غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

وبالجملة ، فكما أنّ الأكثر من نفس الأجزاء ينفى بالقاعدة لعدم البيان ، كذلك كون الغرض الإعدادي مترتّبا على الأكثر دون الأقلّ ينفى بها أيضا فيقبح العقاب.

هذا تمام الكلام في جريان البراءة العقليّة ، وقد تلخّص أنّ الحق جريانها ؛ لأنّ ذات الأقلّ بطبيعته مطلوب قطعا بالطلب النفسي إمّا مع ضميمة غيره ، وإمّا وحده والأكثر مشكوك بدوا فينفى تقييده بالضميمة بالأصل.

في جريان البراءة الشرعيّة في الأقلّ والأكثر

أمّا إذا قلنا بجريان البراءة العقليّة فبعين ذلك التقريب تجري البراءة الشرعيّة فإنّ الأكثر مشكوك فهو غير معلوم فيجري فيه «رفع ما لا يعلمون» ولا يصغى إلى ما ذكره الآخوند ب «إن قلت قلت» من أنّه إذا رفع وجوب الأكثر فبما ذا يثبت وجوب الأقلّ (١)؟

قال الاستاذ الخوئي دامت إفاداته : أظنّ أنّ هذا الإشكال وجوابه ليس هذا مكانه ، وإنّما مكانه ما إذا نسي بعض أجزاء المركّب فهناك يحصل المجال للإشكال بأنّ المركّب من جزءين إذا نسي بعض أجزائه يرتفع التكليف به ، فمن أين يأتي تكليف بالباقي بعد رفع التكليف بالمركّب؟ وممّا ينبّه عليه وجود «النسيان» في بعض نسخ الكفاية المصحّحة ، ولا مجال لهذا الإشكال هنا ، لأنّ العلم في المقام حاصل تفصيلا بوجوب الأقلّ فلا معنى لقول : أيّ دليل يدلّ على وجوبه؟

وأمّا إذا لم نقل بجريان البراءة العقليّة فهل تجري البراءة الشرعيّة كما عليه الآخوند (٢) والميرزا النائيني قدس‌سرهما (٣) أم لا تجري؟ الظاهر الثاني ؛ لأنّ عدم جريان البراءة العقليّة إن كان من جهة الغرض فالشرعيّة أيضا لا تجري لعين المحذور ،

__________________

(١ و ٢) انظر كفاية الاصول : ٤١٦.

(١ و ٢) انظر كفاية الاصول : ٤١٦.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٩٤.

٤٠١

فإنّ حديث الرفع إنّما يرفع العقاب والجزئيّة ولا يثبت تحقّق تحصيل الغرض بالإتيان بالأقلّ إلّا بالأصل المثبت ، وحينئذ فمع الشكّ في حصول الغرض الملزم لا بدّ من الإتيان بالجزء المشكوك.

نعم ، لو كان دليل نفي الجزئيّة من الأدلّة اللفظيّة تكون لوازمها حجّة ، أو كان من الاصول العمليّة وكان واردا في خصوص المشكوك من الأجزاء فكذلك ، إذ لا أثر له إلّا هذا اللازم العقلي وهو نفي الجزئيّة ، فإذا لم يرتب عليه يلزم لغويته فنرتّب الآثار صونا لكلام الحكيم عن اللغوية ، أمّا إذا لم يكن إلّا الأدلّة العامّة كحديث الرفع وشبهه فلا يمكن التمسّك به في حصول الغرض الملزم إلّا من باب الأصل المثبت ومعلوم عدم حجّيته ، فافهم وتأمّل.

وإن كان الوجه لعدم جريان البراءة العقليّة ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من أنّ العلم الإجمالي متعلّق بالطبيعة المهملة وخصوصيّتا الإطلاق والتقييد مجهولتان فيتعارض الأصلان ويتساقطان (١) وأغمضنا النظر عمّا ذكرنا في ردّه من أنّ الأصل لا يجري في الإطلاق ؛ لأنّه رفض القيود ورفع للتكليف فلا معنى لجريان أصالة عدم الإطلاق فلا تجري البراءة الشرعيّة أيضا ؛ لأنّ حديث الرفع إن رفع وجوب الأكثر فلا يثبت وجوب الأقلّ ؛ لأنّ رفع وجوب أحد المتقابلين لا يثبت وجوب مقابله إلّا بالأصل المثبت.

ويمكن أن يقال : إنّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره مبنيّ على ما ذكره سابقا من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة (٢) فالإطلاق هو عبارة عن عدم التقييد فبأصالة عدم وجوب المقيّد يكون المطلق واجبا ؛ لأنّه نفس عدم التقييد لا ملازم له.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٩٣.

(٢) راجع أجود التقريرات ٢ : ٤١٦.

٤٠٢

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ ما ذكره وإن كان متينا كما تقدّم إلّا أنّه يتمّ في مقام الإثبات ، فإنّ الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات يعني في لسان الدليل كما ذكره فالإطلاق عبارة عن عدم القيد ، إلّا أنّه في مقام الثبوت ليس كذلك ، فإنّ الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت كلاهما أمر وجودي ؛ لأنّه تعلّق الإرادة بالمطلق وتعلّق الإرادة بالمقيّد فهما أمران وجوديّان فلا يثبت أحدهما بنفي الآخر إلّا بالأصل المثبت.

وربّما يتمسّك بالاستصحاب لقاعدة الاحتياط كما ربّما يتمسّك به للبراءة. أمّا التمسّك به للأوّل فبأن يقال : إنّه بعد إتيان الأقلّ يشكّ في ارتفاع الأمر وسقوطه وعدمه فيستصحب كلّي التكليف ؛ لأنّ التكليف إن كان متعلّقا بالأقلّ فقد ارتفع قطعا ، وإن كان متعلّقا بالأكثر فهو باق قطعا ؛ لأنّه ارتباطيّ فيستصحب كلّي التكليف وهو القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، نظير من تيقّن حصول حدث منه وقد توضّأ وشكّ في أنّه أصغر أو أكبر فيستصحب كلّي الحدث.

