غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

وملخّصه : أنّه إذا شمل المفهوم خبر السيّد فيكون خبر السيّد حجّة فقط دون بقيّة أخبار الآحاد ، لأنّه ـ أي لأنّ خبر السيّد ـ يخبر عن عدم حجّيته ، وإذا دار الأمر بين أن يكون خبر السيّد وحده حجّة بآية النبأ وبين أن لا يكون خبر السيّد حجّة ويكون خبر غيره حجّة ، لا إشكال في ترجيح الثاني لاستلزام الأوّل تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، ولاستلزامه جعل عدم الحجّية بلسان نقيضه وهو جعل الحجّية وهو قبيح أيضا.

وربّما يتوهّم كما توهّمه بعض المحقّقين (١) عدم استلزامه تخصيص الأكثر بتقريب أنّ خبر السيّد إنّما يوجب عدم حجّية الأخبار المتأخّرة عن قوله ، وأمّا الأخبار المتقدّمة على قوله فلا بل هي باقية تحت الحجّية.

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ خبر السيّد هو عدم حجّية أخبار الآحاد سواء كانت متقدّمة عليه أم كانت متأخّرة عنه فإنّه ناقل عدم الحجّية ، وليس قوله جاعلا لعدم الحجّية من حينه حتّى تبقى الأخبار المتقدّمة على الحجّية السابقة المنسوخة بموجب جعل عدم الحجّية من السيّد ، ومن ثمّ كانت الأدلّة الدالّة على الحجّية دالّة عليها قبل زمانه وبعده ، فافهم.

(وقد دفع بعض الأعاظم (٢) أصل الإشكال الخامس باستحالة شمول المفهوم من آية النبأ لخبر السيّد قدس‌سره بتقريب أنّ جعل حجّية قول السيّد إنّما يصحّ في ظرف الشكّ في حجّية خبر العادل ، إذ لا معنى لجعل الحجّية له في ظرف العلم ، والآية لبيان الحكم الواقعي الّذي يكون ثابتا للشيء بما هو هو لا بما هو مشكوك ، إذ الشكّ في الشيء عنوان ثانوي له ، وهو رتبة متأخّرة عن وجوده.

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) انظر نهاية الأفكار ٣ : ١١٩.

١٦١

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال مبنيّ على ما هو المشهور عندهم من استحالة تقييد الحكم الواقعي بالعلم به أو الشكّ ، وعليه بنى الميرزا النائيني قدس‌سره استحالة الإطلاق ، لأنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق فبنى على إهمال الأحكام الواقعيّة. وقد ذكرنا في مبحث التوصّلي والتعبّدي أنّ الإهمال في الأحكام الواقعيّة محال ، وأنّ استحالة التقييد قد تستدعي ضروريّة الإطلاق ، فالحكم الواقعي المجعول كحجّية خبر العادل ثابت له على الإطلاق حتّى في ظرف الشكّ. نعم تقييده بخصوص الشكّ مستحيل لكنّ الإطلاق حينئذ يشمل صورة الشكّ قطعا ، وحينئذ فإخبار السيّد مشمول وإن كان في خصوص صورة الشكّ ، فافهم) (١).

السادس ممّا اورد على آية النبأ : أنّه على تقدير استفادة المفهوم في آية النبأ إنّما يكون حجّة على الأخبار الّتي ليس لها واسطة ، وأمّا الأخبار مع الواسطة فلا (٢).

وهذا الإيراد له جهتان :

الاولى : أنّ الكليني إذا أخبر عن محمّد بن عيسى مثلا فآية النبأ بما أنّها حكم لخبر الكليني فهو يثبت لنا إخبار الكليني بقول محمّد بن عيسى ، إلّا أن إخبار محمّد بن عيسى بقول الإمام عليه‌السلام لا يمكن شمول آية النبأ له ، لأنّ إخبار محمّد بن عيسى موضوع ثبت بآية النبأ فلا تكون آية النبأ حكما له إذ الحكم لا يتقدّم على موضوعه ، والمفروض أنّه متقدّم ، إذ لو لا تقدّمه لم يتحقّق إخبار محمّد بن عيسى. وبعبارة اخرى لو لا تقدّم آية النبأ لم يثبت أنّ الكليني سمع محمّد بن عيسى ، فثبوت سماع الكليني لخبر محمّد بن عيسى موقوف على تقدّم آية النبأ ، وبآية النبأ يتحقّق إخبار محمّد بن عيسى للكليني ، فكيف يكون آية النبأ حكما لإخبار محمّد بن عيسى بقول الإمام ، والحكم لا يتقدّم على موضوعه ، لأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) انظر الفرائد ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

١٦٢

كنسبة المعلول إلى العلّة ، فلا بدّ من تقدّم الموضوع لأنّه بمرتبة العلّة ومن تأخّر الحكم لأنّه بمرتبة المعلول ، فإذا فرض أنّ الحكم متقدّم يستحيل تأخّره عن الموضوع المتأخّر عنه.

الجهة الثانية : أنّ الجعل الشرعي إنّما يثبت إذا كان المجعول حكما أو موضوعا ذا حكم مع قطع النظر عن دليل الجعل ، وإخبار الكليني بقول محمّد بن عيسى ليس حكما شرعيّا ولا موضوعا ذا حكم شرعي مع قطع النظر عن دليل الجعل ، نعم هو موضوع لوجوب التصديق إلّا أنّ وجوب التصديق من دليل الجعل لا مع قطع النظر عنه ، وحينئذ فلا يمكن الجعل للحجّية للإخبار مع الواسطة أصلا ، فينحصر كلّ دليل دلّ على حجّية الخبر الواحد في الأخبار لا مع الواسطة ، لعدم إمكان الجعل للإخبار مع الواسطة.

وهذا الإيراد وسابقه ليس من مختصات آية النبأ بل يرد على كل دليل زعم دلالته على حجّية خبر الواحد (*).

