غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

المتقدّمة كان موجودا أم لا ، مثل من كان في السجود مستقبلا للقبلة بالوجدان ولكنّه يشكّ في أنّه حال القراءة والركوع والسجود المتقدّم هل كان مستقبلا أم صار استقباله بعد ذلك. وفي مثل هذا الفرض لا إشكال في جريان قاعدة الفراغ ـ التجاوز ـ بالنسبة إلى شرط الأجزاء الماضية والآنات المتخلّلة لصدق قوله : «كلّما شككت في شيء ممّا قد مضى فامضه كما هو» (١) فيكون الاستقبال الّذي هو شرط مجموع العمل بعضه محرز بالوجدان وبعضه محرز بالتعبّد.

وتارة يكون حين الشكّ أيضا شاكّا في حصول الشرط كمن شكّ في الاستقبال وهو في السجود وهو شاكّ في الاستقبال حتّى في ذلك الحال ، ومعلوم حينئذ عدم جريان قاعدة الفراغ ، لأنّه بالنسبة إلى الجزء الخالي لم يصدق المضيّ ولا تجاوز المحلّ أصلا ، فلا تجري قاعدة الفراغ ولا قاعدة التجاوز ، فلا بدّ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال أو استصحاب عدم الاستقبال لو كان له حالة سابقة ولا بدّ من إعادة الصلاة حينئذ.

ومن هنا يظهر الكلام في الفرع المعروف فيمن شكّ في الطهارة وهو في الصلاة وأنّه لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ لعدم الفراغ من الصلاة ، ولا التجاوز لعدم تجاوز محلّ الطهارة ، لأنّ الفرض أنّها شرط لمجموع العمل ، وبالنسبة إلى الأجزاء الخالية لا تجري قاعدة التجاوز والفراغ لعدم التجاوز والفراغ.

وربّما يقال : إنّ الشرط الّذي هو الطهارة وهو أمر انتزاعي أو مسبّب عن الأفعال الخاصّة من الغسلات والمسحات لمّا كان ناشئا من هذه الغسلات والمسحات فجريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى هذه الغسلات والمسحات يحقّقها تعبّدا فيترتّب مسبّبها حينئذ قهرا.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

٧٢١

ولكنّه فاسد ، لأنّ كون الغسلات والمسحات قبل الصلاة إنّما هو عقلي فهو محلّ عقلي لها ، وقد ذكرنا أنّ التجاوز والمضيّ إنّما هو بتجاوز محلّه الشرعي لا العقلي ، وفي المقام المحلّ عقلي ، لأنّ اعتبار كون أوّل أجزاء العمل مصحوبا بالطهارة ملازم عقلا لكون الأفعال قبل الصلاة ولا يمكن المقارنة عقلا إلّا بذلك.

وربّما يقال : إنّ المحلّ المتجاوز أعمّ من المحلّ الشرعي أو العادي أو العقلي ، لأنّ قوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (١). فيه عموم ، والعبرة بعمومه فإنّ عمومه يقتضي أنّ الإنسان في مقام الامتثال لا يشرع في العمل إلّا بعد إحراز شرطه ، والعبرة بهذا العموم ، وهذا العموم يقتضي أن يعمّم المحلّ للعقلي والعادي والشرعي لا أن يخصّ بالشرعي.

ولكنّه فاسد أيضا ، فإنّ عموم الأذكريّة إنّما هو بالنسبة إلى ما يعتبر في نفس العمل لا في مقدّماته العقليّة. وفي المقام الأذكريّة إنّما تنفع في نفس الطهارة المسبّبة ولا يصدق التجاوز والفراغ بالإضافة إليها ، وبالنسبة إلى الغسلات والمسحات الّتي هي مقدّمات عقليّة ليست الأذكرية عامّة لها أصلا ، فافهم.

هذا كلّه حيث يكون الشرط المشكوك فيه شرطا لمجموع العمل.

أمّا لو كان الشرط المشكوك فيه شرطا للأجزاء فقط كالطمأنينة مثلا ؛ فتارة يشكّ في الطمأنينة في أمر متقدّم مثلا هو في السجود ويشكّ في الطمأنينة في الركوع فهنا لا ريب في جريان قاعدة التجاوز والفراغ ، لأنّ الشكّ في صحّة الفعل المتقدّم فيدخل تحت الكبرى الكلّية وهي : «كلّما شككت في شيء ممّا قد مضى فامضه كما هو».

وتارة يشكّ في الطمأنينة في نفس السجود مثلا وفي مثله لا يجري قاعدة الفراغ ولا التجاوز ، لعدم صدق المضيّ حينئذ لبقاء المحلّ وعدم الفراغ من العمل ، وكذا لو شكّ في الطمأنينة وهو في الآن المتخلّل بين الجزءين ، هذا تمام الكلام في الشكّ في الشرائط.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣٢ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٧٢٢

بقي الكلام في المسألة الثامنة في الموالاة والنيّة ، أمّا لو شكّ في الموالاة فتارة يكون الشكّ في الموالاة بين الأجزاء ، واخرى يكون الشكّ في أجزاء العمل الواحد كالشكّ في الموالاة بين أجزاء القراءة أو الكلمة الواحدة ، فإن كان الشكّ في الموالاة بين الأجزاء كما إذا شكّ في الموالاة بين القراءة والركوع وهو في السجود ، وفي مثله لا ريب في جريان قاعدة الفراغ لصدق الشكّ فيما قد مضى. وإن شكّ في الموالاة بين الركوع والسجود وهو بعد لم يدخل في السجود فهنا لا تجري قاعدة الفراغ لعدم تحقّق المضيّ ، لأنّ الموالاة شرط في كلّ من الركوع والسجود ، لأنّ الموالاة بينهما من الامور الإضافيّة ، فهو بإضافته إلى الركوع والسجود شرط كما لا يصدق التجاوز بالنسبة إلى السجود فلا تجري قاعدة التجاوز أيضا.

نعم ، لا بأس بجريان استصحاب عدم تحقّق الفصل الطويل ، لأنّه أمر حادث مسبوق بالعدم فيستصحب ذلك العدم السابق ، لأنّ الموالاة عبارة عن عدم الفصل ، فافهم.

