غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

ومن هنا يظهر أنّ تقدّم الاستصحاب ليس لوهن عموم دليلها بل لقصوره عن شمول مورد الاستصحاب ، كما ظهر أنّ الحكم الشرعي لا يمكن الرجوع فيه إلى القرعة أيضا لقصور الدليل عن شمول الحكم لا من جهة الإجماع على المنع ، كما ظهر أنّ مورد الروايتين يعمل فيه بالقرعة وإن لم يعمل بها المشهور لنفي قصورها عن إفادة عموم الموارد حتّى تنجبر بعمل المشهور وليس كثرة تخصيص. ولا يلزم من العمل بالقرعة في مورد الروايتين تأسيس فقه جديد ، كما ظهر أنّ ما لا تعيّن له واقعي لا يمكن فيه العمل بالقرعة بهذا الدليل العامّ لاختصاصه بما إذا كان هناك حقّ متنازع عليه. نعم إذا وردت رواية خاصّة في مورد خاصّ بالقرعة فيما لا تعيّن فيه يعمل بها فيه خاصّة.

٧٤١
٧٤٢

بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد والمنّة

في التعادل والترجيح

ويقع الكلام في جهات :

الاولى : لا يخفى أنّ هذه المسألة من مهمّات المسائل الاصوليّة إذ قلّما تخلو مسألة من المسائل الفقهيّة عن دليل معارض ، فلا بدّ من بيان أحكام الخبرين المتعارضين بل مطلق الدليلين ، وما تقتضيه الأدلّة فيها.

وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من بيان معنى التعارض فنقول : التعارض هو تنافي الدليلين إمّا بالذات أو بالعرض في بيان حكم من الأحكام الشرعيّة ، إذ التنافي إمّا بنحو التناقض كما إذا دلّ الدليل على وجوب السورة ودلّ دليل آخر على عدم الوجوب ، أو بنحو التضادّ كما إذا دلّ على استحباب السورة ، فالأوّل وهو التنافي بالذات إمّا أن يكون من جهة التناقض أو من جهة التضادّ. وأمّا التنافي عرضا كما إذا دلّ الدليل على وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ودلّ على وجوب الظهر دليل آخر فلا تنافي بينهما بحسب الذات ، وإنّما التنافي بينهما عرضي للعلم بعدم وجوب صلاتين في يوم واحد فصار التنافي عرضيّا.

وقد علم خروج التخصّص عن التعارض لعدم التنافي ، إذ الموضوع ليس واحدا حتّى يقع التنافي بينهما ، كما أنّه قد علم خروج الورود أيضا وهو خروج الموضوع

٧٤٣

بالتعبّد كأن يقوم الدليل التعبّدي على أنّ هذا خمر وحكم الخمر معلوم بالوجدان فمتعلّق الحكم يكون ثابتا بالتعبّد (*) ، كما أنّ الحكومة أيضا خارجة وهي الدليل الناظر إلى الدليل الآخر بحيث يكون مفسّرا له وقد لا يكون مفسرا أيضا ، وهي على أقسام : قسم منها يتصرّف في عقد الوضع ، واخرى في عقد الحمل ، وثالثة لا تتصرّف في عقد الوضع ولا عقد الحمل :

فالأول : كقوله : «لا ربا بين الوالد وولده». وكقوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» وغيرها من الأدلّة.

والثاني : كقوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١). ومثل لا ضرر ولا ضرار (٢).

والثالث : مثل الأمارات بالنسبة إلى الاصول.

وتعريف الحكومة هي عبارة عن إخراج الموضوع بالتعبّد ، فإنّ الشارع إذا حكم بحجّية الخبر الواحد صار علما فيرتفع موضوع ما لا يعلمون ولا بيان (٣) وغيرها.

__________________

(*) جاء في هامش الأصل هذا التوضيح حول الورود : الورود هو خروج الموضوع بالوجدان ببركة التعبّد ، كأن يؤخذ في موضوع البراءة العقليّة اللابيان وفي موضوع الاشتغال العقلي احتمال العقاب ، وفي موضوع التخيير العقلي الترجيح بلا مرجّح ، فوجود الخبر الواحد مثلا يوجب انقلاب اللابيان إلى البيان إذا كان دالّا على التكليف ، كما أنّه إذا عيّن المكلّف به ارتفع احتمال العقاب في ترك عدله ، كما أنّ وجوده على أحد الشقّين المتحيّر بينهما رافع للتحيّر ولكون الترجيح بلا مرجّح إذ هو مرجّح.

(١) الحج : ٧٨.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٦٤ ، الباب ١٧ من أبواب الخيار ، الحديث ٤ و ٥.

(٣) كذا هنا ، لكن هذا المثال ذكر آنفا في الهامش كمصداق للورود وكذا في مبحث وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب.

٧٤٤

وبالجملة ، فالحكومة بأقسامها خارجة عن مبحث التعارض سواء كان خروجها بخروج الموضوع أو المحمول أو لم يكن بخروج شيء منهما ، وجامعه كونه ناظرا إلى الدليل الثاني المجعول.

وكذا لا تعارض بين العامّ والخاصّ ، لأنّ العموم إنّما كان حجّة بواسطة أصالة الظهور الثابتة ببناء العقلاء ، ومعلوم أنّ الخاصّ المتّصل لا يبقي للعموم ظهورا في العموم ، وكذا في المنفصل أيضا لعدم جريان بناء العقلاء على كون الظهور مرادا جدّيا حيث يقترن بالقرينة المنفصلة ، ضرورة أنّ الظهور إنّما يثبت المراد ببناء العقلاء الكاشف عن كون الكلام مطابقا للمراد ، ومعلوم أنّهم لم يستقرّ بناؤهم حيث تكون ثمّة قرينة منفصلة مخصّصة للعموم. فالتخصيص خارج عن موارد التعارض ، سواء جعلناه تنافي مدلولي الدليلين بنحو التناقض أو التضادّ بالذات أو العرض أو جعلناه تنافي الدليلين ، ضرورة أنّه حينئذ لا دلالة للعامّ على العموم ليقع التنافي في المتّصل كما لا دلالة على كون العموم مرادا في المنفصل فلا تنافي أصلا.