__________________

(*) شرح المقرّر قدس‌سره في ورقة مفردة هذا الإشكال في حجّية خبر الواحد مع الواسطة والجواب عليه ببيان آخر وما يلي نصّه : وربّما أشكل في استفادة حجّية خبر الواحد إذا كان مع الواسطة بأن معنى الحجّية أن يكون للخبر الأول لنا أثر مع قطع النظر عن دليل حجّية الخبر ، ولا ريب أنّ خبر الكليني عن محمد بن الحسن الصفار لا أثر له مع قطع النظر عن حجية خبر الواحد ، نعم له أثر بملاحظة حجّية خبر الواحد فيلزم حينئذ أن يكون دليل الحجّية متوقفا على نفسه. وهذا الأثر لا يخص مفهوم آية النبأ وإنّما هو عام لكل دليل دال على حجّية خبر الواحد من آية أو رواية أو غيرهما.

والجواب امّا على ما اخترناه في جعل الأمارات من أنّ المجعول هو تتميم الكشف فواضح ، إذ بعد فرض أنّ دليل الحجية معناه إعطاء صفة الطريقية وتتميم الكشف فأثر خبر الكليني حينئذ جعله علما ، فكأني قد أخبرني محمد بن الحسن الصفار شفاها وهو كاف في ـ ترتيب الأثر على قول المعصوم عليه‌السلام وبالجملة فالوسائط حينئذ علوم طولية وأثرها الأخير هو نفس قول المعصوم عليه‌السلام وثبوته وتحقّقه ، وأمّا بناء على أنّ مفاد دليل الحجّية جعل الحكم المماثل ولو جعلا ظاهريا لئلّا يلزم التصويب فواضح بعد مقدّمتين ، إحداهما : أن يكون الحكم المماثل المجعول أعم من كونه ظاهريا وواقعيا ، الثانية : أن يلتزم بكون دليل الحجّية مجعولا بنحو الانحلال فينحل إلى كل فرد فرد من أفراد الخبر مثلا ، وحينئذ فخبر الكليني حينئذ له حكم مماثل حينئذ ظاهري وهو وجوب التصديق ولخبر محمد بن الحسن الصفار حكم مماثل واقعي وهو وجوب السورة في الصلاة مثلا ، وأما بناء على أنّ المجعول هو التنجيز والإعذار فإخبار بن الحسن الصفار حكم منجز بوجوب السورة مثلا قد تنجز على الكليني قدس‌سره والكليني ينقل هذا الحكم المنجز وحينئذ فقد نقل لنا حكما منجزا فيتنجّز علينا حكمه وحينئذ فيكون علينا منجزا ولو نقلناه نحن لنقلنا أيضا حكما منجزا وهو واضح بحسب الظاهر.

١٦٣

والجواب أوّلا : من حيث النقض بما لو أقرّ بإقراره السابق فهل يقبل إقراره بإقراره أم لا؟ وبما لو قامت البيّنة على البيّنة السابقة ، فإنّ كلا من الجهتين واردة في هذين الموردين ، مع عدم توقّف أحد من الفقهاء في إثبات الإقرار الأوّل بالإقرار الثاني وترتيب آثاره مع عدم دليل غير إقرار العقلاء على أنفسهم حجّة. وكذلك لا يتوقّفون لو قامت البيّنة فشهدت بقيام بيّنة سابقة على نجاسة الإناء الفلاني مثلا في نجاسته أصلا ، مع أنّ كلا المحذورين واردان فيه حرفا بحرف.

وثانيا : من حيث الحلّ ، وتقريبه : أنّ الحكم تارة يكون حكما شخصيا فيتأتّى فيه جميع ما ذكر في هذا الإيراد ، واخرى يكون حكما حقيقيّا منشأ للموضوعات على تقدير وجودها وبوجود كلّ فرد ينحلّ الحكم إليه ، فالقضيّة الحقيقيّة وإن كانت بصورة حكم واحد إلّا أنّها في الحقيقة أحكام متعدّدة بتعدّد موضوعاتها ، وحينئذ فالمقام وهو جعل الحجّية لخبر الواحد بنحو القضيّة الحقيقيّة كما في بقيّة الأحكام.

١٦٤

وبهذا يرتفع الإيراد من كلتا الجهتين :

أمّا من الجهة الاولى فواضح ، إذ أنّ آية النبأ بمفهومها قد أثبتت إخبار محمّد بن عيسى للكليني مثلا ، ولكن حكم إخبار الإمام لمحمّد بن عيسى مثلا ليس بنفس الحكم بوجوب تصديق الكليني ، ولكنّه بوجوب تصديق آخر لخبر محمّد بن عيسى وليس شخص الأوّل بل مثله ، وحينئذ فلا يلزم تأخّر ما هو متقدّم أصلا.

وأمّا من الجهة الثانية فكذلك أيضا ، لأنّ أثر إخبار محمّد بن عيسى للكليني وجوب التصديق له مع قطع النظر عن دليل حجّية خبر الكليني ، وهو وجوب التصديق الشخصي للكليني ، فافهم.

وقد ظهر أنّ مفاد جعل الحجّية جعل سلسلة علوم طوليّة تعبّدا وهي تحقّق وصول كلّ علم منها مع الواسطة وأثرها هو الأثر الأخير ، وهو تحقّق قول المعصوم عليه‌السلام.

وقد يتوهّم أنّ وجوب التصديق للكليني يكون محقّقا لموضوع خبر محمّد بن عيسى ، وحينئذ فالآية بالنسبة إلى خبر محمّد بن عيسى حاكمة ومحقّقة له ، والحاكم يلزم أن يكون مغايرا لدليل المحكوم وناظرا إليه.