وأمّا لو شكّ في الموالاة بين أجزاء الجزء كما إذا شكّ في الموالاة بين أجزاء الآية الواحدة أو الكلمة الواحدة فحيث إنّ الموالاة فيها محقّق لماهيّتها ، لأنّه مع الفصل بين «الحمد» و «لله» بنصف ساعة لا يصدق قراءة الفاتحة ، وكذا لو فصل بين «ال» و «حمد» بخمس دقائق مثلا فلا يقال عرفا إنّه قراءة ، فالموالاة في مثل ذلك شرط عقلي محقّق لماهيّة القراءة ، فإن شكّ في تحقّق الموالاة في الآية السابقة على الآية الفعليّة فلا ريب في جريان قاعدة الفراغ لرجوع الشكّ حينئذ إلى صحّة الموجود ، وإن شكّ في تحقّق الموالاة في الآية الّتي في يده فلا تجري قاعدة الفراغ ولا التجاوز لعدم صدق المضيّ والتجاوز حينئذ. كما لا مجال للتمسّك باستصحاب عدم الفصل هنا ، لأنّه مثبت لتحقّق العنوان الوجودي المطلوب شرعا وهو القراءة مثلا.

وأمّا الشكّ في النيّة فله معنيان ، إذ النيّة قد تطلق ويراد بها القربة ، وقد تطلق ويراد بها قصد العمل ، فأمّا لو شكّ في أنّ تكبيره هل كان مقرونا بالقربة أم لا؟

٧٢٣

فهنا تجري قاعدة الفراغ والتجاوز ، سواء شرع في القراءة أم لا ، لأنّ الشكّ في صحّة السابق من العمل فيصدق : «كلّما شككت في شيء ممّا قد مضى» (١) فتجري قاعدة التجاوز ، لأنّ الشكّ في الصحّة ومناطه الفراغ من العمل كما قدّمنا ذلك.

وأمّا لو شكّ في أنّ تكبيره هل كان بقصد الإحرام أم لا؟ وهو النيّة بالمعنى الثاني فحيث إنّ النيّة بمعنى القصد أمر محقّق لنفس العمل ، وليس أمر معتبرا شرعا فيها كالقربة على ما اخترناه وكالموالاة بين الركوع والسجود ، فهنا الشكّ في القصد شكّ في نفس التكبير ، فإن شكّ وقد أحرز أنّه بقراءته قصد فريضة الظهر وفي أثنائها شكّ في قصد الظهر بالتكبير أم قصد مطلق الذكر ، فهنا تجري قاعدة التجاوز لصدق الشكّ في شيء ممّا قد مضى. أمّا لو شكّ فيما قصد بالتكبير وهو بعد لم يقرأ. أو قرأ وشكّ فيما قصد بالقراءة أيضا فهنا لا تجري قاعدة التجاوز ولا الفراغ ، لأنّ الشكّ بعد في التحقّق ولم يتجاوز محلّه لتجري القاعدة.

هذا ملخّص ما ينبغي أن يذكر في قاعدة الفراغ والتجاوز وهناك بقيّة نشير إليها فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة : في أنّ قاعدة الفراغ هل تجري حيث يحتمل كون الفساد منشأه الترك العمدي أم لا تجري؟ مثلا إذا شكّ بعد الفراغ في أنّه أتى بالسورة في الصلاة أم لم يأت بها واحتمل أنّ تركها قد كان عمديّا على تقديره ، ربّما يقال بجريان قاعدة الفراغ استنادا إلى عموم قوله : «كلّما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو» (٢) وإلى إطلاق قوله : «إذا شككت في شيء ممّا قد مضى ...» (٣) فإنّ ترك السورة عمدا أمر قد مضى وشكّ فيه.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٢) انظر الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

(٣) انظر الوسائل ٥ : ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

٧٢٤

ولكنّ الظاهر عدم جريان قاعدة الفراغ لأنّها أمارة كما قرّرنا تفيد نوعا كون المكلّف لا يأتي بجزء إلّا بعد إتيان ما تقدّمه من الأجزاء ارتكازا ، فلا تجري في الترك العمدي ، مضافا إلى وجود المقيّد والمخصّص مثل قوله له : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (١). وقوله : «هو حين يصلّي أقرب إلى الحقّ» (٢). ممّا يعطي اختصاصها بغير صورة الترك العمدي ، وهذا بحسب الظاهر واضح.

ولا يتوهّم أنّه مورد فإنّها ظاهرة في تعليل الحكم بعدم الاعتناء بذلك فلا تجري قاعدة الفراغ بل لا بدّ من إعادة الصلاة لأصالة الاشتغال ، نعم لو خرج الوقت لا يجب القضاء لعدم إحراز موضوعه وهو الفوت ؛ لأنّه بأمر جديد.

نعم لو علم أنّه ترك السورة عمدا وشكّ في أنّه كان مقلّدا لمن لا يرى وجوبها أم لا وأنّه تركها تمرّدا؟ الظاهر جريان قاعدة الفراغ حينئذ ، لأنّه يشكّ في الصلاة من جهة اقترانها بالتقليد وعدمه فهو شكّ في شرط صحّة الصلاة ، ولا يتوهّم أنّه ممّا كان صورة العمل فيه محفوظة فإنّ الاقتران بالتقليد مشكوك.

المسألة العاشرة : والكلام فيها يقع في جهتين :

الاولى : في جريان قاعدة التجاوز في الغسل والتيمّم بعد الفراغ عن عدم جريانها في الوضوء.

الثانية : أنّ عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء هل يخصّ مورد النصّ وهو الشكّ في الوجود أم يعمّ الشكّ في صحّة الموجود؟

أمّا الكلام في الجهة الاولى : فقد ادّعى صاحب الجواهر قدس‌سره قلّة المتعرّض لمسألة جريان قاعدة التجاوز في التيمّم والغسل ، وقال : إنّ القواعد تقتضي الجريان لمكان العموم وكون المخصّص واردا في خصوص الوضوء فيبقى غيره على القاعدة (٣).

__________________

(١) انظر الوسائل ١ : ٣٣٢ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٢) انظر الوسائل ٥ : ٣٤٢ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٣) الجواهر ٢ : ٣٥٥.