كما ظهر أنّ الخاصّ ليس تقدّمه على العموم من جهة أظهريّته منه ، بل لو كان في أدنى مراتب الظهور وكان العامّ في أعلى مراتبه كان الخاصّ مقدّما ، لأنّه يرفع موضوع الحجّية وجدانا في القرينة القطعيّة وتعبّدا في القرينة الظنيّة الّتي هي ثابتة الحجّية شرعا ، فالخاصّ وارد أو حاكم على دليل حجّية الظهور.

فتلخّص أنّ جميع موارد الجمع العرفي من الورود والحكومة والتخصيص والتقييد كلّها خارجة عن مفهوم تعارض الدليلين كلّية ، فافهم وتأمّل.

الجهة الثانية : في الفرق بين التزاحم والتعارض ، قد يطلق التزاحم على تزاحم الملاكات ، كما إذا كان عمل واحد ذا جهتين : من إحداهما فيه ملاك يقتضي الأمر به ، ومن الاخرى له ملاك يقتضي النهي عنه أو يقتضي كونه مباحا مثلا إباحة ناشئة من المقتضي لا من جهة عدم مقتضي الآخر. ومثل هذا التزاحم لا معنى للكلام فيه ، لأنّ العمل على طبق الملاكات إنّما هو شأن المولى الحكيم فيأمر حيث يقتضي الملاك الأمر

٧٤٥

وينهى حيث يقتضي الملاك النهي ، بل لو كان المولى ممّن يجوز في حقّه الاشتباه وأمر بشيء واطّلع المأمور على اشتباهه فليس له إلّا أنّ يمتثل ، إذ ليس وظيفة العبد إلّا امتثال أوامر المولى وليس شأنه إدراك الملاكات أصلا. وبالجملة ، فالكلام في التزاحم ليس المقصود منه هذا المعنى كما يدور على ألسنة بعض المعاصرين (١).

وقد يطلق التزاحم على التزاحم في مقام الامتثال ، كما إذا أمر المولى بشيء ونهى عن آخر ، وكان إتيان الأوّل يستلزم إتيان الثاني ، والفرق بينه وبين التعارض حينئذ ظاهر ، فإنّ التعارض تكاذب الدليلين بحيث لا يمكن صدورهما معا من المولى الحكيم ، بل لا بدّ من صدور أحدهما وعدم صدور الآخر ، وهذا بخلاف التزاحم فإنّ صدور الأمرين بشيئين ليس فيه محذور أصلا ، وإنّما يقع التزاحم في مقام الامتثال ، إذ امتثال أحدهما يقتضي طرح الآخر ، مثلا إذا أمرنا بإنقاذ الغريق وكان هناك غريقان لا يمكن إلّا إنقاذ أحدهما فهنا يقع التزاحم.

وبالجملة ، ففي التزاحم التكليفان محقّقان وإنّما يتزاحمان في الامتثال لعدم قدرة المكلّف عليهما معا ، وهذا ظاهر على ما اخترناه من كون القدرة من شرائط حكم العقل بالامتثال. وأمّا بناء على كونها من الشرائط العامّة للتكليف كما هو المشهور كالبلوغ والعقل فلا تكليف حيث لا قدرة ، حيث إنّ التكليف يدور مدار موضوعه والقدرة من قيود الموضوع ، إلّا أنّه أيضا لا ينافي الجعل للحكمين على تقدير وجود موضوعهما فيتحقّق حينئذ التزاحم في مقام الامتثال ، وهذا بحسب الظاهر واضح.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه متى كان التنافي بين الجعلين فهو من التعارض ، ومتى كان التنافي من جهة عدم قدرة المكلّف على الامتثال فهو التزاحم ، ولكنّ الميرزا النائيني قدس‌سره زعم أنّ التزاحم في الغالب يكون منشؤه عدم قدرة المكلّف على الامتثال وإلّا فقد يكون منشؤه العلم بعدم الجعل أيضا ، كما لو ملك شخص في أوّل محرّم خمسا

__________________

(١) انظر نهاية الأفكار ٤ : ١٢٦ ـ ١٢٧.

٧٤٦

وعشرين من الإبل وبعد مضيّ ستة أشهر يعني في رجب ملك واحدا فصارت ستّة وعشرين فإذا مضت ستّة أشهر اخرى وجاء المحرّم وجب أن يخرج زكاته خمس شياه ، ثمّ إذا جاء رجب الثاني فبموجب الدليل أنّه يجب عليه أن يخرج بنت مخاض ، لأنّه يصدق أنّه حال عليه الحول وعنده ستّة وعشرون فعليه بنت مخاض ، وحيث إنّا نعلم أنّ المال المزكّى لا يزكّى مرّة ثانية في حول واحد فيقع التزاحم بين الخطابين (١).

وفيه : أنّه ليس من التزاحم في شيء وإنّما هو التعارض والتنافي يكون بين نفس الجعلين ، فالتكاذب فيه عرض من جهة العلم بعدم وجوب تزكية المال مرّتين لعام واحد ، ولا أدري أنّه ما حداه إلى جعله من باب التزاحم ، وهل هو إلّا كوجوب الظهر والجمعة مع العلم بعدم وجوب صلاتين في يوم واحد؟ فالتنافي بين هذين الدليلين بالنسبة إلى هذا المال عرضي لا ذاتي.

