غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

لا يقال : إنّكم أنفسكم نفيتم البناء من العقلاء ، فما هذا الارتكاز المدّعى؟

لأنّا نقول : إنّ عدم نقض الأمر المستحكم بالأمر الظنّي أمر عقلائي استقرّت عليه سيرة العقلاء ، فالإمام طبّق هذا الحكم الكلّي على المورد تعبّدا ، والّذي قد نفيناه هو استقرار سيرتهم على العمل بالاستصحاب باعتبار إنكار كونه صغرى لتلك الكلّية من حيث إنّ متعلّق اليقين هو الحدوث ومتعلّق الشكّ هو البقاء وأحدهما غير الآخر إلّا أنّ الإمام طبّقها تعبّدا فافهم.

وبالجملة فالرواية ظاهرة في كون حكمها كلّيا لا يختصّ بباب الوضوء ، خصوصا مع ذكر هذا اللفظ بعينه في غير الوضوء أيضا في بقيّة الروايات.

ثمّ إنّ هنا جهات ثلاثة ينبغي التعرّض لها :

الاولى : في تفصيل الشيخ الأنصاري بين الشكّ في المقتضي فلا يجري الاستصحاب ، والشكّ في الرافع فيجري (١).

الثانية : تفصيلنا بين الشبهة الحكميّة فلا يجري ، والموضوعيّة فيجري مع إطلاق الرواية.

الثالثة : تفصيل الشيخ الأنصاري أيضا بين كون مدركه حكم العقل أو الشرع (٢).

[تفصيل الشيخ بين الشك في المقتضى والشك في الرافع]

أمّا الكلام في الأوّل :

فنقول : إنّ المقتضي إمّا أن يراد به المقتضي التكويني ، وهو الّذي ينشأ منه الأثر كالنار للإحراق ، وحينئذ فيكون المانع ما يكون رافعا لذلك الأثر كالرطوبة مثلا ، أو موضوع الحكم ، وبالمانع ما يعتبر عدمه في الحكم ، أو مصلحته وملاكه ، وبالمانع

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٥١.

(٢) انظر المصدر المتقدّم : ١٣.

٥٢١

ما يمنع حصول الملاك. وكلّ هذه الوجوه لا يمكن أن تكون مراد الشيخ ، لأنّ المقتضي التكويني لا أثر له في الحكم لما بيّنا أنّه لا يؤثّر في الحكم إلّا إرادة الشارع المقدّس ، فالتكوينيات لا أثر لها في الأحكام ، مع اقتضائه الاختصاص بالوجوديّات والشيخ يجريه في العدميّات أيضا.

والموضوع لا بدّ من إحرازه لكن لاتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة لا من جهة كونه مقتضيا ، ولذا يشترطه غير الشيخ أيضا.

والملاك والمصلحة لا نعلم بها وببقائها ولا يعلم الشيخ أيضا بذلك لعدم علم الغيب ، مع أنّا لو علمنا بوجود الملاك فلا حاجة إلى الاستصحاب حينئذ ، لأنّ ثبوت الملاك ملازم لثبوت الحكم الشرعي قطعا حينئذ ، مع أنّ أخذ المقتضي بهذا المعنى يوجب أن لا يجري الاستصحاب إلّا في الأحكام ، ويلزم أن يختصّ جريانه عند العدليّة القائلين بوجود ملاك للحكم ، مضافا إلى أنّ الملاك ليس هو المقتضي للحكم وإنّما هو المحرك لإرادة المولى الّتي هي المقتضي للحكم الشرعي.

فليس مراد الشيخ من المقتضي أحد هذه الامور الثلاثة وإنّما مراده من المقتضي كما يظهر من المكاسب في خيار الغبن (١) أمرا آخر يظهر أيضا من المحقّق السبزواري (٢) والشيخ الأنصاري تبعه في ذلك ، ومرادهما قدس‌سرهما يتوقّف على بيان أمر هو : أنّ الحكم الشرعي وكذا الموضوع الخارجي ذي الحكم إمّا أن يكون مغيّا بغاية كما في قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٣) أو مرسل بحيث علم عدم كونه مغيّا بل علم كونه يبقى لو خلّي وطبعه ، بحيث لا يكون شيء متبدّلا عن وضعه السابق وليس إلّا مرور الزمان ، بحيث إنّ الموجودات من الزمانيّات لم تبدل بالعدم

__________________

(١) انظر المكاسب ٥ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٢) لم نقف عليه.

(٣) البقرة : ١٨٧.

٥٢٢

والمعدومات من الزمانيّات لم تتبدّل بالوجود ، نعم نفس الزمان مرّ عليه فقط ، أو مهمل بحسب الدليل وإن كان في الواقع متعيّنا.

فمراد الشيخ قدس‌سره من الشكّ في المقتضي هو القسم الثالث ، لأنّا لا نعلم أنّ الحكم فيه أو نفس الموضوع كان فيه اقتضاء البقاء في عمود الزمان بحيث لو لم ينقلب وجود الزمانيّات إلى العدم ولم ينقلب عدم الزمانيّات إلى الوجود ، فقط مرّ عليه الزمان لبقى الحكم أو الموضوع إلى آخر الزمان ، فمراده من المقتضي عبارة عن اقتضاء بقاء الحكم واستمراره في عمود الزمان ما لم يحدث حدث ، نظير الزوجيّة فإنّها مقتضية للبقاء ما لم يحدث فسخ أو طلاق أو موت لأحدهما. ففيما لم يحرز أنّه مغيّا أو مرسل لا يقول الشيخ بجريان الاستصحاب لأنّه لم يعلم أنّه مرسل ، فالمقتضى موجود أو مغيّا وقد انقضت غايته فلا مقتضي للبقاء فلا يجري الاستصحاب فيه للشكّ في المقتضي.

