غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

ودعوى : كون المستفاد منه حينئذ هي قاعدة اليقين ، ممنوعة ولا وجه لها ، لأنّ قاعدة اليقين متقوّمة باليقين السابق الزائل وبالشكّ الساري ، وفي المقام لا شكّ ساري ، وإنّما هو اليقين بالنجاسة وليس أيضا يقين زائل ، لأنّ اليقين قبل الظنّ بالإصابة لم يزل في زمانه قطعا.

وبالجملة ، فدعوى استفادة حجّية قاعدة اليقين منها في غاية البعد قطعا ، ويبقى الكلام في كيفيّة التطبيق مع أنّه إذا لم نهتد إلى تطبيقها لا يضرّ بالاستدلال بها ، فإنّ ألفاظها معلومة ولا يضرّ بها جهل التطبيق أصلا.

ويمكن أن يقال في تطبيقها شيء يحتاج إلى تمهيد مقدّمة وهي : أنّه وقع النزاع في كون الطهارة شرطا في الصلاة ، أو كون النجاسة مانعا عنها ، أو أنّ الطهارة شرط والنجاسة مانع أيضا؟ لا سبيل إلى الأخير لعدّة محاذير أحدها لزوم اللغويّة في كلام الحكيم ، وأمّا القولان الأوّلان فالأظهر فيهما هو الأوّل لقوله : «لا صلاة إلّا بطهور» (١). «ويكفيك في الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السنّة وأمّا البول فلا بدّ من غسله بالماء» (٢) فإنّ الظاهر أنّ المراد بالطهور هنا ما يتطهّر به وإن استعمل في مقابل الحدث في غير المقام إلّا أنّ الظاهر منه هنا ذلك بقرينة ذكر الأحجار والماء بعده ، وتكون حينئذ أخبار «لا تصلّ فيه حتّى تغسله» إرشادا إلى الشرطيّة. ولا ثمرة بين القول بأنّ الشرط هو الطهارة ولو ظاهرا أو أنّ المانع هو النجاسة ، إذ لا بدّ من إحراز الشرط ولو بأصل محرز أو محض ، وكذا لا بدّ من إحراز عدم المانع ولو بأصل محرز أو محض.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٦١ ، الباب ٤ من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل ، و ٢٥٦ الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر الوسائل ١ : ٢٤٦ ، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ٢ ، و ٣ و ٤.

٥٤١

وتوهّم : أنّ الثمرة بين القولين تظهر في المعلوم بالإجمال ـ مثلا لو علم نجاسة أحد الثوبين إجمالا واحتمل نجاسة الثاني فصلّى فيهما صلاة مكرّرة ثمّ انكشف نجاستهما معا واقعا ، فبناء على شرطيّة الطهارة ففي المقام لا بدّ من إعادة الصلاة الواحدة المكرّرة بهما ، إذ لا إحراز للطهارة لاحتمال النجاسة عنده ، وعدم إحرازها بالأصل لعدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي ، والمفروض أيضا نجاستهما معا فليس طهارة واقعيّة ولا إحراز أيضا فتبطل ، بخلافه على المانعيّة إذ لم يحرز نجاستهما معا فتكون الصلاة صحيحة ـ فاسد ، لأنّ الاصول إنّما تجري في كلّ منهما بخصوصه ، ولكنّها تجري في أحدهما لا على التعيين فيكون محرزا للطهارة حينئذ ، فتصحّ حتّى بناء على شرطيّة الطهارة.

إذا تمهّدت هذه المقدّمة فتطبيق الرواية حينئذ على المورد من حيث العبارة الاولى هي أنّه كان المكلّف متيقّنا طهارة ثوبه ثمّ شكّ في أنّه أصابه الدم أم لا فهو محرز للطهارة بموجب الاستصحاب ، فالمراد من اليقين اليقين قبل عروض الظنّ ، والمراد من الشكّ الشكّ بعد الظنّ قبل رؤية الدم ، فالإمام يطبّق فيقول : إنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت في عروض النجاسة فليس ينبغي لك أن تنقض يقينك السابق بشكّك اللاحق ، وليس المراد منه بعد رؤية الدم في الثوب ، فإنّه من نقض اليقين باليقين ، فالمراد من النقض عدم ترتيب آثار طهارة الثوب زمن الشكّ لا إعادة الصلاة ، وحينئذ فعدم اعادة الصلاة من جهة وجدان الشرط الّذي هو الإحراز بمقتضى الاستصحاب.

نعم ، يبقى شيء وهو أنّ تعميم شرطيّة الطهارة إلى الظاهريّة والواقعيّة الّذي علّل الآخوند (١) به صحّة الصلاة [هل] هو الإجزاء الّذي علّل الشيخ الأنصاري (٢) به صحّتها أم غيره؟ وعلى تقدير كونه غيره فالحقّ مع أيّهما؟

__________________

(١) انظر الكفاية : ٤٤٧ ـ ٤٤٨.

(٢) انظر الفرائد ٣ : ٦٠.

٥٤٢

فنقول : الإجزاء قد يكون إجزاء ظاهريّا كما إذا استند صحّة عمله إلى أمارة شرعيّة ، وذلك كأن يصلّي بالثوب المستصحب طهارته فإجزاء هذه الصلاة إجزاء ظاهري لاستناده الى أمارة شرعيّة.