الجهة الثالثة : أنّه ما هو الأصل في المتعارضين وما هو الأصل في المتزاحمين؟ مقتضى الأصل في المتزاحمين هو الرجوع إلى ما هو أكثر مصلحة وأقوى ملاكا وعلى تقدير التساوي فالتخيير ، وسيأتي الكلام فيه مفصّلا ، وأمّا المتعارضان فثمرة هذا البحث الرجوع في غير موارد النصّ إلى مقتضى الأصل ، وأمّا مورد النصّ فيرجع فيه إليه ، فالخبران المتعارضان يرجع فيهما إلى المرجّحات ومع عدمها فالتخيير ، وأمّا غير الخبرين فالمرجع فيه هو الأصل المؤسّس ، فنقول : الأصل في المتعارضين التساقط لعدم إمكان ترجيح أحدهما على الآخر ، لأنّه ترجيح من غير مرجّح ولا يمكن أن يتناولهما دليل الجعل ، لأنّه يؤدّي إلى جعل الضدّين حجّة وهو محال فهما متساقطان.

وربّما يقال : إنّ مقتضى الأصل في المتعارضين التخيير ، لأنّ المانع من شمول دليل الحجّية لهما هو لزوم التعبّد بالمتناقضين ، وهو منفيّ فيما إذا قيّد التعبّد

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٧٨.

٧٤٧

بأحدهما بصورة الأخذ به أو عدم الأخذ بالآخر فإنّه لا تعبّد بالمتناقضين ، وهو نظير ما إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أصل الدليل ودفعه عن إطلاقه ولا ريب في تقدّم الثاني ، ولكنّه غير تامّ.

أمّا إذا قيّد بعدم الأخذ بالثاني فنتيجته حجيّتهما معا عند عدم الأخذ بهما لتحقّق شرط الحجّية في كلّ منهما ، أمّا إذا قيّد بالأخذ به فلا ينتج التخيير لأنّ التخيير هو لزوم الأخذ بأحدهما ، وهنا لا ملزم للأخذ به حتّى يصير حجّة فلا يلزمه الأخذ به الّذي هو نتيجة التخيير المزعوم ، مع أنّ المقام ممّا اخذ فيه بالدليل القائم على الحجّية ونفي إطلاقه لصورة التعارض ، فافهم وتأمّل.

وهل إنّهما بحكم العدم فيجوز الرجوع إلى الأصل وإن خالفهما معا أم إنّهما ينفيان الثالث؟ قولان. وليعلم أنّ محلّ الكلام حيث يحتمل كذبهما معا ، أمّا حيث يعلم صدق أحدهما وكذب الآخر لا على التعيين فليس محلّا للكلام في نفي القول الثالث ، فنقول : الظاهر هو الأوّل وإنّهما بعد التساقط بحكم العدم ويرجع إلى ما يقتضيه الأصل وإن خالفهما.

وذهب الميرزا النائيني (١) والآخوند (٢) والشيخ الأنصاري (٣) إلى عدم جواز الرجوع إلى الأصل حيث يخالفهما ، واستدلّوا بدليلين :

الأوّل : أنّ أحدهما الغير المعيّن لم يعلم كذبه فيشمله دليل الحجّية فيكون قول المعصوم تعبّدا فلا يجوز طرحه والرجوع إلى ثالث.

الثاني : أنّ لهذين الدليلين دلالة مطابقيّة وهي الوجوب والحرمة ولهما دلالة التزاميّة وهي عدم الإباحة والكراهة والاستحباب ، والتعارض وقع في المطابقيّة

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٤ : ٧٥٥.

(٢) كفاية الاصول : ٤٩٩.

(٣) فرائد الاصول ٤ : ٣١.

٧٤٨

فلا يقتضي سقوط الالتزاميّة لعدم المعارض فيها فلا يجوز أن يرجع إلى الإباحة فيها لنفيهما من كلا الدليلين بالملازمة ، فافهم.

والجواب عن الأوّل : أنّ أحدهما لا على التعيين ليس غير هذين الخبرين وليس خبرا ثالثا مثلا ، والمفروض عدم شمول دليل التعبّد لأحدهما ، لأنّه ترجيح من غير مرجّح ، وليس لأحدهما لا بعينه وجود غيرهما حتّى يشمله دليل التعبّد ليكون حجّة.

وعن الثاني : أنّ ما ذكره يتمّ على تقدير عدم ارتفاع الدلالة الالتزاميّة بارتفاع الدلالة المطابقيّة ، وليس بصحيح فإنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة في الثبوت والسقوط للدلالة المطابقيّة.

توضيح ذلك : أنّه لو قامت البيّنة على أنّ هذا الثوب أصابه بول وعلمنا باشتباه البيّنة وأنّه لم يصبه بول فهل يمكن أن يلتزم أحد بنجاسته لأنّ إخبارها بإصابة البول قد تضمّنت إصابة البول بالمطابقة والنجاسة بالالتزام ، فإذا علمنا كذب الاولى تثبت الثانية لعدم العلم بكذبها؟ كلّا ثمّ كلّا ، وأيضا لو كان مال في يد زيد فادّعاه عمرو وبكر وأقام عمرو شاهدا عادلا بكون المال له وأقام بكر أيضا شاهدا عادلا بكون المال له فهل ننتزع المال من يد زيد لقيام البيّنة العادلة بأنّ المال ليس له؟ اللهمّ إنّ هذا لا يلتزم به فقيه أصلا.