٧٢٥

وقد ذكر الشيخ الأنصاري كلام المتعرّضين لذلك وادّعى الشهرة على عدم الجريان في الوضوء والغسل والتيمّم (١).

ولا يخفى أنّ الشهرة غير ثابتة وعلى تقدير ثبوتها فليست حجّة ، فلا بدّ من ذكر مدرك المسألة فنقول : قد ذكر لعدم جريان قاعدة التجاوز في الغسل والتيمّم وجهان :

أحدهما : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره وملخّصه : أنّ قاعدة التجاوز لا عموم لها لمباينتها لقاعدة الفراغ واختصاص أدلّتها بخصوص الصلاة ، فهي لا عموم لها حتّى نحتاج إلى مخصّص مخرج للتيمّم والغسل ، بل عدم جريان قاعدة التجاوز فيهما مقتضى أصالة الشغل الّتي لم يدلّ دليل على الخروج عنها في غير الصلاة حال التشاغل في العمل ، والأخبار الواردة في الوضوء جارية على مقتضى القاعدة وليست مخصّصة لقاعدة التجاوز (٢).

ولا يخفى ما في هذا الوجه ، فإنّ قاعدة التجاوز هي قاعدة الفراغ ، وقد ذكرنا اتّحادهما ، وعلى تقدير التغاير فالعموم فيهما معا موجود فإنّ قوله : «كلّما مضى من صلاتك وطهورك» (٣) شامل لهما.

الثاني : أنّ التيمّم والغسل قد اعتبره الشارع عملا واحدا نظير الكلمة الواحدة ، فكما لا تجري قاعدة التجاوز في الكلمة الواحدة عند الشكّ في الحرف الأوّل منها لعدم صدق التجاوز عرفا كذلك لا تجري هنا.

ولا يخفى أنّ هذا يحتاج إلى تصريح من الشارع بأنّه قد اعتبر التيمّم والغسل كالكلمة الواحدة ، وإلّا فالعرف الّذي يصرّح بعدم صدق التجاوز في الكلمة يصرّح بصدق التجاوز لو شكّ في غسل الرأس وهو مشغول بغسل الجانب الأيسر.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٣٨.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ٢١٧.

(٣) انظر الوسائل ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

٧٢٦

ودعوى : كون الأثر المترتّب واحد وهو الطهارة ، وهو كاشف عن كون العمل أيضا واحدا لاستحالة صدور الواحد إلّا من الواحد.

يدفعها أوّلا : أنّه يقتضي أن لا تجري قاعدة الفراغ في عمل من الأعمال لوحدة الأثر المترتّب عليها ، وثانيا : أنّ وحدة الأثر كاشف عن الارتباط بين أجزاء العمل لا عن كونه واحدا.

فالظاهر أنّ الحقّ ـ كما اختاره صاحب الجواهر قدس‌سره ـ جريان قاعدة التجاوز في التيمّم والغسل ، لوجود العموم وعدم المخصّص فيها.

وأمّا الجهة الثانية : وهي أنّ عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء عامّ كان المشكوك فيه الوجود أو كان المشكوك فيه صحّة الموجود ، أو أنّ عدم الجريان في خصوص الشكّ في الوجود؟ قولان ، مال إلى الثاني صاحب الجواهر قدس‌سره بدعوى أنّ عموم قاعدة التجاوز محكّم لا يخرج عنه إلّا بالمخصّص ، والمخصّص إنّما ورد في الشكّ في الوجود ، كما إذا شكّ في غسل الوجه وهو في غسل اليد اليمنى ، أو شكّ في شيء مما سمّى الله وهو بعد لم يفرغ ، ولم يرد فيما لو علم أنّه غسل وجهه لكن شكّ في أنّ غسل الوجه كان من الأعلى إلى الأسفل أو كان من الأسفل إلى الأعلى فهنا عموم قاعدة التجاوز لا مخصّص له (١).

ولا يخفى ضعفه ، فإنّ الشكّ في الصحّة شكّ في وجود الصحيح ، فهو شكّ في شيء ممّا سمّى الله وشكّ في غسل الوجه المأمور به فيخرج بذلك المخصّص ولا يحتاج الى مخصّص آخر ، فظهر أنّ عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء بموجب النصّ المخصّص محكّمة كان الشكّ في الوجود أم كان في الصحّة (*).

__________________

(١) انظر الجواهر ٢ : ٣٥٥ ـ ٣٥٧.

(*) لا يخفى على الناظر أنّ أغلب ما هو مذكور في هذه التقريرات إنّما هو على رأي أستاذنا في دورته السابقة من وحدة القاعدتين ، أمّا بناء على ما عدل إليه في هذه الدورة من تعدّد القاعدتين فقد قوّى ما ذكره صاحب الجواهر قدس‌سره من جريان قاعدة الفراغ في

٧٢٧

في أصالة الصحّة

أصالة الصحّة (*) في الجملة ممّا لا ريب في حجّيتها عندنا إمّا للإجماع أو للسيرة أو غيرهما ، وإنّما يقع الكلام فيها في امور :

الأوّل : في مدركها ، ولا يخفى أنّ الصحّة بمعنى الحسن في قبال القبيح قد دلّت عليها من الأدلّة ما لا يحصى ، فمن الكتاب قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(١) فإنّها مفسّرة بحمل عملهم على الحسن ، وكذا قوله : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(٢). ومن الأخبار قوله : «احمل فعل أخيك

__________________

ـ أجزاء الوضوء حيث يكون الشكّ في صحّته وفساده لا في وجوده وعدمه لعموم قوله : «كلّ شيء شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» فهو شامل للأجزاء كالكلّ.

وربّما يقال : إنّ موثّقة ابن أبي يعفور قيّدت قاعدة الفراغ في أجزاء الوضوء حيث قال فيها : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» بناء على رجوع ضمير «غيره» إلى الوضوء.

