السجود مطلوبا وإنّما المطلوب السجود بعد الركوع ـ فبجريان الحكم الشرعي بإمضاء العمل يرتفع الشكّ في الثاني فيصحّ العمل ولا تنافي أصلا.

وقد ظهر بما ذكرنا أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة بموجب الروايات العامّة وأنّه لا وجه لعدها قاعدتين أصلا ، ودعوى : حكومة أدلّة التجاوز على مفهوم قاعدة الفراغ ، لا مقتضي لها بل هي بما أنّها مختصّة بصورة التجاوز أخصّ ، فتكون مخصّصة للمفهوم ، لأنّ الخاصّ يقدّم على العموم

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ٢١٣.

٧٠١

هذا ، لكنّ موثّقة ابن أبي يعفور بظاهرها أو أحد احتماليها تقتضي الاعتناء بالشكّ في أثناء العمل بمقتضى مفهومها وهي قوله عليه‌السلام : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» (١). بناء على إرجاع ضمير «غيره» إلى الوضوء ، فيكون مفهومها إذا شككت في شيء من الوضوء ولم تدخل في غير الوضوء فاعتن بشكّك. ثمّ بموجب قوله : إنّما الشكّ ... ، الخ أنّها قاعدة عامّة غير مختصّة بموردها ، فحينئذ تكون قاعدة كلّية تقتضي بعمومها لزوم الاعتناء في الشكّ في الشيء إذا لم يخرج منه ، فتكون مؤيّدة لما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من أنّ المجعول بالذات هو قاعدة الفراغ وأنّ قاعدة التجاوز مجعولة في الصلاة بلسان الحكومة وجعل الفراغ من الجزء بمنزلة الفراغ من أصل العمل كما تقدّم (٢).

ولكن في هذه الرواية جهتان :

الاولى : لزوم الخروج عن هذه القاعدة الكلّية في خصوص الصلاة من جهة صحيحة إسماعيل بن جابر (٣) وصحيحة زرارة (٤) وحينئذ فيدور الأمر بين كونها مقيّدة بهاتين الصحيحتين أو أنّها تبقى على إطلاقها وسيأتي الكلام في ذلك.

الثانية : أنّ في هذه الرواية احتمالا آخر مساويا للاحتمال الأوّل وهو جعل الضمير في «غيره» راجعا إلى الجزء المشكوك ، فيكون معنى الرواية إذا شككت في شيء من الوضوء ودخلت في غير ذلك الشيء المشكوك فيه فشكك ليس بشيء ، وحينئذ فتكون دالّة على ما قلنا من أنّ قاعدة التجاوز والفراغ قاعدة واحدة غاية الأمر أنّها غير معمول بها في موردها وهو الوضوء ، إلّا أنّ عدم العمل بها

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ٢١٤.

(٣) الوسائل ٤ : ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

(٤) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل والواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.

٧٠٢

في موردها لورود روايات معارضة تقتضي لزوم الاعتناء ، لكنّ ورود الروايات لا تقتضي أن لا يكون هذا احتمالا مساويا للأوّل.

وقد تلخّص من ذلك أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة مقتضاها عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء عند الفراغ منه وتجاوزه قاعدة كلّية (*).

غاية الأمر خروج الطهارات ، الوضوء بالروايات ، والغسل والتيمّم بالإجماع ، هذا تمام الكلام في أنّها قاعدة واحدة أو قاعدتان.

__________________

(*) هذا ما اختاره أستاذنا آية الله الخوئي قدس‌سره في الدورة السابقة وكان مصرّا على وحدة القاعدتين ثبوتا وإثباتا ، كما أنّا وإن وافقناه على الأوّل وهو مرحلة الثبوت إلّا أنّا قد كنّا مصرّين على تعدّد القاعدة إثباتا وأنّ المجعول في قاعدة الفراغ الصحّة عند الشكّ فيها ، وفي قاعدة التجاوز الوجود عند الشكّ فيه فهما قاعدتان لا واحدة.

وقد وافقنا أيّده الله في هذه الدورة الثانية على أنّ المفهوم من النصوص بحسب ظهورها هو تعدّد القاعدة وأنّ المجعول في بعض النصوص وهو ظاهر الموثّقة : «كلّ شيء شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو» ـ المصدر السابق ـ وقوله عليه‌السلام : «ما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو» ـ الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦ ـ ممّا ظاهره كون المشكوك فيه بنفسه ماضيا المستلزم لوجوده خارجا فلا بدّ من كون الشكّ في صحّته. وحينئذ فالمجعول فيه الصحّة ليس إلّا ، وإرادة تجاوز المحلّ فيه خلاف الظاهر ، كما أنّ تطبيق صحيح زرارة : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» ـ الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل ـ. وصحيحة إسماعيل : «كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» ـ الوسائل ٤ : ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤ ـ فتطبيق هاتين الكلّيتين على الأمثلة الّتي قد ذكرها الراوي من الشكّ في التكبير وقد قرأ وفي القراءة وقد ركع ، وفي الركوع وقد سجد لا يمكن إلّا بإرادة الخروج عن محلّ الشيء والتجاوز عن محلّه أيضا ، فيكون المجعول فيها هو الوجود للجزء المشكوك تحقّقه ، فافهم. (الجواهري).

٧٠٣

بقي الكلام في عموم قاعدة التجاوز كقاعدة الفراغ أم أنّها خاصّة بخصوص الصلاة ، وقد كان الكلام في تعدّد القاعدة واتّحادها مقدّمة له.

فنقول : أمّا بناء على ما اخترناه سابقا من أنّها قاعدة واحدة فظاهر عمومها في أنّ كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد مضى فلا يعتنى بالشكّ فيه ، سواء كان من العبادات أو المعاملات بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ.