وهذا الإجزاء الظاهري لا يكون إلّا مع الشكّ في صحّة الصلاة واقعا ، ولا يجري حيث يقطع بوقوعها بثوب نجس. وهذا الإجزاء الظاهري قد يكون بعد الفراغ من العمل كما في قاعدة الفراغ ، وقد يكون في الأثناء كما في الاستصحاب في أثناء الصلاة مثلا ، كما أنّه قد يكون علّة الحدوث بنفسها هي علّة البقاء ، كما إذا استصحب طهارة الثوب فصلّى فشروعه بالصلاة مستند إلى الاستصحاب ، وبعد فراغه عدم إعادة الصلاة أيضا مستند إلى نفس ذلك الاستصحاب إذ لم ينكشف خلافه ، وقد يكون علّة الحدوث فيه غير علّة البقاء ، مثل ما لو جرى شكّه إلى اليقين فارتفع اليقين إلّا أنّه قامت عنده بعد الصلاة أمارة شرعيّة كالبيّنة على طهارة الثوب ، فعدم القضاء مستند إلى علّة اخرى وهي البيّنة وهي غير علّة الحدوث وهو الاستصحاب. وأمّا الإجزاء المعروف فهو الإجزاء الواقعي ، وهو الّذي يوجب ارتفاع الواقع بخصوص حال قيام الأمارة ، وهذا يأتي حتّى في صورة اليقين بالمخالفة ، إذ كما بيّنّا في باب الإجزاء أنّ إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي معناه رفع اليد عن إرادة الواقعي ، وإلّا فلا معنى لكون الواقعي ثابتا مطلوبا للمولى ومع ذلك يكتفي بغيره ، وذكرنا أنّ الإجزاء معناه سقوط الحكم الواقعي بالنسبة إلى هذا الممتثل للحكم الظاهري ، وحينئذ فمعنى الإجزاء الّذي عبّر به الشيخ في المقام هو عبارة عن توسعة الشرطيّة إلى كون الشرط الأعمّ من الطهارة الظاهريّة والواقعيّة ، وهذا هو عبارة اخرى عن الإجزاء الواقعي فلا فرق بين التعبيرين. فلا وجه حينئذ لإشكال الآخوند (١)

__________________

(١) انظر الكفاية : ٤٤٧.

٥٤٣

على الشيخ (١) كما لا وجه لردّ الميرزا النائيني على الآخوند (٢) وزعمه جواز كلا التعليلين ، إذ هما واحد كما ذكرنا.

الصحيحة الثالثة لزرارة (٣) قال فيها بعد أن ذكر حكم الشكّ بين الاثنين والأربع وأنّه الإتيان بركعتين بفاتحة الكتاب ، ويظهر منه بقرينة تعيين فاتحة الكتاب فيها أنّها صلاة مستقلّة قال بعد ذلك : «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها اخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشكّ ... الخ».

والمراد من اليقين ، اليقين بعدم الرابعة بالشكّ في الرابعة ، وكيفيّة الاستدلال بها دلالة وسندا قد مرّت فلا نعيدها.

نعم ، حيث في هذه الرواية : «ولا ينقض» بصيغة الغائب يمكن أن يقال بأنّها تفيد حجّية الاستصحاب في خصوص هذا الشكّ ، وربّما يقال : بعمومها ، لقوله في آخرها : «ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات».

وقد أسقط الشيخ الأنصاري قدس‌سره الاستدلال بهذه الرواية على حجّية الاستصحاب (٤) وزعم دلالتها على قاعدة لزوم تحصيل اليقين بالامتثال نظير الرواية المشهورة وهي : «إذا شككت فابن على اليقين» (٥) لزعمه أنّ مقتضى كونها لبيان الاستصحاب لزوم الإتيان بالرابعة متّصلة وهو خلاف إجماع المذهب ، وحملها على التقيّة ـ مضافا إلى كونه خلاف الظاهر في نفسه ـ مناف لصدر الرواية المبيّن

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٦٠ ـ ٦١.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ٤٥ ـ ٤٧.

(٣) الوسائل ٥ : ٣٢١ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣ ، وانظر صدرها في الحديث ٣ من الباب ١١ من هذه الأبواب.

(٤) انظر الفرائد ٣ : ٦٤.

(٥) الوسائل ٥ : ٣١٨ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

٥٤٤

لحكم الشكّ بين الاثنين والأربع حيث عيّن في الركعتين الاحتياطيّتين قراءة الحمد ولو كانت للتقيّة لخيّر فيهما بين الفاتحة والتسبيح. وكون التطبيق فقط للتقيّة خلاف الظاهر أيضا.

وقد أشكل الآخوند عليه بأنّ مقتضى الاستصحاب لزوم الإتيان بالرابعة مطلقا ، سواء كانت متّصلة بما تقدّم أو منفصلة عمّا تقدّم ، فهي مطلقة من حيث الاتّصال والانفصال فتقيّد بالروايات الدالّة على لزوم الاتّصال (١).

وقد أيّد بعض الأعاظم كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنّ الاستصحاب لا يجري في الصلاة ، لأنّ اللازم على المكلّفين إيقاع التشهّد والتسليم في الرابعة ، واستصحاب عدم إتيان الرابعة لا يثبت وقوع السلام والتشهّد فيها إلّا بأظهر أنحاء الأصل المثبت (٢) وجعل قدس‌سره ذلك مبنى المشهور من بطلان صلاة الشاكّ في غير الشكوك المنصوصة.

أقول : الظاهر أنّ الجميع من كلام الشيخ الأنصاري والآخوند وتأييد كلام الأنصاري لا يخلو من ضعف ، أمّا كلام الرادّ :

فأوّلا : أنّه ليس عندنا من الواجبات جزءا أو شرطا بعنوان وقوع التشهّد والسلام في الرابعة ، وإنّما هما عبارة اخرى عن عدم الزيادة في الركعات ، وهذا محرز بالأصل.

وثانيا : أنّه لو سلّم كونه شرطا فالاستصحاب يثبته ، بيان ذلك أنّ هذا الشخص بمجرّد رفع رأسه من ركعة الاحتياط يقطع أنّه مرّ عليه زمن كان رفع رأسه من سجود الرابعة فيستصحب ذاك الحال ، ويكون حكمه بالتعبّد الشرعي أنّ ذلك الحال هو حال رفعه من الرابعة ، فيكون حينئذ تشهّده وتسليمه في الرابعة بالتعبّد الشرعي.

__________________

(١) انظر درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٣٠٩.

(٢) انظر نهاية الأفكار ٤ : ٦٠.