وأمّا القسم المرسل فلا إشكال في إحراز مقتضي البقاء ، لأنّه بطبعه يبقى ما لم يرفعه رافع ، فهنا يجري الاستصحاب على رأي الشيخ قدس‌سره (١) لأنّ الشكّ شكّ في الرافع.

وأمّا القسم الأوّل وهو المغيّا بغاية فإن لم يشكّ فيه ، نظير الصوم وأنّه قبل الغروب واجب وبعده ليس بواجب فلا كلام ، وإن شكّ فالشكّ تارة يكون من جهة الشبهة المفهوميّة ، واخرى يكون من جهة الشبهة الحكميّة ، وثالثة تكون من جهة الشبهة الموضوعيّة.

فإن كانت من جهة الشبهة المفهوميّة مثل ما إذا علمنا أنّ آخر وقت صلاة الظهر والعصر هو الغروب ، ولكن لم يعلم مفهوم الغروب وأنّه هو استتار القرص عن البصر ، أو نزوله في الافق المعلوم بذهاب الحمرة إلى وسط السماء ، فهذا يلحق بالشكّ في المقتضي ، لأنّا لم نحرز أنّ وقته من حيث عمود الزمان باق بالنسبة إلى ما زاد على الغروب عن البصر.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٣ : ٥٢ ، ١٥٩ ـ ١٦٩.

٥٢٣

وأمّا إذا كانت الشبهة حكميّة كما إذا لم نعلم أنّ غاية وقت أداء المغرب والعشاء هو نصف الليل أو طلوع الفجر من جهة تعارض الأدلّة وإن علمنا بحرمة التأخير عن نصف الليل ، وهذا أيضا يلحق بالشكّ في المقتضي ، ووجهه وجه الأوّل.

وأمّا إذا كانت الشبهة بحسب الموضوع نظير أنّه لم يعلم أنّ الشمس طلعت فانتهى وقت صلاة الصبح أو لم تطلع فالوقت باق ، فهنا إذا جرى الاستصحاب في التدريجيّات يجري هنا وإلّا فلا ، والشيخ يجريه (١).

فتلخّص أنّ الشيخ يجري الاستصحاب فيما إذا شكّ في الرافع وفي المغيّا إذا كانت الشبهة موضوعيّة.

ومن هنا يتّضح لك أنّ ما اورد على الشيخ في المكاسب في بعض موارد تمسّكه بالاستصحاب من أنّه من قبيل الشكّ في المقتضي ناشئ من عدم معرفة مراده من المقتضي ، كما في المعاطاة (٢) إذا شكّ في لزومها فاستصحاب الملكيّة ليس من موارد الشكّ في المقتضي ، لأنّ الملكيّة فيها اقتضاء البقاء لو لا الرافع وهو الفسخ ، وليس غير هذا المورد من الموارد للاستصحاب عنده قدس‌سره كخيار الغبن وغيره ، لأنّ خيار الغبن لم يعلم كونه مرسلا أو مغيّا بغاية ، ولذا منع الشيخ الأنصاري عن جريان الاستصحاب فيها (٣).

وقد استدلّ الشيخ قدس‌سره على مدّعاه بأنّه ليس معنى النهي عن نقض اليقين النهي عن نقضه بما أنّه صفة نفسانيّة ، لأنّ اليقين بالنظر إلى الاستمرار منتقض قطعا ، ومع قطع النظر عن الاستمرار باق قطعا ، كما أنّه ليس المراد عدم نقض اليقين بما له من الأحكام ، ضرورة ندرة أحكام اليقين في الشريعة فلا تليق بها هذه الأخبار على

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٣ : ٢٠٥.

(٢) انظر المكاسب ٣ : ٥١ ـ ٥٢.

(٣) انظر المكاسب ٣ : ١٦٤.

٥٢٤

كثرتها ، بل المراد عدم نقض اليقين بما له من الجرى العملي ، فإنّ الإنسان إذا حصل له اليقين يجري على طبق يقينه ، فإن كان يقينا بأمر ينفعه يعمله وإن كان بأمر يضرّه يجتنبه ، فكلّ يقين له جري عملي على طبقه (١).

وليس قول الشيخ مبنيّا على أن يكون المراد من اليقين المتيقّن كما زعمه الآخوند قدس‌سره (٢) ليرد عليه ما ذكره ، بل المراد عدم نقض اليقين بماله من الجري العملي بالشكّ ، فإنّ اليقين بشيء تارة يكون بنحو يقطع باستمراره لو لا الرافع ، كما في اليقين بالزوجيّة الدائمة فصفة اليقين بها ممّا يبقى لو علم عدم الرافع فإنّها إنّما ترتفع بالفسخ أو الطلاق أو موت أحدهما ، واخرى يكون بنحو نفس مرور الزمان كافل بانتفائه كالزوجيّة المنقطعة فإنّها ممّا تنتهي بانقضاء المدّة ، فلو شكّ في كون الزوجيّة دائمة أم منقطعة لا يجري الاستصحاب على رأي الشيخ (٣) بخلاف ما إذا علم دوامها وشكّ في الرافع.