وأمّا بناء على أنّهما قاعدتان كما اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وقوّيناه أخيرا فما يتمسك به في إثبات العموم وعدمه الروايتان المتقدّمتان وهما صحيحتا إسماعيل بن جابر وزرارة ، فإنّ صحيحة إسماعيل قد تضمّنت «كلّ» بقوله : «كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» وصحيحة زرارة ذات إطلاق بقوله : «إذا شككت في شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء».

وربّما يقال بعدم إفادتهما العموم أمّا الاولى فلما بنى الآخوند عليه من عدم إمكان استفادة عموم مدخول «كلّ» إذا لم تجر فيه مقدّمات الحكمة (٢) ، وفي المقام الشيء الّذي هو مدخول «كلّ» لا تجري فيه المقدّمات لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وبهذا يورد على الثانية ، فإنّ الإطلاق إنّما يتمّ إذا لم يكن ثمّة قدر متيقّن في مقام التخاطب وعليه فلا الإطلاق في المقام موجود لوجود القدر المتيقّن ، ولا عموم في مدخول «كلّ» لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب وهو خصوص الأجزاء الصلاتيّة.

ولا يخفى أنّا قد قدّمنا أنّ مدخول «كلّ» بنفسه يفيد العموم ولا حاجة إلى جريان مقدّمات الحكمة وقد قدّمنا ذلك في مبحث العموم والخصوص فلا نعيده.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١١ ، لكنّه قال أخيرا : فإنّ اتّحاد التعبير في موارد الأخبار الواردة في موارد التجاوز عن الأجزاء والفراغ عن العمل يكاد يوجب القطع بوحدة القاعدة المجعولة راجع المصدر : ٢١٥.

(٢) كفاية الاصول : ٢٥٥.

٧٠٤

كما ذكرنا أيضا أنّه لا يضرّ في التمسّك بالإطلاق وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وإلّا لم يمكن التمسّك بالإطلاق إلّا في نادر من الموارد ، فإنّه قلّما يوجد إطلاق ليس فيه قدر متيقّن في مقام التخاطب ، فلو اشترطنا ذلك لزم إلغاء جميع الإطلاقات عن الاستدلال بإطلاقها. نعم إذا كان ينصرف إلى بعض الأفراد انصرافا غير بدوي كانصراف الحيوان إلى غير الإنسان في قوله عليه‌السلام ما مضمونه : الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه باطلة (١) ، فهذا لا يمكن التمسّك فيه بالإطلاق ، لأنّ الانصراف قرينة مانعة عن التمسّك بإطلاق الخبر. وقد ظهر أنّه بناء على كونهما قاعدتين أيضا يتمسّك بعمومهما وإطلاقهما وليس ثمّ مانع عن ذلك أصلا ، نعم يبقى خروج الطهارات من قاعدة التجاوز بالدليل المخصّص.

هذا تمام الكلام في عموم القاعدتين.

المسألة الثانية : في اعتبار الدخول في الغير وعدمه ، ويقع الكلام تارة في الشكّ في الوجود واخرى في الشكّ في الصحّة ، وليكن التعبير عن الشكّ في أصل الوجود بقاعدة التجاوز وعن الشكّ في الصحّة بقاعدة الفراغ ، أمّا اعتبار الدخول في الغير في الأوّل ـ يعني في قاعدة التجاوز بالمعنى المذكور ـ فأمر مفروغ عنه (لأخذ الدخول في الغير في صريح الصحيحتين اللتين هما مستند قاعدة التجاوز وهما صحيحتا زرارة وإسماعيل ، مضافا إلى عدم صدق التجاوز والخروج بدون الدخول في الغير) (٢).

نعم ، في الشكّ في الصحّة المعبّر عنها بقاعدة الفراغ بعد صدق المضيّ يقع الكلام في اعتبار الدخول في الغير وعدمه فنقول (*) :

__________________

(١) انظر الوسائل ٣ : ٢٥٠ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(*) لا يخفى أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بناء على وحدة قاعدة التجاوز والفراغ وأنّ الأخبار فيهما قد عبّرا بشيء واحد ، أمّا بناء على تعدّد القاعدتين فلا يتمّ لعدم المقيّد في أخبار قاعدة الفراغ كلّية إلّا أنّ هذا مبنيّ على رأيه في الدورة السابقة ، فافهم. (الجواهري).

٧٠٥

إنّ بعض الروايات اعتبرت الدخول في (١) الغير بصريح لفظها وبعضها (٢) لم تعتبره فيدور الأمر بين القول بأنّ العبرة بالأخبار المطلقة الغير المقيّدة بالدخول في الغير ويكون التقييد في بقيّة الأخبار منزّلا على الغالب من كون الفراغ من شيء مستلزما غالبا للدخول في الغير فيكون ذكر القيد غير موجب للتقييد لكونه منزّلا على الغالب فهو نظير التقييد في قوله : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)(٣) فلا يكون مقيّدا أصلا وبين أن نقول بالتقييد ونرفع اليد عن الإطلاق (*).

__________________

(١) كصحيحة إسماعيل بن جابر راجع الوسائل ٤ : ٩٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣ ، وصحيحة زرارة ، راجع الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.

(٢) كموثّقة محمّد بن مسلم ، راجع الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٣) النساء : ٢٣.