وفيه أوّلا : أنّها مجملة لو لم ندّع ظهور رجوع ضمير غيره إلى الجزء المشكوك فيه ، وثانيا : أنّها في مقام بيان عدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ وأنّه قبل الفراغ محلّ للاعتناء في الجملة فلا إطلاق فيه من هذه الناحية ، وثالثا : أنّا لو سلّمنا الدلالة فهي بالإطلاق فالتعارض بينهما بالعموم من وجه ، ولا بدّ من تقديم قاعدة الفراغ لأنّ دلالتها بالعموم الوضعي بخلاف دلالة الموثّقة فإنّه بالإطلاق وكفى بالعموم بيانا فافهم.

(*) في هامش الصفحة ٢٤ من نسخة الأصل وردت هذه العبارة من دون إشارة إلى موضعها : وتقدّمها على استصحاب عدم ترتّب الأثر إمّا لأنّها مسبوقة باستصحاب عدم ترتّب الأثر في جميع مواردها. فلو قدّمت أصالة الفساد لم تبق مورد لأصالة الصحّة و....

(١) البقرة : ٨٣.

(٢) الحجرات : ١٢.

٧٢٨

على أحسنه» (١) وقوله : «إذا شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولا وقال لم أقله فصدّقه وكذّبهم» (٢) وغيرها من الأخبار الكثيرة (٣).

ولا يخفى أنّ الصحّة بهذا المعنى إنّما يجب الحمل عليها في المسلم المؤمن فلا تجري في الكافر والمخالف ، لأنّه في أقبح من عمله فلا تجري في حقّه لزوم حمل فعله على الحسن.

ولا يخفى أنّ الصحّة بهذا المعنى ليست محلّ كلامنا ، فإنّ كلامنا في الصحّة الوضعيّة لا التكليفيّة. فالكلام في الصحّة الوضعيّة بمعنى الصحّة في المعاملات بالمعنى الأعمّ ، وفي العبادات حيث يكون لها أثر وضعي كما في من رأى شخصا يصلّي صلاة الجنازة فشكّ في صحّة صلاته ، فلولا أصالة الصحّة لوجب عليه الصلاة على الجنازة ، لأنّ وجوبها على الجميع كفائي.

فالكلام في الصحّة بهذا المعنى ، ولا مستند لها إلّا الإجماع المدّعى. ولا يخفى أنّ الإجماع بحيث يستكشف منه رأي المعصوم لم يتحقّق ، فلا يجدي اتّفاق جماعة لا ملازمة بين قولهم ورأيه عليه‌السلام. نعم يدلّ على أصالة الصحّة بالمعنى المذكور السيرة العمليّة فإنّها جارية على ترتيب آثار الصحيح على عمل الغير ، وهذه السيرة العمليّة كافية في إثبات حجّيتها.

ويمكن أن يستدلّ عليها بما في ذيل الرواية الدالّة على حجّية اليد بقوله : «لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» (٤). فإنّه لو لا إجراء أصالة الصحّة أيضا

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٦١٣ ، الباب ١٦١ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل ٨ : ٦٠٨ ، الباب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٤.

(٣) الوسائل ٨ : ٦٠٨ ، الباب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٧ ، و ٦١٣ ، الباب ١٦١ ، الحديث ١ و ٢ ، و ٥٦٣ ، الباب ١٣٠ ، الحديث ٥ ، و ٥٤٤ ، الباب ١٢٢ ، الحديث ٨ و ١٠ ، و ٦١١ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ٢ ، وبحار الأنوار ١٠ : ١٠٠ من حديث الأربعمائة وغيرها من الأخبار.

(٤) الوسائل ١٨ : ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٢.

٧٢٩

لاختلّت سوق المسلمين واضطرب نظامهم ، فإنّ معناه أنّ كلّ إنسان يشتري شيئا يلزمه أن يعلم أنّ ملك البائع كان بشراء صحيح أم لا ، وهذا أمر عسر.

وقد استدلّ على أصالة الصحّة المحقّق الكركي بقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) وبقوله : (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٢)(٣) بتقريب أنّ جميع المخاطبين يجب عليهم الوفاء بعقد المتبايعين بمعنى أنّه يجب على الجميع ترتيب آثار العقد عليه.

ولا يخفى أنّ الاستدلال بهذه الآيات ـ مع أنّه لا يجدي ، لأنّه أخصّ من المدّعى فإنّ المدّعى حجّية أصالة الصحّة في جميع العقود والإيقاعات والمعاملات بالمعنى الأعمّ ، مثل غسل الثوب وشبهه ، وأنّ معنى الوفاء بالعقد إنّما هو إنهاؤه وإكماله وهو لا يتحقّق إلّا من المتعاقدين ـ مبنيّ على جواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة ، فإنّ الّذي يجب الوفاء به هو العقد الصحيح ، والشكّ في تحقّقه فإنّ المفروض الشكّ في الصحّة ولا يتكفّل الحكم لبيان موضوعه ولتحقّقه في الخارج.

الثاني : في الفرق بين أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ أنّ أصالة الصحّة إنّما تجري في فعل الغير وقاعدة الفراغ في فعل نفس المكلّف ، وأنّ قاعدة الفراغ إنّما تجري بعد الفراغ من العمل المشكوك فيه ، وأصالة الصحّة تجري حتّى في أثناء العمل ، وإذا عبّر في عمل نفس الإنسان بأصالة الصحّة فالمراد قاعدة الفراغ.

الثالث : أنّ المراد من الصحّة في المقام الصحّة الواقعيّة لا الصحّة عند نفس المكلّف. وربّما نسب إلى المحقّق القمي قدس‌سره كون المراد الصحّة عند نفس الفاعل (٤). ولا يخفى أنّه لا يجدي شيئا بالإضافة إلى نفس المكلّف الثاني الّذي يجري أصالة الصحّة ،

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) النساء : ٢٩.

(٣) انظر جامع المقاصد ٥ : ١٦٢.

(٤) انظر القوانين ١ : ٥١ ، وجامع الشتات ٤ : ٣٧١ ـ ٣٧٢.

٧٣٠

لأنّ مقصوده في صلاة الميّت مثلا رفع التكليف عن نفسه ولا يرتفع بالصحّة عند الفاعل دون المجري. نعم لو اريد من الصحّة الحسن في قبال القبيح كان لكلام المحقّق القمّي وجه ، ولكن قد عرفت أنّه خارج عن محلّ الكلام.

