غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

التكليف بخلاف الفقدان لم يعلم له وجه ، لما ذكرناه مرارا من أنّ القضايا الحقيقيّة تدور مدار موضوعها ، فبانتفائه تنتفي فتكون كالاضطرار من حدود التكليف.

وبالجملة ، فما ذكره في الحاشية متين جدّا ، ووجهه ما ذكرناه مرارا من أنّ الاصول إذا تعارضت وتساقطت لا تعود ثانيا أصلا.

ـ وأمّا إذا كان الاضطرار قبل حدوث سبب التحريم والعلم به بأن اضطرّ إلى شرب أحد الإناءين اللذين أحدهما ماء والآخر خلّ ، فاضطرّ إلى الماء لرفع عطشه مثلا ثمّ علم بوقوع نجاسة في أحدهما بعد اضطراره إلى الماء ، ففي مثله لا ريب في عدم كون العلم الإجمالي علما بالتكليف ، لأنّ سبب التحريم إن صادف الماء فلا أثر له لأنّه حلال واقعا ، وإن صادف الخلّ يكون له أثر لكنّ مصادفته الخلّ مشكوكة فيكون الخلّ من مجاري الاصول لعدم المعارض لها حتّى تسقط.

ـ وأمّا إذا كان الاضطرار قبل حصول العلم الإجمالي بالنجاسة السابقة على الاضطرار بأن اضطرّ إلى أحد الإناءين بعينه ثمّ علم بوقوع نجاسة في أحدهما قبل الاضطرار فهل يلحق بالأوّل بلحاظ تقدّم وقوع النجاسة أو بالثاني بلحاظ تأخّر العلم بها عن اضطراره؟ وقد اتّفقت كلمات الآخوند (١) والشيخ الأنصاري (٢) والميرزا قدس‌سره (٣) على عدم تنجيزه ، ووجهه واضح بعد أن كان مناط تنجيز العلم الإجمالي هو تعارض الاصول وتساقطها ، ضرورة أنّه عند وقوع النجاسة لم تجر الاصول ، لعدم العلم بوقوع النجاسة حينها حتّى يشكّ في أنّها في أيّ الفردين وقعت لتتعارض الاصول في الطرفين ، فتجري أصالة الطهارة أو الحلّية أو استصحابهما في الإناءين معا ولا تعارض لعدم العلم بالنجاسة حينئذ ، وعند العلم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٤٥.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٥٤ ـ ٤٥٥.

٣٦١

بوقوع النجاسة أيضا هو مضطرّ إلى أحدهما المعيّن فهو حلال واقعا له ، وإن كان هو النجس الواقعي والطرف الثاني مشكوك بدوا فتجري فيه أصالة الطهارة حينئذ لعدم المعارض له وهذا واضح.

ـ ثمّ إنّهم ألحقوا ما إذا كان العلم بوقوع النجاسة في أحدهما مقارنا للاضطرار وإن كان الوقوع قبله إلّا أنّ العلم بالوقوع مقارن ، والوجه فيه هو الوجه في سابقه فلا يحتاج إلى الإعادة.

وهذه الوجوه الأربعة المذكورة في الاضطرار لا تختصّ به ، بل تشمل جميع صور موانع التكليف مثل فقدان بعض الأطراف أو خروج بعضها عن محلّ الابتلاء وغيرها فتجري فيه الصور الأربع ونتائجها المذكورة في الاضطرار حرفا بحرف ، فتأمّل.

ثمّ إنّه ربما يشكل على الصورة الأخيرة ـ وهي صورة ما لو علم إجمالا بعد اضطراره وقوع نجاسة قبله في أحد الإناءين اللذين اضطرّ إلى أحدهما المعيّن ـ بأنّه وإن لم يكن المقام ممّا تعارض فيه الاصول إلّا أنّ الأصل في المقام لزوم الاجتناب عن الإناء الثاني ؛ وذلك لأنّ علمه بوقوع النجاسة قبل اضطراره يحتمّ ذلك ، لأنّ النجس الواقعي إن كان هو المضطرّ إليه فهو الآن حلال واقعا له ، وإن كان الطرف الآخر لم يكن حلالا ؛ لأنّ الاشتغال بل الاستصحاب يحتّم عليه الاجتناب نظير من علم بكونه محدثا إلّا أنّه لا يعلم بأنّ حدثه أصغر أم أكبر ثمّ توضّأ بعد ذلك ، فعلى تقدير كون حدثه أصغر فقد ارتفع قطعا وإن كان أكبر فهو باق ، فالاستصحاب المتعلّق بكلّي الحدث السابق يحتّم عليه الغسل قطعا وإن كان لا يقول بكونه جنبا إلّا أنّه يرفع البراءة ، فالمقام من هذا القبيل فيكون استصحاب النجاسة حاكما على أصالة الطهارة أو البراءة.