وجوابه : أنّ الحكومة قد تكون بأن يكون أحد الدليلين مفسّرا لكلمة موجودة في الدليل الثاني ومبيّنة للمراد منها ، مثال ذلك ما ورد فيمن سأله عن مسألة فأجابه الإمام عليه‌السلام «يعيد» فقال السائل : إنّك قلت إنّ الفقيه لا يعيد صلاته ، فأجابه الإمام عليه‌السلام إنّما عنيت الشاكّ بين الثلاث والأربع (١) فقد بيّن الإمام عليه‌السلام بهذا الدليل مراده من عدم إعادة الفقيه صلاته ، وهذا القسم من الحكومة قليل جدّا في الأحكام الشرعيّة.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢٠ ، الباب ٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣ (مع تفاوت يسير).

١٦٥

وقد تكون الحكومة موسّعة لموضوع قد حكم عليه بحكم في دليل آخر أو مضيقة له أو رافعة لمحمول من المحمولات في صورة.

فالأوّل وهو الموسّع كقوله عليه‌السلام : «الفقّاع خمر استصغره الناس» (١) فإنّه موسّع لموضوع الخمر المحكوم بالحرمة والنجاسة مثلا.

والثاني مثل قوله : «لا شكّ لكثير الشكّ» (٢) فإنّه حينئذ يكون تضييقا للشاكّ المحكوم عليه بجملة من الأحكام.

والثالث : مثل «لا ضرر في الإسلام ولا ضرار» (٣) فإنّها رافعة للمحمولات الثابتة للموضوعات إذا صارت ضرريّة.

وقد تكون الحكومة بمعنى أنّه بوجود هذا الدليل يرتفع موضوع الدليل الثاني أو يرتفع الموضوع الثاني لهذا الدليل ، نظير استصحاب طهارة الماء الّذي قد غسل به ثوب نجس ، فإنّ استصحاب الطهارة في الماء رافع للشكّ في الثوب حتّى يجري فيه استصحاب النجاسة. وهذا القسم الثالث من أقسام الحكومة لا يحتاج إلى دليل حاكم وآخر محكوم ، بل قد يكون نفس الدليل فيه رافعا للموضوع الثاني من موضوعاته كما مثّلنا ، وآية النبأ حكومتها من هذا القبيل فلا تفتقر إلى أن يكون الحاكم فيها غير المحكوم (*).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٩٢ ، الباب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث الأوّل.

(٢) لم نقف عليه.

(٣) الوسائل ١٧ : ٣١٩ ، الباب ٥ من أبواب الشفعة ، الحديث الأوّل.

(*) أورد المقرّر في ورقة ملحقة إشكالين على دعوى حكومة آية النبأ وردّ عليهما ونصّه ما يلي : وقد أشكل بعض الأساطين ـ انظر مقالات الاصول ٢ : ٩٢ ـ ٩٣ ـ على ما ذكرنا من دعوى الحكومة بإشكالين :

١٦٦

فقد ظهر أنّ آية النبأ دالّة على حجّية الخبر الواحد بمفهومها.

بقي الكلام في أنّ آية النبأ كما تدلّ بمفهومها على حجّية خبر العدل فهل تدلّ بالمنطوق أو بالمفهوم على حجّية بقيّة أقسام الخبر الثلاثة وهي الضعيف المنجبر بالشهرة عند العلماء والموثّق والحسن؟ فنقول :

أمّا الضعيف : وهو الخبر الّذي لا يكون راويه عدلا إماميّا ولا موثّقا ولا حسنا فإذا عمل به المشهور من العلماء فلا ريب عند المشهور في دخوله في منطوق الآية ، ضرورة أنّ عمل العلماء به ممّا يكشف عن اطّلاعهم على قرائن صدقه وصدوره من المعصوم عليه‌السلام وهذا هو التبيّن المطلوب في الآية.

__________________

ـ أحدهما : أن عموم التعليل ليس هو الإصابة بالجهالة فقط ليرتفع بالحكومة ، بل هو احتمال الوقوع في الندم وهو مشترك بين خبر العادل حتى على القول بحجّيته وخبر الفاسق ، فدعوى الحجّية لا تحقّق الحكومة لتحقّق احتمال الوقوع في الندم حتّى فيها.

والجواب : أنّ المراد الوقوع في ندم ينشأ من عدم القيام بوظيفة العبودية وهو مرتفع بناء على حجّية خبر العادل ؛ لأنّ العبد حينئذ قام بوظيفة العبودية فأتى بما يلزمه ، وليس المراد الندم الناشئ من مخالفة الواقع المرخص في مخالفته بمقتضى لزوم العمل على طبق الحجّة المؤدية إلى خلافه وإلّا لزم أن يرفع حجّية البينة وقول ذي اليد.

ثانيهما : أنّ الحكومة لو كانت بجعل الحجّية بالصراحة لامكنت في المقام ، إلّا أنّ الحجّية مستفادة من عدم وجوب التبين في خبر العادل المستفاد من المفهوم المفروض تحقّقه ، ومن المعلوم أنّه يستحيل أن يكون حاكما على التعليل بلحاظ وجوب التبين ؛ لأنّه يلزم أن يكون ناظرا إلى التعليل بلحاظ وجوب التبين ونظره بهذا اللحاظ مستحيل للزوم نظر الشيء حينئذ إلى نفسه.

والجواب : أنّ الحكومة قد تكون بالنظر وهي مستحيلة في المقام ، وقد تكون بالإخراج من الموضوع كما في الاستصحاب لطهارة الماء الحاكم على نجاسة الثوب ؛ لأنّ استصحاب طهارة الماء رافع للشك في نجاسة الثوب الذي هو موضوع الاستصحاب والحكومة في المقام من هذا القبيل فافهم. (من إضافات الدورة الثانية للدرس).

١٦٧

(ويمكن أن يقال : إنّ التبيّن هو طلب الظهور ، والمراد به هنا ظهور صدق الخبر الغير المتحقّق قطعا باستناد المشهور إليه وإن أفاد الوثوق بصدوره إلّا أنّ الوثوق لا يخرجه عن كونه ظنّا. والاستدلال بالسيرة على الأخذ بما يفيد الوثوق خروج عن الاستدلال بالآية. ومنه يظهر حال القسمين الأخيرين أيضا) (١).