وحلّ ذلك أنّ كلّ واحد من الشاهدين إنّما ينفي كون المال لزيد ، لأنّه لعمرو مثلا أو لبكر ، فالأوّل ينفي ملكيّة زيد الملازمة لملكيّة عمرو ، والثاني ينفي ملكيّة زيد الملازمة لملكيّة بكر ، فإذا انتفى الملزوم انتفى اللازم أيضا ، مثلا من أخبر بطلوع الشمس فقد أخبر بالضوء التزاما لكنّه الضوء المستند إلى الشمس لا كلّي الضوء ، فلو علم كذبه بإخباره بطلوع الشمس فقد ظهر كذبه [في إخباره] بالضوء [المستند] إليها (١) أيضا ، وكذلك من أخبر بإصابة البول الثوب إنّما يخبر بإصابة

__________________

(١) في الأصل : ظهر كذبه بالضوء إليها.

٧٤٩

الثوب نجاسة ذلك البول الّذي أصابه فليس مخبرا بكلّي النجاسة ، فإذا انتفت إصابة البول انتفت النجاسة المستندة إليها ومقامنا أيضا كذلك ، فإنّ الدليل الدالّ على الوجوب مثلا إنّما ينفي الإباحة والكراهة والاستحباب المجامعة للوجوب ، والدليل الدالّ على التحريم إنّما ينفي الثلاثة الملازمة للتحريم ، فإذا انتفى الوجوب والتحريم انتفت لوازمهما وهو نفي الأحكام الأخر. فالحقّ أنّ المتعارضين وجودهما كعدمهما ، فيجوز الرجوع فيهما إلى الأصل وإن كان مؤدّاه مخالفا لهما ، فافهم وتأمل.

هذا كلّه على الطريقيّة فإنّه بناء عليها لا يكون دليل الحجّية شاملا للمتعارضين المتكاذبين ، لاستحالة شموله لهما معا ، وشموله لأحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجّح ، هذا حيث يكون للدليل إطلاق ، وأمّا حيث يكون دليل الحجّية هو الإجماع وبناء العقلاء فكذلك ، إذ بناء العقلاء لم يستقرّ في المتناقضين لعين ما ذكر في الدليل اللفظي ، وهذا على الطريقيّة واضح ، وأمّا بناء على السببيّة فقد يقال بالتزاحم بين الدليلين المتعارضين لقيام المصلحة بهما معا.

والتحقيق أن يقال : إنّ السببيّة أوّلا لا نقول بها ، وعلى تقدير القول بها دفعا لشبهة ابن قبة فالسببيّة لها معنيان :

أحدهما : سببيّة الإماميّة وهي عبارة عن الالتزام بالمصلحة السلوكيّة في الأمارة الّتي دلّ دليل الشارع على الالتزام بها ، وهي مصلحة في تطبيق العمل على طبقها بمقدار يكون الفائت من مصلحة الواقع متداركا بها على اختلاف كميّة الفوات ، فإن اريد بها هذه السببيّة فمعلوم أنّها إنّما يلتزم بها الإماميّة بعد شمول دليل الحجّية لكلا الدليلين ، وأمّا لو لم يشملهما دليل الحجّية فلا ، والمفروض أنّ المتعارضين لم يشملهما دليل الحجّية.

الثاني : السببيّة المشتركة بين المعتزلة والأشاعرة وهي القول بدوران الحكم مدار الأمارة حدوثا ـ كما هو قول الأشاعرة (١) فقبل قيام الأمارة لا حكم شرعا ـ

__________________

(١) انظر فوائد الاصول (١ و ٢) : ٢٥٢.

٧٥٠

أو بقاء كما هو قول المعتزلة (١) القائلة بثبوت حكم واقعا غير أنّ قيام الأمارة على خلافه توجب قلبه ، إلّا أنّها مشتركة في التصويب ودوران الحكم مدار مؤدّى الأمارة واقعا.

وحينئذ فالدليلان المتعارضان يتصوّران بنحوين ، ضرورة أنّ القول بالسببيّة إمّا أن يكون بنحو يكون قيام الأمارة على شيء موجبا لتعنون ذلك الشيء بعنوان ثانوي نظير القصر والإتمام والتقيّة والعسر والحرج والضرر وغير ذلك ، فيكون قيام الأمارة موجبا لمصلحة في نفس العمل من جهة قيام الأمارة ، أو يكون العنوان الثانوي قائما بإيجاب المولى بحيث يكون قيام الأمارة مثلا على وجوب شيء موجبا لجعل المولى وجوبه بحيث يكون في جعله مصلحة وإن خلا المجعول عنها.

أمّا بناء على السببيّة الأشعرية والمعتزلة بالنحو الأوّل ـ يعني بالنحو الموجب لتعنون الفعل بالعنوان الثانوي نظير السفر والحضر ـ فتارة يكون الإيجاب مثلا لضدّين لهما ثالث ، واخرى لا يكون كذلك ، سواء كان إيجابا لضدّين ليس لهما ثالث كالأمر بالحركة والسكون ، أو إيجابا لنقيضين كالفعل والترك أو إخبارا عن متناقضين (*) ، فإن كان من قبيل الايجاب للضدّين اللذين لهما ثالث فلا ريب في وقوع التزاحم بين هذين الضدّين ، إذ إيجاب القعود لمصلحة فيه وإيجاب القيام أيضا لمصلحة فيه ، فهاتان المصلحتان حيث إنّ كلّا منهما مشروطة بالقدرة في مقام

__________________

(١) انظر فوائد الاصول (١ و ٢) : ٢٥٢.

(*) أقول : لا يخفى أنّ هذا الكلام بأسره غير تامّ ، لأنّ السببيّة الّتي يقول بها المخالفون إنّما هي بالنسبة إلى مؤدّى الدليل الّذي تمّت حجّيته ، وأمّا ما لم تتمّ حجّيته في فرض التعارض كما إذا كان الدليل بناء العقلاء ولم يقم في فرض التعارض فلا سببيّة حينئذ عندهم ، ولا فرق بين السببيّة عندنا وعندهم ، (الجواهري).