٥٤٥

ولا إشكال في هذا الاستصحاب إلّا إذا اعتبر اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين كما ذكره الآخوند (١) واعتبره ، وحيث لا دليل على اعتباره فالاستصحاب جار كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما جعله منشأ لفتوى المشهور : من إبطال الصلاة بالشكّ حيث لا يكون منصوصا ، فليس كما ذكره وإنّما نظرهم إلى صحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه‌السلام : «إن كنت لا تدري كم صلّيت ولم يقع وهمك على شيء فأعد الصلاة» (٢) فإنّها عامّة يقتصر على تقييدها بموارد النصوص المصحّحة للصلاة ويبقى غيرها تحت العموم.

وأمّا ما ذكره الآخوند ففيه أيضا أنّ الاستصحاب ليس مؤدّاه مطلقا حتّى يقيّد بالروايات ، فإنّ الاستصحاب يبقي الأمر الّذي كان لنا يقين به ، لأنّه إذا استصحب عدم الإتيان بالرابعة فمعناه أنّ الأمر الأوّل باق لم يسقط ، والأمر الأوّل إنّما كان يقتضي الإتيان بالرابعة متّصلة فاستصحابه يقتضي ذلك أيضا ، فلا إطلاق حينئذ في مؤدّى الاستصحاب حتّى يقيّد بالروايات الدالّة على لزوم الإتيان بها متّصلة ، فافهم.

وأمّا ما ذكره الشيخ (٣) من أنّ استفادة الاستصحاب منها يستلزم حملها على التقيّة لاستلزامه إتيان ركعة متّصلة وهو خلاف المذهب ، وأنّها محمولة على لزوم تحصيل اليقين بالامتثال نظير الرواية : «إذا شككت فابن على اليقين» فلا يخفى ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ رواية : «إذا شككت ...» لا نسلّم أنّ المراد منها هذا المعنى.

وأمّا ثانيا : فلو سلّم إرادة هذا المعنى فحمل قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» على قوله : ابن على اليقين في مقام الامتثال مخالفته للظاهر بنحو ربّما تكون موجبة لكونه غلطا محضا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٤٥١.

(٢) الوسائل ٥ : ٣٢٧ الباب ١٥ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.

(٣) انظر الفرائد ٣ : ٦٤.

٥٤٦

وأمّا ثالثا فقوله : إنّ حملها على الاستصحاب يستلزم حملها على التقيّة وهو خلاف الظاهر ، لا يخفى ما فيه ، فإنّ الظاهر من الرواية إرادة الركعة المنفصلة لا المتّصلة ، بيان ذلك أنّا قد ذكرنا في باب الحكومة الظاهريّة ما يشير إليه ، وملخّصه أنّه استفيد من مجموع الأدلّة أنّ الواجب الواقعي في الصلاة له كيفيّتان ، إحداهما : إتيان أربع ركعات متّصلة لغير الشاكّ ، الثانية : لزوم إتيان ثلاث متّصلة للشاكّ ورابعة منفصلة ، فيكون مقتضاها التقييد الواقعي حال الشكّ ، وهذا هو معنى الحكومة الظاهريّة.

وحينئذ فهذا المكلّف إذا كان في الواقع قد صلّى ثلاثا وشكّ في أنّه صلّى ثلاثا أم أربع فحينئذ يتحقّق الشكّ وقد صلّى ثلاثا في الواقع فيتحقّق الموضوع لصلاة ثلاث متّصلة ورابعة منفصلة ، فحينئذ الاستصحاب يحرز أنّه لم يأت إلّا بثلاث والشكّ موجود وجدانا فيتحقّق الموضوع لثلاث متّصلة وواحدة منفصلة ويتمّ المطلوب من لزوم إتيان ركعة منفصلة.

ووجه ما ذكره الشيخ هو تخيّل أنّ حكم الشاكّ حكم ظاهري له ما دام الشكّ وليس كذلك ، بل إنّه حكم واقعي فيكون الحكم الواقعي مختلفا بالنسبة إلى غير الشاكّ ، هو لزوم الإتيان بأربع متّصلة ولزوم الإتيان بثلاث متّصلة وواحدة منفصلة للشاكّ بشرط كونه في الواقع قد صلّى ثلاثا ، ولذا لو كان في الواقع قد صلّى أربعا كانت الركعة نافلة ، وحينئذ فالبناء على اليقين بالنسبة إلى هذا الشاكّ إنّما هو بالبناء على أنّه صلّى ثلاثا مع فرض وجود شكّه بالوجدان وإحراز النقصان بالأصل.

ثمّ إنّ ما ذكره الشيخ : من أنّ الفقرات المذكورة في ذيل الرواية منافية للاستصحاب ، لا يخفى ما فيه ، فإنّها جميعها لا تنافيه ، بل بعضها ظاهر فيما ذكرناه وهو قوله : «ولا يدخل أحدهما فى الآخر» أي مقتضى الشكّ لا يدخله بمقتضى اليقين فيلزم كون الركعة منفصلة ، لأنّه هو مقتضى الشكّ ، فتأمّل.

٥٤٧

وقد استدلّ على حجّية الاستصحاب أيضا بموثّق عمّار : «إذا شككت فابن على اليقين ، قلت : هذا أصل ، قال : نعم» (١).

وقد أشكل عليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنّ معناه : إذا شككت في الامتثال فيلزمك تحصيل اليقين به ، وهو أجنبيّ عن الاستصحاب ، وإنّما معناه البناء على ما هو المتيقّن من عدد الركعات والتسليم عليه ثمّ الاحتياط بإتيان ما شكّ فيه منفصلا (٢).

أقول : لو كان مورد هذه الرواية الصلاة لكان لما ذكره قدس‌سره وجه ، على أنّا نقول حينئذ فيها نظير ما قلناه في الرواية السابقة من أنّ البناء على اليقين إنّما هو بما ذكرنا بمقتضى أدلّة الشكّ القاضية بالتقييد الواقعي ، إلّا أنّها لا يظهر منها كون موردها الصلاة ، بل هي قاعدة كلّية وذكر الفقهاء لها في كتاب الصلاة من باب أنّه من مصاديقها ، وحينئذ فليس معنى البناء على اليقين لزوم تحصيل اليقين ، وأيّ متكلّم يعبّر عن لزوم تحصيل اليقين ب «ابن على اليقين»؟ وهل هذا إلّا تمحّل ومخالفة للظاهر؟ على أنّها ظاهرة في وجود يقين يبنى عليه لا أنّه يقين يحصل بعد ذلك بالامتثال ، فافهم وتأمّل.