ولكنّ التأمّل الدقيق يدفعه بأنّ المكلّف عند اضطراره إلى أحدهما أجرى أصالتي الطهارة بالنسبة إلى كلّ منهما لعدم المعارضة حينئذ لعدم العلم إذ ذاك ثمّ علم

٣٦٢

بكون أحدهما نجسا ، فبعد علمه بالنجاسة هو شاكّ في التكليف ، إذ لا يعلم أنّ النجس هو المضطر إليه فلا تكليف أصلا لارتفاعه بالاضطرار ، أو أنّ النجس هو الطرف الثاني فهو باق ، فالشكّ حينئذ يكون شكّا في التكليف إذ لا يعلم هو كون النجس الفرد الثاني فهو شاكّ في التكليف باجتنابه ، كمن شكّ في صحّة صلاته الفاقدة للسورة ، فإنّ شكّه في صحّتها وفسادها يرجع إلى الشكّ في وجوب السورة وعدمها ، فإذا جرت البراءة من وجوبها لا مجال للاشتغال أو استصحاب التكليف أصلا.

فهو عند اضطراره جرت أصالة الطهارة مثلا أو البراءة ولا معارضة حينئذ لعدم العلم بالنجاسة ، فبعد الاضطرار وحصول العلم الإجمالي يشكّ في توجّه التكليف إليه باجتناب الإناء الغير المضطرّ إليه ، وحينئذ فيجري فيه البراءة أو الحلّية أو الطهارة ، ولا معارضة حينئذ لعدم جريان الأصل في المضطرّ إليه أصلا لكونه حلالا بلا مؤمّن ، وهذا بخلاف مسألة الحدث الّتي نظّر بها في المقام ؛ لأنّ الحدث متيقّن وإنّما الشكّ في خصوصيّته ، فالحدث الكلّي مسلّم فالتكليف متوجّه ، فإذا توضّأ يشكّ في فراغه من التكليف المتيقّن بتعارض الاصول من أوّل أمره بخلاف المقام.

فظهر أنّ الحقّ كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) وتبعه عليه المتأخّرون (٢) من عدم لزوم الاجتناب لو اضطرّ إلى أحدهما المعيّن قبل العلم الإجمالي بالنجاسة السابقة على اضطراره. ونظيرها في الحكم لو اضطرّ إلى أحد الإناءين بعينه ثمّ وقعت قطرة بول في أحدهما ، بل هذه الصورة خالية أيضا من الإشكال المذكور أيضا.

هذا تمام الكلام في الاضطرار إلى أحدهما المعيّن.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٢٤٥.

(٢) كالنائيني في أجود التقريرات ٣ : ٤٥٦ ، والعراقي في نهاية الأفكار ٣ : ٣٥٠ ، والمحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٤ : ٢٥٨.

٣٦٣

[الاضطرار إلى غير المعيّن]

