غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

الثاني : ممّا يجب التنبيه عليه أنّا قد ظهر من مطاوى كلماتنا كون وجوب التعلّم عقليّا مقدميّا إلى العمل وعدم وجوبه لنفسه ؛ لأنّ رواية : «هلّا عملت؟ فيقول : ما علمت ، فيقال : هلّا تعلمت» صريحة في الوجوب المقدّمي لا أقلّ من ظهورها في ذلك. فلو ترك التعلّم وترتّب عليه ترك الواجب فلا إشكال في استحقاقه للعقاب حينئذ على الواجب الفائت.

وإنّما الكلام في أنّه لو ترك التعلّم والتفحّص بالنسبة إلى واجب لو تفحّص لم يصل إلى حكمه لعدم قدرته على ذلك الكتاب المتكفّل لذلك الواجب فترك الواجب فهل يعاقب على ترك ذلك الواجب أم لا؟ ذهب الميرزا النائيني إلى أنّه يعاقب ؛ لأنّه ترك للواجب بلا مؤمّن (١) إذ لو فحص فلم يجد لجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان فتكون مؤمّنة لكنّه لم يفحص ، وهي لا تجري قبل الفحص ، فمثل هذا تارك للواجب وللمصلحة الملزمة بلا مؤمّن فيستحقّ العقاب. وبنى على ذلك في الفقه فأوجب الفحص حتّى فيما لو تفحّص لم يجد ، فلو ترك التفحّص فصادف أنّه كان عملا واجبا في الواقع فتركه يعاقب على ترك ذلك العمل ؛ لأنّه ترك للواجب من غير مؤمّن.

هذا هو وجه ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره وهو تامّ على مبناه من كون الدليل على وجوب الفحص هو العلم الإجمالي الغير المنحلّ (٢) وكذا لو كان الدليل أخبار التوقّف (٣) والاحتياط (٤) بدعوى كون الأوامر فيها مولويّة ، وأمّا لو كان الدليل هو آية السؤال (٥) أو خبر : «هلّا عملت» فلا عقاب في الفرض ؛ لأنّ المفروض أنّه لو سئل أيضا لا يصل ولو يفحص وتعلّم أيضا لا يصل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٦٦ ـ ٥٦٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٥٦٧.

(٣) انظر الفوائد ٢ : ٦٣.

(٤) المصدر المتقدّم : ٦٤.

(٥) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.

٤٦١

وحينئذ فتكون أخبار التوقّف والاحتياط بيانا لو كانت مولويّة.

أمّا لو قلنا بكونها إرشاديّة فالظاهر أنّ العقاب إنّما هو على التجرّي في المقام لا على ترك الواقع ؛ لأنّ الواقع قد فرضنا أنّه لو تفحّص لما وجده فلا بيان بالنسبة إليه ؛ لأنّ المراد من البيان جعله في مظانّ الحصول عند الفحص بحيث لو فحص لوجده ، فعدم كونه في مظانّ الحصول معناه عدم البيان ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان موجودة غير أنّ المكلّف حيث لم يفحص لم يكن عالما بها ؛ لأنّها إنّما تحرز بعد الفحص فإذا لم يفحص لم يحرز عدم البيان لا أنّ القاعدة لا تجري إلّا بعد الفحص ، بل لا يحرز جريانها إلّا بعد الفحص. فهذا المكلّف التارك للفحص قاعدة قبح العقاب بلا بيان جارية في حقّه ، غير أنّه لم يكن عالما بها لعدم فحصه فحيث لا مؤمّن له يكون متجرّيا فيبنى عقابه على قاعدة التجرّي.

الثاني : في حكم عمل تارك الفحص

والظاهر أنّ المكلّف إذا ترك الفحص وعمل بلا فحص عمله باطل ، بمعنى أنّه لا يجوز له الاقتصار عليه ، فمن لم يعلم أنّ مقلّده يرى وجوب السورة في الصلاة أو لا إذا صلّى بلا سورة من دون أن يفحص عن رأي مقلّده فمقتضى القاعدة بطلان عمله ، بمعنى أنّه ليس له الاقتصار عليه ، بل لا بدّ من الفحص والعمل على ما يقتضيه فحصه.

وهذا هو المراد من البطلان في عبارة العروة وغيرها (١) لا أنّ المراد بالبطلان البطلان الشرعي بحيث لا تجزئ وإن ظهر مصادفتها للواقع ، بل المراد البطلان الظاهري فيجب عليه ترك الاقتصار عليها ، وحينئذ فهل المناط في صحّتها مطابقتها للواقع أو مطابقتها لفتوى من كان يجب عليه تقليده في ذلك الوقت؟

__________________

(١) انظر العروة الوثقى ١ : ٧ ، المسألة ١٦ (الاجتهاد والتقليد) ، والفرائد ٢ : ٤٠٦.

٤٦٢

وحيث إنّ طريق الواقع بالنسبة إلى هذا المكلّف منحصر بفتوى المقلّد الفعلي فيعود النزاع إلى أنّه يعتبر مطابقة عمله لفتوى من يجب عليه تقليده الآن ، أو لفتوى من كان يجب عليه تقليده حين العمل ، أو لهما معا ، ولكلّ وجه.