وقد استدلّ أيضا بروايتين عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» (٣).

وفي اخرى عنه عليه‌السلام أيضا : «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ» (٤).

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣١٨ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

(٢) انظر الفرائد ٣ : ٦٧.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٥ ـ ١٧٦ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

(٤) المستدرك ١ : ٢٢٨ الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٤.

٥٤٨

وهاتان الروايتان قد ناقش فيهما الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنّ ظاهرهما تقدّم زمان اليقين وطروء الشكّ بعد ذلك ، وهذا هو مؤدّى قاعدة اليقين ، إذ لا يعتبر في الاستصحاب تقدّم زمان اليقين وتأخّر زمان الشكّ حتّى جاز أن يتقدّم الشكّ ثمّ يعرض اليقين بأمر سابق على الشكّ ويجري الاستصحاب ، فالروايتان حينئذ ظاهرتان في قاعدة اليقين (١).

أقول : لا يخفى أنّ الاستصحاب وإن لم يشترط فيه تقدّم زمان الشكّ على زمن اليقين إلّا أنّ الغالب في موارده ذلك ، فإنّه يكون اليقين بالحدوث مثلا متيقّنا والشكّ في البقاء ، وحينئذ فتكون هاتان الروايتان واردتان على مجرى الاستصحاب الغالبي ، وحينئذ فتكون دلالتهما على الاستصحاب من هذا الباب. وهناك ما ينافي حملها على قاعدة اليقين ، فإنّ قوله : «فليمض على يقينه» ظاهر في بقاء اليقين ، وفي قاعدة اليقين لا يبقى اليقين حتّى يبنى عليه ، وكذلك قوله : «فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ» ظاهر في بقاء اليقين حال حصول الشكّ وهو معنى الاستصحاب ، فافهم.

نعم ، في سند هاتين الروايتين القاسم بن يحيى وهو مجهول وقد ضعّفه العلّامة (٢) وابن الغضائري (٣) وإن كان تضعيف الثاني لا يقدح ، لأنّه مشكّك. ورواية الثقات عنه لا يوجب توثيقه إلّا أن يعلم أنّ هذا الراوي قد التزم أنّه لا يروي إلّا عن ثقة كابن أبي عمير أو يكون من مشايخ الإجازة كعبد الرحمن بن عبدوس. وبالجملة ، فالمناقشة في سندهما لا دلالتهما.

ثمّ إنّ للشيخ الأنصاري في حاشية الفرائد ـ وربّما نسبت إلى السيّد الشيرازي قدس‌سره تعليقة ـ ملخّصها أنّ ظاهر هاتين الروايتين أخذ الزمان ظرفا لليقين ، وفي قاعدة

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٦٩.

(٢) خلاصة الأقوال في معرفة الرجال (رجال العلّامة الحلّي) : ٢٤٨.

(٣) نقل عنه المامقاني والتستري ، انظر تنقيح المقال ٢ : ٣٩٤ ، وقاموس الرجال ٨ : ٥٠٦.

٥٤٩

اليقين يعتبر كونه قيدا فيسقط الاستدلال بهما على قاعدة اليقين ويكونان دليلا على الاستصحاب (١).

ولا يخفى أنّه لا يعتبر في متعلّق اليقين كونه قيدا بل يعتبر في الاستصحاب كون الزمان ظرفا ولا يعتبر في قاعدة اليقين كون الزمان قيدا ، بل قد يكون الزمان قيدا وقد يكون ظرفا ، ولذا جميع موارد الاستصحاب لو سرى الشكّ فيها إلى اليقين كان مجرى لقاعدة اليقين.

وقد استدلّ الشيخ الأنصاري قدس‌سره على حجّية الاستصحاب بمكاتبة القاساني قال : «كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : اليقين لا يدخله الشكّ صم للرؤية وأفطر للرؤية» (٢). وقد جعلها الشيخ قدس‌سره أظهر الروايات دلالة من جهة إفادتها عموم الحجّية إلّا أنّه توقّف في سندها (٣).

وقد أشكل عليه الآخوند قدس‌سره بأنّها من جملة الروايات الدالّة على أنّ الصوم إنّما يكون بنيّة الوجوب إذا احرز دخول شهر رمضان ، وكذا الإفطار ، وجعلها أجنبيّة عن الاستصحاب (٤). وقد أيّده الميرزا النائيني قدس‌سره بأنّ قوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» لا يمكن أن يراد منه النقض ، فإنّ استعمال «يدخل» ب «ينقض» يعدّ من الغرائب إن لم يكن غلطا (٥).

والظاهر صحّة ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره فإنّ تفريع : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» على قوله : «فإنّ اليقين لا يدخله الشكّ» ظاهر في كون الإمام عليه‌السلام قد فرض يقينا وشكّا موجودين وأنّ الشكّ لا يدخل في اليقين.

__________________

(١) هذه الفقرة جاءت في متن الفرائد لا في الحاشية ، انظر الفرائد ٣ : ٧٠.

(٢) الوسائل ٧ : ١٨٤ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

(٣) الفرائد ٣ : ٧١.

(٤) كفاية الاصول : ٤٥٢.

(٥) انظر أجود التقريرات ٤ : ٥٧.

٥٥٠

نعم ، لو كان متعرّضا لخصوص الصوم للرؤية لكان ما ذكره الآخوند قدس‌سره متّجها إلّا أنّ ذكر الإفطار جزءا للمفرّع يوجب ظهورها في كون اليقين بشعبان لا ينقض بالشكّ بدخول شهر رمضان ، واليقين بشهر رمضان لا ينقض بالشكّ بدخول شوال.