(*) وربّما يقال : إنّ موثّقة ابن أبي يعفور واردة في مورد قاعدة الفراغ وقد اعتبرت الدخول في غير الوضوء في إلغاء الشكّ في الصحّة ، إلّا أنّه لا يخفى أنّها لا تصلح لتقييد المطلقات أوّلا : لإجمالها في مرجع الضمير ، وثانيا : أنّها إنّما اعتبرت الدخول في الغير لتحقّق عنوان التجاوز بقرينة ذيلها المعلّق للحكم على عنوان التجاوز ، وثالثا : أنّ الغير لمّا كان مطلقا كان ملازما للفراغ فإنّ السكوت بعد الوضوء من أفراده ، ورابعا : أنّها خاصّة في خصوص الوضوء فيبقى غيره على مقتضى الإطلاق ، كما أنّ ما في صحيح زرارة من قوله : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال اخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه ... الخبر» ـ الوسائل ١ : ٣٣٠ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل ـ لا يصلح للتقييد ، لأنّ المفهوم منه إرادة بيان ما قابل الشكّ حال الوضوء المذكور في الحديث فكلّها كناية عن الفراغ ليس إلّا. (من إضافات الدورة الثانية).

٧٠٦

فيقع الكلام في الترجيح وقد رجّح بعضهم (١) اعتبار الدخول في الغير لعدم إحراز الإطلاق في المطلقات ، لا لحملها على المقيّد لعدم التنافي بينهما حتّى يحمل أحدهما على الآخر ، لإمكان كون ذكر المقيّد بما أنّه فرد للمطلق ، ولا مفهوم له أيضا حتّى يحمل على المقيّد ، وإنّما اعتبروا الدخول في الغير لعدم قابليّة للمطلق بحسب زعمهم ووجه عدم قابليّة ، للإطلاق وجوه :

الأوّل : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره وملخّصه : أنّ الماهية الّتي تكون بالنسبة إلى أفرادها من قبيل المشكّك لا يكون فيها إطلاق حتّى يتمسّك به كما قدّمنا ذلك في مثل حيوان فهو لا إطلاق له بحيث يشمل الإنسان كما تقدّم ، فالميرزا يزعم أنّ مقامنا من هذا القبيل بدعوى أنّ صورة الشكّ بعد الدخول في الغير أظهر دخولا تحت المضيّ المأخوذ في الروايات من صورة الشكّ قبل الدخول في الغير ، وحينئذ فلا إطلاق حتّى يتمسّك به.

والجواب : أنّ التشكيك له صورتان :

إحداهما : أن يكون دخول بعض الأفراد تحت الطبيعة أظهر من دخول البعض الآخر بعد اشتراكها في الظهور وإنّما الاختلاف في مراتبه.

الثانية : أن يكون الأفراد بعضها ظاهرة الدخول وبعضها خفيّة الدخول تحت الطبيعة فلا ظهور لها ، وما لا يمكن التمسّك فيه بالإطلاق هو الثاني ، ومقامنا من قبيل الأوّل وهو ممّا يمكن التمسّك فيه بالإطلاق ، ضرورة أنّ الدخول في الغير أظهر في صدق المضيّ من مجرّد الفراغ ، مع صدق المضيّ وظهوره في الجميع ، فهي مشتركة في الظهور وإن اختلفت في مراتبه ، وإلّا فلو كان مجرّد الأظهريّة مانعا لكان المضيّ وخروج الوقت أظهر من المضيّ قبل خروجه.

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٣٣٤.

٧٠٧

الثاني : من وجوه عدم الإطلاق وجود القدر المتيقّن وهو مانع عن التمسّك بالإطلاق. وهذا الوجه ذكره الآخوند قدس‌سره (١).

ولا يخفى ما فيه ، أمّا أوّلا : فوجود القدر المتيقّن غير مانع عن التمسّك بالإطلاق.

وأمّا ثانيا : فلأنّ هذا القدر المتيقن ليس في مقام التخاطب ، وإنّما هو قدر متيقّن في الحكم.

وأمّا ثالثا : فلأنّ عندنا عموما به يتمسّك ، ومع العموم المستفاد عمومه من الوضع وهو مدخول «كلّ» فلو لم يكن إطلاق فالعموم يكفي ، ولا حاجة في إثبات العموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول أصلا.

فتلخّص أنّ الإطلاق لا رافع له أصلا فنكتفي بمطلق الفراغ في الشكّ في الصحّة ، نعم لا بدّ من تغاير الحالتين حالة الشكّ وحالة الاشتغال بالمشكوك وبه يتحقّق معنى الفراغ.

بقي الكلام في أنّه حيث يعتبر الدخول في الغير كما إذا كان الشكّ في الوجود ، هل يعتبر الدخول في غير خاصّ من كونه مترتّبا على المشكوك فيه أم لا يعتبر كونه مترتّبا بل يكتفى بمطلق الغير؟

فنقول : مقتضى إطلاق الروايات من قوله : «إذا شككت في شيء ودخلت في غيره» الاكتفاء بمطلق الدخول في الغير ، سواء كان ذلك الغير مترتّبا على المشكوك فيه أم لم يكن مترتّبا بل كان أمرا اتّفاقيّا ، ويؤيّد ما ذكرنا الرواية المتقدّمة الذكر وهي موثّقة ابن أبي يعفور وهي قوله : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» (٢). فإنّها ظاهرة في اتّحاد المراد من صدر الرواية وعجزها وهو أن يكون الدخول في الغير ممّا يحقّق عنوان التجاوز ليس إلّا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٨٧ ـ ٢٨٩.