والجواب أنّ هذا الاستصحاب يجري في مسألة الحدث ؛ لأنّ أصالة عدم الأصغر معارضة بأصالة عدم الأكبر فالاصول الحاكمة متعارضة بخلافها في المقام ؛ لأنّ أصالة عدم التكليف بالأكثر لا يعارضها أصالة عدم الأقلّ لوجوبه على كلّ حال ، فتكون أصالة عدم الأكثر غير معارضة فيكون حاكما على الاستصحاب ورافعا للشكّ حينئذ فلا يجري الاستصحاب.

(وبعبارة اخرى : أنّ الاستصحاب في مسألة الحدث إنّما يجري لعدم المعيّن لأحدهما ، وأمّا في المقام فإنّ أصالة عدم التقييد إذا ضمّت إلى الوجدان يتعيّن وجوب الأقلّ ، هذا كلّه لو قلنا بجريان الاستصحاب في الحكم الكلّي ، أمّا لو قلنا بعدم جريانه لكونه معارضا بأصالة عدم الجعل ، لكون الشكّ في مقدار الجعل وسعته ، فالأصل عدم جعل ما زاد على الأقلّ فلا استصحاب حينئذ) (١).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٠٣

وأمّا جريان الاستصحاب لجريان البراءة فقد عبّر عنه الشيخ الأنصاري قدس‌سره :

ـ تارة باستصحاب عدم وجوب الجزء المشكوك ، بمعنى أنّا نعلم بتوجّه التكليف إلى الركوع والسجود والقراءة وغيرها من الأجزاء القطعيّة ونشكّ في توجّه التكليف بالسورة بعد أن لم يكن فالاستصحاب يقضي بالعدم.

ـ واخرى باستصحاب عدم التكليف بالمركّب من السورة وغيرها ؛ لأنّه في زمن ما لم يكن التكليف بالمركّب يقينا فيستصحب عدمه.

ـ وثالثة باستصحاب عدم لحاظ المولى حين التكليف للسورة (١).

ولا يخفى أنّ هذا التقرير الأخير لعلّه من طغيان القلم ؛ لأنّ عدم اللحاظ ليس حكما شرعيّا ولا له أثر شرعي ، فلا معنى لتعبّد الشارع بالأصل فيه. وأمّا الوجهان الآخران فإن قلنا بمقالة النائيني من أنّ استصحاب عدم الجعل لا يثبت عدم المجعول إلّا بالأصل المثبت (٢) فلا يجدي حينئذ ، وإن قلنا بأنّه ليس بمثبت وأنّ عدم الجعل معناه عدم المجعول ـ كما هو الحقّ وقد تقدّم ـ فيجري الاستصحاب ويثبت به البراءة الشرعيّة ، ولا حاجة حينئذ إلى أصالة البراءة لجريان الاستصحاب ، إلّا أنّ الظاهر بعد استحالة الإهمال في الواقعيّات فالأمر المعلوم توجّهه نحو المكلّف إمّا أن يكون بالمجموع بنحو يشمل الجزء المشكوك أو بنحو لا يشمله فهما نحوان متباينان ، وحينئذ فاستصحاب عدم الأكثر معارض باستصحاب عدم الأقلّ فلا مجرى للاستصحاب من جهة تحقّق المعارضة ، فلا مجال إلّا لجريان البراءة من التقييد الغير المعارضة بجريان البراءة من الإطلاق لما مرّ.

هذا تمام الكلام في جريان البراءة في الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وقد تقرّر أنّه مجرى البراءة العقليّة والشرعيّة وأنّه لا معنى للتفكيك بينهما ، فإن اخترنا عدم جريان البراءة العقليّة فلا بدّ من عدم جريان البراءة الشرعيّة أيضا.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

(٢) انظر أجود التقريرات ٣ : ٥٠٦.

٤٠٤

وملخّص ما ذكر في جريان البراءة العقليّة تقريبان :

أحدهما : للشيخ الأنصاري قدس‌سره وهو أنّ الأقلّ متيقّن الوجوب إمّا لنفسه أو لغيره ؛ لأنّه مقدمة للكلّ فنعلم تفصيلا بجامع الوجوب بالنسبة إليه فينحلّ العلم الإجمالي وينفى وجوب الزائد بالبراءة (١).

وفيه : أنّ الأجزاء لا تتّصف بالوجوب المقدّمي ؛ لأنّ الوجوب المقدّمي إنّما يتعلّق بما يكون مغايرا في الوجود مع ذي المقدّمة لا بما يكون هو هو ، ويكون التغاير بينهما لحاظيّا.

ومن ثمّ عدل المتأخّرون عن الشيخ عن هذا التقرير إلى :

التقرير الثاني : وهو أنّ الوجوب النفسي المنبسط على جميع الأجزاء قد علم تحقّقه بالنسبة إلى الأجزاء المعلومة ويشكّ في توجّهه إلى الأجزاء المشكوكة فينفى تعلّقه بالأجزاء المشكوكة بالأصل يعني بأصل البراءة.

وقد أشكل عليهم الميرزا قدس‌سره بأنّ العلم الإجمالي إنّما تعلّق بالطبيعة أي بطبيعة العمل المركّب من هذه الأجزاء إلّا أنّه لا يعلم أنّه تعلّق بها لا بشرط أو تعلّق بها بشرط شيء ، وحيث إنّها ارتباطيّة فالإتيان بتلك الأجزاء المعلومة غير محرز للفراغ اليقيني للشكّ في الامتثال ؛ لأنّه على تقدير كون الوجوب النفسي متعلّقا بها بشرط شيء لا يكون الإتيان بها وحدها امتثالا (٢).

ولا يخفى عليك عدم ورود ما أورده قدس‌سره لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف منحلّ بأصالة البراءة من الأكثر ، بمعنى أصالة البراءة من تقييد وجوب هذه الأجزاء بشرط انضمام بقيّة الأجزاء المشكوكة إليها ، ولا يعارضها أصالة البراءة من الإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق ليس تكليفا حتّى تجري البراءة بالنسبة إليه ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٣٢٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٩٣.

٤٠٥

بل هو عدم تكليف ، وعلى هذا قلنا بجريان البراءة العقليّة لقبح العقاب على ما لا بيان له وهو تقييد وجوب الأجزاء المعلومة بالأجزاء المشكوكة ، هذا كلّه في الأجزاء الخارجيّة التي لها وجود خارجي.