وأمّا تعبيره ب «يدخله الشكّ» فإنّ استعمال الدخل بالنقض كثير ، كما يقال : حجّة فلان مدخولة ، وتعريف كذا مدخول وغيرها من الاستعمالات ، فإنّ عدم الدخول في الشيء كاشف عن استمساكه وإبرامه فقوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» يعني أنّه بلغ من الإبرام حدّا لا يدخل الشكّ فيه.

وبالجملة ، ما ذكره الميرزا قدس‌سره من إنكار استعمال «الدخول» بمعنى «النقض» غريب الصدور منه قدس‌سره.

وقد استدلّ على حجّية الاستصحاب بموثّقة عمّار : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (١) بناء على أنّها لبيان استمرار الطهارة المتيقّنة وبمثل قوله : «كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام» (٢).

وقد استدلّ المشهور بها على قاعدة الطهارة. والاحتمالات في هذه الرواية ورواية الحلّ سبعة :

الأوّل : أن تكون لبيان قاعدة الطهارة في المشكوكات حكما أو موضوعا.

الثاني : أن تكون لبيان الاستصحاب.

الثالث : أن تكون لبيان أنّ الحكم الواقعي للأشياء هو الطهارة.

الرابع : أن يراد منه الأوّل والثاني.

الخامس : أن يراد الثاني والثالث.

السادس : أن يراد الأوّل والثالث.

السابع : أن يراد منه الأوّل والثاني والثالث كلّها.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤ ، وفيه : كلّ شيء نظيف.

(٢) الوسائل ١٢ : ٦٠ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ (مع تفاوت).

٥٥١

وقد ذكر الآخوند قدس‌سره إمكان أن يراد منها قاعدة الطهارة وبيان الحكم الواقعي للأشياء وبيان الاستصحاب في حاشية الرسائل (١).

والأقوال في المقام أربعة :

الأوّل : المشهور أن يراد بها قاعدة الطهارة.

الثاني : أن يراد بها الاستصحاب وقاعدة الطهارة اختاره في الفصول (٢).

الثالث : أن يراد حكم الأشياء بعناوينها الأوّليّة والاستصحاب اختاره في الكفاية.

الرابع : أن يراد الجميع اختاره الآخوند في حاشية الرسائل ، بتقريب أنّ قوله : «كلّ شيء طاهر» ف «شيء» يصدق على المائع المردّد بين كونه ماء وبولا ، ويصدق على الماء المعلوم مائيّته ، فالحكم بالطهارة لكليهما ثابت إلّا أنّ الطهارة للأوّل بقاعدة الطهارة لوجود الشكّ ، وبالثاني لبيان حكمه الواقعي وقوله : «حتّى تعلم» يكون بيان استمرار طهارة الشيء المتحقّق طهارته سابقا وهو الاستصحاب.

وقد أشكل الميرزا عليه بأنّ إرادة قاعدة الطهارة وبيان الحكم الواقعي للأشياء غير ممكن بوجوه :

الأوّل : أنّ موضوع الحكم الظاهري الشكّ في الحكم الواقعي ، فالحكم الظاهري متأخّر عن الواقعي بمرتبتين : إحداهما الشكّ في الحكم الواقعي فإنّ الشكّ فيه متأخّر عنه ، والثاني أنّ الحكم الظاهري متأخّر عن الشكّ أيضا فكيف ينشآن معا.

الثاني : أنّ الحكم الواقعي كيف تجعل غايته العلم بالنجاسة؟ بل لا بدّ أن تكون غايته ملاقاة النجاسة مثلا أو انقلاب الخمر خلّا ، وحينئذ فيكون العلم طريقيّا

__________________

(١) انظر درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٢) الفصول : ٣٧٣.

٥٥٢

وهو خلاف الظاهر ، (إذ ظاهره الموضوعيّة الّتي هي غاية للحكم الظاهري ، وإرادتهما معا تستلزم الجمع بين لحاظ الطريقيّة والموضوعيّة ، وهو محال) (١).

الثالث : أنّ الشيء إن اعتبر عامّا بإضافة «كل» إليه فلا بدّ أن يكون مرفوض القيود بأسرها ، وفرض كون حكمه ظاهريّا يقتضي اعتبار كون الشكّ ملحوظا معه.

وبالجملة ، فرض كون الشيء عامّا مرفوض القيود وفرض كونه مقيّدا بالشكّ متناف قطعا.

ودعوى : شمول «شيء» في «كلّ شيء» له ، لأنّ المشتبه شيء أيضا ، غير ممكن ، لأنّ شموله للشيء المشكوك مع قطع النظر عن كونه مشكوكا ليس موضوعا للحكم الظاهري أوّلا. ولا يمكن شمول «كلّ شيء» له ، لأنّ : «كلّ شيء طاهر» مخصّصة بالبول قطعا. فالتمسّك يكون من باب التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة. وشموله للشيء بلحاظ كونه مشكوكا أيضا لا يمكن ، لأنّ العموم معناه رفض القيود من جميع المصاديق ، ولحاظ كونه مشكوكا لحاظ لها.

ولا يخفى أنّ إشكاله الأوّل على الآخوند مبنيّ على كون الإنشاء هو موجدا للجعل كما اختاره هو وتبعه الميرزا عليه ، فالإنشاء به يتحقّق الجعل وكون الوجود الإنشائي نحوا من أنحاء الوجود كالوجود الذهني ، وأنّ بالإنشاء يوجد المعنى المنشأ ، فحينئذ لا يمكن أن يجعل بجعل واحد حكمان أحدهما في طول الآخر. أمّا لو بنينا على ما هو الحقّ من أنّ الجعل هو عبارة عن الاعتبار النفساني وأنّ اللفظ كاشف ومبرز لذلك الاعتبار ، فحينئذ لا مانع من أن يعتبر المكلّف نفسه كلا الحكمين في نفسه ثمّ يبرز هذين الاعتبارين بلفظ واحد ، فيعتبر جعل الطهارة للشيء بعنوانه الواقعي ، ثمّ يعتبر جعل الطهارة للشيء المشكوك ظاهرا ويبرزهما بلفظ واحد ، فلا مانع منه أصلا.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٥٣

وأمّا ما أشكله عليه ثانيا فهو أيضا ليس بوارد ، لأنّ الآخوند قدس‌سره لا يجعل «حتّى تعلم» غاية للحكم أصلا لا الحكم الظاهري ولا الحكم الواقعي ، وإنّما جعله لبيان استمرار هذين الحكمين إلى حصول العلم بزوال الطهارة فلا يرد عليه أنّه يكون العلم طريقيّا وهو خلاف الظاهر.