والظاهر أنّ تارك الفحص والتعلّم لفتوى من يجب عليه تقليده إذا عمل بلا فحص ، فإمّا أن يكون رأي مقلّده حين عمله وجوب السورة مثلا وقد تركها ذلك الجاهل المقصّر بعدم السؤال ، ولكن مقلّده الآن لا يرى وجوب السورة فهو يعاقب على ترك السورة في محلّه ، ولكنّه لا يجب عليه الإعادة إن كان في وقتها ولا القضاء إن كان في خارجه ؛ لأنّه إذا سئل مقلّده الحالي عن صلاته السابقة يفتي بصحّتها فلا يوجب عليه الإعادة ولا القضاء؟

ولو فرض الأمر بالعكس بأن كان رأي مجتهده السابق عدم وجوب السورة ورأي الحالي وجوبها فصلّى حين كان مقلّدا للسابق بلا فحص عن رأيه ولكن ترك السورة في صلاته ، فمقتضى القاعدة وجوب الإعادة لو مات ذلك المجتهد السابق وقلّد مجتهدا آخر والوقت باق فضلا عن القضاء ؛ لأنّه بحسب نظر هذا المجتهد لم يسقط أمره بالصلاة بل هو بعد باق ، فلو كان في الوقت فعليه الإعادة ولو كان في خارجه فقد فاتته الصلاة الواجبة فعليه القضاء. (وحديث «لا تعاد» وإن قلنا بشموله للجاهل إلّا أنّه مختصّ بخصوص القاصر لا المقصّر ، والإجماع على عدم إعادة الأعمال المطابقة لفتوى من يجب تقليده على تقدير تسليمه فيما إذا استند عمله إلى الفتوى ، وأمّا فيما إذا طابق اتّفاقا فلا إجماع قطعا) (١).

وهذا بالنسبة إلى غير العبادات أيضا جار ، بل مقتضى القاعدة أنّه لو عمل بتقليد واطّلاع على رأي المقلّد بفتاوى ذلك المقلّد ثمّ مات ذلك المقلّد ، وقلّد شخصا آخر يرى بطلان بعض أعماله السابقة الصحيحة في رأي المقلّد السابق

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٦٣

وجوب إعادتها إلّا أنّ الإجماع قائم على أنّ المقلّد تقليدا صحيحا لا يعيد ما فعله بفتوى المقلّد السابق وإن كان باطلا بفتوى المقلّد الحالي.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ تارك الفحص والتعلّم إذا عمل فلا بدّ من مطابقة عمله للواقع المكتشف بفتوى المجتهد الحالي إلّا أنّه خرج من هذه الكلّية موردان : الجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، والإتمام في مورد القصر ، وخروجهما من هذه الكلّية ومعذوريّة الجاهل المقصّر فيها مسلّمة إلّا أنّ الكلام في وجه ذلك ، حيث إنّ الصحّة وعدم العقاب متلازمان كما أنّ الفساد واستحقاق العقاب أيضا متلازمان ، فكيف يلتزم بصحّة الجهر في موضع الإخفات وعكسه ، وبصحّة الإتمام في موضع القصر حيث يصدر جهلا بالحكم وإن كان تقصيرا ، ويلتزمون أيضا باستحقاق العقاب ، فإنّ الصحّة معناه عدم العقاب والعقاب معناه عدم الصحّة؟ وقد اجيب عن ذلك بوجهين :

أحدهما : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وملخّصه أنّه يمكن أن يكون في صلاة القصر للمسافر مصلحة ملزمة فمن جهتها يأمر المولى بها ، وتكون أيضا في الصلاة التماميّة للمسافر مصلحة ملزمة دون تلك المصلحة الأوّليّة حال الجهل بالحكم ووجوب القصر ، ويكون بين هاتين المصلحتين تضادّ بحيث مع استيفاء كلّ منهما يستحيل استيفاء الثانية ، وحينئذ فيكون هذا المكلّف بسبب تفويته التعلّم ترك المصلحة الاولى الملزمة فيستحقّ عليها عقابا وتكون صلاته صحيحة من ناحية ما فيها من المصلحة الملزمة.

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره ـ مع بعد فرض تضادّ المصلحتين ، فإنّ التضادّ ممكن في الأفعال أمّا في ملاكات الأحكام فهو بعيد ـ مستلزم لوجوب واجبين على الجاهل بالحكم بحيث لو فرض أنّه لم يصلّ لاستحقّ عقابين لتفويته لكلا المصلحتين ، وهو مع أنّه خلاف ظواهر الأدلّة وخلاف الإجماع على الظاهر لا يلتزم هو قدس‌سره به.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٢٨.

٤٦٤

وبهذا بعينه يردّ الوجه الثاني : الّذي ذكره كاشف الغطاء قدس‌سره (١) من الالتزام بالترتّب ، فإنّ لازمه تعدّد الواجب على هذا الجاهل بخصوصه دون العالم ، ويكون من قبيل تعدّد المطلوب وإنّ في كلّي الصلاة الجامع بين القصر والإتمام مصلحة ، وفي خصوص كيفيّة القصر أيضا مصلحة اخرى فحيث تفوت الثانية لا تفوت الاولى ، وهم لا يلتزمون به فإنّ المصلحتين إن كانتا ارتباطيّتين فلا تحصل بالإتمام إحداهما أصلا ، وإن لم يكونا ارتباطيّتين فهو الواجب في الواجب ، ولا يلتزمون به وبلوازمه ، مع مخالفته لظواهر الأدلّة وللإجماع بحسب الظاهر.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره على الترتّب في خصوص المقام إيرادات ثلاثة :

الأوّل : أنّه غير معقول ؛ لأنّ الخطاب حينئذ يكون بلسان «أيّها العاصي جهلا لوجوب الجهر أو الإخفات أو القصر» وهو مع توجّهه ووصوله إليه يخرج عن كونه جاهلا بالحكم ، ومع عدم الوصول لا يفيده. وبالجملة ، فالخطاب بالإتمام في المقام موقوف على توجيه الخطاب ب «أيّها العاصي جهلا» وهو مع وصوله يخرج عن كونه جاهلا بوجوب القصر فلا يجوز له الإتمام.

الثاني : أنّ العصيان لا يتحقّق إلّا بترك الصلاة القصريّة في مجموع الوقت والمدّعى صحّتها ولو اطّلع في الأثناء ، فيختصّ التوجيه بخصوص من صلّى في آخر الوقت والدعوى أعمّ.

الثالث : أنّ الترتّب في المقام لا دليل عليه وإن كان ممكنا ، وإنّما التزمنا به في مقام التزاحم من جهة وجود الإطلاقين لكلا الخطابين من : صلّ وأزل ، وفي المقام الصحيحة (٢) إنّما دلّت على صحّة الصلاة ولم تدلّ على كون الصحّة من جهة الترتّب (٣).

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ١٧١ (البحث الثاني عشر).