فاليقين تارة يكون ممّا له دوام واستمرار واخرى لا يكون كذلك ، وحيث إنّ الإمام عبّر بالنقض فيلزم أن يكون اليقين بنحو لو لا هذا الشكّ لاستمرّ حكمه. وهذا إنّما يكون حيث يحرز المقتضي لبقاء الحكم كأن يكون الحكم مرسلا وغير مغيّا بغاية ، إذ لو لم يكن مرسلا بل كان مغيّا فهنا لا اقتضاء لبقاء الحكم فلا يصدق على عدم العمل بالحكم أنّه نقض. وكذا إذا كان مهملا إذ لم يحرز اقتضاؤه الاستمرار في عمود الزمان لو لا الشكّ ، فلا يكون ترك العمل نقضا ، فقوله عليه‌السلام : «لا تنقض» يختصّ بصورة يكون ترك العمل نقضا للأمر المستحكم ، وهو صورة الشكّ في وجود الرافع أو في رافعيّة الموجود أو الشكّ في الموضوع الخارجي للغاية لأنّه يؤول إلى كونه شكّا في رافعيّة الموجود أيضا.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٣ : ١٦٠.

(٢) انظر الكفاية : ٤٤٤.

(٣) انظر كتاب النكاح للشيخ الأنصاري : ٢١١ ـ ٢١٣.

٥٢٥

فهذا هو وجه ذهاب الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى تخصيص حجّية الاستصحاب بخصوص الشكّ في الرافع (١) وتبعه على ذلك الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) وردّ ما يتوهّم من أن جملة من الأخبار خالية عن التعبير بالنقض كقوله : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه فإنّ اليقين لا يرفع بالشك» (٣) ومثل قوله فيمن أعار ثوبه من ذمّي وسأله عن وجوب غسله : «لا ، لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه» (٤) فهذه الأخبار توجب تعميم الحكم ، لأنّ الأخبار السابقة قاصرة عن شمول موارد الشكّ في المقتضي إلّا أنّ هذه الأخبار عامّة.

وقد ردّها الميرزا بأنّ الاولى فيها «فليمض على يقينه» وهي ظاهرة في أنّ يقينه ممّا يقتضي الاستمرار لو لا الشكّ (٥) خصوصا مع قوله : «فإنّ اليقين لا يرفع بالشكّ» فكأنّه رفع لما هو مستمرّ. والثانية رواية خاصّة بموردها وإنّما يتعدّى عنها بالقطع ، والقطع إنّما هو متحقّق بعدم الفرق بين من يعير ثوبه لذمّي أو حربي واحتمال التنجيس بالخمر والخنزير كما هو مورد الرواية أو غيرهما. وأمّا القطع بعدم الفرق بين كون الشكّ في المقتضي أو الرافع كما هو مورد الرواية فليس بحاصل ، فلا تكون دالّة على عدم الفرق. هذا غاية تقريب ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري والميرزا النائيني قدس‌سرهما.

قال الاستاذ الخوئي دامت إفاداته : لا يخفى عليك أنّ القول بعدم جريان الاستصحاب في الشكّ في المقتضي وما يلحقه من الشكّ في الغاية مفهوما وحكما

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٣ : ١٥٩ ـ ١٦٤.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ٢٩ ـ ٣٠.

(٣) الإرشاد للمفيد ١ : ٣٠٢.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠٩٥ ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

(٥) انظر أجود التقريرات ٤ : ٦٩ ـ ٧٠.

٥٢٦

يستلزم عدم جريانه في الشكّ في الغاية موضوعا أيضا لجريان نفس الكلام بعينه فيه ، إذ كما أنّ الشكّ في الشبهة الحكميّة أو المفهوميّة إنّما هو من جهة أنّا لم نحرز اقتضاء الحكم إلى أزيد من استتار القرص في الشبهة المفهوميّة ، ولم نحرز اقتضاءه إلى ما بعد نصف الليل في الشبهة الحكميّة كذلك في الشكّ في المصداق الخارجي الموضوعي ، مثلا إذا شككنا في أنّ شهر رمضان ثلاثون أو تسعة وعشرون يوما فهو من باب الشكّ في الغاية موضوعا ، فهنا أيضا نشكّ في اقتضاء الحكم من حيث الجري العملي إلى تسعة وعشرين أو إلى ثلاثين فينبغي أن لا يجري فيه الاستصحاب ، وهو مورد بعض روايات الاستصحاب كما لا يخفى. وبالجملة نفس ما ذكر في الشبهة الحكميّة أو المفهوميّة لعدم جريان الاستصحاب بعينه يجري في الشبهة الموضوعيّة من الحكم المغيّا فلا وجه للتفصيل بينها.

وثانيا : أنّه يلزم عدم جريان استصحاب عدم النسخ ، لأنّ الشكّ في النسخ على رأي العدليّة شكّ في المقتضي للحكم ، إذ هو دفع لا رفع.

وثالثا : بالحلّ ، ووجهه أنّه إن اعتبر نقض اليقين بالشكّ حقيقة ودقّة عقليّة حكميّة فهو غير موجود حتّى في موارد الشكّ في الرافع ، إذ اليقين إنّما تعلّق بهذا الشيء في الزمن الماضي والشكّ تعلّق به في الزمان الثاني فليس نقضا لليقين بالشكّ ، مثلا اليقين تعلّق بالزوجيّة إلى قول القائل : أنت خليّة أو بريّة ، وبعد ذلك لم يتعلّق يقين وإنّما يشكّ فيها ، فأيّ معنى للنقض لليقين بالشكّ وأيّ يقين ينقض؟

وإن اريد النقض العرفي بمعنى رفع اليد عن الجرى العملي فهو حاصل في الشكّ في المقتضي أيضا ، مضافا إلى أنّ هذا الكلام الّذي ذكرناه في توجيه كلام الشيخ والميرزا من كون الحكم مغيّا تارة ومرسلا اخرى إلى آخره إنّما هو في الحكم ، أمّا الموضوع فالشكّ في الرافع فيه إنّما يكون بلحاظ المتيقّن ، وحينئذ فيلزم الهرج والمرج في مجاري الاستصحاب ، إذ مثلا استصحاب الحياة في زيد إنّما يكون حيث يحرز استعداده للبقاء حيّا إلى مدّة وبعدها لا تستصحب حياته وحينئذ فالمريض

٥٢٧

مثلا لا يستصحب حياته وحينئذ فلا يبقى ضابط به يضبط جريان الاستصحاب ، ويرد على الشيخ عين ما أورده هو قدس‌سره على المحقّق القمي قدس‌سره (١).