وأمّا الأجزاء التحليلية وهي الشكّ في الشرطيّة فنتكلّم الآن عنها فنقول : الشرط المشكوك شرطيّته أي المشكوك تقيّد الواجب به إمّا أن يكون لذاته وجود خارجي في مقابل وجود المشروط به ، سواء كان متقدّما كالغسل الليلي السابق للمستحاضة بالنسبة إلى صوم اليوم الّذي بعده أو متأخّرا كالغسل الليلي لها بالنسبة إلى صوم اليوم المتقدّم أو مقارنا كالغسل النهاري بالنسبة إلى صومها المقارن.

وإمّا أن لا يكون لذاته وجود في الخارج في مقابل وجود المشروط به ، وحينئذ فإمّا أن يعدّ عرفا من الأعراض العارضة عليه كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة الواجبة العتق ، وإمّا أن يعدّ عرفا من مقوّماته كالإنسانيّة بالنسبة إلى الحيوان.

أمّا الكلام في القسم الأوّل ـ وهو ما كان ذات المشكوك شرطيّته له وجود مستقلّ كالأغسال ـ فالكلام فيه عين الكلام في الجزء المشكوك جزئيّته ، فمن قال في الشكّ في الأجزاء بعدم جريان البراءة العقليّة قال به هنا كالميرزا والآخوند قدس‌سرهما (١) ومن قال بجريانها في الشكّ في الأجزاء قال بها هنا بعين التقريب المتقدّم ، وهو أنّا نشكّ في أنّ التكليف المتوجّه إلينا مطلق بالإضافة إلى هذا الشرط أو مقيّد به فأصالة البراءة من التقييد لقبح العقاب بلا بيان محكّمة ، ولا يعارضها أصالة البراءة من الإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق ليس فيه تضييق حتّى يجري فيه قبح العقاب بلا بيان.

(وما ذكر في الكفاية من أنّ الانحلال المتوهّم في الأجزاء لا يكاد يتوهّم هنا ، بداهة أنّ الأجزاء التحليليّة لا تتّصف بالوجوب المقدّمي (٢). مندفع بأنّ ملاك

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٤١٣ ، وأجود التقريرات ٣ : ٥٠٧.

(٢) كفاية الاصول : ٤١٧.

٤٠٦

التنجيز عندنا هو تعارض الاصول المفقود في المقام بما مرّ ، مضافا إلى أنّ الأجزاء الخارجيّة فيها جنبة شرطيّة أيضا فإنّ الأجزاء المعلومة يشترط فيها لحوق الجزء المشكوك على تقدير جزئيّته الواقعيّة ، فيسري الكلام إلى الأجزاء أيضا ، والجواب عنهما واحد بما قدّمناه) (١).

وأمّا جريان البراءة النقليّة فاتّفاقي ، ووجهه أن التقيّد غير معلوم فيرفع بحديث الرفع. ولا يرد أنّ الإطلاق أيضا غير معلوم ، لما بيّنّاه في البراءة العقليّة.

وأمّا الكلام في القسم الثاني وهو ما لم يكن للشيء المشكوك شرطيّته وجود مستقلّ بل كان يعدّ عرفا من أعراضه ، كما إذا علمنا بتوجّه التكليف بالعتق ودار أمره بين أن يكون متعلّقا بعتق مطلق الرقبة أو بعتق الرقبة المقيّدة بالإيمان ذهب الآخوند قدس‌سره إلى عدم جريان البراءة العقليّة والنقليّة ، أمّا العقليّة فلأنّه لا يقول بها في الشكّ في الأجزاء والشروط الّتي لها وجود مستقلّ ، وأمّا عدم جريان البراءة النقليّة فلأنّه قد زعم أنّ خصوصيّة الإيمان ليست مجعولة لا أصالة ولا تبعا فلا يمكن رفعها بحديث الرفع ، بخلاف الجزئيّة والشرطيّة الّتي لها وجود مستقلّ ، وذلك لأنّ خصوصيّة الإيمان منتزعة من مقام ذاتها (٢).

والتحقيق أن يقال : إنّا لا نريد أن نرفع الخصوصيّة وإنّما نقول : إنّ التكليف المعلوم توجّهه إلينا نشكّ في تعلّقه بخصوص عتق الرقبة المؤمنة أو بمطلق الرقبة ، ولا شكّ أنّ تعلّق التكليف بالمقيّد يحتاج إلى كلفة في مقام الثبوت وهو لحاظ المولى الرقبة المقيّدة ، وإلى كلفة في مقام الإثبات وهو أن يعلّق تكليفه بخصوص المقيّد ويبيّنه وحيث لم يبيّنه فقاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى المقيّد جارية ، ولا يعارضها قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى المطلق ؛ لأنّ المطلق معلوم ومتيقّن.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية للدرس.

(٢) كفاية الاصول : ٤١٦ ـ ٤١٧.

٤٠٧

وبعبارة اخرى تعلّق التكليف بعتق الرقبة معلوم ونشكّ في اعتبار تقيّدها بالإيمان فينفى تقيّدها بالإيمان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ في اعتبار التقييد كلفة في مقام الثبوت والإثبات ، والأصل عدمها. وإذا جرت البراءة العقليّة فالنقليّة أوضح ؛ لأنّ التقييد غير معلوم فحديث الرفع يرفعه.

وأمّا القسم الثالث وهو كون الشيء المشكوك شرطيّته ليس له وجود خارجي في مقابل المشروط به وكان عند العرف من قبيل المقوّم للمشروط ، مثل ما إذا علمنا بوجوب إكرام إلّا أنّا لا نعلم أنّا مكلّفون بوجوب إكرام إنسان أو وجوب إكرام حيوان ، ذهب الميرزا تبعا للآخوند قدس‌سرهما (١) إلى جريان قاعدة الاشتغال في المقام عقلا ونقلا ؛ لأنّ الحيوان بما هو جنس ليس له وجود في الخارج ؛ لأنّ الجنس لا وجود له في الخارج إلّا في ضمن فصله ، وحينئذ فيدور أمر وجوب الإكرام بين أن يكون متعلّقا بخصوص المتحصّص بالإنسانيّة أو بالمتحصّص بفصل ما من الفصول فيكون من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير والحكم فيه هو الاشتغال.