(٢) الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٧٠٨

وبالجملة ، الإطلاقات المذكورة في المقام قويّة جدّا ولا مقيّد لها إلّا ما يتوهّم من رواية زرارة المتضمّنة للشكّ في الوضوء حيث يقول فيها ما مضمونه : وإن شككت بعد ما دخلت في غيره من صلاة أو غيرها (١). الظاهر بحسب مفهومه كون المدخول فيه صلاة أو غيرها ممّا هو مترتّب عليها فيكون مقيّدا للإطلاقات ، ولكنّ هذه الرواية لا تصلح أن تكون مقيّدة لامور :

الأوّل : أنّ دلالتها بحسب المفهوم وفي صدرها مفهوم آخر ، فإنّ صدرها بمضمونه يدلّ مفهوما على عدم الاعتناء بالشكّ في الوضوء بعد الفراغ ، لحصره الاعتناء بكونه قاعدا على وضوئه ، فيكون بين المفهوم الأوّل والثاني تدافع ، فإذا كان الكلام مسوقا لإفادة الصدر يرتفع ظهور العجز في المفهوم.

الثاني : أنّا لو أغمضنا النظر عن كون الكلام مسوقا لإفادة الصدر يقع التعارض بين المفهومين ، ولكنّ الترجيح للصدر لتأيّده بالإطلاق أوّلا ، وبكونها أمارة على كون المكلّف آتيا بالمشكوك ، لأنّ كونه في مقام الامتثال قاض بحسب الارتكاز النوعي لإتيانه بالمشكوك فيه ، وهذا المقدار وهو مطلق الفراغ كاف في تحقيق هذا المعنى والظنّ النوعي ، ولا يحتاج إلى الدخول في أمر مترتّب على المشكوك فيه.

الثالث : أنّ المفهوم الثاني معرض عنه غير مفتى على طبقه ، فإنّا لم نجد من المعروفين بالفتوى من يفتي ببطلان الطهارة إذا شكّ فيها بعد الفراغ عنها بمدّة ساعتين ولم يدخل في أمر مترتّب عليها.

الرابع : أنّ هذه الرواية خاصّة بموردها ولا عموم لها فيختصّ ما ذكر فيها بخصوص الوضوء ، مضافا إلى أنّ فيها من صلاة أو غيرها فالغير لا يختصّ بالمترتّب أصلا ، وحينئذ فالتعبير بالصلاة إنّما هو من باب الغلبة في كون الإنسان بعد الوضوء يصلّي لا لخصوصيّة في الصلاة.

__________________

(١) المصدر السابق : الحديث الأوّل.

٧٠٩

فتلخّص أنّ الدخول في مطلق الغير كاف ولا حاجة إلى كونه مترتّبا على المشكوك أصلا ، ومن هنا كان الشكّ في التكبير قبل القراءة معتنى به والشكّ في صحّته قبل القراءة غير معتنى به لصدق المضيّ في صورة الشكّ في الصحّة لتحقّقه ، بخلاف صورة الشكّ في الوجود فإنّ التجاوز غير متحقّق عنها للشكّ في تحقّقها ، ولا عن محلّها لفرض بقاء المحل ، فافهم وتأمّل.

المسألة الثالثة : في أنّ الذي يتحقّق به عنوان التجاوز هو الدخول في مطلق الجزء أو الجزء المستقلّ أو مطلق الغير وإن كان من مقدّمات الأجزاء ، ذهب بعضهم (١) إلى كفاية مطلق الدخول في جزء آخر وإن كان جزء جزء ، فلو شكّ في الآية الاولى من الحمد وهو في الثانية تجري قاعدة التجاوز ، وكذا في نفس الآية الواحدة لو كان في آخرها وشكّ في أوّلها بل والكلمة الواحدة كذلك ، كلّ ذلك لتحقّق التجاوز في الجميع.

ولكنّ الإنصاف عدم صدق التجاوز عرفا لو شكّ في الآية الواحدة إذا كان آخرها مرتبطا بأوّلها فضلا عن الكلمة الواحدة ، لأنّ صدق التجاوز حقيقة لا يقتضي صدق التجاوز عرفا ، فإنّ الشكّ لو كان في آخر الآية في أنّه هل قرأها من أوّلها أو أنّه شرع في آخرها لا يصدق عليه أنّه شكّ في شيء وقد جاوزه ، بل يعدّه لم يتجاوزه ، هذا في الآية الواحدة المرتبطة فضلا عن الكلمة الواحدة ، نعم نفس السورة الواحدة لو شكّ وهو في آخرها في أنّه قرأها من أوّلها أم لا؟ تجري قاعدة التجاوز لصدق التجاوز عرفا فيه.

وذهب بعضهم إلى لزوم الدخول في جزء مستقلّ بالعنوان فلا بدّ من الدخول في أمر ذي عنوان مستقلّ يغاير عنوان المشكوك فيه ، وإليه ذهب الشهيد الثاني (٢)

__________________

(١) انظر الجواهر ١٢ : ٣١٢ ـ ٣١٦.

(٢) انظر المسالك ١ : ٢٩٣.

٧١٠

وتبعه عليه الميرزا النائيني (١) وجماعة (٢) مستدلّين بالرواية المتضمّنة للشكّ في الركوع بعد ما سجد ، وفي السجود بعد ما قام وفي القراءة بعد ما ركع مدّعيا للظهور في التحديد ، وأنّه لو كان ثمّة صورة اخرى لذكرها.

ولكنّ الظاهر عدم اعتبار ذلك وذكر الأمثلة لا يقتضي التخصيص بها بعد ما ذكر الكلّية فيها ، ووجود القدر المتيقّن لا يمنع من التمسّك بالإطلاق ، وعلى تقدير المنع كما ادّعاه الآخوند (٣) فإنّما يمنع من التمسّك بالإطلاق ، وفي المقام عموم وضعي وهو مدخول «كل» ولا يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول كما مرّ ذكره ، وحينئذ فلا ينبغي التوقّف في كفاية الدخول في جزء بعد صدق التجاوز عن المشكوك أي عن محلّه.