الرابع : أنّ أصالة الصحّة في عمل الغير هل تجري في عمل كلّ مؤمن أم يشترط في جريانها أمر آخر؟ وتحقيق الكلام أن يقال : إنّ الشاكّ في صحّة عمل إنسان إمّا أن يعلم أنّ العامل لهذا العمل المشكوك صحّته جاهل بشروطه وأجزائه ، أو جاهل بالموضوع ولكنّه يحتمل بحسب الصدفة أن يكون قد أتى بجميع ما يعتبر فيه ، أو أنّه أخذ من اللحم المذكّى صدفة في الجهل بالموضوع ، سواء كان الجهل معذورا فيه أم لم يكن معذورا كالشبهة البدويّة ، ومثل هذا العامل لا يمكن إجراء أصالة الصحّة في عمله ، لعدم استقرار السيرة القطعيّة على إجراء أصالة الصحّة في حقّ الجاهل بالحكم أو الموضوع ، ولا إطلاق كي يتمسّك به في دخول مثل هذا فيه ، بل ظاهر تعليلات الفقهاء ب «ظهور حال المسلم» و «أنّه لا يأتي بالفاسد» كالصريح في كونه عالما بالحكم.

وإمّا أن يشكّ في كونه عالما بالحكم أو جاهلا ، وظاهر كلام الشيخ الأنصاري التوقّف في جريان أصالة الصحّة في هذا أيضا (١) والظاهر هو الجريان لاستقرار السيرة ، فإنّ الغالب من موارد جريان أصالة الصحّة هو هذا ، بل لو لا الجريان لما قام للمسلمين سوق ولوقعوا في الهرج والمرج.

وإمّا أن يعلم أنّه عالم بالحكم وهذا على أقسام ، لأنّه تارة يعلم موافقته له في التقليد أو الفتوى ، واخرى يشكّ في الموافقة والمخالفة ، وثالثة يعلم بالمخالفة :

فالصورة الاولى هي القدر المتيقّن من موارد جريان أصالة الصحّة بقرينة تعليلهم له بظاهر حال المسلم.

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٣٥٦.

٧٣١

وأمّا الصورة الثانية ـ وهي صورة الشكّ ـ فحكمها حكم مجهول الحال في كونه عالما بالحكم أو جاهلا ، وقد عرفت جريان السيرة العمليّة المتّصلة بزمان المعصوم عليه‌السلام على إجراء أصالة الصحّة في حقّه.

وأمّا صورة العلم بالمخالفة فتارة تكون المخالفة بنحو المباينة كأن يكون رأي العامل وجوب الجهر بظهر الجمعة ورأي الشاكّ وجوب الإخفات ، واخرى تكون المخالفة بنحو التداخل كأن يكون رأي العامل عدم وجوب السورة في الصلاة ورأي الشاكّ وجوبها ، فإنّ العامل وإن لم ير وجوبها لكنّه قد يأتي بها ندبا أو احتياطا.

ففي الصورة الاولى ـ وهي صورة كون المخالفة بنحو المباينة ـ لا ريب في عدم استقرار السيرة العمليّة على إجراء أصالة الصحّة ، بل الظاهر أنّ إجراءها مناف لظهور حال المسلم وكونه في مقام الامتثال ، لأنّ أصالة الصحّة معناه أنّه أتى بما هو قبيح عنده ، فأصالة الصحّة الواقعيّة مناف لأصالة الصحّة بمعنى حمل فعله على الحسن.

وفي الصورة الثانية ـ وهي صورة كون الاختلاف بنحو المداخلة ـ إن لم يكن المحتمل فقده من الأجزاء والشرائط الواقعيّة فالعمل صحيح لا يحتاج إلى أصالة الصحّة لعموم : «لا تعاد الصلاة» (١) مثلا وشبهها. وإن كان أمرا واقعيّا وقد نحتمل أن تركه المصلّي مثلا لأنّه يرى عدم وجوبه لم يثبت أيضا استقرار السيرة على إجراء أصالة الصحّة ، فاستصحاب الفساد بمعنى عدم ترتّب الأثر بحاله لم يثبت الناقل عنه. ومن ثمّ يشكل الائتمام بمن لا يرى وجوب السورة لمن يرى وجوبها في غير هذه الأزمنة الّتي يقطع بإتيانه بها وإن ذهب إلى عدم الوجوب. نعم لو ثبت كفاية الصحّة عنده ـ أي عند الإمام ـ لصحّ الائتمام ، ودون اثباتها خرط القتاد ، فافهم.

الأمر الخامس : هل تجري أصالة الصحّة في مطلق عمل الغير إذا شكّ فيه ، سواء كان الشكّ فيه من جهة الشكّ في أركانه الّتي يأتلف منها أم في شرائطه ، أم يختصّ

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٦٠ ، الباب ٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

٧٣٢

جريانها بصورة الشكّ فيه من جهة شرائطه بعد إحراز الأركان ، فلو شكّ في صحّة عقد مثلا من جهة الشكّ في كون البائع أو المشتري بالغا أم لا أو من جهة كون المبيع قابلا للبيع أم لا ، لا تجري أصالة الصحّة على الثاني وتجري على الأوّل.

ثمّ على تقدير عدم جريانها حيث يشكّ في الأركان فهل العبرة بجمعه للأركان عرفا أو شرعا؟ ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى جريان أصالة الصحّة في مطلق المعاملة (١) سواء كان منشأ الشكّ فقدان الأركان كعدم البلوغ وعدم العقل وعدم قابليّة العوض للبيع كالخمر أو الحرام ، [أو] كان الشكّ في الشرائط ككونها ربويّة أو بالفارسيّة.

وذهب المحقّق الثاني (٢) والعلّامة قدس‌سره (٣) عدم الجريان إلّا حيث يحرز جميع أركان العقد وقابليّته لترتّب الأثر عليه وأهليّته لذلك ويشكّ في فعليّة ترتّب الأثر لفقد شرط أو وجود مانع مثلا ، فلو شكّ في صحّة العقد للشكّ في بلوغ البائع مثلا لا تجري أصالة الصحّة ، وكذا لو كان الشكّ في كون العوض حرّا أو عبدا ، والظاهر منهما اعتبار وجدان الأركان شرعا لتمثيلهم لعدم الجريان بالشكّ في البلوغ ، ولا ريب في عدم اعتبار البلوغ عرفا.