قد ذكرنا هذه الملاحظة للأستاذ في دورته الثانية فاستحسنها وارتضاها وقرّرها. (الجواهري).

٧٥١

الامتثال يقع التزاحم فيهما في مقام الامتثال ، وحيث إنّ القدرة عليهما معا مفقودة فلا ريب في كون الوجوب فيهما بنحو الوجوب التخييري لئلّا يفوت كلا الملاكين ، فيخيّره المولى ليحصل أحدهما حيث لا يمكنه تحصيلهما معا لعدم القدرة ، وحينئذ يتخيّر المكلّف بينهما حينئذ إذ لا مرجّح ، لأنّ المحقّق للمصلحة فيهما ملاك واحد وهو كونهما مؤدّى الأمارة الثابتة حجّيتها وهو موجود فيهما على السويّة وليس الاعتبار بالمدلول ليكون الترجيح بأهميّته مثلا.

فكلام الشيخ (١) ومن تبعه (٢) في أنّه على السببيّة يكون من باب التزاحم تامّ في خصوص هذا الفرض إلّا أنّه لا بدّ من التخيير ولا مجال للترجيح ، على أنّه يمكن عدم تماميّة التزاحم حتّى فيه أيضا لأنّ الأمارة القائمة على وجوب القيام تحدث مصلحة في القيام وينفيها عن غيره وهو القعود ومثلها أمارة القعود فيؤول إلى جعل النقيضين فيتعارض.

وهذا بخلاف ما لو لم يكن للضدّين ثالث أو كان من قبيل إيجاب النقيضين أو إخبارا عنهما فإنّه لا يمكن أن يشملهما دليل التعبّد لاستحالته ، ولا يمكن إيجاب أحدهما بخصوصه لعدم المرجّح ، ولا التخيير لكونه تحصيلا للحاصل ، ضرورة استحالة خلوّ المكلّف عنهما معا فالتكليف بأحدهما تخييرا طلب للحاصل. إلّا أن يلتزم بكون جميع التكاليف المطلوب بها هو الالتزام الّذي هو أمر قلبي وترتيب العمل على طبقها من لوازم ذلك ، فحينئذ لا يكون طلبا للحاصل ، لإمكان خلوّه عن كلا الالتزامين معا فلا يكون التكليف بأحدهما حينئذ طلبا للحاصل ، لكنّ المبنى باطل ، مضافا إلى بطلان أصل السببيّة ، فهو باطل في باطل.

__________________

(١) انظر الفرائد ٤ : ٣٧.

(٢) نهاية الأفكار ٤ (الجزء الثاني) : ١٨٠ ـ ١٨١.

٧٥٢

وأمّا إن كان السببيّة بالنحو الثاني ـ يعني بنحو العنوان الثانوي ـ لفعل المكلّف نفسه وهو المولى لا المكلّف فنقول : إنّه خارج عن محلّ كلامنا ، لأنّ كلامنا في التزاحم في مقام الامتثال والفرق بينه وبين التعارض. وأمّا التزاحم في فعل المولى فهو خارج عن محلّ الكلام كما بيّناه في صدر المبحث ، ومع ذلك فنقول : إذا كانت المصلحة في جعل المولى الوجوب ، مثلا إذا أدّت إليه الأمارة فلا تزاحم ولا تعارض في جعله بل يجعلهما معا لكن إن كان لهما ثالث أيضا فيكون الوجوب تخييريّا ولا يكون من باب التزاحم أيضا ، وإلّا فلا يكون إلّا من باب التعارض سواء فيها جميع الصور المذكورة فيما تقدّمها ، ولكن يلزم المكلّف العمل على طبق أحدهما تخييرا لعدم تعيّن ما صدر عن المولى في مقام الجعل فيتخيّر في ذلك.

فتلخّص أنّ القول بالتزاحم مطلقا على السببيّة باطل ، وقد وقع في كلام الشيخ (١) والآخوند (٢) والميرزا (٣) وغيرهم (٤) بل التزاحم في خصوص ما ذكرنا وفي غيرها التعارض.

في مرجّحات باب التزاحم

الأوّل : ما ذكره جماعة (٥) وهو أن يكون أحد الواجبين موسّعا والآخر مضيّقا فيقدّم المضيّق وإن كان ذا مصلحة قليلة على الموسّع وإن كان ذا مصلحة مهمّة جدّا. ولا يخفى أنّ ما ذكر من تقديم المضيّق وإن كان صحيحا إلّا أنّه ليس داخلا في باب

__________________

(١) انظر الفرائد ٤ : ٣٧.

(٢) كفاية الاصول : ٥٠٠.

(٣) انظر أجود التقريرات ٤ : ٢٧٥.

(٤) نهاية الأفكار ٤ (الجزء الثاني) : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٥) منهم الميرزا النائيني والشيخ آغا ضياء الدين العراقي انظر أجود التقريرات ٤ : ٢٧٦ ، ونهاية الأفكار ٤ (الجزء الثاني) : ١٣٢.

٧٥٣

التزاحم لعدم العجز في مقام امتثالهما ، ضرورة أنّ الموسّع إنّما امر به بالطبيعة وهذا الفرد بمشخّصاته غير مأمور به فلا مزاحمة. ومنه يظهر عدم التزاحم فيما إذا دار الأمر بين أحد خصال الواجب التخييري وواجب آخر ، كما إذا كان عنده مال للإطعام وهناك غريم يطالبه ، فإنّ الإطعام بخصوصه غير واجب عليه فيفي دينه ثمّ يصوم بدل الإطعام.