وأمّا إذا اضطرّ إلى أحدهما الغير المعيّن كما إذا كان كلا الإناءين لبنا واضطرّ إلى أحدهما لا بعينه لوفائهما في رفع العطش ففي هذه الصورة يكون العلم الإجمالي منجّزا قطعا لعدم احتمال الاضطرار إلى النجس حتّى يرتفع حرمته لو كانت حتّى يصير الشكّ شكّا في التكليف ، بل إنّه مضطرّ إلى أحدهما. نعم ، النجس يكون رافعا للاضطرار لا أنّه مضطرّ إليه ، فإذا اضطرّ إلى أحدهما لا بعينه فشرب أحدهما ففي الصورة الواضح عدم التنجّز فيها من الصور السابقة وهي صورة ما لو اضطرّ ثمّ علم بنجاسة متأخّرة الوقوع في أحدهما يكون الطرف الآخر محرّما عليه فضلا عن غيرها من الصور الثلاثة الأخر ، وأثره حينئذ إنّما هو حرمة تناولها معا بمعنى حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ حرمة النجس الواقعي لا ترتفع بالاضطرار إلى غيره كما هو المفروض ؛ لأنّ النجس غير مضطرّ إليه وإن كان في الوفاء بالغرض كالطاهر إلّا أنّه تتعارض فيه الاصول وتتساقط فيحرم الطرف الثاني لحرمة النجس المنجّزة بتساقط الاصول.

وبالجملة ، إنّ تحريم النجس الواقعي الموجود فيما بين هذين الإناءين لم يرتفع ، لعدم الاضطرار إلى النجس قطعا فالحرمة باقية بحالها ، فإذا فرض بقاء الحرمة بحالها فلا يمكن للشارع أن يرفع اليد عن المحرّم الواقعي فيرخّص في المخالفة القطعيّة بارتكاب كلا الإناءين ، فهو من هذه الناحية كما لو لم يكن ثمّة اضطرار إلى أحدهما في تنجيز العلم الإجمالي ، لكن لمّا اضطرّ إلى أحدهما فلا يمكن الشارع حينئذ بقاء كلّ منهما على لزوم الاجتناب لأدائه إلى تلف النفس.

لكن لا يمكنه أن يرفع كلّي التنجيز لعدم الموجب له فجعل أوّل فرد يختاره المكلّف حلالا إمّا لكونه حلالا بحسب الواقع لعدم كونه النجس ، أو لكونه وإن كان نجسا في الواقع إلّا أنّه نظير إجراء الأصل في الشبهة البدويّة لو صادف أنّ مجرى الأصل محرّم في الواقع تكون مصلحة الحكم الظاهري أقوى من مصلحة الحكم الواقعي ، ولا يلزم

٣٦٤

من ذلك رفع تحريم الطرف الثاني والترخيص فيه ؛ لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها ويكون المقام من مقامات التوسّط في التنجيز ؛ لأنّ الشارع رخّص في أوّل فرد يختاره المكلّف ولم يرخّص في الثاني ، فالثاني لو صادف أن به ارتفع الاضطرار يرتفع تحريمه كما لو اختاره أوّلا ، ولكن يبقى الأوّل الّذي لم يختره على التحريم لتنجيز العلم الإجمالي فيكون كلّ طرف منهما غير منجّز تحريمه الواقعي على تقدير اختياره لرفع الاضطرار ولكنّه منجّز إذا لم يختر لرفع الاضطرار.

فالمقام من قبيل التوسّط في التنجيز نظير ما سيأتي في الأقلّ والأكثر بناء على أنّ التكليف فيها واحد كالصلاة إذا شكّ في جزء من أجزائها كالسورة مثلا ، فلا يكون التكليف الواقعي لو كانت السورة جزءا في الواقع منجّزا وإن كان منجّزا من ناحية الركوع مثلا ، فإنّ ترك الركوع مبطل لتنجّزه من ناحيته بخلافه من ناحية السورة.

وبما ذكرنا ظهر ما في كلام الآخوند قدس‌سره من عدم الفرق في الاضطرار بين كونه إلى معيّن أو إلى غير معيّن (١) فإنّ الاضطرار إلى المعيّن في الفرض يوجب أن لا يكون العلم الإجمالي علما بالتكليف بخلافه في الاضطرار إلى غير المعيّن فإنّ الاضطرار لم يكن للنجس حتّى يرتفع التكليف به.