فالصحيح أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع ، سواء كان شكّا في وجود الرافع أو رافعية الموجود أو الشكّ في الغاية ، فافهم وتأمّل.

في التفصيل الثاني من تفاصيل الشيخ رحمه‌الله في مجاري الاستصحاب

فصّل الشيخ الأنصاري قدس‌سره في جريان الاستصحاب بين أن يكون دليل المستصحب شرعيّا فيجري فيه الاستصحاب ، أو يكون دليله العقل فلا يجري فيه الاستصحاب (٢).

وقد ابتكر الشيخ هذا التفصيل ولم يسبقه إليه أحد ، فمنع من جريان الاستصحاب حيث يكون المستصحب حكما عقليّا ، واستثنى منه جريان الاستصحاب في الضرر لو كان متيقّنا للضرر فشكّ فيه ، بدعوى أنّ الاستصحاب يكوّن الظنّ بالضرر الّذي به يناط الحكم.

ولا يخفى أنّ الاستصحاب لا يحصل منه الظنّ ، إذ حجيّة الاستصحاب عند الشيخ غير منوطة بالظنّ (٣).

وثانيا : أنّ الظنّ الّذي ينشأ من الاستصحاب على تقدير حصوله ظنّ نوعي والظنّ في الضرر يعتبر أن يكون شخصيّا.

وثالثا : أنّ الموضوع خوف الضرر لا ظنّه.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٣ : ٩١ ـ ٩٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٣٧ ـ ٣٨.

(٣) انظر المصدر المتقدّم : ١٣.

٥٢٨

ورابعا : أنّا نجري الاستصحاب فيه وإن قلنا بمقالة الشيخ ، ضرورة أنّ ما ذكره الشيخ دليلا لعدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي إنّما يخصّ الأحكام ولا يجري في الموضوعات ، وقد ذكر الشيخ الأنصاري في أواخر الاستصحاب اعتبار اتّحاد الموضوع في جريان الاستصحاب ليصدق النقض ، ثمّ ذكر المناط في الاتّحاد وأنّه العرف ، وليس اتّباع العرف في ذلك إلّا من جهة تطبيق «لا تنقض اليقين بالشكّ» فإنّ المرجع لفهم كلامهم إنّما هو العرف (١) فهو المحكّم في صدق النقض وعدمه.

والعرف مختلف فقد يرى العلم والرأي تمام الموضوع في التقليد فبفقدهما يفتقد الموضوع ، فلو حكم الشرع بوجوب التقليد له يراه إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وكذلك العدالة في جواز الائتمام مثلا. وقد يرى العرف الوصف علّة للثبوت لا أنّه هو الموضوع كالتغيّر في الماء فإنّ الشارع إذا حكم بنجاسته بعد زوال التغيّر لا يراه العرف إلّا إبقاء للحكم السابق.

وبالجملة ، فالعرف في المقام يرى أنّ الوصف واسطة للثبوت لا أنّه تمام الموضوع بخلاف المتقدّم ، ولا يراه نقضا في الأمثلة المتقدّمة لو غيّر الحكم ، بخلافه في هذا المثال فإنّه يراه نقضا.

ولا يخفى أنّ تفصيل الشيخ قدس‌سره مبنيّ على مقدّمتين :

الاولى : أنّ الحاكم أيّا كان لا يشكّ في موضوع حكمه ، لأنّ موضوع حكمه بيده لا بيد غيره حتّى يخفى عليه ، فما لم يتغيّر الموضوع لحكم العقل لا شكّ ، ومع التغيّر يرتفع حكم العقل.

الثانية : أنّ حكم العقل بشيء يتبعه حكم الشرع ، ولا ريب أنّ حكم العقل يتبع موضوعه فبارتفاع أيّ جزء أو شرط من أجزاء موضوعه أو شرائطه يرتفع حكم

__________________

(١) انظر المصدر المتقدّم : ٢٩٥.

٥٢٩

العقل ، وحينئذ فيرتفع حكم الشارع الثابت من باب الملازمة لارتفاع حكم العقل الّذي به ثبت حكم الشرع للملازمة ، وحينئذ فالالتزام ببقاء حكم الشرع حينئذ إثبات لحكم جديد لا إبقاء للحكم السابق فلا يجري الاستصحاب لذلك.

نعم ، لو بنينا على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي لجرى في المقام.

وقد ناقشه الميرزا النائيني قدس‌سره في كلتا المقدّمتين :

أمّا في الاولى فبأنّه يمكن أن يدرك العقل ملاكا في شيء ذي خصوصيّات من باب أنّ القدر المتيقّن وجدان الملاك فيه إذا حوى هذه الخصوصيّات ، فمع فقدها لا يقطع بالحكم حينئذ لعدم قطعه بالملاك لا أنّه يقطع بعدمه ، لأنّ قطعه بعدمه موقوف على أن يقطع بالملاك الشرعي عند وجدان الخصوصيّات وبعدمه عند فقدان بعضها ولكنّه في المقام ليس كذلك (١).