(٢) انظر الوسائل ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة ، الحديث ١ و ٢ ، و ٥ : ٥٣١ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٤.

(٣) انظر أجود التقريرات ٣ : ٥٧٢ ـ ٥٧٣.

٤٦٥

ولا يخفى عليك ما في هذه الردود :

أمّا الأوّل : فلأنّ الخطاب الترتّبي ليس منحصرا بلسان «أيّها العاصي» حتّى يلزم ما ذكره بل يمكن أن يكون بلسان «أيّها التارك ولو في بعض الوقت» وذكر العصيان في باب الترتّب إنّما هو من باب المثال وبهذا اندفع الإيرادان الأوّلان.

وأمّا الثالث وهو دعوى أن لا دليل عليه : فالدليل دالّ عليه وهو الصحيحة المذكورة ، فإنّها دلّت على صحّة الصلاة والكلام في الوجه لا في أصل الصحّة والترتّب صرف إمكانه يكفي في المقام.

فتلخّص أنّ الترتّب لو لا ما ذكرنا من أنّه خلاف ظواهر الأدلّة ، فإنّ الأدلّة صريحة في أنّ الواجب على الإنسان خمس فرائض وإذا التزم بالترتّب يكون الواجب ستّة في صورة الجهل بالقصر أو بالجهر أو الإخفات وخلاف الإجماع أيضا لاستلزامه عقابين لو تركهما معا ، فالوجه في ردّ الترتّب هو هذه الامور لا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره.

وقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ كلا هذين التوجيهين غير مفيد ، فالتحقيق أن يقال : إنّ هذا الجاهل بوجوب القصر أو الجهر أو الإخفات لو أتى بما هو واجب عليه واقعا اشتباها ـ مثلا إذا كان جاهلا بوجوب القصر ولكنّه اشتباها صلّى قصرا وسلّم على الركعتين ، ثمّ التفت أنّه سلّم على الركعتين ، ثمّ علم بوجوب القصر عليه في هذا الحال ـ فإمّا أن يقال بوجوب الإعادة عليه ، وهو بعيد غايته ؛ لأنّه قد أتى بما هو مكلّف به واقعا جامعا لجميع الأجزاء والشرائط.

وإمّا أن لا يقال فيه بوجوب الإعادة ، فعلى الثاني فهذا إذا ضمّ إلى الصحيحة الدالّة على صحّة صلاة الجاهل لو خالف الواقع وأنّه تمّت صلاته يستفاد الوجوب التخييري في هذا الحال ـ أي حال الجهل ـ سواء أتى بالجهر أو الإخفات ،

٤٦٦

ولا نلتزم بالعقاب في المقام ولما ذا نلتزم بالعقاب والإمام عليه‌السلام يقول : «قد تمّت صلاته» (١) فهل نقص منها شيء حتّى نلتزم بالعقاب لذلك الفائت؟

وبالجملة ، فالتزامهم بالعقاب مع التزامهم بصحّة الصلاة هو الّذي ألجأهم إلى الحيرة في الجمع بين هذين الأمرين ، لكنّ الالتزام بالعقاب لا وجه له ، مع فرض أنّ صلاته صحيحة تامّة ولا ملزم له أيضا فنحن لا نرى وجها للالتزام به.

ودعوى الإجماع على استحقاق العقاب عهدتها على مدّعيها ، فإنّ جميع الفقهاء إنّما تعرّضوا لصحّة الصلاة حينئذ ولم يتعرّضوا للعقاب وإنّما ذكره بعض من تأخّر ، مع أنّ قيام الإجماع لا يثبت استحقاق العقاب فإنّ المسألة ليست فرعا من الفروع الفقهيّة حتّى يثبتها الإجماع ، فافهم.

وإمّا أن يقال فيه بوجوب الإعادة بمعنى أنّه يقال فيمن اعتقد وجوب الإخفات في صلاة الغداة مثلا ثمّ جهر فيها غفلة إنّه يعيد ثانيا بعد علمه بوجوب الجهر جهرا ، فإن قلنا بذلك فلا محيص عن الالتزام بأنّ حكمه الواقعي حال الجهل هو الإخفات؟ وحينئذ فعدم العقاب أوضح ؛ لأنّ من أتى بتكليفه الإلهي الواقعي لما ذا يعاقب؟ خصوصا بعد حكم الإمام عليه‌السلام بأنّه قد تمّت صلاته ولا شيء عليه ، فافهم.

(نعم ، في خصوص مسألة القصر والإتمام يمكن أن يقال إنّ تكليفه الواقعي هو القصر وعدم إجزاء المتمّ عامدا عالما إنّما هو لكونه قد زاد في فرض الله ، وحينئذ فالجاهل تكون صلاته صحيحة من جهة الدليل المخصص لحديث : من زاد في صلاته فليستقبل الصلاة ، والإثم إنّما هو من جهة التشريع في نسبة الزيادة إلى الله تعالى) (٢).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة ، الحديث الأوّل.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

٤٦٧

هذا تمام الكلام في وجوب الفحص في الشبهة الحكميّة. وعدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة ؛ لإطلاق الأدلّة من حديث الرفع وغيره ، مضافا إلى الأدلّة الخاصّة الدالّة على عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة كما في صحيحة زرارة (١) وغيرها (٢).

[تنبيهات البراءة]

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : يتكفّل لأمرين :

أحدهما : أنّه قد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) وغيره (٤) أنّ الشبهة الموضوعيّة لا يجب فيها الفحص ، إلّا أنّ هناك موارد من الشبهة الموضوعيّة لا بدّ من الالتزام بوجوب الفحص فيها ، مثل من شكّ في أنّه مستطيع أم لا ، أو شكّ في أنّ عليه الخمس لزيادة ربحه على مئونة سنته أم لا ، أو شكّ في أنّ غلّته بلغت النصاب أم لا ، فمثل هؤلاء ليس لهم أن يستريحوا بإعمال أصالة البراءة في هذه الشبه الموضوعيّة من دون فحص. ودليل وجوب الفحص نفس دليل التشريع لهذه الامور ، فإنّها لا تعلم بغير فحص فلا بدّ من الفحص وإلّا لم تكن فائدة لتشريعها. والضابط الجامع لهذه الامور كلّ موضوع لا يمكن معرفته إلّا بالفحص لا بدّ فيه من الفحص.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٥٣ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

(٢) المصدر السابق : الحديث ٥ و ١٠٧١ ، الباب ٥٠ ، الحديث ٣ ، و ١٧ : ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٤.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٥٧٨ ، وفوائد الاصول ٤ : ٣٠١.