ثمّ إنّ ما ذكرناه ممّا يعيّن أنّ المقام من قبيل التوسّط في التنجيز ، وتوضيح ما ذكرناه موقوف على مقدّمة ، هي أنّه كما أنّ التكاليف الإلزاميّة تارة تتعلّق بمطلق الوجود فيكون لكلّ وجود ثواب مستقلّ وعقاب مستقلّ ، وتارة تتعلّق بأوّل وجود فيكون الثواب والعقاب دائرا مدار أوّل وجود دون غيره ، كذلك التكاليف الغير الإلزاميّة كالإباحة والكراهة والاستحباب كذلك أيضا فإنّه قد يكون المباح أو المستحبّ أو المكروه مطلق الوجود كشرب الماء مثلا وكقراءة القرآن والصلاة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

٣٦٥

في الحمام ، وقد يكون المستحبّ أو المباح أو المكروه أوّل وجود كالنظر إلى الأجنبيّة وكالنافلة المؤقّتة وغيرها.

إذا عرفت ما ذكرناه من هذه المقدّمة فاعلم أنّ مناط تنجيز العلم الإجمالي هو تساقط الاصول في جميع الأطراف وإلّا فيلزم الترخيص في المعصية وهو قبيح ، وعدم جريانها في بعض الأطراف دون بعض لأنّه ترجيح من غير مرجّح ، فإذا فرض مرجّح لبعض الأطراف فتجري فيه الاصول فينتج عدم وجوب الموافقة القطعيّة ، فمقامنا وهو ما لو اضطرّ إلى معيّن فبالنسبة إلى ذلك الفرد المعيّن هو مباح واقعا وإن لم نعلم السبب في إباحته أنّه ماء فكان مباحا لمائيته ، أم أنّه كان نجسا فأبيح للاضطرار إليه ، فالاضطرار يرفع العلم بالتكليف ؛ لأنّ وقوع النجاسة في أحد الإناءين مع احتمال وقوعها في المضطرّ إليه لا يوجب العلم بالتكليف قطعا فيكون الطرف الثاني مشكوكا بدوا فتجري فيه أصالة الطهارة مثلا.

وهذا بخلاف ما لو اضطرّ إلى غير معيّن فإنّ الاضطرار ليس إلى النجس وإنّما هو إلى الجامع بين النجس والطاهر ، فالنجس قطعا غير مضطرّ إليه وإن أمكن به رفع الاضطرار ، فمقتضى العلم الإجمالي الاجتناب عن كلا الإناءين لكن اضطراره إلى الجامع بينهما لا يبقي وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ وجوب الموافقة القطعيّة يؤدّي إلى الضرر الّذي هو الهلاك ، وحيث إنّ وجوب الموافقة القطعيّة حكم عقلي فلا يرتفع إلّا بثبوت الترخيص الظاهري لما يختاره المكلّف ، لكنّ هذا الضرر يرتفع بصرف الوجود وأوّله ، فيكون الوجود الأوّل من هذين الشربين وهو ما يختاره المكلّف أوّلا محكوما بالإباحة الظاهريّة وإلّا لزم الهلاك للمكلّف ، ويبقى الفرد الثاني على حكمه فيرتفع وجوب الموافقة القطعيّة ظاهرا بالنسبة إلى أوّل الوجود لشرب أحد الإناءين ، فيحكم بالإباحة ظاهرا ويبقى الفرد الآخر على تقدير كونه النجس واقعا منجّزا حكمه ؛ لأنّه ليس صرف الوجود وأوّله.

٣٦٦

وبهذا ظهر معنى التوسّط في التنجيز ، خلافا للميرزا قدس‌سره حيث زعمه توسّطا في التكليف بدعوى أنّ الاضطرار إلى غير المعيّن أيضا من حدود التكليف فيكون الاضطرار رافعا لحكمه الواقعي لدخوله في «رفع ما اضطرّوا إليه». ثمّ إنّه أشكل على نفسه بعدم الفرق بين الاضطرار إلى المعيّن وغير المعيّن فلم يكن الأوّل رافعا لتنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الطرف الثاني أيضا بخلاف غير المعيّن فلم يرفع التنجّز بالنسبة إلى الثاني. وأجاب بأنّ الاضطرار هناك هو الّذي رفع العلم بالتكليف بخلافه هنا فإنّ الرافع للتكليف اختيار المكلّف وهو لا يرفع التكليف المنجّز.