ويدلّ على ذلك أنّ الميرزا نفسه ذكر من شكّ في الحمد وهو في السورة وحكم بعدم الاعتناء (٤) والرواية وإن كانت ظاهرة في التحديد إلّا أنّها فرضت الشكّ في القراءة كلّية ومعلوم عدم صدق التجاوز إلّا بالدخول في الركوع. فتلخّص أنّه لا بدّ من الدخول في الغير وصدق عنوان التجاوز عرفا معا.

(ومن هنا يظهر الكلام في الجزء المستحبّ كالقنوت بناء على ما ذكره المتأخّرون من استحالة الجزء المستحبّ في الواجب ، للزوم ملاحظة الطبيعة عند الأمر بها مقيّدة به أو مطلقة فهو إمّا واجب أو ليس بجزء للطبيعة ، وإنّ ما يتراءى جزئيّته لا بدّ من أن يكون المراد به مستحبّا نفسيّا ظرفه الصلاة ، وحينئذ فإن شكّ في القراءة وقد قنت فإنّه لم يتجاوز لعدم اعتبار سبق القراءة على القنوت ، نعم اعتبر في القنوت

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٦ ، وفرائد الاصول ٤ : ٦٣٤.

(٢) انظر فرائد الاصول ٣ : ٣٣٣ ، ونهاية الأفكار ٤ : ٥٣.

(٣) كفاية الاصول : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٤) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٩.

٧١١

لحوقه للقراءة وأحدهما غير الآخر ، وحينئذ فلا بدّ من الاعتناء بشكّه وتجديد قراءته بمقتضى القاعدة لعدم التجاوز عن المحل بناء عليه ، وإن لم أجد أحدا أفتى بذلك في العروة وحواشيها ، فتأمّل جيّدا وافهم. ومنه يعلم الكلام فيما لو شكّ في التكبير وهو في الاستعاذة) (١).

المسألة الرابعة : وهي أنّه هل يكتفى بالدخول في مقدّمات الجزء أم لا بدّ من الدخول في الجزء نفسه؟ الظاهر اعتبار الدخول في الجزء نفسه وعدم كفاية الدخول في مقدّماته كالهويّ إلى السجود والنهوض إلى القيام لعدم صدق التجاوز عرفا حينئذ ، مضافا إلى وجود رواية تدلّ على أنّ من شكّ في السجود قبل أن يستوي قائما أنّه يسجد (٢).

وما يقال : من أنّ هناك رواية تدلّ على أنّ من شكّ في الركوع وقد أهوى إلى السجود لا يعتني بشكّه (٣) ومن ثمّ ذهب صاحب المدارك إلى التفصيل فحكم بعدم الاعتناء في الشكّ في الركوع حال الهوي والاعتناء في الشكّ في السجود حال النهوض (٤) فمدفوع بأنّ الرواية الدالّة على عدم الاعتناء وإن كانت صحيحة إلّا أنّها لا تدلّ على أنّه كان حال الهويّ شاكّا بل قوله : «وقد أهوى إلى السجود» ظاهر في أنّه دخل في السجود ولا أقل من الإجمال.

لا يقال : إنّ الرواية قد تضمّنت الشكّ في القراءة بعد ما ركع وهي تدلّ على لزوم الاعتناء لو شكّ في القراءة بعد ما قنت ، فلا بدّ من رفع اليد عن هذه الرواية.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٢) الوسائل ٤ : ٩٧٢ ، الباب ١٥ من أبواب السجود ، الحديث ٦.

(٣) الوسائل ٤ : ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٦.

(٤) المدارك ٤ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

٧١٢

فإنّه يقال : إنّ ظاهر الرواية كون الكلام في الشكّ في الركعة الاولى ، لأنّ فيها الشكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر ثمّ ذكر بقيّة الشكوك ، وحيث لا قنوت فيها ولا تشهّد لم يتعرّض لذكرهما (١).

هذا ، وربّما يقال : إنّ رواية «وقد أهوى» لا بدّ من الخروج عن ظاهرها ، لأنّ القيام بعد الركوع واجب فهو قد تجاوز واجبا قطعا بتجاوزه القيام المتّصل بالركوع ، ولكنّه وهم وغفلة فإنّ الشكّ في الركوع ملازم للشكّ في تحقّق القيام بعد الركوع ، إذ الظاهر أنّ شكّه في الركوع معناه أنّه يحتمل كون قيامه الّذي أهوى منه قياما قبل الركوع ، فلا تغفل وافهم. (وحينئذ فلا بدّ من الاعتناء لعدم إحراز التجاوز مع هذا الاحتمال عن محلّ الركوع ، وتقتضيه النصوص الخاصّة أيضا ، ففي صحيح عمران الحلبي قال : «قلت : الرجل يشكّ وهو قائم فلا يدري أركع أم لا؟ قال عليه‌السلام : فليركع» (٢).

وأمّا إذا قام عن انحناء الركوع وشكّ في أنّ ركوعه كان صحيحا لوصوله إلى حدّه أم لا ، بمعنى أحرز كون قيامه قياما بعد الركوع فلا ريب في جريان قاعدة التجاوز ، لأنّ القيام بعد الركوع الّذي دخل فيه واجب آخر أيضا ، وتقتضيه صحيحة الفضيل بن يسار قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : استتم قائما فلا أدري ركعت أم لا؟ قال عليه‌السلام : بلى قد ركعت فامض في صلاتك فإنّما ذلك من الشيطان ... الخبر» (٣).

فما نقله صاحب الحدائق (٤) عن العلّامة (٥) والشهيدين (٦) من احتمال لزوم الاعتناء بالشكّ في هذه الصورة أيضا استنادا إلى إطلاق صحيحة عمران الحلبي ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ٤ : ٩٣٥ ، الباب ١٢ من أبواب الركوع ، الحديث الأوّل.