(٤) كالشيخ في الفرائد ٢ : ١٤٠ و ٤١١ ، والآخوند في كفاية الاصول : ٤٢٤.

٤٦٨

والجواب : أنّ ما ذكره صحيح لو كانت معرفة المستطيع متوقّفة على الفحص بحيث بلا فحص لا يعلم أحد أنّه مستطيع ، ولكنّه ليس كذلك فإنّ الاستطاعة قد تعلم كما إذا علم أحد أنّه مات مورّثه وهو يملك عشرات الآلاف من الدنانير فإنّ هذا عالم باستطاعة نفسه من غير فحص ، وكذلك التاجر إذا علم أنّه باع عشرة آلاف كيس سكّر مثلا ويربح في كلّ كيس عشرة دنانير فهو عالم بالاستطاعة من غير فحص.

وبالجملة ، هذه الموضوعات كغيرها قد تكون أفرادها جليّة وقد تكون أفرادها خفيّة ، مثلا الاجتهاد والعدالة قد يكونان معلومين من شخص فلا يجب الفحص عنهما ، وقد يكونان مجهولين من شخص آخر فيجب الفحص عنهما.

نعم ، لو كان معرفة الاستطاعة والزكاة ملازما للفحص لكان دليل التشريع دالّا على لزوم الفحص وإلّا لكان التشريع عبثا ، ولكنّه ليس كذلك بل هو كسائر الموضوعات الأخر.

نعم ، خصوص الخمس بناء على مذاق المشهور (١) من تعلّق الوجوب بمجرّد ظهور الربح وأن التأخير إلى آخر العام إرفاق للعبد من المالك الحقيقي يجب الفحص ، ولكن بعد الفحص عن أنّه صرف الربح في النفقة أم لا يجب عليه الاحتياط لو لم يظهر له أنّه صرفه أم لا ؛ لأنّ استصحاب عدم صرفه محكّم فيجب عليه خمسه ، ولكنّ الكلام في الفحص في مورد البراءة لا في الفحص في مورد الاشتغال للاستصحاب ، وأمّا على ما ذهب إليه بعض المتقدّمين (٢) من عدم وجوب الخمس إلّا بعد حئول الحول ولعلّه الأظهر من حيث الأدلّة ، فحكمه حكم غيره من عدم وجوب الفحص ، فافهم.

__________________

(١) انظر الجواهر ١٦ : ٧٩.

(٢) السرائر ١ : ٤٨٦.

٤٦٩

الأمر الثاني : أنّ الميرزا النائيني قدس‌سره ذكر أنّ عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة لا يستلزم عدم وجوب النظر بعينه (١) مثلا إذا شكّ أنّ هذا خمر أو خلّ وإذا نظر إليه بعينه يعرفه فليس له أن يغمض عينيه بدعوى أنّ الشبهة الموضوعيّة لا يجب فيها الفحص ، فإنّ فتح العين ليس بفحص ، فعدم وجوب الفحص لا ينافي وجوب النظر. نعم في باب النجاسة والطهارة لا يجب النظر ؛ لأنّا علمنا من مذاق الشارع أنّه متوسّع لها ، مضافا إلى ورود الرواية بعدم وجوب النظر (٢).

والجواب : أنّ كون النظر ليس من أفراد الفحص مسلّم ، فإنّ الفحص لا يشمل مثل فتح العين ولكن أيّ دليل دلّ على وجوب النظر؟ فإنّ إطلاق حديث الرفع يدلّ على إباحة ما لم يعلم وهذا الشخص قبل فتح عينيه عالم بأنّه خمر أو بول أو شاكّ ، وكونه عالم خلاف الفرض فهو شاكّ ، فإذا كان شاكّا فقد رفع عنه ما لا يعلمه ، نعم لو كانت القاعدة تقتضي وجوب الفحص والنظر ، وهناك رواية دلّت على عدم وجوب الفحص لقلنا بلزوم النظر ، لكن لزوم الفحص ولزوم النظر خلاف إطلاق الأدلّة فالأصل عدم وجوبهما.

التنبيه الثاني : فيما ذكره الفاضل التوني قدس‌سره وملخّصه أنّ لجريان أصالة البراءة شرطين آخرين :

أحدهما : أن لا يكون أصل البراءة موجبا لتضرّر مسلم.

الثاني : أن لا يكون أصل البراءة موجبا لثبوت حكم إلزامي (٣).

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٧٨.

(٢) وهي صحيحة زرارة في الدم قال : قلت : فهل عليّ إن شككت أنّه أصابه شيء أن انظر فيه؟ قال عليه‌السلام : لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الّذي وقع في نفسك. الوسائل ٢ : ١٠٥٣ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

(٣) الوافية : ١٩٣.

٤٧٠

وقد اورد على الشرط الأوّل أنّ أصل البراءة حيث يكون موجبا للضرر فقاعدة الضرر حاكمة عليه وعلى جميع الأدلّة من الاصول وغيرها كالأدلّة الاجتهادية (١) وهذا لا يخصّ البراءة وإن لم يكن موردها موجبا للضرر فلا مجال حينئذ للكلام.