أقول : لا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا غير وارد على الشيخ ، لأنّ مراد الشيخ ليس إدراك العقل ملاك الحكم الشرعي حتّى يتوجّه عليه ما ذكره ، لأنّ هذا ليس حكما عقليّا وإنّما هو إدراك للملاك فيلزمه إدراك الحكم الشرعي من باب أنّ إدراك اللازم إدراك للملزوم ، وإنّما مراد الشيخ بالحكم العقلي المستقلّات العقليّة الّتي يحكم بها العقل مع قطع النظر عن شرع وشريعة ، كحسن الإحسان والعقاب مع البيان وقبح العدوان والعقاب بلا بيان فإنّها ممّا يستقلّ بها العقل مع قطع النظر عن دين ، وهذا هو الّذي ذكر الشيخ الأنصاري (٢) أنّه وقع محلّا للنزاع في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وعدمها.

وحينئذ فلا يرد عليه ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره لأنّه هو الحاكم ابتداء فإمّا أن يحكم بالحسن مثلا أو لا يحكم بالحسن ، ولا يكون حكمه فيه من باب القدر

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٤ : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٢) انظر الفرائد ٣ : ٢١٥ ـ ٢٢٢ ، والمطارح ٢ : ٣٣٥.

٥٣٠

المتيقّن حينئذ ، بل من باب أنّ هذا هو موضوع حكمه ، فمع فقد خصوصيّة من هذه الخصوصيات إمّا أن يحكم أو لا يحكم ، ولا يعقل أن لا يدري أنّه يحكم أو لا يحكم أصلا.

نعم ، إشكاله على المقدّمة الثانية تبعا لصاحب الكفاية (١) صحيح من أنّ النقض إن اعتبر بالدقّة العقليّة فلا يتحقّق في مقام أصلا ، وإن اعتبر بالمسامحة العرفيّة والنظر المسامحي فقد يحكم العقل بحسن شيء أو قبحه ، وحينئذ فيتبعه حكم الشرع من باب الملازمة وبارتفاع أيّ خصوصيّة يرتفع الحكم العقلي ، ولكن لا يلزم من ارتفاعه ارتفاع الحكم الشرعي ، إذ لعلّ ما ارتفع ليس بنظر العرف مقوّما للملاك ، بل من حالات الموضوع الغير الدخيلة في ملاك الحكم ، وحينئذ فالموضوع واحد عرفا وإن فقد تلك الخصوصيّة ، فيصدق حينئذ نقض اليقين بالشكّ لو نقض الحكم السابق ، هذا تمام الكلام في ردّ ما ادّعاه الشيخ من نفي حجّية الاستصحاب في الأحكام العقليّة (*).

[التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية]

بقي الكلام فيما اخترناه من اختصاص حجّية الاستصحاب بخصوص الشبهات الموضوعيّة واستصحاب عدم النسخ من الشبهات الحكميّة دون بقيّة الشبهات

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٤٨٦ ـ ٤٨٨.

(*) قد عدل سيّدنا الاستاذ أيّده الله عن تصويب الإشكال على المقدّمة الثانية فاختار صحّة ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره بدعوى أنّ فقد الخصوصيّة الرافعة لحكم العقل تكون رافعة لحكم الشرع التابع له ، ضرورة أنّ تبعيّة حكم الشارع للعقل في المستقلّات العقليّة من جهة حسن العدل وقبح الظلم ، فإذا ارتفع الحكم العقلي بالحسن لفقد خصوصيّة من خصوصيّات الموضوع فمعناه أنّ العقل أدرك ارتفاع حسنه فيرتفع الحكم الشرعي المعلّق على الإحسان ، واحتمال ثبوت ملاك آخر لا يحقّق حكما شرعيّا تابعا لحكم العقل.

٥٣١

الحكميّة كما اختاره المحقّق النراقي قدس‌سره (١) تبعا لجميع المحدّثين ، ووجهه على ما ذكره المحقّق النراقي موقوف على مقدّمة طالما تعرّضنا لها مرارا وهي أنّ الحكم له مرحلتان :

الاولى مرحلة الاعتبار وهي لا تفتقر إلى وجود الموضوع بل إنّما تفتقر إلى فرض المعتبر فردا موضوعا لذلك الاعتبار فيعتبره ، مثلا يفرض وجود مستطيع في الخارج فيقول : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(٢) وهذه المرحلة من مراحل الحكم تسمّى بمرحلة الإنشاء ، وحينئذ فيصدق على هذا الاعتبار أنّه لم يكن وكان.

وهناك مرحلة اخرى وهي مرحلة بلوغ هذا الحكم مرحلة الفعليّة بوجود المستطيع في الخارج مثلا ، فالشكّ في الحكم بعد إحراز جعله في سعة جعله وضيقه إنّما يكون من جهة النسخ فيجري فيه الاستصحاب ، وقد ادّعى المحدّث الأسترآبادي (٣) عليه الضرورة ، على أنّا في غنية عنه بإطلاق أدلّة الأحكام لو كان ، أو بما دلّ على أنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه كذلك فلا مجال بل ولا حاجة معها للاستصحاب.

وفي المرحلة الثانية إمّا أن يكون من جهة الشبهة الموضوعيّة كما في صحيحة زرارة (٤) ضرورة كون السائل عالما بأنّ نواقض الوضوء كذا وكذا ، وإمّا أن يكون من جهة الشبهة الحكميّة كما إذا شكّ في سعة الموضوع وضيقه كأن يشكّ في أنّ نجاسة الماء القليل الملاقي للنجاسة ما دام قليلا أو حتّى إذا أتمّ كرّا.

__________________

(١) انظر المناهج ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، والمستند ١ : ١٤.

(٢) آل عمران : ٩٧.

(٣) الفوائد المدنية : ١٤٣ (الوجه الثالث).