(٣) الوسائل ٤ : ٩٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

(٤) الحدائق ٩ : ١٨٥.

(٥) نهاية الأحكام ١ : ٥٣٩.

(٦) انظر اللمعة وشرحها ١ : ٦٩٨ ، والروض ٢ : ٩٢٧.

٧١٣

ليس كما ينبغي لما عرفت من أنّها أجنبيّة عن المقام ، فإنّ ظاهرها الشكّ في أنّ قيامه قيام قبل الركوع أم قيام بعد الركوع) (١).

ثمّ إنّه قد أشكل صاحب الحدائق قدس‌سره (٢) على صاحب المدارك تفريقه بين الشكّ في الركوع وهو في الهويّ فلا يعتني وبين شكّه في السجود وهو في حال النهوض فيعتني بشكّه (٣) بأنّه إن كانت المقدّمات كافية في صدق المضيّ فلا موجب للتفريق والحكم بالاعتناء في الشكّ في السجود حال النهوض ، وإن لم تكن صادقة فلا موجب للتفريق أيضا والحكم بعدم الاعتناء في الشكّ في الركوع حال الهويّ.

ولا يخفى أنّ ما ذكره صاحب الحدائق لا وجه له أصلا ، فإنّه لا ملازمة عقلا بين الأمرين بعد فرض صدور الخبر الموجب للاعتناء في الأوّل وعدم الاعتناء في الثاني ، والمسألة تعبّدية لا عقليّة ، ولكنّ الإنصاف أنّ الرواية (٤) الّتي استند إليها صاحب المدارك في عدم الاعتناء بالشكّ وقد أهوى لا تدلّ على عدم الاعتناء إذا كان في الهويّ كما ذكرنا بل إذا دخل في السجود ، لقوله : وقد أهوى ، وهو غير : وهو يهوي ، بحسب الدلالة.

وقد زعم الميرزا النائيني قدس‌سره دلالة الرواية (٥) على ما ذهب إليه في المدارك إلّا أنّه زعم أنّ دلالتها بالإطلاق فيقيّد بمفهوم رواية إسماعيل بن جابر الدالّة على عدم الاعتناء إذا دخل في السجود (٦) فتدلّ على الاعتناء قبل ذلك بمفهومها ، لأنّها في مقام التحديد.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٢) الحدائق ٩ : ١٧٨.

(٣) المدارك ٤ : ٢٥٠.

(٤) الوسائل ٤ : ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٦.

(٥) انظر أجود التقريرات ٤ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٦) الوسائل ٤ : ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

٧١٤

وأنت خبير بأنّ رواية إسماعيل بن جابر لا مفهوم لها ، لأنّه فرض السؤال هكذا : شكّ في الركوع بعد ما سجد ، وحينئذ فعلى تقدير دلالة الرواية على ما ذهب إليه صاحب المدارك بالإطلاق لا محيص عن الالتزام بمؤدّاها لعدم صلاحيّة ما ذكر مقيّدا للتقييد.

وقد نقل صاحب الحدائق عن العلّامة والشهيدين (١) كما ذكره في مورد آخر واختاره فيما لو قام عن انحناء بقصد القيام من الركوع ثمّ شكّ في أنّ انحناءه كان بنحو انحناء الراكع أم لا أنّه يعتني بشكّه ويأتي بالركوع نصّا وفتوى ، والظاهر عدم الاعتناء بهذا الشكّ ، لأنّ القيام إذا كان بعنوان أنّه قيام بعد الركوع فهو من الأجزاء الواجبة ، فقد تجاوز محلّ الركوع ومضى ، مضافا إلى ورود رواية بخصوص المقام وهي صحيحة الفضيل (٢). والظاهر أنّ ما ذكره في الحدائق من دلالة النصّ على ذلك اشتباه في التطبيق في من كان قائما وشكّ في أنّه ركع وقام أم لم يركع وهو بعد في قيامه ، والفتوى إن كانت في ذلك وإلّا فلم نتحقّقها.

المسألة الخامسة : لو شكّ في التسليم فهل تجري قاعدة التجاوز أو الفراغ فيه أم لا تجريان أم أنّ هناك تفصيلا في المقام؟ ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) إلى جريان قاعدة الفراغ في جميع الصور من غير تفصيل بدعوى صدق المضيّ بمضيّ معظم الأجزاء.

(كما ذكر بعضهم (٤) جريان قاعدة الفراغ بدعوى كفاية الفراغ الاعتقادي ، فمن اعتقد فراغه من الصلاة تجري في حقّه فلا يعتني باحتمال ترك التسليم.

__________________

(١) انظر الحدائق ٩ : ١٧٩ ـ ١٨٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٩٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

(٣) انظر فرائد الاصول ٤ : ٦٢٨ ـ ٦٢٩.

(٤) لم نعثر عليه.

٧١٥

وأنت خبير بأنّ المضيّ في النصوص يراد به المضيّ عن نفس العمل حقيقة ولا مضيّ في مفروض المقام ، إذ المفروض أنّ محلّ التسليم باق إذ لم يأت بالمنافي كالحدث والاستدبار.

ودعوى : إرادة المضيّ الاعتقادي أو البنائي ، خلاف ظاهر النصوص. ثمّ إنّ هذا الكلام كلّه مبنيّ على فساد الصلاة بترك التسليم سهوا. وأمّا إذا قلنا بعدم الفساد لعدم كون التسليم ركنا فالظاهر صحّة الصلاة حينئذ حتّى إذا احرز ترك التسليم سهوا فضلا عن صورة الشكّ) (١).