والظاهر أنّ الفاضل التوني قدس‌سره ليس ناظرا إلى قاعدة لا ضرر أصلا بقرينة قوله : لتضرّر مسلم ، وإنّما هي ـ يعني قاعدة لا ضرر ـ لا تخصّ المسلم ، بل إنّ مراده قدس‌سره أنّ حديث الرفع حديث يتضمّن حكما إرفاقيّا امتنانيّا على هذه الامّة المرحومة فلا يكون جاريا حيث يكون فيه ضرر على مسلم آخر ، مثلا في مقام الإتلاف لا تجري البراءة إذا كان الإتلاف عن غير علم أو مضطرّا إليه أو مستكرها عليه أو غيرها ممّا تضمنه حديث الرفع ؛ لأنّ جريان حديث الرفع يوجب تضرّر المتلف منه وهو مسلم ، فحديث الرفع لا يوجب تضرّر مسلم ؛ ولذا لا يقيّد إطلاق من أتلف بحديث الرفع أصلا ، بخلاف بقيّة الأدلّة الاجتهاديّة فإنّ قوله : من أتى أهله في شهر رمضان نهارا فعليه كذا يقيّد بحديث الرفع فلا تجب الكفّارة على الناسي والمضطرّ وغير العالم كالنائم مثلا وغيرها ، بخلاف حديث من أتلف مال الغير فلا يقيّد ؛ لأنّ تقييده بحديث الرفع يوجب تضرّر المسلم.

وأمّا الشرط الثاني فهو ناظر أيضا إلى أنّ حديث الرفع بما أنّه امتناني فلا يوجب ثبوت حكم إلزامي ، إلّا أنّ الظاهر أنّ ما ذكره في هذا الشرط الثاني غير تامّ :

فإنّه إن أراد أنّه لو كان ثمّة ملازمة بين رفع الإلزام وثبوت إلزام آخر ، مثل من علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا فلا تثبت أصالة عدم وجوب الظهر وجوب الجمعة ؛ لأنّه لازم عقلي بعد فرض العلم الإجمالي بوجوب أحدهما ، واللازم العقلي لا يثبت بأصل البراءة ، فهو وإن كان لا يثبت اللازم إلّا أنّ

__________________

(١) انظر الفوائد ٢ : ٤٥٥.

٤٧١

عدم الجريان في المقام ليس من جهة الأصل المثبت ، بل من جهة المعارضة فإنّا لو بنينا على حجّية المثبت من الاصول لم يجر البراءة هنا لا لأنّها مثبت ، بل لأنّها معارضة بالطرف الثاني.

وإن أراد غير هذا فهو يتصوّر على صورتين :

إحداهما : أن يكون ترتّب الحكم الإلزامي على جريان البراءة ترتّبا عقليّا كما إذا كان من جهة المزاحمة ، مثلا الآن هو شاكّ في وجود نجاسة في المسجد ليرتفع أمر الصلاة الموسّع بمقدار الإزالة أو إطلاق أمر الصلاة ، أم لا نجاسة في المسجد ليبقى أمر الصلاة أو إطلاقه ، فإذا أجرى البراءة من وجوب الإزالة فيبقى أمر الصلاة أو إطلاقه بحاله ، فهنا ليس البراءة هي المثبتة لحكم الصلاة ، بل إطلاق أمر الصلاة هو المثبت والمقتضي لوجوب الصلاة والبراءة إنّما رفعت المانع وهو المزاحمة ، فهنا تجب الصلاة ولا يقال بأنّ أصل البراءة لا يثبت حكما.

الصورة الثانية : أن يكون ترتّب الحكم على الإباحة ترتّبا شرعيّا وهو على وجهين أيضا :

الأوّل : أن يترتّب الحكم الإلزامي على الإباحة الواقعيّة ، مثلا إذا نذر أنّه إذا ابيح له التصرّف في مائة دينار إباحة واقعيّة يتصدّق بدرهم ، وشكّ في إباحة هذه المائة له وجواز تصرّفه فيها وعدمه ، فالبراءة من وجوب الاجتناب لا تجدي في ثبوت الحكم الإلزامي إلّا أنّه لأجل عدم تحقّق موضوع وجوب التصدّق وهو الإباحة الواقعيّة ، والبراءة الجارية إنّما أثبتت الإباحة الظاهريّة ، فعدم الثبوت لعدم الموضوع لا لأنّ البراءة لا يثبت حكما إلزاميّا.

الثاني : أن يترتّب الحكم الإلزامي على الأعمّ من الإباحة الظاهريّة والواقعيّة ، وهذا إذا جرت البراءة وثبتت الإباحة يتوجّه ويترتّب ذلك الحكم الإلزامي قطعا.

فقد ظهر أنّ ما ذكره التوني في الشرط الثاني غير تامّ.

هذا تمام الكلام في شرائط الاصول.

٤٧٢

في قاعدة لا ضرر ولا ضرار

بقي الكلام في قاعدة لا ضرر ، والكلام في كونها فقهيّة أو اصوليّة يظهر فيما بعد وكيف كان فيقع الكلام في موارد :

الأوّل : في سند الرواية وضبط الوارد منها ، لا يخفى أنّ الرواية قد وردت تارة في الشفعة (١) واخرى : في الميراث (٢) وثالثة : في البيع (٣). ولا ريب في كونها موثوقا بها من حيث السند ، لكون بعض طرقها صحيحا أو موثّقا. وأمّا المتن فقد ورد بأنحاء ، فمنها : ما هو بلسان «لا ضرر ولا ضرار» ومنها : ما هو بلسان «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن» ومنها : ما هو بلسان «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

وكيف كان فحيث كانت موارد الرواية متعدّدة لا يكون بينها تعارض من حيث وجود الزيادة وعدمها ، لإمكان أن يكون قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مورد : «لا ضرر ولا ضرار» وفي آخر بزيادة «على مؤمن» وفي ثالث بزيادة : «في الإسلام» فلا تدخل في قاعدة دوران أمر الرواية بين الزيادة والنقيصة ، لإمكان تكرّر تكلّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بها.

نعم ، قصّة سمرة بن جندب قد وردت بنحوين مطلقة ومقيّدة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «في الإسلام» وحيث إنّها نقل عن قضيّة واحدة فيقع التعارض بينها فتدخل في القاعدة المعروفة في دوران الرواية بين الزيادة والنقيصة ، وقد ذكر أهل الدراية في المقام ترجيح احتمال النقصان ؛ لأنّ احتمال الاشتباه والغفلة المنفيّ ببناء العقلاء غير منفيّ في مقام الدوران بين الزيادة والنقيصة ، وحينئذ فيدور الأمر بين ترجيح احتمال اشتباه

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣١٩ ، الباب ٥ من أبواب الشفعة ، الحديث الأوّل.