[دوران الأمر بين التعيين والتخيير]

فنقول : لا بدّ من الكلام في أنّ مقتضى القاعدة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ما هو؟ لأنّ المقام من صغرياته ، فيقع الكلام في هذه الكبرى الكلّية فنقول ـ وبالله الاستعانة ومنه التوفيق ـ :

إنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير إمّا أن يكون من جهة الشكّ في كيفيّة الجعل بأن نشكّ في أنّ الوجوب الّذي قد جعله الشارع على الشيء الفلاني هل جعله بنحو التعيين فيه أو بنحو التخيير بينه وبين أمر آخر؟ وإمّا أن يكون من جهة المزاحمة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٧ ، أجود التقريرات ٣ : ٥٠٧.

٤٠٨

الخارجيّة كما إذا علمنا بأنّ إنقاذ الغريق واجب تعيينا وغرق شخصان ولا يمكن للمكلّف إخراجهما معا وإنّما يتمكّن من إخراج أحدهما ولكنّه يحتمل أن يكونا شخصين لا مزيّة لأحدهما على الآخر وأن يكون أحدهما نبيّا مثلا ، وإمّا أن يكون دوران الأمر بين التعيين والتخيير من جهة الحجّية والطريقيّة ، مثل أن يشكّ في أنّه يجب تقليد الأعلم تعيينا أو تخييرا بينه وبين غير الأعلم.

أمّا الكلام في القسم الأوّل ـ وهو ما كان الدوران فيه ناشئا من الشكّ في كيفيّة الجعل ـ فالكلام فيه ينبغي أن يكون بعد بيان أمرين :

أحدهما : أنّ الكلام إنّما هو مع عدم جريان أصل لفظي أو موضوعي يعيّن الوجوب التعييني أو التخييري.

الثاني : أنّ الكلام إنّما هو بعد إحراز أصل الوجوب والجزم به ، أمّا لو لم يعلم أصل الوجوب كما لو شكّ بين الوجوب التعييني والتخييري وعدم الوجوب فأصالة عدم الوجوب التعييني تجري ، وتعارضها أصالة عدم الوجوب التخييري ، فينفى أصل الوجوب بتساقطهما.

إذا عرفت هذا فالشكّ في الوجوب التعييني والتخييري الّذي يكون منشؤه الشكّ في كيفيّة الجعل يتصوّر على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يكون وجوب شيئين معلوما في الجملة وشكّ في كون وجوبهما تعيينيّا أو تخييريّا ، بمعنى أنّه شكّ في كون أحدهما مسقطا لوجوب الآخر أم لا.

الثاني : أن يكون إسقاط أحد الشيئين للآخر معلوما لكن شكّ في وجوب المسقط ليكون عدلا للآخر وعدمه ، كما إذا علم وجوب القراءة في الصلاة وشكّ في أنّ الائتمام المسقط لذلك الوجوب قطعا هل هو عدل له أم لا؟ وتظهر الثمرة في وجوبه عند تعذّرها فإنّه يجب على تقدير كونه عدلا ؛ لأنّ تعذّر أحد فردي الواجب التخييري يعيّن الآخر ، ولا يجب على تقدير عدم كونه عدلا.

٤٠٩

الثالث : أن يشكّ في أصل الوجوب للآخر والمسقطيّة معا بعد العلم بثبوت الوجوب لأحدهما مثلا لو علم بوجوب الصيام قطعا ، ولكنّه شكّ في كون الوجوب بالنسبة إليه تعيينيّا أو تخييريّا بينه وبين الإطعام فيشك في أصل وجوب الإطعام. ومسقطيّته.

أمّا الكلام في هذا الثالث فنقول : ذهب الميرزا قدس‌سره إلى أنّ القاعدة فيه هي الاشتغال محتجّا بأنّ الشكّ فيه في الفراغ وفي مرحلة الامتثال ؛ لأنّه إن أتى بالإطعام فهو شاكّ في فراغ ذمّته عمّا اشتغلت به يقينا ، إذ على تقدير تعيين الصيام لا يكون الإطعام مسقطا لعدم كونه عدلا ، نعم على تقدير التخيير يكون مسقطا. بخلاف ما لو أتى بالصيام فإنّه قد فرغت ذمّته يقينا ، ونظير ذلك ما لو علم تكليف المولى بوجوب شراء شيء تردّد بين كونه إنسانا بخصوصه أو حيوانا ما ، سواء كان إنسانا أم لا ، فإنّه لو اشترى الإنسان يفرغ ذمّته يقينا ، بخلاف ما لو اشترى حيوانا آخر فإنّه لا يقطع بفراغ ذمّته لاحتمال تعيّن الإنسان. هذا أحد الوجوه لجريان قاعدة الاشتغال في المقام وعدم جريان البراءة شرعا فضلا عن البراءة العقليّة (١).

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ التخيير المحتمل في المقام إمّا أن يكون تخييرا عقليّا كما لو كان ثمّة جامع بين أفراد ما احتمل التخيير فيه كالحيوان في المثال المتأخّر ، وإمّا أن يكون التخيير شرعيّا كما إذا لم يكن جامع في البين نظير مثال الصيام والإطعام ، فإنّ الوجوب فيه يتوجّه نحو أحدهما المفهومي القابل للانطباق على كلّ منهما ، وقد ذكرنا في بحث الوجوب التخييري إمكان تعلّق الوجوب بمفهوم أحدهما الّذي هو أمر انتزاعي ينتزع منهما.

فإذا عرفت هذا فما ذكر من جريان البراءة في الأجزاء الخارجيّة بعينه جار هنا بذلك التقريب ، أمّا حيث يكون ثمّة جامع بين الأفراد كالحيوانيّة مثلا فالقدر المعلوم

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٤ : ٢٠٨.

٤١٠

التكليف به هو الحيوان فلو ترك شراء كلّي الحيوان يعاقب قطعا. فلو شككنا مثلا في أنّ وجوب شراء الإنسان لخصوصيّة فيه أم لأنّه فرد من أفراد كلّي الحيوان فهو وإن كان شكّا في مقام الامتثال كما ذكره الميرزا قدس‌سره إلّا أنّ منشأه الشكّ في التكليف ؛ لأنّ الشكّ في الامتثال نشأ من الشكّ في الواجب ، فإذا جرى أصالة عدم توجّه التكليف نحو خصوصيّة الإنسان فبضميمة هذا الأصل إلى الوجدان ينتج نتيجة الإطلاق ، فإنّ وجوب شراء الحيوان معلوم قطعا إلّا أنّ الكلام في الخصوصيّة.