(٤) الوسائل ١ : ١٧٤ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.

٥٣٢

إذا عرفت هذه المقدّمة فاعلم أنّ النراقي لا يقول باختصاص حجّية الاستصحاب بالشبهات الموضوعيّة من جهة أنّ مورد روايات الاستصحاب كلّها من الشبهات الموضوعيّة ليرد عليه أنّ عموم التعليل يدفع خصوصيّة المورد ، بل إنّما يقول بالمنع من الجريان للمعارضة ، لأنّ كلّ مورد من موارد الشبهات الحكميّة يتعارض فيه استصحابان فيسقطان من جهة المعارضة بينهما.

بيان ذلك مثلا أنّ الماء المتغيّر إذا زال تغيّره فحكمه مشتبه في أنّه الطهارة أو النجاسة ، فإذا أردنا أن نستصحب نجاسته الّتي كانت قبل زوال التغيّر مثلا بقاعدة «لا تنقض اليقين بالشكّ» فتثبت نجاسته ، ولكن هذا الشكّ ناشئ من سعة موضوع النجس وضيقه ، لأنّ النجاسة للمتغيّر لم تكن مجعولة لا حال التغيّر ولا بعده قطعا ، والمعلوم تبدّل ذلك العدم بالوجود حال التغيّر. وحينئذ فالمعلوم جعل النجاسة لخصوص المتغيّر حال تغيّره وأمّا بعد زوال التغيّر فغير معلوم ، فاستصحاب طهارته من أوّل الأمر وعدم جعل النجاسة له يقتضي طهارته فيتعارض الاستصحابان ويتساقطان.

وبهذا التقرير ظهر أنّه لا مجال لإشكال صاحب الكفاية عليه (١) بأنّه تارة يرى الموضوع عرفيّا فيجري الاستصحاب واخرى يراه عقليّا فلا يجري ، لأنّه ليس ناظرا إلى الموضوع وأنّه عقلي وبارتفاع جزء من أجزائه يتحقّق الشكّ وحينئذ فالموضوع غير محرز ليجري الاستصحاب وإنّما نظره إلى المعارضة كما ذكرنا.

كما أنّ إشكال الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) بأنّ استصحاب الحكم لفرض الزمان ظرفا وعدم استصحاب الحكم لفرضه قيدا تناقض أيضا غير وارد عليه ، لأنّه يستصحب الحكم الفعلي وعدم الجعل الّذي مؤدّاه في المقام الطهارة ، وليس نظره إلى استصحاب الحكم الفعلي وعدم استصحابه لتقع المناقضة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦٦.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢١٠.

٥٣٣

كما أنّ ما ذكره النراقي نفسه إيرادا من عدم اتّصال زمان المشكوك بزمان المتيقّن أيضا لا يرد ، لما ذكره قدس‌سره ردّا من أنّا نشكّ في الماء الّذي زال تغيّره بعد تغيّره ، بل زمان شكّنا من أوّل الأمر فيتّصل زمان الشكّ بزمان اليقين وزمان المشكوك بزمان المتيقّن أيضا.

(وقد أشكل عليه الميرزا (١) بأنّا لا نعتبر اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ولذا نجري الاستصحاب حتّى في صورة تخلّل الغفلة والنوم بينهما ، بل لو حدث اليقين والشكّ في آن واحد ، بل إنّما نعتبر اتّصال المشكوك بالمتيقّن لقوله عليه‌السلام : «من كان على يقين فشكّ» (٢) وهو مفقود في المقام بالنسبة إلى غير الحكم الفعلي فيجري ، ولا يجري استصحاب عدم الجعل لعدم اتّصال مشكوكه بالمتيقّن.

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره بحسب الكبرى متين إلّا أنّ دعوى فقده في المقام غير تامّة ، لأنّ الشكّ في سعة الجعل وضيقه ولا ريب أنّ الجعل للنجاسة أو للحدث بالنسبة إلى ما بعد زوال التغيّر أو لما بعد انقطاع الحيض متّصل بالمتيقّن وهو عدم جعلهما أصلا ، نعم علم انتقاض هذا العدم إلى الوجود بالنسبة إلى زمن التغيّر وجريان الدم ، فتأمّل) (٣).

بقي هنا شيء وهو أن يقال : إنّ استصحاب عدم جعل النجاسة معارض في مرتبة الجعل باستصحاب عدم جعل الطهارة فيعارضه ويتساقطان ، فيرجع إلى استصحاب النجاسة الفعليّة.

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أوّلا فلأنّه بناء على ما هو التحقيق من أنّ جعل الأحكام تدريجي

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ١١٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٥ ـ ١٧٦ ، الباب ٤ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

(٣) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية للدرس.

٥٣٤

وأنّ الأصل هو الإباحة فيما لم يثبت تحريمه فلا حاجة إلى جعل الطهارة ، لأنّ الأشياء كلّها على الطهارة فالنجاسة هي المحتاجة إلى الجعل.

وأمّا ثانيا : فلو سلّمنا جريان أصالة عدم جعل الطهارة فليس بينهما معارضة أصلا ، غاية الأمر نعلم إجمالا بكذب أحدهما ، وسيأتي في أواخر الاستصحاب عدم المانع من جريان الاستصحابين إذا علم بكذب أحدهما إذا لم يكونا متناقضين أو يؤدّيا إلى مخالفة عمليّة ، خلافا للميرزا النائيني قدس‌سره (١) فمنع لمجرّد العلم بالمخالفة ، نعم ، استصحاب الطهارة والنجاسة معا غير ممكن للمناقضة والمعارضة لكنّ عدم جعلهما لا مانع منه.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الشبهة حكميّة ، والمرجع في جريان الاستصحاب على تقديره هو المجتهد فلا يحتاج إلّا إلى فرض موضوع في الخارج ، فحينئذ تتعارض الاستصحابات الثلاثة في عرض واحد ولا يتعارض الاستصحابان في مقام الجعل ليرجع إلى الاستصحاب في مقام المجعول ويعمل به ، بل هو أحد الاستصحابات المتعارضة.