(٢) المصدر المتقدّم : ٣٧٦ ، الباب الأوّل من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١٠.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٦٤ ، الباب ١٧ من أبواب الخيار ، الحديث ٣ و ٤ و ٥.

٤٧٣

الراوي فيزيد أو اشتباهه فينقص ، ولا ريب أنّ بناء السيرة العرفيّة العمليّة على ترجيح احتمال كون النقصان عن غفلة ؛ لأنّ الزيادة عن غفلة بعيد بخلاف النقصان.

وكيف كان ، فالأقوى تقديم الرواية الّتي قد زيد فيها «في الإسلام» لما ذكر ، ولأنّها مرويّة في الكافي (١). ودعوى : كونها مرسلة فيه ، مدفوعة بأنّها ليست بلسان «روي» حتّى تكون مرسلة وإنّما هي بلسان «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهي تكشف عن ثبوت كونها قوله عند مؤلّف الكتاب ، وإلّا فلا يقول «قال» بل يقول «وروي». (وإن كان هذا إنّما يقتضي صحّتها عنده ولا ملازمة بين صحّة الرواية عند الكليني وصحّتها عندنا للاختلاف في ما يقتضي وصف الرواية بالصحّة ، وحينئذ فلا مثبت للرواية المذيّلة بالإسلام) (٢).

ولا يعتنى إلى ما يقال من أنّ الترجيح للمطلقة لورودها بأسانيد عديدة ؛ لأنّ هذه الأسانيد تنتهي إلى زرارة وحده ، فيدور الأمر بين اشتباهه واشتباه ابن بكير.

كما لا يعتنى باحتمال زيادة قوله : «على مؤمن» من الراوي بمناسبة الحكم والموضوع ، ضرورة عدم تأتّي هذا الاحتمال من مثل أكابر الرواة كزرارة وابن بكير وابن مسلم وغيرهم ، فإنّ شأنهم أجلّ من أن يحتمل ذلك في حقّهم. (على أنّ تارك ذكر الذيل لا ينفيه بل قد يكون غرضه بذكر المذيّل فقط) (٣).

ثمّ إنّ رواية لا ضرر ولا ضرار بدون ضميمة واردة في أقضية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث عقبة عن الصادق عليه‌السلام في ذيل حديث : «نهي النبيّ أهل المدينة عن المنع عن فضل الماء والكلأ» (٤). وفي ذيل حديث الشفعة (*) والّذي يخطر في النظر أنّ حديث

__________________

(١) وليس في رواية الكافي كلمة «في الإسلام» انظر الكافي ٥ : ٢٩٤ ، الحديث ٨.

(٢ و ٣) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية للدرس.

(٤) الكافي ٥ : ٢٩٣ ، الحديث ٦.

(*) فقد روى عقبة بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار. وقال : إذا عرفت (خ ل)

٤٧٤

لا ضرر ولا ضرار في كلّ من الموردين مستقلّ بنفسه وقد جمعه الراوي في روايته لا أنّه ذيل لحديث الشفعة ولحديث نهي أهل المدينة ؛ وذلك لعدم المناسبة لهذا الحديث ذيلا ، فإنّه في حديث نهي أهل المدينة ليس منعهم لفضل الماء ضررا بل هو مسلّط على ملكه فله أن يمنع وأن لا يمنع وإنّما هو حكم استحبابي أخلاقي.

وكذلك في الشفعة ، فإنّه ليس كلّ بائع يضرّ شريكه ببيعه على غيره ، بل وليست المضرّة نوعيّة حتّى يقال : إنّها حكمه ، بل قد يكون البيع ضررا وقد لا يكون ضررا بل قد يكون نفعا ، وحينئذ فلا مجال لهذا التذييل ، مضافا إلى أنّ البيع لو كان ضررا لكان باطلا لا أن يجبر بالخيار ؛ (لأنّ حديث لا ضرر ينفي الحكم الضرري أو الموضوع الضرري ، فإذا كانت شركة الشريك ضرريّة يرتفع صحّة البيع الّذي نشأت منه الشركة لا أن يتملّك العين بالشفعة) (١).

وبالجملة ، فالظاهر أنّ الرواية قد وردت من طرقنا مطلقة غير مقيّدة أيضا.

المورد الثاني : في معنى لا ضرر ولا ضرار ، فنقول : إنّ الضرر بحسب الظاهر من أهل اللغة اسم مصدر لضرّه يضرّه والمصدر الضرّ بالتشديد ، والضرر في مقابل المنفعة. ومعنى الضرر المنفيّ أو المنهيّ عنه في المقام هو عبارة عن النقص في المال أو في النفس أو في العرض. والمنفعة عبارة عن الزيادة في المال أو في النفس أو في العرض من الامور الاعتباريّة.

__________________

ـ العرف وحدّت الحدود فلا شفعة» ، كذا رواها في الكافي ، وربّما يكون ذيلها موهما لكون لا ضرر ذيلا لحديث الشفعة فيكون جمعا في المرويّ لا في الرواية لبعد كون الطرفين في الشفعة والوسط قد أدرج بينهما جمعا في الرواية ، إلّا أنّ هذا التوهّم مرفوع بأنّ فاعل «قال» الثانية هو الصادق عليه‌السلام لا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بدليل تصريح الصدوق بقال الصادق عليه‌السلام فليس ذيلا ، فتأمل. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة). الوسائل ١٧ : ٣١٩ ، الباب ٥ من أبواب الشفعة ، الحديث الأوّل ، الكافي ٥ : ٢٨٠ ، الحديث ٥.)