الثاني : ما ذكره بعض آخر أن تكون القدرة معتبرة في أحدهما عقلا وفي الثاني شرعا (١) بمعنى أن تكون القدرة في أحدهما معتبرة من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، وفي الثاني تتوقّف المصلحة على القدرة ، فلو عدمت القدرة فلا مصلحة ، وهذا بخلاف الأوّل فإنّه لو عدمت القدرة فقد فاتته المصلحة ، وقد مثّلوا لذلك بمن عنده ماء وهو محدث وبدنه أو ثوبه الّذي لا يمكن نزعه نجس ، فغسل الثوب أو البدن مشروط بالقدرة عقلا ، ولكنّ الوضوء مشروط بالقدرة شرعا ومع عدمها ينتقل إلى التيمّم ، فيتقدّم ما كانت القدرة فيه عقليّة ليستوفي مصلحته ثمّ يتحقّق العجز عن الوضوء فتنعدم مصلحته حينئذ لا أنّها تفوت.

والوجه في هذا التقديم أنّه لو قدّم ما اعتبرت القدرة الشرعيّة فيه لزم تفويت مصلحة الثاني ، بخلاف ما لو قدّم ما اعتبرت فيه القدرة العقليّة فينتفي حينئذ وجوب الآخر لاشتراطه بالقدرة المفقودة.

وهذا المرجّح لو سلّمنا أنّه كان صحيحا إلّا أنّ المثال غير تامّ ، فإنّ غسل الثوب والبدن أيضا مشروط بالقدرة شرعا فإن عجز فيصلّي في الثوب النجس أو عاريا ، بل لا تزاحم بين الواجبات الضمنيّة أصلا بل هو من التعارض ونتيجته التخيير كما سيأتي. فالأولى التمثيل له بغير هذا المثال.

الثالث : ما إذا كان أحد الواجبين أهمّ في نظر الشارع من الواجب الآخر مثل ما إذا دار أمره بين ردّ السلام والصلاة الّتي هي عمود الدين فتقدّم الصلاة.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ٢٧٦.

٧٥٤

وربّما مثّل له بإزالة النجاسة عن المسجد بالماء أو الوضوء به للصلاة ، فإنّ القدرة في الأوّل معتبرة عقلا وفي الثاني وهو الوضوء شرعا ، فحكم بتقديم إزالة النجاسة لتحصيل الملاك الملزم وفوات ملاك الوضوء مثلا للصلاة بفوات موضوعه وهو وجدان الماء.

إلّا أنّ التأمّل يقضي بعدم صحّة المثال أيضا ، لأنّ هذا الفرض إن كان قبل وقت الصلاة فلا تزاحم ، لعدم أمر بالوضوء. وإن كان بعد دخول وقتها ، فإن كان امتثال أمر الإزالة هو الرافع للقدرة فهو تعجيز لنفسه وتفويت للملاك ، وإن كان الأمر بالإزالة رافعا للقدرة فهو فرع تقدّمه وهو أوّل الكلام ، وعليه فلا تزاحم حينئذ.

ومنه يظهر أنّ هذه الكبرى الكلّية غير تامّة أيضا ، فإنّ تعجيز الإنسان نفسه غير جائز ، لأنّه تفويت للملاك الملزم ، كما أنّ الصغرى وهي المثال المذكور لا يتحقّق التزاحم فيه من غير الجهة السابقة ، بل من جهة أنّ الوضوء مأمور به بالأمر الضمني الإرشادي إلى اعتباره في الصلاة مثلا ولا يقع التزاحم إلّا بين واجبين نفسيين كما سيأتي.

وكما في إنقاذ الغريق المحترم والتصرّف في الأرض المغصوبة ، فإنّ التصرّف فيها وإن كان حراما وتركه واجب إلّا أنّ إنقاذ الغريق أهمّ من ترك التصرّف فيتقدّم عليه.

الرابع : من المرجّحات ما إذا كان أحدهما أسبق زمانا من الآخر ، كما إذا تردّد أمر العاجز عن صوم شهر رمضان بأسره بين صوم النصف الأوّل من الشهر وصوم النصف الثاني فيقدّم صوم النصف الأوّل ثمّ يعجز في النصف الثاني فيفطر ، نعم لو كان المتأخّر أهمّ لزم حفظ القدرة على الأهمّ ولو بترك المهمّ.

ولكنّ هذا الكلام إنّما هو حيث يكون التكليفان متوجّهين إليه فعلا ، غايته أنّ أحدهما منجّز والآخر معلّق. وأمّا لو كان التكليف واحدا بمركّب ذي أجزاء ، كما في القيام في الركعة الاولى والقيام في الركعة الثانية لو كان المكلّف قادرا على أحدهما

٧٥٥

دون الآخر فقد حكم السيّد اليزدي في عروته (١) بالتخيير في ذلك ، وفيما دار أمر المكلّف بين القيام في الصلاة والإيماء للركوع والسجود وبين الركوع والسجود والجلوس في الصلاة ، كما إذا كان هناك مكانان : أحدهما يسع القيام ولكن لا يسع الركوع والسجود ، والآخر بالعكس لكونه لاطئا ، واحتاط في خصوص الثاني بتكرار الصلاة أيضا مع القدرة وإلّا فالتخيير.

وقد ذكر للميرزا النائيني في المقام حاشيتان على هذا الفرع الأخير إحداهما في مكان المصلّي والاخرى في القيام للصلاة ، وقد حكم في إحداهما بتقديم القيام لسبقه في الوجود (٢) ، وفي الثانية حكم بتقديم الركوع والسجود لأهميّتهما في مقام التزاحم (٣).