ولا يمكن أن يقال بأنّ أصالة عدم توجّه التكليف نحو الخصوصيّة معارض بأصالة عدم توجّهه نحو المطلق ؛ لأنّ الإطلاق نحو من السعة فهو امتنان فلا يرفعه حديث الرفع ؛ لأنّ حديث الرفع للامتنان فلا يرفع الأمر الامتناني.

وبالجملة ، عين ما ذكر في الأجزاء الخارجيّة يجري هنا ، ولو لا ما ذكرنا لما جرى البراءة في الأجزاء أيضا ؛ وذلك لأنّ الإتيان بما عدا الجزء المشكوك يشكّ معه في الفراغ لفرض ارتباطيّة الأجزاء.

وأمّا في التخيير الشرعي فنقول أيضا : إنّ أحدهما ـ وهو الصوم في المثال ـ واجب قطعا إلّا أنّا لا نعلم أنّ وجوبه لانطباق أحدهما عليه أم لخصوصيّة فيه ، فأصالة البراءة من توجّه التكليف نحو الخصوصيّة وعدم لحاظ المولى الخصوصيّة مع ضميمة الوجدان ينتجان نتيجة الإطلاق ، ولا يعارض أصالة عدم الخصوصيّة بأصالة عدم الإطلاق ، لما قدّمناه مرارا.

هذا أحد الوجوه وردّه.

الوجه الثاني لكون مورد الشكّ في التعيين والتخيير محكوما بالتعيين لقاعدة الشغل أن يقال : إنّ التكليف بأحدهما وهو الصوم معلوم لنا ونشكّ في توجّه التكليف نحو الإطعام أو نحو شراء الحيوان مثلا فبأصالة عدم وجوب الإطعام مع ضميمة الوجدان والعلم بوجوب الصوم يتمّ الوجوب التعييني.

٤١١

والجواب : أنّه ما المراد بأصالة العدم؟ فإن اريد بها البراءة العقليّة فهي غير جارية إذ لا احتمال للعقاب بترك الإطعام ، مثلا إذا أتى بالصيام وكذا إذا ترك شراء كلّي الحيوان لا يحتمل العقاب إذا اشترى الإنسان فلا معنى لجريان البراءة العقليّة ، وإن اريد بها البراءة الشرعيّة فهي أيضا لا تجري ؛ لأنّ رفع وجوب الجامع الحقيقي أو الانتزاعي لا منّة فيه حتّى يرفع بحديث الرفع الوارد في مورد الامتنان بل فيه تضييق على المكلّف بلزوم إتيان الخاصّ بخصوصه فكيف يرفع بحديث الرفع؟ وإن اريد به الاستصحاب فله وجه لعدم وروده مورد الامتنان فيقال بأنّه قبل الشرع لم يكن الجامع الحقيقي واجبا أو لم يكن الإطعام واجبا ونشكّ في تبدّل ذلك العدم بالوجود فنستصحب العدم.

(إلّا أنّه لا يخفى أنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم لحاظ خصوصيّة الصوم فيتعارض الاستصحابان ويتساقطان فيرجع إلى البراءة) (١) مضافا إلى أنّ استصحاب عدم وجوب العدل لا يثبت تعيينيّة الوجوب إلّا بأظهر أنحاء الأصل المثبت ، وهو ليس بحجّة كما ذكرنا ويأتي في مبحث الاستصحاب تحقيقه إن شاء الله تعالى.

الوجه الثالث : هو الّذي ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره وعليه اعتمد ، وهو أنّ الوجوب التخييري يحتاج إلى مئونة زائدة في مقام الإثبات وهو ذكر عدله وفي مقام الثبوت وهو لحاظه ، بخلاف الوجوب التعييني فإنّه غير محتاج إلى ذلك ، بل قول المولى «افعل» ظاهر في الوجوب التعييني بلا احتياج إلى ضميمة ، بخلاف الوجوب التخييري فإنّه محتاج إلى ضميمة «أو اطعم» مثلا فظهور اللفظ في التعيين لا يترك إلى ما لا يكون اللفظ ظاهرا فيه ، بل كان محتاجا إلى مئونة زائدة ثبوتا وإثباتا (٢).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) انظر أجود التقريرات ٣ : ٣٧٣.

٤١٢

والجواب : أنّ ما ذكره قدس‌سره متين جدّا إلّا أنّه خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّ الكلام هو ما إذا استفيد الوجوب من دليل لبّي أو لفظي لا إطلاق فيه ، ومحلّ كلامه قدس‌سره حيث يستفاد الوجوب من دليل لفظي مطلق ، وبعبارة اخرى كلامنا في جريان الأصل العملي لا في جريان الأصل اللفظي وهو الإطلاق. هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الإثبات.

وأمّا مقام الثبوت فأصالة عدم اللحاظ لوجوب الإطعام معارضة بأصالة عدم لحاظ خصوصيّة الصيام ، ومع قطع النظر عن المعارضة فهي لا تثبت الوجوب التعييني بالنسبة إلى الصيام إلّا بالأصل المثبت. فتلخّص أنّه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فيما إذا علم وجوب أحد الشيئين أو الجامع الحقيقي وشكّ في وجوب الفرد الثاني ومسقطيّته فأصل البراءة يقتضي التخيير لأصالة عدم توجّه تكليف المولى نحو الخصوصيّة.

ولا يخفى أنّ أصل البراءة هنا يقتضي التوسعة ، لكنّه إذا لم يتمكّن من الفرد الّذي علم وجوبه قطعا وشكّ في أنّ الوجوب بنحو التعيين أو بنحو التخيير فأصالة البراءة من تعيين الوجوب يقتضي الضيق ؛ لأنّه يعيّن عليه الفرد الآخر ، ففي مثال الصوم الّذي ذكرناه لو فرض عدم قدرته على الصوم فأصالة البراءة من الخصوصيّة ورفع الخصوصيّة بحديث الرفع يوجب عليه الضيق وهو لزوم الإطعام ، بخلاف ما لو كان الأصل مقتضيا للتعيين ، فإنّه لا يجب الإطعام لعدم وجوبه وسقوط الواجب بالتعذّر وعدم القدرة ، فافهم.