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٧٥

ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره في الكفاية (١) : من أنّ الضرر والنفع بينهما تقابل العدم والملكة وأنّ عدم النفع ممّا من شأنه النفع ضرر ، ليس كذلك أصلا فإنّ الضرر وان كان أمرا عدميّا إلّا أنّه ليس عدم النفع بل هو النقص كما ذكرنا.

وأمّا الضرار فالظاهر أنّه مصدر لضارّه يضارّه وأنّ المراد به القيام مع الغير مقام المضارّة ، فإنّ الضرار وإن اخذ من ضارّه الّذي هو باب المفاعلة الّتي ادّعي أنّها من الامور المتقوّمة بطرفين إلّا أنّها بحسب الاستعمالات العرفيّة خصوصا في القرآن وغيره عبارة عن القيام للضرر مع الغير نظير : نادى وقاتل وغيرها المستعملة في قيام المرء مقام المناداة والمقاتلة من ذلك الغير ، وحينئذ فالمراد من الضرار القيام من الغير مقام المضارّة. ويدلّ عليه أمران :

الأوّل : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار.

الثاني : إصرار سمرة على عدم البيع حتّى بذل له عوض عذقه عشرة أعذق بل وحتّى بذل له عذق في الجنّة وهو ممتنع عن ذلك ، فقال له النبي : إنّك مضارّ ولا ضرر ولا ضرار (٢) ولا قيام مقام المضارّة في الإسلام.

ثمّ إنّ هنا شيئا يجب التنبيه عليه وهو أنّ تطبيق لا ضرر على المورد في قصّة سمرة بن جندب غامض ، وذلك أنّ الضرر في المقام هو عبارة عن دخول سمرة على الأنصاري بغير إذنه وليس وجودها في منزله ضررا فكيف يقلعه الأنصاري بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويرمي به إليه أو وجهه؟

وبالجملة ، فتطبيق لا ضرر على القلع والرمي مشكل جدّا ، وقد اعترف الشيخ الأنصاري قدس‌سره بهذا الإشكال إلّا أنّه قال : إنّ هذا الإشكال لا يضرّ بالاستدلال فإنّا نستدلّ بها وإن لم نعلم كيفيّة تطبيقها في الخبر (٣).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٣٢.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٤ ، الحديث ٨.

(٣) انظر رسائل فقهيّة : ١١١.

٤٧٦

ويمكن أن يقال : إنّ قلعها ليس من جهة الضرر وإنّما هو لمعاندته النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن بذل له عشرة أعذق فلم يرض ثمّ ضمن له عذقا في الجنّة فلم يرض ، فحيث إنّ سمرة لعنه الله عاند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية على جميع المؤمنين وهو أولى بهم من أنفسهم خصوصا في مقام التأديب فقلعها بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله لولايته وتعبيره ب «لا ضرر ولا ضرار» لمعاندة ذاك في ترك الاستئذان بالدخول. ويؤيّده قوله : «اذهب فاغرسها حيث شئت» فإنّها كلمة سخرية به لمعاندته في ترك ما ذكر له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذا تمام الكلام في بيان الضرر والضرار والإشكال في التطبيق على المورد.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره عن هذا الإشكال بجوابين :

أوّلهما : هو ما ذكرناه بعينه غير أنّه أبدل قولنا «تأديبا» بقوله : حسما لمادّة الفساد.

وثانيهما : أنّ دخول سمرة بغير إذن لمّا كان ضرريّا وهو معلول لبقاء ملكه في دار الأنصاري صارت العلّة أيضا ضرريّة حكما ، كما لو كانت مقدّمة الواجب ضرريّة فإنّ ضرريّة المقدّمة توجب سقوط وجوب الواجب نفسه (١).

ولا يخفى أنّ ما ذكره في نفسه غير صحيح ؛ لأنّ الدخول من غير استئذان ليس معلولا لبقاء الملك بل مطلق الدخول ، مضافا إلى أنّ كون المعلول ضرريّا لا يوجب كون علّته ضرريّة محكوما بحكمه بل يرتفع خصوص الضرري ، فإنّ وجوب تمكين الزوجة لزوجها معلول للزوجيّة فلو كان ضرريّا لا يرتفع إلّا وجوب التمكين لا الزوجيّة الّتي هي علّته وهكذا. وأمّا قياسه بما ذكره من مقدّمة الواجب فهو غريب ، ضرورة أنّ نفس الواجب حينئذ يكون ضرريّا لتقييده بما هو ضرري ، وكون القيد ضرريّا يوجب كون المقيّد بنفسه ضرريّا فالقياس مع الفارق. فتلخّص أنّ العمدة في الجواب هو الأوّل ، فتأمّل (*).

__________________

(١) انظر منية الطالب ٢ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ ، تنبيهات القاعدة ـ التنبيه الأوّل.

(*) أقول : لا يخفى أنّه خلاف الظاهر أيضا فإنّ قوله : «اقلعها فارم بها وجهه فإنّه لا ضرر» ظاهر بكون لا ضرر علّة للقلع والرمي ، إلّا أن يقال : إنّ هذا اللسان موجود في رواية

٤٧٧

المورد الثالث : في بيان معنى لا ضرر ولا ضرار وقد ذكر لها معاني أربعة :

الأوّل : أن يراد بلا ضرر ولا ضرار النهي عن إضرار أحد أحدا والقيام معه مقام الضرر ، ويكون النفي هنا بمنزلة النهي نظير قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١) فإنّها فسّرت في بعض الروايات (٢) بالنهي عن ذلك في الحجّ ، وهو كثير جدّا مثل «لا غشّ في الإسلام» (٣) ، و «لا رهبانية في الإسلام» (٤) و «لا سبق أو لا سبق إلّا في نصل ...» (٥).

وحينئذ فلا وجه لما زعمه صاحب الكفاية قدس‌سره (٦) ـ بعد تصريحه بإمكان ذلك كما في استعمال الجملة الخبرية المثبتة في مقام الطلب فكذا المنفيّة ـ بأنّه لم يعهد النهي بمثل هذه التراكيب ، فإنّها أكثر من أن تحصى.

ودعوى : أنّه يحملها كلّها على نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فاسدة بعدم إمكان ذلك في الآية بعد تفسيرها وفي مثل «لا غشّ» وشبهها.