ودعوى : أنّهما إمّا متعارضان أو متساقطان أو أنّ الأصل السببي ـ وهو أصالة عدم جعل النجاسة ـ يحكم على الأصل المسبّبي وهو استصحاب النجاسة الفعليّة فعلى كلّ حال لا تتعارض الاستصحابات الثلاثة.

مدفوعة بأنّ الأصل السببي إنّما يحكم على الأصل المسبّبي حيث يكون المسبّبي من آثاره الشرعيّة لا من لوازمه العقليّة ، وأمّا إذا كان من اللوازم العقليّة له فلا مانع من جريانهما معا ، وفي المقام استصحاب عدم الجعل إنّما يقتضي بالملازمة العقليّة عدم جريان استصحاب النجاسة له للزوم التنافي.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٦٩ و ٣ : ٨٩.

٥٣٥

وقد أشكل الميرزا النائيني قدس‌سره (١) على استصحاب عدم الجعل وزعم أنّه لا يجري ، وحينئذ فاستصحاب النجاسة الفعليّة لا معارض له أصلا ، لأنّ المعارض المحتمل هو استصحاب عدم جعل النجاسة للماء بعد زوال التغيّر ، فإذا لم يجر هذا الاستصحاب فلا معارض للنجاسة الفعليّة.

ووجه منع الميرزا هو أنّ الجعل لا أثر له بنفسه وإنّما الأثر للمجعول وعدمه ، وترتيب آثار المجعول على أصالة عدم الجعل لا يمكن ؛ لأنّه لازم عقلي له ولا نقول بحجّية الأصل المثبت.

فتلخّص أنّ أصالة عدم الجعل لا تجري ، لأنّها مثبتة لآثار المجعول ولا أثر لها بنفسها.

أقول : قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط أنّ الجعل هو عبارة عن الاعتبار النفساني ، وأنّ الحكم المجعول هو عبارة عن نفس المعتبر ، وأنّ الاعتبار قد يكون فعليّا ومعتبره أيضا فعليّا ، وقد يكون الاعتبار فعليّا ويكون المعتبر أمرا استقباليّا. وذكرنا أنّ هذا الاعتبار بنفسه هو المحرّك للمكلّف الغافل نحو الفعل. وحينئذ فالاعتبار أثره هو التحريك الّذي هو حكم من أحكام العقل ، وعدمه أثره عدم التحريك وتوقّفها على الموضوع لعدم تحقّق المعتبر قبله ، فلو أحرزنا عدم الجعل للنجاسة فأثره إنّما هو عدم التحريك نحو اجتنابه مثلا ، وكفى بهذا الأثر أثرا لأصالة عدم الجعل حينئذ.

ويرشد إلى ذلك إجراء الميرزا قدس‌سره (٢) استصحاب الوجوب الّذي هو نفس الجعل ، مثلا إذا شككنا في حكم وجوبي أنّه نسخ أم لا فلا يتوقّف قدس‌سره في إجراء استصحاب عدم النسخ ولا يقول بأنّ استصحاب الوجوب لا يجري ، لأنّ ترتيب آثار الواجب

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ١١٠ ـ ١١٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٠٩ و ١٢٧.

٥٣٦

عليه إنّما يجدي إذا قلنا بجريان الاستصحاب لإثبات لازمه العقلي وإنّما هو استصحاب لنفس الجعل ، فكما أنّ أثر الجعل هو التحريك نحو الواجب كذلك أثر عدم الجعل هو الترخيص في الترك مثلا حيث تكون الشبهة وجوبيّة ، أو في الفعل حيث تكون الشبهة تحريميّة ، على أنّ جواز الإفتاء من آثار الجعل ولا يتوقّف على وجود الموضوع الّذي به يتحقّق المجعول وكفى به أثرا لجريان الأصل. فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة لا يجري للمعارضة.

بقي شيء وهو أنّا إنّما نقول بعدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة من جهة المعارضة فحيث لا معارضة لا مانع من الجريان ، كما إذا كان الحكم هو الترخيص (مثلا إذا شكّ في حلّيّة العصير التمري وحرمته فاستصحاب الحلّيّة الّذي هو الحكم الفعلي يجري بلا معارض ، لأنّ استصحاب عدم جعل النجاسة له موافق لاستصحاب الطهارة الفعليّة.

ولا يقال : استصحاب عدم جعل الطهارة أيضا يجري فيعارضه ، لأنّ الطهارة لا تحتاج إلى جعل كالإباحة في الأشياء ، وإنّما المحتاج إلى الجعل هو الأحكام الإلزاميّة والوضعيّة الّتي تؤول إلى الإلزاميّة كجعل النجاسة مثلا.

ومثل الحلّيّة في المقام النجاسة الحدثيّة والخبثيّة) (١) ، فإنّه إذا شكّ المتطهّر في أنّ المذي هل هو رافع للطهارة وناقض لها أم لا؟ ففي مثله لا مانع من استصحاب الطهارة الكائنة قبل خروج المذي مثلا ، لأنّ استصحاب عدم جعله ناقضا حينئذ مؤيّد لبقاء الطهارة لا معارض لها. ولا معنى لقول النراقي في المقام أنّ سببيّة الوضوء غير معلومة أنّها إلى خروج المذي أو حتّى بعده (٢) ، فإنّا ليس لنا شكّ في سببيّة الوضوء للطهارة ، وإنّما مآل شكّنا إلى أنّ المذي مثلا هل هو ناقض أم لا؟

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٢) المناهج : ٢٣٧.