(ويرجع حقيقة مقام العجز عن الواجب المحتمل تعيينيّة وجوبه إلى كون المكلّف شاكّا في توجّه التكليف نحوه وعدمه ؛ لأنّه لو كان الجامع واجبا لوجب عليه الإتيان بفرده الآخر عند عجزه عن الفرد الأوّل ، ولو كان خصوص ذلك الفرد واجبا لسقط وجوبه بسبب العجز فهو عند العجز عن ذلك الفرد الخاصّ شاكّ في توجّه التكليف نحوه فيرجع إلى البراءة عن التكليف المحتمل فافهم. وأمّا المفتي فإن أفتى بعدم تعيّن

٤١٣

الصوم في صورة القدرة على الإطعام وأفتى بعدم وجوب الإطعام في ظرف العجز عن الصوم يعلم إجمالا بمخالفة أحد الفتويين للواقع لكنّه لا يضرّ ؛ لأنّ الفرض تعيين الوظيفة للشاكّ وهي الوظيفة العمليّة الظاهريّة) (١). هذا تمام الكلام في الثالث.

وأمّا الكلام في الثاني من موارد الشكّ بين التعيين والتخيير من ناحية الجعل وهو ما إذا علم بوجوب شيء وكون شيء آخر مسقطا لهذا الوجوب وشكّ في كون وجوب الشيء المعلوم تعيينيّا مشروطا بعدم المسقط أو تخييريّا ويكون المسقط عدلا له فيشكّ في كونه مسقطا كالسفر بالنسبة إلى وجوب الصوم أو عدلا للواجب التخييري ، وقد مثّل له بما لو علمنا بوجوب القراءة في الصلاة وشككنا في كون وجوبها تعيينيّا مشروطا بعدم الائتمام فلو لم يتمكّن من القراءة تسقط ولا يجب الائتمام ، أو تخييريّا بينها وبين الائتمام فإذا تعذّرت القراءة يجب الائتمام ؛ لأنّ الواجب التخييري إذا تعذّر بعض أفراده وبقي فرد آخر يتعيّن وجوبه وقد علم حكمه ممّا تقدّم ، وأنّ البراءة جارية في المقام ؛ لأنّ تركهما معا ـ يعني القراءة والائتمام ـ يوجب العقاب قطعا على تقدير كون الوجوب تعيينيّا أو تخييريّا والإتيان بالقراءة قطعا مفرغ للذمّة وإذا أتى بالائتمام سقط الوجوب عنه قطعا.

وإنّما تظهر الثمرة في صورة تعذّر القراءة فهل يجب عليه الائتمام أم لا؟ فنقول : مقتضى أصالة البراءة من الخصوصيّة ثبوت الوجوب التخييري فتكون أصالة البراءة هنا موجبة للائتمام ، (إلّا أنّ أصالة البراءة من الخصوصيّة لا تجري حينئذ لمنافاتها للمنّة فيؤول كما تقدّم إلى كونه حينئذ ـ أي حين عجزه عن القراءة ـ شاكّا في تكليفه بالائتمام فيرجع إلى البراءة منه على قاعدة الشكّ في التكليف.

ثمّ لا يخفى أنّ المثال ليس من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ؛ لأنّ وجوب القراءة ضمني لكونه جزء العمل. وبعبارة اخرى ليس الائتمام مسقطا للقراءة بل إنّ

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤١٤

قراءة الإمام تكون قراءة للمأموم وكلّ من الصلاة جماعة وفرادى فردان لطبيعي الصلاة المأمور بها ، فالتخيير بينهما حينئذ عقلي ، فمع العجز عن أحدهما يتعيّن الآخر بحسب القاعدة ، إلّا أنّه حيث يكون عجزه بسبب من قبل نفسه نحكم بتعيّن الفرد الآخر ، كما إذا ترك التعلّم حتّى ضاق الوقت ، وإذا لم يكن من قبل نفسه كما إذا لم يتمكّن طول الوقت من التعلّم فالأخبار الخاصّة حينئذ قد جعلت بإطلاقها ما يحسنه من القراءة أو التسبيح والذكر بدلا آخر عن القراءة فلا يتعيّن عليه الائتمام حينئذ) (١).

ثمّ إنّه قد استدلّ الميرزا النائيني (٢) في المقام على أنّ الائتمام مسقط كالسفر بما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سين بلال شين عند الله» (٣) فإنّها بإطلاقها شاملة حتّى لصورة التمكّن من الائتمام.

ولا يخفى أنّ ما ذكره صادر من عدم العصمة ، فإنّ هذه واردة في الأذان ولا شين في القراءة الواجبة ؛ لأنّ بلال كان يعرف قراءة الإخلاص والتشهّد لا يسقطه الائتمام ، نعم لو أراد الميرزا قدس‌سره أنّه يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ كلّ من لا يستطيع النطق بحرف يكون قدر ما يطيقه مجزئا كما أشارت إليه بعض الأخبار تمّت الكبرى أيضا ، إلّا أنّ كون المقام صغرى له ممنوع لما تقدّم.

وأمّا الكلام في الصورة الاولى وهي ما لو علم بوجوب شيئين ولكنّه لا يعلم أنّ وجوبهما تعييني أو تخييري فوجوب أحدهما معلوم قطعا فلو تركهما يعاقب قطعا ، ولو لم يقدر على أحدهما يجب الثاني قطعا إمّا لأنّ الوجوب تعييني وإمّا لأنّه تخييري فتعذّر أحدهما يعيّن الآخر.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية للدرس.

(٢) انظر أجود التقريرات ٣ : ٣٧٢ ـ ٣٧٨.

(٣) مستدرك الوسائل ٤ : ٢٧٨ ، الباب ٢٣ من أبواب قراءة القرآن.

٤١٥

وإنّما تظهر الثمرة في صورة القدرة عليهما معا فعلى تقدير كون وجوبهما تعيينيّا يجب الإتيان بكليهما ، وعلى تقدير كونه تخييريّا لا يجب الإتيان إلّا بأحدهما فهنا أيضا نقول : إنّ المعلوم وجوب أحدهما وقد أتينا به والآخر مشكوك الوجوب ، إذ على تقدير التخييريّة يسقط وجوبه وعلى تقدير التعيينيّة لا يسقط فينفى وجوبه بالبراءة حينئذ.