نعم ، ما ذكره من الإشكال الثالث وارد إنصافا ، وهو مسألة أنّ العموم هو عبارة عن رفض القيود والشيء بوصف كونه مشكوكا لا يدخل تحته.

بقي الكلام فيما أفاده في الكفاية من أنّ صدر الرواية وهي قوله : «كلّ شيء طاهر» يدلّ على بيان حكم الأشياء بعنوانها الأوّلي ، وقوله : «حتّى تعلم» بيان لاستمرار ذلك الحكم إلى زمان العلم وهو الاستصحاب ، فتكون الرواية دالّة على حكم الأشياء بعنوانها الأوّلي ودالّة على الاستصحاب. وكذا قوله : «كلّ شيء حلال» أيضا دال على كلا الحكمين ، هذا ملخّص ما أفاده قدس‌سره (١).

والظاهر أنّ ما ذكره لا يتمّ أيضا ، لأنّ الغاية وهي «حتّى تعلّم أنّه قذر» أو «أنّه حرام» إمّا أنّ تكون قيدا للحكم أو قيدا للموضوع أو قيدا للمحمول ، ولا يخفى أنّ جعلها قيدا ـ سواء كانت للموضوع أو المحمول أو الحكم ـ بما أنّها هي العلم بالنجاسة أو الحرمة لا تصلح غاية للحكم الواقعي أصلا ، لأنّ غاية الطهارة الواقعيّة أو الطاهر الواقعي هو ملاقاة النجاسة أو انقلاب الخلّ خمرا لا العلم بالنجاسة ، فحيث جعل العلم هو الغاية فهي لا تصلح لإفادة حكم الأشياء بعنوانها الواقعي أصلا ، وإنّما تفيد حكما للشيء بما أنّه لا يعلم نجاسته وطهارته وهو المشكوك.

وأمّا استفادة الاستصحاب فهو الّذي ذكر في الفصول أنّه يستفاد من الرواية مع قاعدة الطهارة إلّا أنّه أيضا غير تامّ ، لأنّ الاستصحاب هو عبارة عن الحكم بالبقاء والاستمرار لا استمرار الحكم باستمرار موضوعه ، والمستفاد من الرواية استمرار الحكم باستمرار موضوعه وهو غير الاستصحاب.

__________________

(١) انظر الكفاية ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

٥٥٤

وبالجملة ، إنّما تدلّ الرواية المباركة على جعل الطهارة للشيء بما أنّه لا يعلم نجاسته وطهارته فتفيد قاعدة الطهارة ليس إلّا.

وما ذكره الشيخ قدس‌سره في : «الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنّه قذر» (١) من أنّ كون الماء طاهرا أمرا معلوما فلا بدّ من كون الرواية بصدد الاستصحاب (٢) ممنوع ، فإنّ الحكم على المشكوك بالطهارة غير الاستصحاب فهي لبيان قاعدة الطهارة لا استصحابها.

وأمّا رواية : الثوب الّذي يعيره من الذميّ ثمّ يأخذه منه فهل يغسله أم لا (٣)؟ فالإنصاف أنّها دالّة على حجّية الاستصحاب ، لأنّه عليه‌السلام علّق عدم وجوب غسله على إعارته إيّاه وهو طاهر ، وقد فرض عليه‌السلام يقينا سابقا وشكّا لا حقا وحكما بمقتضى اليقين السابق لزمان الشكّ وهو معنى الاستصحاب ، فإن ثبت عدم القول بالفصل بين الطهارة وغيرها فهو ، وإلّا فإنّما تفيد حجّية الاستصحاب فيها فقط. وكيف كان ففي الصحاح الثلاثة المتقدّمة غنى وكفاية.

ثمّ إنّه قد ظهر من مجموع الأخبار التي ذكرناها حجّية الاستصحاب مطلقا لإطلاق رواياته وعدم تقييدها ، نعم في الشبهة الحكميّة لا يثمر جريانه للمعارضة كما ذكرناه. وقد تعرّضنا لبعض التفاصيل كتفصيل الشيخ الأنصاري بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

[تفصيل المحقّق السبزواري]

ونتعرّض هنا لتفصيل المحقّق السبزواري صاحب الكفاية والذخيرة بين الشكّ في وجود الرافع فيجري الاستصحاب والشكّ في رافعيّة الموجود فلا يجري (٤)

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٠ ، الباب الأوّل من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٧٧.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٥٩.

(٤) انظر الذخيرة : ١١٥ ـ ١١٦.

٥٥٥

بتقريب أنّ الشكّ في رافعية الموجود يؤول إلى كونه نقضا لليقين باليقين لا بالشكّ فيخرج عن مدلول أدلّة الاستصحاب ، وذلك لأنّ الشكّ في رافعيّة الموجود مثل الشكّ في رافعيّة المذي للطهارة من ناحية الشبهة الحكميّة أو في رافعيّة المردّد بين كونه بولا أو مذيا في الشبهة الموضوعيّة كان متحقّقا قبل خروج المذي والمردّد بين المذي والبول ولم يكن ناقضا ، وإنّما أوجب خروجهما اليقين ، فهو من نقض اليقين بالطهارة باليقين بالخروج فليس من نقض اليقين بالشكّ ، لأنّ الشكّ لم يحدث بهذا الخروج ، وإنّما كان من قبله فإنّا كنّا شاكّين في ناقضيّة المذي حكما وفي ناقضيّة هذا المردّد ولم نكن نرتّب لذاك أثرا.