وأمّا الموثّق وهو من لا يكون راويه عدلا إماميّا بل كان من بقيّة المذاهب الفاسدة ولكنّه موثّق في نقله ، والحسن وهو من يكون راويه إماميّا إلّا أنّه غير معروف بعدالة ولا فسق ، فيمكن إدراجهما في المفهوم تارة ، وفي المنطوق اخرى.

أمّا إدراجهما في المفهوم فبأن يقال : إنّ المراد بالفاسق في المنطوق هو الفاسق بالكذب بمناسبة الحكم والموضوع ، لأنّ الفسق بغيره لا معنى لتعليق التبيّن عليه ، وحينئذ فالمفهوم يكون «إن لم يجئكم فاسق بالكذب بالنبإ فلا يجب التبيّن» وهو شامل لرواية الموثّق والحسن لأنّ فسقهما على تقديره ليس في الكذب بل في أمر آخر لا دخل لخبره فيه أصلا.

وهذا الوجه وإن كان لا بأس به في الجملة ولكنّه لا يمكن الاعتماد عليه ، لإمكان أن يقال : إنّه وإن كان متحرّزا عن الكذب لكن عدم كذبه ليس ناشئا عن ملكة فربّما تكون بقيّة ما يرتكبه من المعاصي توقعه في الكذب ، نعم من كان عدم كذبه لملكته لا يمكن في حقّه مع فرض عدالته الكذب أصلا.

وأمّا إدراجهما في المنطوق فبأن يقال : إنّ التبيّن المأمور به في المنطوق التبيّن عن صدق الخبر وكذبه ، ولكنّ التبيّن عن صدق الخبر وكذبه تارة يكون بأن يتبيّن عن نفس الخبر فينظر إلى عمل المشهور به فيكون تبيّنا ، واخرى بأن يتبيّن عن راويه ويسأل حال الرجال عنه فإذا أجابوا بأنّه موثّق مثلا غير معروف بالكذب فيكون هذا نوع تبيّن أيضا ، خصوصا وقد ورد الأمر بالأخذ منهم مثل ما ورد في بني فضّال

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٦٨

من قوله عليه‌السلام : «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا» (١) وغيرها (٢) من الأخبار الّتي يظهر منها جواز الأخذ بأقوالهم الّتي يروونها عنهم عليهم‌السلام وطرح اعتقاداتهم الفاسدة فافهم. فقد ظهر أنّ الآية يمكن أن يستفاد منها مفهوما ومنطوقا حجّية أقسام الخبر الأربعة.

الآية الثانية من الآيات الّتي استدلّ بها على حجّية أخبار الآحاد آية النفر وهي قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٣) ووجه الاستدلال بهذه الآية أنّه تعالى أمر بالنفر لأجل التفقّه والإنذار لقومهم ، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي التفريق ، فيكون المأمور به أن ينذر كلّ واحد جماعة. ودعوى : أنّ الاستغراق لا ينافي التقييد ، مسلّمة إلّا أنّه لا مقتضي للتقييد بعد ظهور الآية في التفريق فالمانع إثباتي لا ثبوتي.

وقد جعل الغاية من انذارهم الحذر العملي بمعنى التحفّظ عن ترك أوامر المولى ، ومدخول «لعلّ» يلزم أن يكون هو العلّة الغائيّة لما قبلها فتارة لا تكون قابلة للتكليف مثل «استغفر ربّك لعلّه يغفر لك» ففي مثل المقام تكون حكمة للأمر ، وحيث تكون قابلة للتكليف كما في مثل المقام فلا ريب في تعلّق التكليف بها حينئذ ، فيكون الحذر مأمورا به لوقوعه علّة غائيّة لما امر به ، وحينئذ فهو مأمور به من نفس سياق الآية لا من باب حسنه وأنّه إذا ثبت حسنه ثبت وجوبه ، وإذا ثبت وجوب الحذر فلا بدّ أن يكون وجوب الحذر مستندا إلى قبول قول ذلك المنذر وإلّا لم يكن معنى لوجوب الحذر ، وقبول قول ذلك المنذر هو معنى حجّية خبر العادل ، فيتمّ المطلوب بهذا التقرير ، فافهم.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٢ ، الباب ٨ من صفات القاضي ، الحديث ٧٩.

(٢) المصدر السابق : الحديث ٧٦ و ٨٠ وغيرهما.

(٣) التوبة : ١٢٢.

١٦٩

والإنصاف أنّ دلالة هذه الآية على حجّية خبر الواحد أظهر من دلالة آية النبأ ، لكثرة ما اورد على آية النبأ من الإيرادات المهمّة. غاية ما هناك أنّها تدلّ على حجّية خبر الواحد مطلقا ، فما دلّ على اعتبار العدالة في الراوي يقيّدها فافهم. ولم يكن منتظرا من مثل الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) أن يجعل دلالتها على الحجّية بمقدار من الضعف أن يستشهد لها بكلام البهائي في استدلاله ومنظّرا لدلالتها على المطلوب بدلالة حديث : «من حفظ على امّتي أربعين حديثا» (٢).

وكيف كان فما ذكر في ردّ الاستدلال بها وجوه :

الأوّل : أنّ هذه الآية إنّما سيقت لوجوب النفر للتفقّه والإنذار بعد رجوع النافرين عسى أن يحذر السامعون ، فهي لبيان وجوب النفر ، وليس فيها إطلاق لقبول خبر النافر حتّى يشمل صورة عدم حصول العلم ، فلا ينهض مقيّدا أو مخصّصا لما دلّ على عدم حجّية غير العلم فلا إطلاق له ، فلا بدّ من تقيّده بما دلّ على عدم حجّية المظنّة ، والقدر المتيقّن منه بعد عدم الإطلاق هو صورة إفادته العلم ، وحينئذ فالعلم متّبع ، فلا دلالة فيه على حجّية الخبر الواحد ، نظير قوله : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(٣) فإنّها إنّما سيقت لبيان حلّية الأكل وعدم الإلزام بالتذكية بعد الإمساك ، فلا دلالة فيها على عدم لزوم تطهير محلّ القطع الّذي هو محلّ فم الكلب.