٥٣٧

فمرجع الشكّ إلى الشكّ في جعل الناقضيّة والأصل عدمها ، فالأصل حينئذ مؤيّد لبقاء الطهارة لا معارض لها ، وكذا الطهارة الخبثيّة حيث يكون الحكم المجعول إلزاميّا كتحريم وطء الحائض قبل الغسل بعد النقاء ، أو يؤول إلى كونه إلزاميّا كالنجاسة مثلا مورد المعارضة ، وأمّا إذا لم يكن إلزاميّا أو وضعيّا لا يؤول إلى الإلزام كالطهارة مثلا فلا مانع من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، فافهم وتأمّل.

هذا تمام الكلام في هذا التفصيل ، وملخّصه أنّ الاستصحاب حجّة في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة حيث يكون الحكم المجعول ترخيصيّا أو يؤول إلى الترخيص كالطهارة ، وعدم حجّيته حيث يكون الحكم المجعول إلزاميّا.

بقي شيء وهو أنّه ربّما يقال : إنّ الصحيحة المذكورة إنّما دلّت على تحريم نقض كلّ يقين بالشكّ فلا تدلّ على حجّية الاستصحاب ، إذ لفظ اليقين محلّى بلام الجنس وقد وقع في سياق النفي ، فمعناها أنّ مجموع أفراد اليقين لا تنقضها بالشكّ فلا تدلّ على حرمة نقض كلّ فرد من أفراد اليقين بالشكّ ، فلا تدلّ على حجّية الاستصحاب كلّية ، بل في الجملة. ولا يخفى عليك ظهور اليقين في إرادة كلّ فرد فرد منه لا المجموع ، مع أنّ كونه في سياق النفي إنّما يوجب إرادة المجموع إذا وقع مدخولا للنفي مثل : لا تكرم كلّ أحد ، كما أنّه لا يناسب حينئذ تعليل الإمام عليه‌السلام بها للمورد كما هو واضح جدّا ، فتأمّل.

في صحيحة زرارة الثانية وهي رواية طويلة تضمّنت فروعا كثيرة لها أهمّيتها وتضمّنت عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة ، فتكون هي الدليل لعدم وجوب الفحص لا الإجماع كما قيل ، ولو قيل بأنّها إنّما تضمّنت عدم وجوب الفحص في خصوص موردها لدلّت على عدم وجوب الفحص بعدم القول بالفصل أو بالقول بعدم الفصل الّذي هو الإجماع المركّب.

٥٣٨

«قال : قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المنيّ فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء فحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك ، قال عليه‌السلام : تعيد الصلاة وتغسله.

قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته ، قال عليه‌السلام : تغسله وتعيد.

قلت : فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت ولم أر شيئا فصلّيت فيه فرأيت فيه ، قال : تغسله ولا تعيد الصلاة.

قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.

قلت : فإنّي قد علمت أنّه أصابه ولم أدر أين هو فأغسله ، قال : تغسل من ثوبك الناحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك.

قلت : فهل عليّ إن شككت أنّه أصابه أن انظر فيه؟ قال : لا ولكنّك تريد أن تذهب بالشكّ الّذي وقع من نفسك.

قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة ، قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته. وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ الحديث (١).

وكيف كان ، فما يخصّ من هذه الرواية الاستصحاب عبارتان من الرواية :

الاولى : قول زرارة سائلا من الإمام عليه‌السلام : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئا فصلّيت فرأيت فيه ، قال عليه‌السلام : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ ، الحديث ١٣٣٥.

٥٣٩

الثانية : قوله عليه‌السلام : وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ.

ولا يخفى عليك أنّ الكلام في سند الرواية وإضمارها ومفردات ألفاظها من النقض وغيره هو الكلام في الصحيحة الاولى حرفا بحرف. نعم ، فيها زيادة «لا ينبغي» وهي أظهر في كون القاعدة وهي عدم النقض لا ينبغي صدوره من العقلاء.

وإنّما الكلام في تطبيق هاتين الفقرتين على موردهما فنقول : أمّا تطبيق الفقرة الثانية ففي غاية الوضوح ، لأنّه فرض أنّه لم يكن شاكّا في ثوبه وصلّى ثمّ في أثناء الصلاة رأى شيئا رطبا يحتمل أن يكون قد وقع عليه في أثناء الصلاة ، فالإمام عليه‌السلام قال : ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالطهارة قبل الصلاة بالشكّ في كون الدم أصابك قبلها أو في أثنائها ، ويظهر من هذا التعليل أنّه لو علم في الأثناء بكون الدم موجودا قبل الصلاة تبطل الصلاة.

ومن هنا فصلّ جماعة في الجاهل بالنجاسة الملتفت إليها في الأثناء بين من علم حينئذ تحقّقها قبل الصلاة فتبطل ، ومن لم يعلم فتصحّ صلاته (١).

وبالجملة ، فتطبيق هذه الكلّية المذكورة في ذيل الرواية على موردها من الوضوح بمكان.

وأمّا الاولى ففي تطبيقها إشكال ، لأنّ السائل ظنّ إصابة الدم لثوبه فنظر فلم ير شيئا فصلّى ثمّ رأى فيه يقينا ، فليس نقضا لليقين بالشكّ وإنّما هو نقض لليقين باليقين.

__________________

(١) انظر العروة الوثقى ١ : ٩٤ في أحكام النجاسات ، فصل إذا صلّى في نجس.

٥٤٠