والصحيح هو ما ذهبا إليه قدس‌سرهما لأنّ السيرة الّتي هي الدليل في المقام لم تحرز على أكثر من هذا ، بل هناك موارد احرز فيها عدم استقرار السيرة ، مثلا إذا ادّعى أنّ البيع كان قبل بلوغه وادّعى المشتري أنّه كان بعد البلوغ لا تجري أصالة الصحّة للشكّ في أهليّة العقد لترتّب الأثر عليه ، مثلا إذا باع زيد بمجرّد دعواه الوكالة دار عمرو في بغداد فهل بأصالة الصحّة تثبت انتقالها إلى المشتري فيجوز لنا شراؤها منه؟ لا ريب في عدم استقرار السيرة على ذلك قطعا ، فاستصحاب عدم ترتّب الأثر محكّم.

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٣٦٠.

(٢) انظر جامع المقاصد ٥ : ٣١٥.

(٣) انظر التذكرة ٢ : ٨٧ (الحجرية) ، والقواعد ٢ : ١٥٦.

٧٣٣

وقد ادّعى الشيخ الانصاري استقرار السيرة على جريانها حتّى عند الشكّ في الأركان واستدلّ بشرائنا أشياء من المكلّف نحتمل شراءها حال صغره ، فلولا إجراء أصالة الصحّة لما صحّ الشراء (١).

ومثل هذا الاستدلال منه قدس‌سره في غاية الغرابة ، فإنّ جواز الشراء حينئذ وإن كان صحيحا إلّا أنّه ليس من جهة إجراء أصالة الصحّة ، بل من جهة قاعدة اليد.

وبالجملة ، فالسيرة لم تثبت لو لم نقل بثبوت عدمها ، فلو ادّعت الزوجة كونها مكرهة بقبول العقد لا يعتنى بدعواها لمكان جريان أصالة الصحّة ، بخلاف ما لو ادّعت أنّها كانت مزوجة عند صدور العقد فحينئذ لا تجري أصالة الصحّة ، فافهم.

وقد ذكرنا أنّ الشيخ الأنصاري قدس‌سره اختار تعميم جريان أصالة الصحّة. ثمّ إنّه بعد أن تنزّل عن مختاره فصّل بين ما لو كان الشكّ في صحّة العقد من جهة الشكّ في بلوغ كلّ من البائع والمشتري فذهب في مثله إلى عدم جريان أصالة الصحّة ، لعدم إحراز تمام أركان العقد ، أي لعدم كون الشكّ في الصحّة الفعليّة بل الشكّ في الصحّة التأهليّة ، وبين ما إذا كان منشأ الشكّ في صحّة العقد الشكّ في بلوغ القابل مثلا مع إحراز بلوغ الموجب بدعوى أنّ جريان أصالة الصحّة في فعل الموجب تقتضي صحّة المعاملة.

ولا يخفى أنّه إن أراد من أصالة الصحّة في فعل الموجب أصالة الصحّة بالمعنى الأوّل بمعنى أنّه لم يفعل محرّما بتصرّفه في الثمن الّذي أخذه عوضا عن مثمنه ، فلا إشكال في ذلك ، ولذا لا يحكم بفسق مثل هذا الشخص ، ولكن ذلك لا يجدي في ترتّب الأثر الّذي هو المقصود من أصالة الصحّة بحيث يجوز لنا شراء ذلك الثمن من البائع والمثمن من المشتري.

وإن أراد من أصالة الصحّة ترتيب الآثار فلا يترتّب على الإيجاب إلّا أصالة الصحّة فيه نفسه ، بمعنى أنّه لو انضمّ إليه قبول من بالغ لكان له أثر مترتّب ولا يحقّق

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٣٦٠.

٧٣٤

أنّ القبول قد وقع من بالغ ، وحينئذ فلا تجري أصالة الصحّة في العقد ، إذ هي مترتّبة على صحّة الإيجاب مع القبول ، وصحّة القبول هنا غير متحقّقة. وكذا الكلام إذا كانت الصحّة التأهليّة تتوقّف على أزيد من الإيجاب والقبول ، كالقبض في الهبة مثلا فحيث يشكّ فيه لا تجري أصالة الصحّة في الهبة ، لأنّ الشكّ في الصحّة التأهليّة.

ومن هنا وقع النزاع في الفرع المعروف بينهم من أنّه لو أذن المرتهن للراهن في بيع العين المرهونة ، ثمّ رجع وشكّ في كون رجوعه كان قبل البيع ليقع البيع فاسدا أو بعده ليقع البيع صحيحا ، ذهب جماعة إلى إجراء أصالة الصحّة في الإذن فصحّحوا البيع بذلك ، وآخرون إلى إجراء أصالة الصحّة في الرجوع فحكموا بإفساد البيع ، وآخرون إلى إجراء أصالة الصحّة في البيع (١). ولا يخفى أنّ أصالة الصحّة في الإذن والرجوع إنّما هو بمعنى أنّ البيع لو وقع بعد الاذن وقبل الرجوع لصحّ ، وليس معناه أنّ البيع قد وقع قبل الرجوع ، وكذا صحّة الرجوع معناه أنّ البيع لو وقع بعده لما أثّر ولا يثبت وقوعه بعده.

وبعبارة أوضح أصالة الصحّة إنّما تثبت الصحّة التأهليّة ولا تثبت بها الصحّة الفعليّة. وأمّا أصالة الصحّة في البيع نفسه فلا يجري ، لأنّ الصحّة التأهليّة فيه غير محرزة ؛ لأنّ البيع الصحيح فيه ما كان مع الإذن والإيجاب والقبول ، والمفروض الشكّ في الإذن فلا تجري أصالة الصحّة. نعم يمكن تصحيح البيع بالأصل الموضوعي كما في جميع الموضوعات المركّبة ، فإنّ جزء الموضوع وهو البيع محرز بالوجدان والإذن محرز بالاستصحاب ، ولا يعتبر في صحّة البيع إلّا البيع والإذن بمعنى تحقّقهما في الوجود الخارجي وقد تحقّق ، فيترتّب عليه صحّة البيع ولكن لا بأصالة الصحّة.