والجواب : أنّ تقييد الآية بصورة حصول العلم غير معقول ، وذلك لأنّ حجّية خبر المخبر حينئذ لإفادة العلم لا لأمر آخر ، مع أنّ ظاهر الآية أنّ ترتيب الحذر إنّما علّق على إخبار النافرين ، والحجّية عند إفادة العلم لا تختصّ بالنافرين المتفقّهين الراجعين إلى قومهم ، فالتقييد في المقام يوجب بطلان تعليق العنوان

__________________

(١) الفرائد ١ : ٢٨٦.

(٢) الأربعون حديثا (للبهائي) : ٧١.

(٣) المائدة : ٤.

١٧٠

على إخبار النافرين ، وكلّ تقييد يوجب أن لا يكون العنوان المطلق الّذي رتّب عليه الحكم ذا أثر لا يمكن أصلا ، لأدائه إلى لغويّة الكلام ، ونظيره في الفقه كثير :

فمنها : قوله في الماء الجاري : «بعضه يطهّر بعضا وأنّه لا ينفعل لأنّ له مادّة» (١) فهذا بإطلاقه شامل لما كان كرّا ولما لم يكن كرّا ، ومفهوم قوله : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (٢) يقتضي أن ينجس الجاري الّذي هو أقلّ من كرّ بملاقاة النجس ، والتعارض بينهما تعارض العموم إلّا أنّا نقدّم إطلاق الأدلّة الواردة في الجاري لأنّ تقييد الجاري بالكرّية يوجب أن لا يكون لجريانه أثر ، مع أنّ ظاهر حمل الحكم على الجاري في الخبر أنّ له خصوصيّة وأثر.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء يطير فلا بأس ببوله وخرئه» (٣) الدالّ بعمومه لغير مأكول اللحم أيضا كالخفّاش ، وقوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (٤) الشامل بعمومه للخفّاش ، والتعارض تعارض العموم من وجه فيقدّم عموم قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء يطير» لأنّ تقييد الطائر بمأكول اللحم يوجب أن لا يكون لطائريّته أثر ، إذ كلّ مأكول اللحم سواء كان طائرا أم لا فبوله وخرؤه طاهر ، مع أنّ ظاهر قوله : كلّ شيء يطير ، تعليق الحكم على الطائر والتقييد يوجب لغويّة هذا التعليق. ومقامنا من هذا القبيل أيضا ، فإنّ تقييد وجوب الحذر بحصول العلم يوجب أن لا يكون للمورد خصوصيّة ، مع أنّ ظاهر الآية ان الحكم فيها لخصوصيّة في النافر المتفقّه الراجع إلى قومه منذرا.

__________________

(١) لم يرد في رواية لكنّه مضمون بعض الروايات كما ذكر في مستدرك السفينة ٢ : ٤٣٦.

(٢) الوسائل ١ : ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب ماء المطلق ، الحديث الأوّل.

(٣) الوسائل ٢ : ١٠١٣ ، الباب ١٠ من أبواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠٠٨ ، الباب ٨ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

١٧١

مع أنّه لو اغمض النظر عن هذا الإيراد المهمّ فالتقييد أيضا غير ممكن لأدائه إلى إخراج أكثر الأفراد إذ قلنا يحصل العلم من إخبار شخص واحد لجماعة كثيرة إذ طبع الخبر على احتماله الصدق والكذب فافهم.

الثاني من الإيرادات : هو أنّ الشارع رتّب الحذر على الإنذار ومعلوم أنّ الإنذار إنّما هو الإبلاغ مع التخويف ، وهو إنّما يحصل في الوعّاظ والمجتهدين بالنسبة إلى مقلّديهم. فدلالة الآية على لزوم التقليد على العوامّ وحجّية قول المجتهد بالنسبة إلى مقلّديه أظهر.

والجواب : أنّ الإنذار إن اريد به خصوص الإنذار الصريح فلا وجه لدخول قول المجتهد بالنسبة إلى مقلّديه ، إذ لا إنذار صريح في قول المجتهد أصلا ، ولكن هذا خلاف ظاهر قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) فإنّ ظاهرها إخبار المتفقّه لا إخبار الواعظ الّذي لا يلزم أن يكون فقيها أصلا. وإن اريد بالإنذار ما يعمّ الضمني كما يشهد به ذكر المفتي فالراوي أيضا داخل ، لأنّه محذر منذر ضمنا على ترك ما يخبر به والإعراض عنه ، فافهم.

الثالث من الإيرادات : أنّ ظاهر الآية أنّ الإنذار بما يتفقّه به المنذر وحينئذ فهي دالّة على حجّية قول الراوي حيث يحصل العلم بكون خبره إخبارا عن الحكم الواقعي ، لأنّ التفقّه الواجب معرفة الأحكام الواقعيّة وقد رتّب الإنذار على التفقّه الواجب فيعلم أنّ الإنذار به.

والجواب : أنّ اشتراط العلم بكون ما أخبر به حكما واقعيّا إلغاء لتعليق الحكم على الإنذار واعتماد على حجّية العلم ، وقد بيّنّا أنّ التقييد الّذي يؤدّي إلى إلغاء العنوان المذكور في نفس الدليل والاعتماد على غيره باطل موجب للغويّة ذاك العنوان ، ومع الإغماض عنه فهذا التقييد يوجب التقييد بالفرد النادر ، وهو مستهجن جدّا كما هو واضح. وحينئذ فالمراد من الإنذار المتعقب بالتفقّه هو أن يبني المتحذّر بكلّ ما أخبره به هذا المتفقّه أنّه حكم الله تعالى.