والجواب : أنّ اليقين بحدوث الخروج وإن كان متحقّقا إلّا أنّ الناقض لا بدّ أن يكون بينه وبين المنقوض اتّحاد من ناحية المتعلّق.

وبالجملة ، اليقين الناقض والمنقوض يلزم أن يكون متعلّقهما واحدا ليتحقّق النقض ، والمتيقّن سابقا هو الطهارة وهو المشكوك بعد خروجهما فيستصحب ، والمتيقّن الآن خروج هذين ولم يكن عدمه سابقا متيقّنا فكيف ينقض به؟

ودعوى أنّ الشكّ كان قبل ذلك ، مسلّمة إلّا أنّ ذلك الشكّ في الحكم الكلّي والشكّ الآن في المصداق الخارجي من ناحية انطباق ذلك العنوان الكلّي عليه ، فالشكّ في المقام ناشئ من الشكّ في تلك الكبرى الكلّية وهي أنّ المذي ناقض أم لا ، والمردّد بين البول والمذي ناقض أم لا؟ والشكّ في النتيجة إمّا أن يكون منشؤه الشكّ في الصغرى أو الشكّ في الكبرى ، ففي الموضوعيّة الشكّ في الصغرى ، فإنّه عالم بأنّ البول ناقض والمذي ليس بناقض مثلا وإنّما الشكّ في أنّ الخارج من أيّهما ، وفي الحكميّة الشكّ في الكبرى فإنّه عالم بأنّ الخارج منه مذي ، وإنّما الكلام في أنّ المذي ناقض أم لا؟ هذا تمام الكلام في هذا التفصيل ولا نتعرّض لذكر بقيّة التفاصيل.

في الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة

قد جرى ديدن الاصوليّين للتعرّض للأحكام الوضعيّة في الاستصحاب ليعلم أنّ

٥٥٦

الأحكام الوضعيّة مجعولة حتّى يجري فيها الاستصحاب ، أم ليست بمجعولة فيتوقّف جريان الاستصحاب فيها على وجود الأثر الشرعي كبقيّة الموضوعات الخارجيّة ، وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من التعرّض لبيان الحكم فنقول : يقع الكلام في امور :

الأوّل : أنّ الحكم هو عبارة عن اعتبار المولى شيئا ، فإن كان متعلّق اعتبار المولى فعلا من أفعال المكلّف فإمّا أن يعتبر في ذمّة المكلّف فعله فيكون فعله واجبا ، أو يعتبر حرمان المكلّف منه ويسمّى محرّما ، أو يعتبر المكلّف مطلق العنان بالنسبة إليه وهو المباح أو راجح الفعل أو الترك.

وإن لم يكن متعلّق اعتباره فعل المكلّف بل كان شيئا آخر فهو الحكم الوضعي ، فإنّ الغالب في الحكم الوضعي عدم تعلّق اعتبار المولى بفعل من أفعال المكلّف ، فالحكم التكليفي والوضعي يشتركان في كونهما عبارة عن الاعتبار المحض وإنّما يختلفان في متعلّق الاعتبار ، فإن كان فعلا من أفعال المكلّف فهو التكليفي وإلّا فهو الوضعي.

الثاني : كما أنّ الموجودات النفس الأمريّة تنقسم إلى موجود متأصّل وهو ما كان بإزائه شيء في الخارج كالجواهر والأعراض ، وإلى موجود انتزاعي وهو ما لا يكون له ما بإزاء في الخارج ، وإنّما يوجد في الخارج منشأ انتزاعه. كذلك الموجودات الاعتباريّة تارة يكون وجودها في عالم الاعتبار متحقّقا كالزوجيّة والحريّة والرقيّة والملكيّة فإنّها موجودة في عالم الاعتبار ، واخرى يكون وجودها انتزاعيّا في عالم الاعتبار بمعنى أنّه لا يوجد في عالم الاعتبار إلّا منشأ الانتزاع ، كسببيّة العقد للملكيّة فإنّ هذه السببيّة ليس لها وجود في عالم الاعتبار. نعم ، منشأ الانتزاع وهو ما ينتزع منه السببيّة له وجود في عالم الاعتبار.

الثالث : أنّ نفس الاعتبار من الموجودات التكوينيّة لا بدّ أن يكون له سبب ، وسببه يلزم أن يكون أمرا تكوينيّا وليس الاعتبار نفسه من الامور الاعتباريّة وإلّا لزم التسلسل ، بل هو أمر تكويني لا بدّ له من سبب تكويني.

٥٥٧

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الكلام هنا ليس في شرائط نفس الاعتبار الّذي هو أمر تكويني ، وإنّما الكلام في الشرطيّة والسببيّة بالنسبة إلى متعلّق الاعتبار وهو الحكم المعتبر. ولا يخفى أيضا أنّ المعتبر إن كان حكما تكليفيّا فقد اصطلح الفقهاء على تسمية ما يؤخذ في موضوع الحكم التكليفي بالشرط ، وعلى ما يؤخذ في موضوع الحكم الوضعي بالسبب ، فيعبّرون عن الزوال الّذي قد اخذ في موضوع وجوب الصلاة بالشرط ، وعن البيع بسبب الملكيّة ، وفي الحقيقة هما الموضوع المترتّب عليه وجوب الصلاة وتحقّق الملكيّة ، فهما موضوع هذين الاعتبارين.

ومن هنا علم أنّ المراد بالسبب المبحوث عنه في المقام ليس هو السبب الحقيقي وليس أيضا سبب نفس الجعل ، نعم سبب نفس الجعل والاعتبار أمر تكويني يستحيل جعله وهو عبارة عن التصوّر والتصديق بالفائدة والشوق وغير ذلك إلّا أنّ الكلام ليس فيه وإنّما هو في السبب بمعنى موضوع الاعتبار ، وحينئذ فالسببيّة كالشرطيّة مجعولة ، لأنّها منتزعة من نفس اعتبار شيء موضوعا لشيء كما انتزعت شرطيّة الزوال لوجوب الصلاة من قوله : إذا زالت الشمس ... كذلك ينتزع سببيّة العقد مثلا للملك ، فسببيّة العقد للملك من الامور المجعولة من قبل الشارع كشرطيّة الزوال بلا فرق بينهما.