والإنصاف التفصيل بين قاعدة الفراغ فلا تجري لعدم إحراز الفراغ ، وأمّا قاعدة التجاوز فلمّا اعتبر فيها عنوان التجاوز عن محلّ المشكوك بحيث لا يمكن تداركه ، فيفصّل بين ما إذا كان مشتغلا بأمر غير مناف وغير مترتّب على الصلاة المشكوك في تحقّق تسليمها فيعتني بشكّه ، وبين ما إذا كان مشتغلا بأمر مناف أو تحقّق منه المنافي أو كان مشتغلا في أمر مستحبّ أو واجب مترتّب على الصلاة بحيث اعتبر تقدّم الصلاة عليه كصلاة الاحتياط وأشباهها.

والفرق أنّه في الصورة الاولى لا يصدق مضيّ الصلاة ، إذ المفروض أنّه لم يشتغل بالمنافي فلعلّه قد اشتغل بالمطالعة مثلا قبل الفراغ من الصلاة ، فلا بدّ من أن يعتني بشكّه إذ هو لم يحرز الفراغ فلعلّه قد أتى بها في الصلاة لنسيانه السلام.

ودعوى : أنّه يصدق المضيّ بذهاب معظم الأجزاء ، دعوى عهدتها على مدّعيها ، إذ الأجزاء الماضية غير مشكوك فيها أصلا والمشكوك لم يحرز مضيّه أصلا. نعم إذا اشتغل بأمر مترتّب عليها ، كأن شرع في إقامة صلاة اخرى مترتّبة عليها ثمّ شكّ أو اشتغل بأمر آخر مترتّب عليها فيصدق المضيّ حينئذ ، وكذا إذا أتى بمناف كالاستدبار والحدث فقد فات محلّ السلام ومضى. نعم إذا كان المنافي

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٧١٦

إنّما يكون منافيا إذا صدر عمدا كالكلام مثلا ، فالاشتغال به لا يوجب صدق عنوان التجاوز إلّا إذا تعمّد ، والمفروض أنّه يحتمل نسيان السلام فيكون كلامه حينئذ سهويّا فلا يضرّ صدوره في أثناء الصلاة فلا يتحقّق عنوان التجاوز حينئذ ، فافهم.

بقي الكلام في المسألة السادسة ، وهي جريان قاعدة الفراغ عند الغفلة وعدمه.

فنقول : إنّ المكلّف تارة يحرز الغفلة حين العمل كمن دخل الخزانة للغسل وكان غافلا عن خاتمة ، فلمّا خرج شكّ في دخول الماء تحت الخاتم قهرا من جهة غلبة الماء عليه وعدمه ، وفي مثل هذا وأشباهه لا تجري فيه قاعدة الفراغ لما ذكرنا من أنّها أمارة من باب الظنّ النوعي في كون المكلّف العالم بترتيب العمل لا يأتي بالجزء اللاحق إلّا بعد الإتيان بالجزء السابق ، ومعلوم أنّ هذه لا يجري في صورة إحراز الغفلة ، إذ حينئذ ليس ملتفتا إلى الخاتم حتّى يكون كونه في مقام الامتثال كاشفا نوعيّا عن تحريكه خاتمه.

وكذا لو كان جاهلا بشيء يحتمل حاجبيّته مثلا ويحتمل أن يكون قد وصل الماء تحته لغلبة الماء ونفوذه مثلا. وما ذكره الميرزا من جريان قاعدة الفراغ وأنّ الأذكريّة حكمة لا علّة (١) لم يعلم وجهه بعد بنائه على الأماريّة ، والظاهر أنّه مناقضة. هذا كلّه فيما لو أحرز المكلّف الغفلة.

(وربّما يقال : إنّ قاعدة الفراغ تجري حتّى في صورة إحراز الغفلة أيضا استنادا إلى رواية الحسين بن أبي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال عليه‌السلام : حوّله من مكانه ، وقال : في الوضوء تديره فإن نسيت حتّى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة» (٢). ورواه ابن بابويه مرسلا

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٤ : ٦٥٠.

(٢) الوسائل ١ : ٣٢٩ ، الباب ٤١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٧١٧

بتغيير يسير (١). ولا يخفى أنّها لا تصلح لذلك ، إذ ليس في الرواية : تحريكه حتّى يدخل الماء تحته ، فيحتمل كون التحريك والتحويل مستحبّا نفسيّا لا مقدّمة لوصول الماء ، فتأمّل وافهم) (٢).

أمّا لو احتمل الالتفات حين العمل واحتمل الغفلة أيضا فهنا صور :

الاولى : أن يكون عالما بما أمر به تفصيلا ولكنّه يشكّ في أنّ ما أتى به في الخارج مطابقا للمأمور به أم لا ، وهذا هو القدر المتيقّن من الموارد الّتي تجري فيها قاعدة الفراغ.

الثانية : أن يشكّ في أنّ ما أتى به الّذي هو الصلاة بلا سورة كان عن تقليد صحيح أو باطل أو أنّه كان عن تقليد أو لم يكن عن تقليد بل كان عملا بغير تقليد ، وهذا يعود إلى السابق حقيقة ، لأنّه شكّ في كون العمل وأنّ ما أتى به كان عن أمر ظاهري أو لم يكن فتجري فيه القاعدة ، لأنّه شكّ في كون ما أتى به المكلّف مع احتمال الصحّة.