١٧٢

الرابع من الإيرادات : دعوى كون الآية تدلّ على حجّية قول الفقيه والمدّعى أعمّ ، لأنّ المدّعى هو حجّية الخبر الواحد والدليل يدلّ على حجّية قول الفقيه ولا يلزم في الراوي أن يكون فقيها ، ولا يمكن التمسّك بعدم القول بالفصل ، لأنّ عدم القول بالفصل إنّما هو بين رواية الفقيه ورواية غيره لا بين قول الفقيه ورواية غيره ، فالآية دالّة على حجّية قول المفتي بالنسبة إلى مقلّده وهي أجنبيّة عن محلّ الكلام.

والجواب : أنّ التفقّه في زمن نزول الآية لم يكن صعبا مفتقرا إلى مقدّمات كثيرة بل كان يحصل بأدنى مئونة ، كما هو مؤدّى قوله : «ونظر في حلالنا وحرامنا» (١) وحينئذ فأغلب الرواة يومذاك كانوا فقهاء. فالآية تدلّ على حجّية روايتهم ، ويتمّ في غيرهم بعدم القول بالفصل بين رواية الفقيه ورواية غيره ، وهو مسلّم عندكم كما تقدّم. هذا تمام الكلام في دلالة آية النفر على حجّية خبر الواحد ، وقد تبيّن أنّ دلالتها أقوى من دلالة آية النبأ.

وقد استدلّ بآية تحريم الكتمان قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) الآية (٢) دلّت الآية على تحريم الكتمان ، وهو يستلزم القبول وإلّا فيكون عبثا ، كما استدلّ الفقهاء بتحريم كتمان المرأة ما في رحمها على قبول قولها.

والجواب : أنّ الكتمان في المرأة حيث كان كتمانا لأمر خفيّ بحيث لو لم تظهره لم يعلم أصلا فحرمته دليل قبول قولها ، وأمّا في المقام فليس الكتمان كتمانا لأمر خفيّ بل لأمر جليّ حيث إنّه في الآية (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) فالمراد أنّ الّذين يكتمون البيّنات والهدى من بعد بياننا لهما. فالمحرّم في المقام إنّما هو حرمة كتمان الأمر الظاهر ، وحيث يكون ظاهرا فلا يدلّ على التعبّد بقولهم ، بل لبقائه ظاهرا فظهوره ومعلوميته كافيان لترتيب الآثار.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) البقرة : ١٥٩.

١٧٣

وبالجملة فبين الكتمان في المرأة والكتمان في المقام فرق ظاهر ، حيث إنّ كتمان المرأة لأمر خفيّ لا يعلم إلّا من قبلها والكتمان في الآية ليس كذلك لنصّ الآية على كتمان الظاهر ، وحرمة كتمان الظاهر لا توجب قبول خبر الواحد فيه أصلا.

ثمّ مع الإغماض عمّا ذكرنا فالكتمان في الآية لو حرم لا يوجب أيضا قبول قول الواحد بخلافه في المرأة ، وذلك لأنّ قول المرأة الواحدة حيث إنّه لا يوجب القطع بل ولا الظنّ القويّ فتحريم كتمانه يدلّ على قبوله ، بخلاف الكتمان في الآية فإنّه لو لم يكتم جميع الناس البيّنات والهدى وأظهروه يحصل العلم للإنسان من تواتر النقل بينهم ، فإنّ عدم كتمانهم بمعنى إظهارهم ذلك والتحدّث به أمام الناس ، وحينئذ فلو تحدّث به جميع هؤلاء لحصل العلم للسامعين ، فلا يدلّ على قبول خبر الواحد.

نعم يبقى الإشكال في إطلاق الآية وشمولها لما إذا كان المخبر واحدا فأيّ معنى لوجوب إظهاره مع عدم حصول العلم من إخباره؟

وجوابه : أنّ انخرام حكمة التشريع في مورد لا يوجب خللا في المشرّع أصلا ، بل هو معنى الحكمة ، فإنّ الحكمة هي الّتي تنخرم في بعض الموارد كما في العدّة وغيرها من الموارد الكثيرة في الفقه.

ومن جملة الآيات قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ*)(١) بتقريب ما تقدّم.

وقد اورد عليها بأنّ سؤال أهل الذكر الّذي هو بمعنى أهل العلم لا يوجب إلّا قبول قولهم من حيث إنّهم أهل علم لا من حيث إنّهم رواة ، فلا تدلّ على حجّية خبر الواحد. وبهذا ظهر أنّ جواب الآخوند عن هذا الإيراد بأنّه إذا ثبت حجّية قول زرارة ومحمّد بن مسلم وأضرابهما ممّن هم أهل علم فبعدم

__________________

(١) النحل : ٤٣ ، والأنبياء : ٧.

١٧٤

القول بالفصل يتمّ المطلوب (١) لا يخلو من ضعف ، لأنّ الإجماع وعدم القول بالفصل بين قول زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهما من حيث إنّهم رواة ، أمّا من حيث إنّهم أهل ذكر وعلم فلا قول بعدم الفصل.

فالتحقيق أن يقال في ردّ هذا الإيراد : إنّ أهل الذكر ليس المراد منهم خصوص الفقهاء ، بل المراد بهم أهل العلم ، والعلم يشمل علم الرواية ، فيكون قول محمّد بن مسلم وزرارة من حيث إنّهم أهل علم بالرواية مقبولا ، وحينئذ فغيرهم ممّن ليس من أهل العلم يتمّ قبول قوله بعدم القول بالفصل بين رواية محمّد بن مسلم وزرارة وغيرهما من حيث إنّهما رواة وأهل علم بالرواية ، فهذا الإيراد ليس بموجّه.

نعم يرد عليها أنّ ظاهر الآية أنّ السؤال إنّما هو لأجل أن يعلموا مثل قولك : «إن كنت جاهلا بالأمر فاسأل العلماء به» أي لأجل أن يحصل لك العلم به ، وحينئذ فالآية لا تدلّ على قبول خبر الواحد.