وصاحب الكفاية قدس‌سره حيث تخيّل أنّ الكلام في السببيّة بالنسبة إلى سبب الاعتبار الّذي هو أمر تكويني ذهب إلى استحالة الجعل التشريعي بالنسبة إليه (١) ولكنّ الكلام في سببيّة الوجوب وهو المعتبر ، والمراد بسببيّته هو موضوعه الّذي يتوجّه الوجوب واعتبار كونه في ذمّة المكلّف بسببه وهو زوال الشمس مثلا ، وحينئذ فسبب الوجوب كشرطه مثل سبب الواجب وشرطه قابل للجعل قطعا ، فكما أنّ شرطيّة شيء ومانعيّته للواجب تنتزع من الأمر بمركّب ومن اعتبار عدم شيء فيه ، كذا بالنسبة إلى الوجوب نفسه بالنسبة إلى موضوعه وشرطه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٥٦.

٥٥٨

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الشرطيّة والسببيّة لنفس الحكم كالشرطيّة والسببيّة للمأمور به مجعولة عند الشارع ، لأنّها عبارة عن اعتبار شيء موضوعا للحكم ، أو اعتبار شيء في المأمور به بنحو الشرطيّة أو الشطريّة ، أو عبارة عن اعتبار عدم شيء في المأمور به كما في المانعيّة ، أو اعتبار عدم شيء موضوعا للحكم الوجوبي كالحائض بالنسبة إلى وجوب الصلاة ، كما أنّه ظهر ممّا تقدّم أنّها من الأحكام الوضعيّة المجعولة تبعا لمنشا انتزاعها وأنّها ليس لها وجود وجعل استقلالي ، وإنّما جعلت تبعا ، فهذا الاعتبار ممّا وجد بنحو الوجود الانتزاعي وجعل الجزئيّة للجزء والشرطيّة للشرط إنّما انتزع من الأمر بمركّب يتركّب منه ومن غيره أو بمقيّد به ، فهذه الأشياء من الجزئيّة والشرطيّة والسببيّة سواء كانت للوجوب أو للواجب مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها لا أنّها مجعولة استقلالا. وما ذكره الآخوند مسلّم في شرط نفس الاعتبار ، وليس لنا كلام فيه. وكلامه قدس‌سره في الواجب المشروط وفي الشرط المتأخّر وفي المقام مبنيّ على إرادة السبب التكويني والشرط التكويني وليس الكلام فيها كما ذكرنا.

وهناك قسم آخر من الأحكام الوضعيّة نظير الزوجيّة والرقيّة والحريّة والملكيّة وغيرها ، وهذا القسم كما هو قابل للجعل التبعي كذلك قابل للجعل الاستقلالي.

فالالتزام بكونه مجعولا بتبع تكليف التزام بلا ملزم ، ولا داعي إليه أوّلا.

وثانيا : أنّه خلاف ظاهر الأدلّة ، لأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «لا يجوز التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه» (١) ، ظاهر في كونه حكما من أحكام الملكيّة ، وكذا قوله : يجوز للانسان وطي زوجته ، حكم من أحكام الزوجيّة ، وكذا بقيّة الأحكام ، فإنّ ظاهرها سبق الجعل وكون الملكيّة مثلا مجعولة قبلها وأنّ هذا حكما من أحكامها.

__________________

(١) انظر الوسائل ٦ : ٣٧٧ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث ٦ : «فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه».

٥٥٩

وثالثا : أنّ الملكيّة مثلا من أيّ حكم ينتزع وكلّ حكم من هذه أحكامها قد يترتّب على ما ليس بملك ، مثلا لو انتزع الملكيّة من جواز التصرّف فجواز التصرّف ثابت للوليّ مع أنّه ليس بمالك وغير ثابت للصبيّ مع كونه مالكا.

بالجملة ، فكلّ حكم اريد انتزاع الملكيّة منه يكون بينه وبينها عموما من وجه ، مثلا لو اريد انتزاع الزوجيّة من جواز الوطي فقد لا يجوز مع بقاء الزوجيّة كالحائض ، وقد يجوز الوطي مع عدم الزوجيّة كملك اليمين مثلا أو للضرورة عند دفع القتل عن نفسه مثلا ، وكذا غير هذا الحكم.

ورابعا : أنّ هناك أحكاما لا يمكن بل يستحيل انتزاعها كالحجّية مثلا ، فإنّ الشارع إذا اعتبر حجّية البيّنة مثلا فالحجّية من أيّ تكليف يتصوّر انتزاعها؟ أمن وجوب ترتيب الآثار عليها؟ والحال أنّ بعصيان هذا الحكم يسقط والحجّية بعد باقية لا تسقط ، ولو كانت منتزعة منه لسقطت بسقوطه ، والحال أنّ الحجّية لا تسقط فعلم أنّها ليست منتزعة منه وإنّما هي مجعولة استقلالا.

بقي الكلام في أشياء وقع النزاع في أنّها امور واقعيّة كشف عنها الشارع أو امور اعتباريّة.

فمنها : الطهارة والنجاسة ، وقد ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى أنّها امور واقعيّة كشف عنها الشارع (١).

فإن أراد أنّها أشياء حسيّة إلّا أنّها غير مدركة لنا وإنّما هو المدرك لها ، فتكون جميع الروايات الواردة في بيان الطاهر والنجس كلّها إخبارات عن الواقع المجهول لنا ، فهذا يكاد أن يقطع الإنسان بعدمه ، إذ أيّ شيء عرض على هذا المشرك عند تكلّمه بالشهادتين أو أيّ شيء كان موجودا فيه فعدم ، بل وأيّ شيء كان ابنه

__________________

(١) كتاب الطهارة ٥ : ٢٠.

٥٦٠