الأمر السادس : قد عرفت أنّ أصالة الصحّة ليس لها دليل لفظي كي يتمسّك بإطلاقه وإنّما مدركها السيرة العمليّة ، فلا يخفى عليك أنّ السيرة العمليّة إنّما قامت

__________________

(١) انظر المبسوط ٢ : ٢١٠ ، والقواعد : ١٢٩ ، ومفتاح الكرامة ٥ : ٢١٦ ، والجواهر ٢٥ : ٢٦٧.

٧٣٥

حيث يحرز كون المكلّف في مقام إيجاد العمل ، أمّا حيث لا يحرز أنّه في مقام إيجاد العمل فلا. بيان ذلك أنّ جملة من الأعمال قوامها القصد وهي نوعان : قسم ليس لها ذات خارجيّة زيادة على القصد كالتعظيم لزيد والإهانة لعمرو ، وقسم لا بدّ من قصد ذاتها في تحقّق العمل كالصلاة مثلا فإنّها لا بدّ فيها من القصد ، ضرورة أنّ صلاة الظهر والعصر والعشاء إنّما يتميّزان بالقصد قطعا ، وكذا الوجوب والنفل والقضاء والأداء وكونها عنه أو عن الغير وغير ذلك.

نعم لو أحرزنا أنّه في مقام صلاة الظهر مثلا ثمّ شككنا في كونها صحيحة مثلا لاحتمال جنابته وجهله بها فلنا بأصالة الصحّة ترتيب آثار الصحّة كالصلاة خلفه بتلك الصلاة حيث يكون عادلا وغير ذلك ، أمّا إذا لم نحرز أنّها صلاة ظهر أو نافلة فليس لنا ترتيب آثار صلاة الظهر بأصالة الصحّة.

ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري ـ من كون المصلّي عن الغير له ناحيتان ؛ الاولى ناحية كونه نائبا وعليها يترتّب حكمه من ناحية الجهر والإخفات لو كان رجلا والمنوب عنه امرأة وغيرها من النواحي الخاصّة به ، وناحية كون العمل للغير وهي ناحية القصر والإتمام وأشباهها ، فمن الأولى تجري أصالة الصحّة ويترتّب عليها استحقاق الاجرة ، ومن الثانية لا تجري فلا يحكم ببراءة ذمّة الميّت (١) ـ غريب غاية الغرابة من مثله ، فإنّه لو احرز أنّه في مقام النيابة عن الغير تجري أصالة الصحّة في الطرفين وإلّا فلا تجري في الطرفين ، ووجهه يعلم ممّا ذكرناه (فإنّه إنّما يستحقّ الاجرة إذا عمل عن الميت العمل الصحيح لا أنّه عمل عملا صحيحا وإن لم يكن عن الميّت ، وإذا عمل العمل الصحيح عن الميّت برئت ذمّته فلا تفكيك) (٢).

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٣٦٥ ـ ٣٧٠.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٧٣٦

ثمّ إنّ إحراز كونه في مقام إيجاد العمل إنّما هو حيث يكون مخبرا بذلك ويكون ثقة وإلّا فلا دليل على الاكتفاء بغير الثقة ، بخلاف الثقة فإنّ المستفاد من أدلّة خبر الواحد قبول قول الثقة كما لا دليل على اعتبار العدالة.

الأمر السابع : أنّه بعد كون أصالة الصحّة مدركها السيرة العمليّة فلا بدّ من ملاحظة مقدار السيرة العمليّة ، والظاهر أنّها إنّما استقرّت على إثبات نفس الصحّة ، وأمّا لوازمها العقليّة فلا ، وقد مثّل الشيخ الأنصاري للّوازم بمثل ما لو تنازعا كون الثمن خمرا أو خلّا فبإجراء أصالة الصحّة لا يثبت كون مقدار من الخلّ ملك البائع ؛ لأنّه مثبت.

والظاهر إنّما ذكره من جريان أصالة الصحّة في المقام مبنيّ على اختياره جريانها في العقود حتّى إذا كان الشكّ في الأركان ، أمّا بناء على ما ذكرنا من عدم استقرار السيرة إلّا في غير ذلك فلا ، والثمن من الأركان في باب البيع ، إلّا أن يريد الصحّة بالمعنى الأوّل وقد عرفت أنّها ليست من محلّ الكلام في شيء. وقد ذكر الشيخ هنا فروعا أخر من أرادها فليراجعها (١) وقد نقلها عنه الميرزا في التقريرات (٢).

الأمر الثامن : أنّ أصالة الصحّة تتقدّم على الاستصحاب الحكمي حيث يتعارضان ، وإلّا لم يبق مورد لأصالة الصحّة فلا بدّ من تقديمها عليها لذلك. وأمّا الاستصحاب الموضوعي فقد أطال الشيخ الكلام فيه (٣) وقد عرفت أنّه لا وجه لذلك ، فإنّ كونها أصلا أو أمارة لا يجدي في التقديم ، لأنّ دليلها ليس لفظيّا حتّى يقال : إنّه أصل أو أمارة ، وإنّما هو السيرة فحيث تقوم على العمل بأصالة الصحّة تتقدّم على استصحاب الفساد قلنا بأنّها أصل أو أمارة ، وحيث لا سيرة لا تتقدّم ، أصلا كانت أو أمارة ، هذا تمام الكلام في أصالة الصحّة بنحو الاختصار.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٧١ ـ ٣٧٢.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٦٦٦ ـ ٦٦٧.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٣٧١ ـ ٣٨٠.

٧٣٧

[اليد أمارة الملكية]

الكلام في كون اليد أمارة الملكيّة ، ولا ريب في معاملة العقلاء كافّة بحسب سيرتهم خلفا عن سلف إلى أن تنتهي إلى زمان المعصوم عليه‌السلام على معاملة ذي اليد معاملة المالك ، مضافا إلى الروايات الكثيرة المصرّحة بحجّيتها مثل رواية حفص (١) ومثل قوله : «من استولى على شيء فهو له» (٢) في مقام تنازع ورثة الزوج والزوجة في المتاع ، ومثل رواية احتجاج الأمير في فدك مع أبي بكر لعنه الله (٣) وغيرها (٤) وحينئذ فلا بدّ من تقدّمها على استصحاب عدم الملكيّة لورودها في مورد الاستصحاب فلو لم تتقدّم عليه لم يبق لها مورد إلّا نادر.