وما يقال : من أنّ وجوبه قبل الإتيان بالثاني متيقّن وبعد الإتيان به يشكّ في سقوط الوجوب فيستصحب فلا تجري البراءة ، مندفع بأنّ وجوبه بخصوصه قبل الإتيان بالثاني غير معلوم لإمكان وجوب الجامع ، وإذا كان الجامع واجبا سقط الوجوب بالإتيان بالثاني قطعا.

هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير حيث يكون منشأ الإشكال والدوران هو الشكّ في كيفيّة جعل الشارع.

وأمّا القسم الثاني وهو ما إذا علم أنّ الشارع جعل وجوبين بنحو التعيين قطعا مثل وجوب إنقاذ الغريق ، فلو أنّ غريقين في الماء ويتمكّن المكلّف من إنقاذهما معا فقد جعل الشارع عليه إنقاذ كلّ منهما ، فالوجوب معلوم التعينيّة في مقام الجعل ، فإذا لم يقدر المكلّف إلّا على إنقاذ أحدهما ، فإذا كان يعلم كون أحدهما نبيّا والآخر ليس بنبيّ فيتقدّم الأهمّ وهو وجوب إنقاذ النبي ، وإن كان يعلم تساويهما فيتخيّر. فلو شكّ في تساويهما فاحتمل التساوي واحتمل أيضا كون الّذي على جهة اليمين نبيّا فهنا يدور الأمر بين التخيير على تقدير التساوي والتعيين على تقدير كون الّذي على جهة اليمين نبيّا.

ولا يخفى عليك أنّا ذكرنا في مبحث الترتّب أنّ التزاحم لا يكون بين أصل الجعلين ؛ لأنّه لا مانع من أن يكلّف تكليفين كلّ منهما مشروط بالقدرة ، وإنّما يكون التزاحم بين إطلاق الجعلين في مقام الثبوت ، فهنا جعل وجوبين لإنقاذ غريقين مشروطا كلّ منهما بالقدرة لا مانع منه ، وإنّما المانع هو إطلاقهما فإنّ كون الوجوبين

٤١٦

مطلقين يقتضي كون الوجوب في الآخر ثابتا حتّى عند الإتيان بالثاني ، فهنا لو أحرزنا التساوي بين ملاكي هذين الوجوبين كما لو علمنا أن لا مزيّة لأحد الغريقين على الآخر فلا محيص عن سقوط إطلاق كلا الوجوبين ويكون كلّ منهما مشروطا بعدم الإتيان بالآخر ، وكذا لو احتملنا أهميّة كلّ منهما على الآخر. أمّا لو احتملنا المزيّة لأحدهما الخاصّ على الآخر ، كما إذا احتملنا كون من على جهة اليمين نبيّا فلا محيص عن سقوط إطلاق الآخر بخصوصه وبقاء إطلاق الأهمّ.

إذا عرفت هذا فالشكّ في التعيين والتخيير يكون شكّا في سقوط إطلاقي الوجوبين وكونهما معا مشروطين ، وفي سقوط إطلاق خصوص وجوب المهمّ وكونه المشروط وبقاء الأهمّ على إطلاقه.

قال الاستاذ الخوئي مدّ ظله : ومقتضى القاعدة هنا هو البناء على التعيين دون التخيير ، وقد أفاد في وجه ذلك أنّ الشكّ فيما إذا كان منشأ الشكّ هو الشكّ في كيفيّة الجعل فجعل الجامع معلوم وجعل الخصوصيّة مجهول فينفى بالبراءة ، بخلاف الشكّ هنا فإنّه شكّ في سقوط التكليف بعد العلم بالجعل. ولو أتى بخصوص محتمل الأهميّة يقينا برئ إمّا لأنّه مطلق أو مشروط بعدم الإتيان بالآخر ، بخلاف ما لو أتى بغيره فإنّه يحتمل أن يكون عاصيا للأهمّ لاحتمال إطلاقه.

وبعبارة اخرى سقوط الإطلاق في طرف المهمّ قطعي ، وسقوط الإطلاق في طرف الأهمّ غير معلوم.

وما يقال : من أنّه إن كان الإطلاق في المقام لفظيّا فهو خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّ كلامنا الأصل العملي وهو حيث لا أصل لفظي ، وإن كان الإطلاق في مرحلة الثبوت فثبوت الإطلاق في محتمل الأهميّة مشكوك لاحتمال عدم الأهميّة وثبوت التساوي في الواقع ، فلا يكون إطلاق لكلّ منهما فليس إطلاقه معلوم الثبوت حتّى يكون الشكّ في سقوطه موجبا لبقائه بحكم الاستصحاب.

٤١٧

وبعبارة اخرى الشكّ في الإطلاق والاشتراط الثبوتيين يقتضي الحكم بكون التكليف مشروطا ؛ لأنّه عند حصول شرطه واجب قطعا إمّا لأنّه مطلق أو لأنّه مشروط وقد تحقّق شرطه ، وعند عدم حصول شرطه ليس بمعلوم الوجوب فيرفع وجوبه بحديث الرفع.

فلا يخفى عليك ما فيه ، وذلك أنّ ما ذكره متين حيث يكون الشكّ راجعا إلى أصل الجعل ولم يحرز الملاك ، وأمّا في مثل مقامنا حيث يحرز ملاك كلا الحكمين ويكون خطابهما مطلقا بحسب جعله وإنّما نشأ الاشتراط من التزاحم الواقع بينهما في مرحلة الامتثال فلا ؛ لأنّ ملاك كلّ من الحكمين محرز حتّى في صورة التزاحم والإتيان بمحتمل الأهميّة مفرغ يقينا ؛ لأنّه إمّا مطلق إذا كان أهمّ واقعا ، وإمّا مشروط بعدم الإتيان بعدله والشرط موجود ، بخلاف الإتيان بغيره فإنّه وإن كان على تقدير الاشتراط محرز الشرط وهو عدم الإتيان بعدله إلّا أنّه على تقدير أهميّة عدله لا يجوز للمكلّف صرف قدرته فيه مع أهميّة عدله ، فالعقل لا يسوّغ له حينئذ ترك محتمل الأهميّة والإتيان بعدله أصلا والعقل هو المحكّم في مقام الامتثال ، فافهم.