نعم يبقى أنّ أهل الذكر بموجب سياق الآية هم علماء اليهود وفي بعض التفاسير (٢) أنّ المراد بهم الأئمّة عليهم‌السلام ، ووجه الجمع أنّ المراد بأهل الذكر أهل العلم ، فمورد الآية حيث كان معرفة النبيّ وصفاته فأهل علم ذلك هم اليهود ، وفي مورد السؤال عن أحكام الدين وفروعه فأهل الذكر فيه هم أئمّتنا عليهم‌السلام فلا تنافي بين التفسيرين.

ومن جملة الآيات الّتي استدلّ بها على حجّية خبر الواحد قوله تعالى في مدح نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٣) فإنّ مدح الله له بأنّه يؤمن للمؤمنين بمعنى يصدّقهم دالّ على أنّ تصديق المؤمنين في أخبارهم أمر مرغوب فيه شرعا ولا أقلّ من جوازه ، ولا معنى لتصديقهم إلّا ترتيب آثار صدقهم في مقام العمل ، وهو معنى الحجّية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٤٥.

(٢) انظر التبيان ٧ : ٢٠٥.

(٣) التوبة : ٦١.

١٧٥

والجواب : أنّ التصديق الّذي هو محلّ البحث وإن كان بمعنى ترتيب الأثر في مقام العمل ، والتصديق الّذي دلّت الآية على مرغوبيّته التصديق بمعنى عدم تكذيب المخبر والعمل بما فيه الاحتياط فيما بينه وبين نفسه ، ولكنّه يظهر للمخبر تصديقه بمعنى أن لا يكذبه ، وهذا أمر أخلاقي لا دخل له بالتصديق الّذي هو محلّ الكلام. نعم لو كان المراد من الإيمان في الآية التصديق بمعنى ترتيب الأثر في مقام العمل لكانت دلالتها سليمة ، ولكنّها بمعنى أن لا نكذّبه فنحمل ، ويشهد له خبر إسماعيل : إذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم ، إنّ الله يقول : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(١).

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ تغيير السياق في الآية بتعدية «يؤمن» الاولى بالباء والثانية باللام شاهد على ذلك (٢).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ التعدية ل «يؤمن» بطبعها بالباء تارة وباللام اخرى ، وذلك فإنّ الإيمان إن كان بوجود شيء فالتعدية بالباء ، وإن كان بقول الموجود فالتعدية باللام ، فمعنى (يُؤْمِنُ بِاللهِ) يصدّق بوجوده ومن ثمّ عدّيت بالباء مثل : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ)(٣) بمعنى بوجود الله وبوجود رسوله بما أنّه رسوله ، ومعنى : (يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٤) يعني يصدّق أقوالهم مثل : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ)(٥) ومثل قوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)(٦) أي بقولنا. وحينئذ فلا معنى لقوله :

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٢٣٠ ، الباب ٦ من أبواب أحكام الوديعة ، الحديث الأوّل.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٢٩٤.

(٣) الأعراف : ١٥٨.

(٤) التوبة : ٦١.

(٥) العنكبوت : ٢٦.

(٦) يوسف : ١٧.

١٧٦

ويؤمن بالمؤمنين ، لأنّ وجود المؤمنين ليس أمرا مشكوكا حتّى يصدّق به وإنّما التصديق بأقوالهم ، فلا بدّ من تعديته باللام. وأمّا قوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ) فهو بمعنى يؤمن بوجوده ، فهو ملازم للإيمان بقوله.

فظهر اندفاع ما يقال : إنّ تعديتها في الآية بالباء يوجب أن لا يكون لها مناسبة بمورد النزول.

ووجه الاندفاع : أنّ التصديق به تصديق له أيضا بالملازمة ، فالمقام من باب ذكر الملازم لدلالته على ملازمه ، فافهم. وبالجملة فلا تغيير للسياق حتّى يدّعى كونه شاهدا بل أنّ مقتضى طبع الآية هو هذا ، لعين ما ذكرناه من التفاوت.

[الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد]

بقي الكلام في الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد ، وهي متواترة إجمالا على قبول خبر الواحد ، وهي طوائف أربعة :

الاولى : الأخبار الدالّة على التخيير بين الخبرين المتعارضين مطلقا (١) أو مع فقد المرجّحات المذكورة في الروايات ، ولا ريب أنّ مورد سؤال السائل فيها ليس هي الأخبار المقطوعة الصدور المتعارضة ، لاستحالة تعارض مقطوع الصدور عنهم عليهم‌السلام بل ولا تعارض مقطوع الصدور مع غيره لعدم التعارض حينئذ ، إذ المقطوع الصدور لا يعارضه غيره ، بل المراد منها هو المشكوك الصدور ، فتدلّ حينئذ بالصراحة على حجّية أخبار الآحاد.

الثانية : الأخبار المرجعة للشيعة إلى أخبار بعض أصحاب الأئمّة مثل قولهم عليهم‌السلام : «زكريّا ابن آدم مأمون على الدين والدنيا» (٢) ومثل قوله : «عليك بهذا الجالس»

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠ ، ٤١ و ٤٤.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٠٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

١٧٧

مشيرا إلى زرارة (١) ومعلوم أنّ الرجوع إليهم ليس في أخذ فتاويهم فقط ، بل لأخذ الأخبار عنهم فإنّه مشمول لقول الأئمّة عليهم‌السلام.

الثالثة : الأخبار المحذّرة عن ترك العمل برواية الثقة عموما مثل قوله : «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (٢).

الرابعة : الأخبار المتفرّقة في شتّى المواضيع ، ولا جامع لها حتّى يعبّر عنها بذاك الجامع.