والظاهر أنّ موارد التكليف بالواحد المركّب من أجزاء وشرائط ليس من باب التزاحم كليّة ، بل هو من باب التعارض ، بيان ذلك أنّ هناك تكليفا بالصلاة الّذي هو المركّب من هذه الأجزاء الارتباطيّة ، فإذا تعذّر بعض أجزاء ذلك المركّب فمقتضى القاعدة الأوّليّة سقوط التكليف به لانتفاء المركّب بانتفاء بعض أجزائه لكنّه في خصوص الصلاة ـ لكونها لا تسقط بحال ، وللإجماع والضرورة واستصحاب الوجوب ولقاعدة الميسور على تأمّل ـ قلنا بوجوب بقيّة الأجزاء الممكنة.

وحينئذ فإذا تردّد غير المقدور بين القيام في الركعة الاولى والقيام في الركعة الثانية فالمرجع في تعيين الوظيفة الشرعيّة إلى الأدلّة ، فحينئذ ننظر الأدلّة فنرى أنّ دليل القيام في الركعة الاولى بإطلاقه شامل لصورة العجز عن القيام في الثانية ، وكذا دليل القيام في الثانية ، أو أنّ دليل القيام عامّ أو مطلق يشمل حتّى صورة العجز

__________________

(١) العروة الوثقى : فصل في القيام (مسألة ١٧).

(٢) العروة الوثقى ٢ (٦ مجلدات) : فصل في القيام ، ذيل المسألة ٣.

(٣) العروة الوثقى ٢ (٦ مجلدات) : فصل في مكان المصلّي ، المسألة ٢٥ : ذيل السادس.

٧٥٦

عن الركوع والسجود ، ودليلهما أيضا مطلق أو عامّ كذلك يشمل حتّى صورة العجز عن القيام ، فحينئذ يتعارضان في المقام إذ أنّ جزئيّة كلّ منهما للصلاة حينئذ غير ممكنة ، بل هي مستحيلة ، فنقطع حينئذ بكذب أحد الإطلاقين فيتعارضان ، إذ جعل الجزئيّة حينئذ لهما غير معقول فلا بدّ من رفع يد الشارع عن جزئيّة أحدهما.

فإن كان دليل أحدهما لفظيّا ذا إطلاق ودليل الآخر لبيّا من إجماع وسيرة فيقدّم اللفظي لشمول إطلاقه ، والثاني لا إطلاق فيه لمحلّ النزاع ، وإن كان كلا الدليلين لفظيّا ذا إطلاق فيكون بينهما تعارض العموم من وجه فيتساقطان في مورد الاجتماع ويرجع إلى الأصل العملي وهو في المقام التخيير. وإذا كان دلالة كلا الدليلين بالعموم فيرجع إلى المرجّحات المنصوصة في الأخبار العلاجيّة لتحقّق التعارض حينئذ. وإذا كان كلا الدليلين لبيّا لا إطلاق فيه فيسقط التكليف بهما ، لكن لمّا كانت الضرورة مقدّرة بقدرها فيرفع اليد عن أحدهما ويؤتى بأحدهما مخيّرا في ذلك.

بل الظاهر أنّه كلّما دار الأمر بين واجبين بدليل واحد كالقيام المذكور ، وكما لو دار الأمر بين الركوع في الاولى أو الركوع في الثانية أو القراءة في الاولى أو الثانية تتقدّم الاولى من جهة ظهور الأدلّة في أنّ الانتقال إلى البدل مشروط بالعجز الفعلي ولا عجز في الاولى. نعم في خصوص ما لو تردّد الأمر بين القيام في الركعة الاولى والقيام في الركعة الثانية بموجب قوله عليه‌السلام : «إذا قوي فليقم» (١) يستفاد تقديم القيام في الاولى عليه في الثانية ، لظهوره في أنّ القدرة على الأوّل توجبه لظهور «إذا» في كونها زمانيّة لكنّه لخصوص الدليل وإلّا فالقاعدة تقتضي التخيير كما ذكره السيّد اليزدي في عروته (٢) ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٦٩٩ ، الباب ٦ من أبواب القيام ، الحديث ٣.

(٢) انظر العروة الوثقى : فصل في القيام ، المسألة ١٧.

٧٥٧

[تنقيح موارد التعارض]

ثمّ إنّه يقع الكلام في تنقيح موارد التعارض ثمّ فيما تقتضيه القاعدة فيها.

فنقول : قد عرفت فيما تقدّم أن لا تعارض بين دليل الحاكم والمحكوم كلّية ، ضرورة أنّ أحدهما يثبت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، والثاني ينفي الموضوع مثلا كما في قوله : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) وقوله : (لا ربا بين الوالد وولده) (٢). وكذا لا تعارض أيضا بين العامّ والخاصّ ، لأنّ عموم العامّ إنّما هو ببناء العقلاء على كون الظاهر مرادا للمتكلّم ولا بناء لهم في صورة وجود الخاصّ ، ضرورة أنّهم يرون الخاصّ قرينة على عدم إرادة الظهور في العموم ، فيتقدّم الخاصّ حينئذ كتقدّم موارد القرينة على ذي القرينة ، بل هو يعتبر قرينة ، فهو في الحقيقة حاكم على أصالة الظهور ورافع لموضوعها لا كحكومة الأحكام ، بل حكومة على أصالة الظهور.

ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري من أنّ تقدّم الخاصّ على العامّ إنّما هو حيث يكون الخاصّ أظهر من حيث الحكم على العامّ من حيث الحكم (٣) لا وجه له ، بل المناط الحكومة المذكورة ، وهي حاصلة حتّى بين ما هو أقلّ أفراد الظهور الحكمي في الخاصّ على ما هو أقوى مراتب الظهور الحكمي في العامّ. فقد ظهر أنّه ليس من موارد التعارض كلّية ، بل كلّ قرينة تتقدّم على ما اقيمت القرينة عليه فتصرفه إلى مؤدّى القرينة.