وأمّا القسم الثالث : وهو الشكّ في التعيين والتخيير في الحجّية فكون القاعدة فيه التعيين أوضح ؛ لأنّ الأصل في الشكّ في الحجّية عدمها ، وحينئذ فلو شكّ في كون الأعلم واجب الاتّباع تعيينا أو تخييرا بينه وبين غيره فالأصل عدم حجّية فتوى غير الأعلم وعدم جعل طريقيّتها له ، بخلاف فتوى الأعلم فإنّها حجّة قطعا إمّا لأنّها بخصوصها حجّة وإمّا لأنّها أحد طرفي التخيير ، إذ لا يحتمل تعيّن تقديم فتوى غير الأعلم على فتوى الأعلم أصلا وهو واضح ، هذا في الشبهة الحكميّة ، وكذا في الشبهة الموضوعيّة فإنّا لو أحرزنا أنّ الأعلم واجب الاتّباع ودار أمر الأعلم بين زيد وعمرو واحتملنا تساويهما واحتمال أعلميّة أحدهما بخصوصه وهو زيد مثلا فليس له أن يقلّد عمروا ؛ لأنّ زيدا قد جعل الشارع فتواه حجّة في حقّ هذا المقلّد بخلاف عمرو فإنّ حجّية فتواه بالنسبة إلى هذا المقلّد مجهولة ، والأصل عدمها.

٤١٨

هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وقد علم أنّ مقتضى القاعدة حيث يكون الشكّ في كيفيّة الجعل التخيير ، والتعيين حيث يكون الشكّ في الدوران من جهة التزاحم أو الطريقيّة.

[الكلام في الشك في الجزئية والشرطية وأنها مشروطة بحال الذكر أم لا؟]

إذا علم جزئيّة شيء لشيء أو شرطيّة شيء لشيء في الجملة ودار أمرها بين أن تكون جزئيّة أو شرطيّة مطلقة حتّى في صورة النسيان ليبطل العمل الفاقد لها وبين أن تكون جزئيّتها أو شرطيّتها حال العمد فلا يبطل العمل بتركها نسيانا فهل مقتضى القاعدة الأوّل أو الثاني؟

والكلام يقع في مقامات :

الأوّل : أنّ العمل الّذي قد ترك جزؤه أو شرطه نسيانا وحكم الشارع بدليل خاصّ بصحّته هل يحكم بصحّته بما أنّه امتثال للأمر المتوجّه ، أو يحكم بصحّته بما أنّه واجد لملاك الأمر وإن لم يكن مأمورا به لفقد الشرط أو الجزء؟ المعروف بينهم هو الثاني لعدم توجّه التكليف إلى الناسي ؛ لأنّه إن توجّه التكليف إليه بعنوان الناسي مع عدم وصوله إليه فلا يعقل داعويّة الأمر الغير الواصل ومحرّكيّته ، وإن وصل فلا يمكن محرّكيّته أيضا لخروجه عن كونه ناسيا وتفطّنه لنسيانه فيكون ملتفتا والمفروض أنّ الخطاب خطاب للناسي فلا يحرّكه أصلا.

وقد أجاب الآخوند قدس‌سره (١) في دفع هذه الشبهة بجوابين :

أحدهما : أنّه يمكن أن يوجّه إليه الخطاب لا بعنوان الناسي بل بعنوان ملازم للناسي واقعا ويكون الناسي غير ملتفت إلى ملازمته أصلا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٤١٩ ـ ٤٢٠.

٤١٩

الثاني : أنّه يمكن أن يوجّه تكليف بما لا بدّ منه من الأجزاء دائما حتّى حال النسيان إلى عامّة المكلّفين ثمّ يوجّه خطاب آخر الى خصوص الذاكرين ببقيّة الأجزاء ، فيكون العمل الفاقد لبعض هذه الأجزاء مأمورا به بالأمر الأوّلي المطلق حتّى بالنسبة إلى الناسي وإن لم يكن الأمر الثاني متوجّها إليه لاختصاصه بالذاكر.

ولا يخفى أنّ الوجه الأوّل خيالي وهمي ، لعدم عنوان ملازم للناسي بحيث لا يعلم الناسي بملازمته الواقعيّة ، مضافا إلى اختلاف الناسي من حيث الأجزاء المنسيّة ، فإنّه تارة ينسى كلّي القراءة واخرى خصوص السورة وثالثة إحدى السجدتين ورابعة الذكر في الركوع أو في السجود واخرى ينسى التشهّد ، ومضافا إلى اختلاف ما ينسى فيه فإنّها تارة صلاة ، واخرى غير صلاة والصلاة تارة صلاة صبح واخرى عصر وثالثة ظهر ورابعة مغرب وخامسة عشاء ، وهكذا ... فأيّ عنوان ملازم يكون جامعا بين أفراده المختلفة حقيقة أو مصداقا؟ فالعمدة هو الوجه الثاني.

ولا ريب أنّ الوجه الثاني ثبوتا لا مانع منه ، إذ الجعل للحكم إنّما هو اعتبار كون شيء في ذمّة المكلّف ، وهذا ممكن بما قرّره قدس‌سره بأن يعتبر كون الأجزاء القوامية في ذمّة جميع المكلّفين ، ثمّ يعتبر بقيّة الأجزاء في ذمّة خصوص الذاكرين فيوجّه الخطاب حينئذ إلى الناسي بهذه الوسيلة ، فيكون العمل صحيحا من جهة توجّه الخطاب به لا بصرف الملاك الملزم ، ويكون إفهامه به ولو بإخباره بعد العمل أو قبله كأن يقول الإمام عليه‌السلام مثلا : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس» (١) مثلا فيطّلع المكلّف بأنّ ترك الأجزاء الغير المستثناة مثلا ليست أجزاء حال النسيان ، ولكنّه يكون تطبيقه لهذه الكبرى الكلّية بعد فراغه عن العمل والتفاته إلى أنّه كان ناسيا لبعض أجزائه.

نعم ، يكون حين العمل متخيّلا لتوجّه خطاب الذاكر إليه وهو في الحقيقة لم يتوجّه إليه خطاب الذاكر وإنّما توجّه إليه خطاب الناسي ، فهو يأتي بالعمل بداعي الأمر

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٦٨٣ ، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.

٤٢٠