__________________

ـ ابن بكير عن زرارة ـ الوسائل ١٢ : ٣٦٤ ، الباب ١٧ من أبواب الخيار ، الحديث ٣ ـ ولكن رواية ابن مسكان عن زرارة ـ المصدر المتقدّم : الحديث ٥ ـ ليست هكذا وإنّما هي بقوله : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّا ولا ضرر ولا ضرار» ثمّ قلعت فرمى بها إليه ، وما ذكرناه من الاحتمال هو الظاهر من هذه الرواية ، فافهم. (الجواهري).

(١) البقرة : ١٩٧.

(٢) الوسائل : ٩ : ١٠٨ ، الباب ٣٢ من أبواب تروك الإحرام.

(٣) لم نقف عليه بعينه ولكن ورد : ليس منّا من غشّ مسلما ، البحار ٧٥ : ٢٨٤ ، و : لا غشّ بين المسلمين ، سنن الدارمي ٢ : ٢٤٨.

(٤) لم نقف عليه بعينه ولكن ورد : لا رهبانية ولا سياحة ، البحار ١٦ : ٣٣٠.

(٥) الوسائل ١٣ : ٣٤٨ ، الباب ٤ من أحكام السبق والرماية ، الحديث ١ و ٢ و ٤.

(٦) كفاية الاصول : ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

٤٧٨

الثاني : أن يراد بها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ذكره الآخوند قدس‌سره (١).

الثالث : أن يراد بها نفي الحكم رأسا من غير نظر إلى موضوع في المقام ، فهو نفي للحكم الضرري وإن لم يكن له موضوع ، ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢). والفرق بينه وبين الثاني أنّ الثاني يحتاج إلى تحقّق موضوع يكون حكمه ضرريّا حتّى ينتفي ذلك الحكم الضرري ، أمّا إذا لم يكن له موضوع فلا يجري وهذا بخلاف الثالث فإنّه نفي للحكم الضرري ، سواء كان له موضوع كالوضوء الضرري أم لا كلزوم البيع فإنّ اللزوم من الأحكام الوضعيّة لا موضوع له ؛ لأنّ الأحكام الوضعيّة كاللزوم لا تعلّق له بالموضوع أصلا.

وقد ردّ الآخوند قدس‌سره هذا الوجه بأنّ الضرر ينشأ من الحكم ، ومن المستبشع أن ينفى الضرر ويراد سببه (٣).

الرابع : أن يكون المراد بنفي الضرر نفي الضرر الغير المتدارك ، فيكون معنى «لا ضرر» لا ضرر غير متدارك في الإسلام. ولا يخفى أنّه ليس المراد أنّ المنفيّ في الخبر مقيّد ، بل لأنّ الضرر المتدارك ليس ضررا فهو خارج عن موضوع هذه القاعدة ، وحينئذ فيكون أمرا بالتدارك للضرر الحاصل ، نقله الشيخ الأنصاري (٤) عن بعض الفحول (٥) وهذا الاحتمال أردأ الاحتمالات المذكورة ؛ لأنّ تدارك الضرر ليس نفيا له بل هو موجود ويتدارك ، فإنّ صرف الضمان ليس رفعا للضرر ، ولا يطلق عليه أنّه ليس ضررا إلّا بنحو المجاز ، مضافا إلى أنّ هذا الحمل يقتضي تأسيس فقه جديد ،

__________________

(١) انظر المصدر المتقدّم.

(٢) رسائل فقهيّة : ١١٤.

(٣) كفاية الاصول : ٤٣٣.

(٤) رسائل فقهية : ١١٤.

(٥) الفاضل التوني صاحب الوافية انظر الوافية : ١٩٤ ، ورسائل فقهيّة : ١١٤.

٤٧٩

فإنّه يقضي بوجوب تدارك كلّ ضرر ، ولا يلتزم به أحد إلّا أن ينطبق عليه عنوان الإتلاف لا مطلق الضرر ، فإنّ من جلب تمرا فأوجب جلبه أن يتضرّر الّذي عنده تمر قبل ذلك هل يلتزم أحد بوجوب تدارك ضرر هذا المضرور على هذا الضارّ؟

وبالجملة ، فالعمدة هي الوجوه الثلاثة الباقية ، فيقع الكلام في ترجيح أيّها فنقول :

إنّ الأقوى من هذه الوجوه هو ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ المراد منه هو نفي الحكم ونفي التشريع ، والدليل على ذلك موقوف على ذكر شيء هو : أنّ مثل هذا التركيب الواقع في لغة العرب يستعمل تارة في نفي ذلك الشيء تكوينا لمبغوضيّة وجوده في الخارج فكأنّه لبغضه غير موجود نظير ما ورد من قوله عليه‌السلام : «يعيد ويتوضّأ ويغتسل» (١) إيذانا بأنّ المولى لا يرضى إلّا بوجوده ، فهنا كذلك فيكون نفيا له عن صفحة الوجود الخارجي ، إيذانا بأنّه لا يرضى إلّا بانعدامه عن صفحة الوجود الخارجي وذلك مثل الآية المباركة من قوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(٢) وكقوله : «لا يزني المؤمن وهو مؤمن» (٣) و «لا يكذب وهو مؤمن» (٤) وغير ذلك من الأمثلة. فهو ينفيه ادّعاء بدعوى عدم وجوده في الخارج ، لوجود المقتضي لعدمه وهو إرادة المولى ، ولعدم المانع لظاهر حال المسلم وأنّه بصدد الطاعة وبصدد تطبيق قانون العبوديّة.

ويستعمل تارة اخرى في نفي حكم تكوينا أيضا عن طبيعة متخصّصة بخصوصيّة

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٩ ، والباب ٣ ، الحديث ٥.

(٢) البقرة : ١٩٧.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٥٧ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١٨ و ١٩.

(٤) لم نعثر عليه بعينه ولكن ورد مضمونه في كنز العمّال ، الرقم ٨٩٩٣ ـ ٨٩٩٥.

٤٨٠