الثالثة : أن يحرز ما أتى به لكنّه يشكّ من ناحية الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة ، كمن صلّى إلى هذه الجهة قطعا ثمّ شكّ بعد الفراغ في كونها هي جهة القبلة أو أنّها عكس القبلة مثلا ، أو توضّأ بماء الورد ثمّ شكّ في جواز الوضوء بماء الورد من ناحية الحكم ، وهذان ممّا يكون فيهما صورة العمل محفوظة ويشكّ في انطباق المأمور به عليه وعدمه ، والظاهر عدم جريان قاعدة الفراغ فيهما لما ذكرنا من كونها حجّة وأمارة حيث يكون المكلّف شاكّا من حيث تطبيق عمله على المأمور به وعدمه وليس المقام منه. وبعبارة اخرى إنّما تجري قاعدة الفراغ حيث يشكّ في صورة العمل ، أمّا حيث تكون صورة العمل محفوظة فلا تجري لعدم تحقّق الأذكريّة حينئذ ، فافهم.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٥١ ، الحديث ١٠٧.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

٧١٨

المسألة السابعة : في أنّ قاعدة الفراغ إنّما تجري حيث يكون وجود الأمر محقّقا ويشكّ في كون العمل المأتيّ به مطابقا أم لا ، وأمّا حيث يشكّ في توجّه الأمر بالعمل حينه فلا تجري قاعدة الفراغ حينئذ. ومن هنا فصّل السيّد اليزدي في عروته فيمن صلّى ثمّ شكّ في كون صلاته في الوقت أم لا بين من كان عند شكّه قاطعا بدخول الوقت ، ومن كان بعد شاكّا أيضا فحكم بصحّة صلاة الأوّل ، لأنّه حينئذ قاطع بدخول الوقت فهو قاطع بوجود الأمر ، لكنّه يشكّ في تقدّم العمل على الأمر وتأخّره عنه فيكون شكّه في مقام الامتثال بعد تحقّق الأمر ، وحكم بفساد صلاة الثاني معلّلا بأنّه ليس له الدخول فعلا في الصلاة فكيف تجري قاعدة الفراغ (١)؟ فإنّ مقصوده أنّ المقام لم يحرز فيه الأمر وقاعدة الفراغ لا تحقّق الأمر حينئذ. وهذا بخلاف مثل من شكّ في كون صلاته الّتي كانت إلى هذا الطرف هل كانت إلى القبلة أم لا؟ فإنّ قاعدة الفراغ تجري لإحراز الأمر حينئذ وكون الشكّ في مقام الامتثال. فما ذكره بعض المحشّين من عدم الفرق بين المقامين (٢) ناشئ من عدم التأمّل.

هذا كله فيما لو شكّ بعد الفراغ. أمّا لو شكّ وهو في الصلاة في تحقّق كون صلاته إلى القبلة أم لا فلا تجري قاعدة الفراغ لعدمه ، ولا التجاوز ؛ لأنّ القبلة شرط فعلي أيضا ، كما سيأتي الكلام فيه في الشكّ في الشروط.

وأمّا الشكّ في الشروط فقد يكون الشرط مقوّما للعمل بحيث يفقد العمل بفقده كالقصد في الامور القصديّة كالركوع ، فلو شكّ في كون انحنائه كان بقصد الركوع أم بقصد أخذ شيء مثلا ، لا تجري قاعدة الفراغ لعدم إحراز الوجود. نعم تجري قاعدة التجاوز إذا كان شكّه بعد الدخول فيما يتحقّق به التجاوز ، أمّا قبله فلا بدّ من إعادة العمل لقاعدة الشغل.

__________________

(١) انظر العروة الوثقى ، فصل أحكام الأوقات ، المسألة ٧.

(٢) لم نعثر عليه.

٧١٩

نعم إذا لم يكن الشرط مقوّما فتارة يكون المشكوك فيه شرطا متقدّما كالإقامة على قول ، وكالطهارات بناء على أنّ الواجب فيها هو نفس الغسلات والمسحات لا أمرا آخر يسبّبه الغسلات والمسحات ، ولكن هذا المبنى فاسد ، فإنّ كون الغسلات والمسحات هي الواجبة أصالة وذاتا وإن كان هو ظاهر الأدلّة من الكتاب وجملة من السنة إلّا أنّ ظاهر قوله : «لا ينقض الطهارة رعاف ومذي ووذي وودي وشعر ... وغيرها» (١) في كون هذه الأشياء ناقضة للطهارة فلا بدّ من كونها أمرا مستمرّا إلى حين صدور هذه الأشياء ، إذ لا معنى لنقض نفس الغسلات المتصرّم وقتها. وحينئذ فالمثال هو الشكّ في الإقامة في أثناء الصلاة ، ولا ريب في جريان قاعدة الفراغ من نفس الإقامة لقوله : «كلّما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو ... الخ» (٢).

واخرى يكون شرطا مقارنا وهو على قسمين : إذ تارة يكون شرطا مقارنا للصلاة ، واخرى يكون شرطا مقارنا لأجزاء الصلاة ، والفرق بينهما يظهر في الآنات المتخلّلة بين الأجزاء. فإن كان شرطا لنفس العمل لأخلّ به كما في الطهارة والاستدبار ، وإن كان شرطا للأجزاء لم يضرّ انعدامه في الآنات المتخلّلة كما في الاستقرار ، فإنّه شرط للأجزاء لا لمجموع العمل ، ولذا لا يضرّ انعدامه في الآنات المتخلّلة.

فإن كان شرطا مقارنا لمجموع العمل فتارة يكون حين الشكّ واجدا لذلك الشرط ويشكّ في أنّه فيما قبل هذا الجزء من الآنات المتخلّلة والأجزاء الأخر

__________________

(١) هذا هو مضمون مضمرة زرارة ، يراجع التهذيب ١ : ٤٢١ ، الحديث ١٣٣٥ ، والوسائل ٢ : ١٠٠٦ ، الباب ٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢ وغيره.

(٢) انظر الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦ و ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣ مع تفاوت يسير.

٧٢٠