بقي الكلام في أنّ هذه الأخبار لو كانت أخبار آحاد لكان التعويل عليها لإثبات حجّية أخبار الآحاد دوريّا ، نعم لو كانت متواترة لكانت مثبتة للحجّية. إلّا أنّ التواتر على أقسام ثلاثة :

الأوّل : التواتر اللفظي ، وهو أن يخبر جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب بسماع لفظ بخصوصه عن المعصوم ـ سلام الله عليه ـ مثل التواتر الحاصل بالنسبة إلى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» بغدير خمّ (٣).

الثاني : التواتر المعنوي ، وهو أن تتواتر وتتكاثر أخبار متفرّقة في بيان خصوصيّات متفاوتة إلّا أنّها دالّة على معنى ، بمعنى أنّ كلّ واحد من هذه الأخبار ليس بخال عن الدلالة عليه ، وهذا مثل الأخبار المتكثّرة الواردة في الوقائع المتفرّقة من قتل عليّ في خيبر كذا وفي احد كذا وفي بدر كذا وفي غيرها كذا ، فإنّها مشتركة في استفادة شجاعته ـ سلام الله عليه ـ وإن لم تكن مقصودة للمخبر في خبره.

الثالث : التواتر الإجمالي ، وهو أن تتكثّر الأخبار في وقايع متعدّدة إلّا أنّها لا تشترك في معنى واحد ، وإنّما يقطع الإنسان بوجود خبر من هذه الأخبار صادر عن الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) المصدر السابق : الحديث ١٩.

(٢) المصدر السابق : الباب ١١ ، الحديث ٤٠.

(٣) كنز العمال : ١٣ ، الحديث ٣٦٣٤٣.

١٧٨

وقد ادّعى صاحب الكفاية قدس‌سره وجود هذا القسم من التواتر بين هذه الأخبار (١) فإنّا نقطع بأنّ هذه الأخبار المذكورة لا تخلو من خبر صحيح صادر عن المعصوم عليه‌السلام.

والميرزا النائيني قدس‌سره قد أنكر التواتر الإجمالي ولم يجعله من أقسام التواتر (٢) زاعما أنّ كلّ واحد من الأخبار المدّعى أنّها متواترة إجمالا مشكوك صدوره ولا معنى تشترك فيه أصلا ، فمن أين يحصل القطع بصدور واحد منها عن الإمام عليه‌السلام.

والإنصاف أنّ إنكار التواتر الإجمالي وعدم عدّه من أقسام التواتر بعيد عن الصواب ، فإنّ الأخبار وإن كانت بلحاظ كلّ واحد واحد محتملة للصدق والكذب ولا قطع بصدورها إلّا أنّها من حيث انضمام غيرها إليها وصيرورتها من الكثرة بحيث يقطع بصدور بعضها نظير المتواتر اللفظي والمعنوي ، فإنّ كلّ واحد منها غير مقطوع الصدور إلّا أنّها من حيث المجموع لا مجال لإنكار القطع بصدورها ، وأحسن مثال لذلك أنّه لا مجال لاحتمال كذب الأخبار الموجودة في كتاب الوسائل بحيث لا يكون منها خبر صحيح أصلا.

والميرزا النائيني بعد أن أنكر عدّ التواتر الإجمالي من أقسام التواتر زعم أنّ الأخبار الدالّة على قبول قول الثقة متواترة معنى فضلا عن انضمام غيرها إليها ، وزعم أيضا أنّ أخصّ تلك الأخبار هي الأخبار الدالّة على قبول قول الثقة (٣).

والإنصاف أنّ أخصّ تلك الأخبار هي الأخبار الدالّة على حجّية خبر العدل الضابط لأنّ في جملتها : فلان مأمون على الدين والدنيا (٤) وخذ بما يقوله أعدلهما (٥)

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٤٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٩٧.

(٣) المصدر المتقدّم : ١٩٩.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٠٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٥) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ و ٢٠ و ٤٥.

١٧٩

وفلان كان وجيها عند أبي (١) وغيرها (٢) ممّا تدلّ على اعتبار العدالة ، وحينئذ فلو قلنا بالتواتر الإجمالي بين هذه الأخبار فهي دالّة على حجّية خبر العدل الضابط ، لأنّه أخصّها والقدر المتيقّن منها. وحينئذ فلو وجد في ضمن هذه الأخبار الكثيرة خبر عدل ضابط دالّ على حجّية قول الثقة (٣). فيثبت حجّية قول الثقة حينئذ. ولو لم يكن الأخبار الدالّة على حجّية قوله متواترة معنى ، وحينئذ فالأخبار دالّة على حجّية قول العدل الضابط والثقة.

وأمّا الخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب فلا تدلّ هذه الأخبار عليه ، ولا حاجة إلى دلالتها بعد دلالة آية النبأ عليه بمنطوقها كما تقدّم ، فافهم.

[الاستدلال بالإجماع على حجّية خبر الواحد]

الثالث : من الأدلّة الدالّة على حجّية أخبار الآحاد الإجماع ، وقد قرّر بوجوه :

أحدها : تتبّع فتاوى الفقهاء من صدر الإسلام حتّى الآن على حجّية أخبار الآحاد ما عدى السيّد المرتضى (٤) وابن إدريس (٥) وتبعتهم (٦) وهم لا يخلّون بالإجماع.

__________________

(١) المصدر السابق ، الباب ١١ ، الحديث ٢٣.

(٢) راجع المصدر السابق ، الحديث ٣٠ و ٣٣ وغيرهما.

(٣) كالصحيح المرويّ عن العسكري عليه‌السلام في كتب بني فضّال ، راجع الوسائل ١٨ : ٧٢ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٩.

(٤) انظر الذريعة ٢ : ٥٢٨.

(٥) انظر السرائر ١ : ٤٧.

(٦) منهم ابن زهرة في الغنية ٢ : ٣٥٦ ، والقاضي كما نسب إليه في المعالم : ١٨٩ ، والطبرسي في مجمع البيان ٥ : ١٣٣ ، وراجع الفرائد ١ : ٢٤٠.

١٨٠