ويقع الكلام في جهتين :

الاولى : في أنّ اليد الغير المستندة إلى ملك العين ـ كالاستئجار والغصب وغير ذلك ـ هل تدلّ على الملكيّة بحسب الاستمرار لو شكّ بعد ذلك في الشراء مثلا؟ لا ريب في عدم جعلها أمارة على الملكيّة وهو المشهور فتوى ، وإنّما البحث في وجهه فإمّا أن ينكر إطلاق قوله عليه‌السلام : «من استولى على شيء فهو له» أو يدّعى أنّ السيرة الدالّة على أماريّة اليد غير شاملة لمثل هذه اليد ، فإنّ العقلاء لا يقدمون على شراء شيء يعلمون بكونه غصبا قبل ذلك قطعا.

الثانية : أنّه هل يشترط في أماريّة اليد وكاشفيّتها عن الملكيّة قابليّة المال للملك ويكون الشكّ في الملكيّة الفعليّة كما في أصالة الصحّة؟ الظاهر عدم الاعتبار فتجري

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ٥٢٥ ، الباب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ٣.

(٣) الوسائل ١٨ : ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، الحديث ٣.

(٤) انظر المصدر السابق : الحديث الأوّل.

٧٣٨

وإن شكّ في الملكيّة لرواية الجارية الّتي ادّعت أنّها حرّة (١) والعبد الّذي ادّعى الحريّة (٢) وقد حكم الإمام بجواز شرائه إلّا أن يقيم بيّنة ، فافهم. فاليد مع احتمال الوقفيّة تكون أمارة الملكيّة.

ثمّ إنّه لا يشترط فيما تجري فيه اليد الّتي هي أمارة الملكيّة بين ما يكون في أصل وجوده كان ملكا له كما في نماء أملاكه ، أو حدثت ملكيّته له كما في أغلب الأشياء من القماش وغيرها ، إذ لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق ، فإنّ الثوب مثلا لا يمكن أن يحدث قطنه على ملك ذلك الشخص عادة ثمّ ينسجه هو ويخيطه ويلبسه بل غالبا يشتري محيكا ومنسوجا قطعا.

ثمّ إنّ مسبوقيّة يده بملك الغير قد تكون معلومة لدى الشاكّ بالوجدان ، وقد تكون ثابتة بالبيّنة ، وقد تكون ثابتة باعتراف نفس ذي اليد ، فهذه صور ثلاثة. ثمّ إمّا أن تكون هناك دعوى على هذه العين ، أو لا تكون دعوى ، فصارت ستّة. ثمّ الدعوى إمّا أن تكون مع الاعتراف بأنّه قد اشتراها من المدّعي ، أو ادّعائه أنّه اشتراها من غير المدّعي فهذه صور تسعة.

أمّا إذا لم تكن دعوى من أحد فلا ريب في دلالة اليد على الملكيّة وأماريّتها وكاشفيّتها ، ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق. وكذا إذا كانت دعوى ولم يعترف ذو اليد بكونها قبل ذلك لمن ، بل سئل لمن هي؟ فقال : لي لأنّ يدي عليها ، ثمّ سئل ممّن انتقلت إليك؟ فأجاب بأنّي لا يجب عليّ الإجابة عن هذا السؤال. وأمّا صورة الاعتراف فإن اعترف بها لغيره فكذلك ، وإن اعترف بها له فلا تكون حينئذ اليد أمارة للملكيّة أصلا لعدم استقرار السيرة في مثل ذلك على ترتيب آثارها وكاشفيّتها ، فافهم.

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٧٤ ، المسألة ٣١٨.

(٢) المصدر السابق : المسألة ٣١٧.

٧٣٩

[معارضة الاستصحاب مع القرعة]

بقي الكلام في معارضة الاستصحاب مع القرعة ، وقد ذكر جماعة منهم صاحب الكفاية قدس‌سره (١) تقدّم الاستصحاب على القرعة من جهة أنّ كثرة تخصيص أدلّة القرعة يرفع الوثوق بعمومها لمورد الاستصحاب فيقدّم عليها لذلك ، ولا بدّ من التعرّض لدليل القرعة فنقول :

إنّه وردت روايات في موارد خاصّة تأمر بالقرعة إلّا أنّها لا يستفاد منها حكم كلّي بالرجوع إلى القرعة في موارد الاشتباه ، أمّا ما هو المعروف أنّ القرعة لكلّ أمر مشتبه. فلم نجده في رواية حتّى ضعيفة (٢).

نعم ، في رواية محمد بن حكيم : «كلّ مجهول ففيه القرعة» (٣). إلّا أنّها ضعيفة بمحمّد بن حكيم حيث إنّه لم يوثّق في كتب الرجال.

نعم هناك روايتان إحداهما صحيحة والاخرى صحيحة أو حسنة يتضمّنان الرجوع إلى القرعة في مورد وجود واقع مشتبه في مورد التخاصم و «أنّ أيّ قضيّة أعدل من القرعة» (٤) و «أنّ أيّ جماعة تنازعوا واقترعوا إلّا وأصاب السهم الحقّ» (٥). إلّا أنّ هاتين الروايتين إنّما يدلّان على القرعة فيما إذا لم يمكن تمييز الحقّ المجهول بطريق شرعي ، أمّا إذا أمكن ذلك من جهة الاستصحاب مثلا فلا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٩٣.

(٢) نعم ، ورد : لكلّ أمر مشكل. انظر المستدرك ١٧ : ٣٧٣ ، الباب ١١ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث الأوّل ، والوسائل ١٨ : ١٨٧ ، الباب ١٣ من أبواب كيفيّة الحكم.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٨٩ ، الباب ١٣ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ١١.

(٤ و ٥) انظر المصدر السابق : الحديثين ١٣ و ١٧.

(٤ و ٥) انظر المصدر السابق : الحديثين ١٣ و ١٧.

٧٤٠