ومن جملة ما هو خارج عن بحث التعارض ما ذكره الشيخ الأنصاري ـ وهو من صغريات القرينة وذيها ـ ما إذا كان أحد الدليلين عامّا شموليّا بالوضع والآخر مطلقا شموليّا (٤) فإنّ العموم الشمولي تنجيزيّ باعتبار عدم توقّف دلالته على إجراء

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) انظر الوسائل ١٢ : ٤٣٦ ، الباب ٧ من أبواب الربا ، الحديث ١ و ٣.

(٣) انظر فرائد الاصول ٤ : ١٥ و ٨٩.

(٤) انظر المصدر السابق : ٩٨.

٧٥٨

مقدّمات الحكمة ، ولكنّ الإطلاق الشمولي متوقّف على مقدّمات الحكمة ومن جملتها عدم البيان ، والعامّ يصلح أن يكون بيانا له ، فلو ورد : أكرم كلّ عالم ، ثمّ ورد : لا تكرم الفاسق ، فدلالة : أكرم كلّ عالم ، على شمول جميع الأفراد بالوضع ، ولكن دلالة : لا تكرم الفاسق. إنّما هو بعد إجراء مقدّمات الحكمة الّتي من جملتها عدم البيان ، والعامّ الشمولي يصلح بيانا حسب الفرض.

وقد أشكل عليه الآخوند (١) بأنّ الأخذ بالإطلاق الشمولي متوقّف على عدم البيان المتّصل بالكلام ، وهذا متحقّق.

ولا يخفى أنّ الظهور وإن كان موقوفا على انتفاء القرينة المتّصلة إلّا أنّ الإرادة الجدّية لهذا الظهور موقوفة على عدم القرينة مطلقا والمفروض وجود القرينة ، فلا وجه لإيراد الآخوند عليه في ذلك. والسرّ في ذلك أنّ دلالة العامّ على العموم في كلّ آن موقوفة على عدم البيان ، فترتفع بوجوده بقاء.

لا يقال : إنّ نظر الآخوند قدس‌سره إلى أنّ العموم وإن كان وضعيّا مثل لفظ «كلّ» مثلا إلّا أنّ عموم مدخولها يحتاج إلى جريان مقدّمات الحكمة في المدخول فيستويان في التعليق فلا يتقدّم العموم حينئذ على الإطلاق.

لأنّا نقول : الآخوند وإن اختار ذلك في مبحث العموم والخصوص (٢) إلّا أنّه هنا لم يبن كلامه عليه ، على أنّا ذكرنا أنّ هذا المبنى فاسد فإنّ «كلّ» هي بيان لعدم اعتبار قيد في المدخول ، وهي بمنزلة التصريح في التسوية بين ذي الخصوصيّات والخالي منها ، فكلام الأنصاري هو الوجيه.

ثمّ إنّه لو تعارض إطلاق شمولي مثل : لا تكرم فاسقا ، فإنّه نكرة في سياق النفي فيفيد الشمول وإطلاق بدلي مثل : أكرم عالما ، فهل يتقدّم الشمولي على البدلي

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٥١٣ ، ودرر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٤٦٢.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٢٥٥ و ٢٩٢.

٧٥٩

كما أصرّ عليه الميرزا قدس‌سره (١) أم لا يتقدّم عليه ، لأنّ كلّا منهما بالإطلاق ومقدّمات الحكمة؟ استدلّ الميرزا قدس‌سره على تقديم الإطلاق الشمولي بوجوه :

الأوّل : أنّ في تقديمه على البدلي تضييقا لدائرة الامتثال في الثاني ، بخلاف ما لو قدّمنا البدلي فإنّ فيه إخراجا عن الحكم لكثير من الأفراد فيتقدّم الإطلاق الشمولي لذلك.

توضيحه : أنّ الإطلاق الشمولي ينحلّ إلى أحكام بعدد الأفراد بخلاف البدلي فإنّه ليس فيه إلّا حكم واحد على البدل ، بمعنى أنّه مرخّص في تطبيقه في مقام الامتثال على أفراد الطبيعة.

وفيه أوّلا : أنّ هذا لا يجدي مرجّحا فإنّ كلّا منهما خلاف الظاهر ، ولا قرينيّة لأحدهما على الآخر عرفا ، فلا دليل على ترجيح أحدهما على الآخر.

وثانيا : أنّه إخراج على كلا التقريرين ، وليس أحدهما تضييقا في مرتبة تطبيق الامتثال الّذي هو حكم العقل ، بل في كليهما مخالفة للدلالة الشرعيّة ، فإنّ في الإطلاق البدلي حكمين : أحدهما مدلوله المطابقي وهو وجوب إكرام عالم ، الثاني الترخيص في تطبيقه على من شاء ، ففي تضييق الدائرة حينئذ نفي للترخيص الشمولي وإخراج لأفراده ، غايته أنّ التضييق تضييق هنا في الحكم الترخيصي وهناك في الحكم الإلزامي.

الثاني : أنّ الإطلاق الشمولي مثل : لا تكرم فاسقا ، باعتبار كونه انحلاليّا إلى الأفراد فتساوي الأفراد في الحكم مدلول له ، وإن احتمل اختلافها في الحرمة شدّة وضعفا كما في المتجاهر وغيره مثلا ، وهذا بخلاف الإطلاق البدلي فإنّ تساوي الأفراد فيه غير محرز فلا بدّ من إضافة مقدّمة اخرى إلى مقدّمات الحكمة لإثبات التساوي وعدم بيان التفاوت بين الأفراد ، والإطلاق الشمولي يمنع عدم البيان في المطلق فلا إطلاق ، فيتقدّم الشمولي لكونه بيانا له ويقيد الإطلاق البدلي.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٩٣.

٧٦٠