وبعبارة اخرى : الاضطرار كان موجودا عند العلم الإجمالي فلم يكن علما بالتكليف بخلافه فإنّ الرافع هنا اختيار المكلّف وهو بعد تنجيز العلم الإجمالي ، فيكون حكم المختار الواقعي مرتفعا والثاني مشكوك في سقوطه فيكون شكّا في السقوط ، فيبقى على حكمه العقلي وهو التوسّط في التكليف (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ لزوم الموافقة القطعيّة موجود ولا اضطرار إلى الحرام حتّى يرتفع التكليف به واقعا ، وإنّما رخّص في اختياره لأحدهما فيكون أوّل الوجود لو كان المحرّم الواقعي مرخّصا فيه ظاهرا ، والحكم الواقعي فيه غير منجّز فيكون توسّطا في التنجيز لا توسطا في التكليف لعدم سقوط الحكم الواقعي عنه ، بل الحكم الواقعي لما يختاره المكلّف غير منجّز لو كان هو المحرّم فالحكم هنا بالترخيص ظاهري ؛ لأنّه ليس مضطرّا إلى النجس قطعا ولكن اختياره قد يصادف النجس ، والاختيار ليس مسقطا للتكليف الواقعي ، فينتج ما ذكرناه التوسّط في تنجيز الحكم الواقعي فلا يكون منجّزا على تقدير مصادفة ما يختاره النجس الواقعي ، ولا يضرّ كما في الشبهات البدويّة لو جرى أصل الطهارة مثلا وكان نجسا في الواقع ،

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٥٩ ـ ٤٦٥ ، وفوائد الاصول ٤ : ٩٨ ـ ١٠٧.

٣٦٧

ويكون منجّزا على تقدير كون النجس هو الطرف الآخر ، وليس الحكم الواقعي بالتحريم مرتفعا عمّا يختاره حتّى يكون توسّطا في التكليف.

ولو سلّم كونه توسّطا في التكليف فالحقّ عدم الفرق بينه وبين الاضطرار إلى المعيّن قبل العلم الإجمالي ؛ لأنّ الشك يكون شكّا في التكليف ؛ لأنّ الحرام على تقدير كونه هو ما يختاره المكلّف فالثاني مشكوك بدوا فلا علم بالتكليف فلا يكون منجّزا فيجوز تناول الطرف الثاني أيضا ، ولا يلتفت إلى ما قال ، ضرورة أنّ الاضطرار الذي هو من حدود التكليف هو الرافع والاختيار لا دخل له في الرفع ، بل لو لم يختر أصلا ومات عطشا فهو غير محرّم عليه ؛ لأنّ الحدّ للتكليف هو الاضطرار لا اختيار أحدهما ، بل لو لم يختر فهو محكوم بالحلّية لدورانها مدار الاضطرار لا مدار الاستعمال.

كما ظهر فساد ما ذكره الآخوند قدس‌سره (١) من عدم الفرق بين الاضطرار قبل العلم الإجمالي بين صورتي الاضطرار إلى المعيّن وغير المعيّن ، وأنّ الاضطرار يرفع التكليف مطلقا لاستحالة الترخيص في بعض الأطراف مع بقاء التكليف.

توضيح الفساد أنّ استحالة الجمع بين الترخيص وبقاء التكليف مسلّمة حيث يكون الترخيص واقعيّا ، وأمّا إذا كان ظاهريّا فلا استحالة كما في موارد الشبهة البدويّة حيث يجري أصالة الطهارة والحكم الواقعي على واقعيّته.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان العلم الإجمالي متعلّقا بمحرّم ، وكذا الكلام حرفا بحرف حيث يكون العلم الإجمالي متعلّقا بواجب بين شيئين فيأتي فيه عين التفصيل من أنّ العلم الإجمالي تارة يكون قبل الاضطرار إلى ترك أحدهما ، واخرى بعد الاضطرار ، وأنّ الاضطرار تارة إلى ترك المعيّن ، واخرى إلى ترك غير المعيّن ، وما ذكرناه في الصور بعينه يأتي هنا حتّى كونه توسّطا في التنجيز لا في التكليف.

هذا تمام الكلام في الاضطرار إلى فعل الحرام أو ترك الواجب.

__________________

(١) راجع كفاية الأصول : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

٣٦٨

التنبيه [السابع](١) : ذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) من شروط تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة التحريميّة عدم خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء عادة ، وذكر في وجهه أنّ الخارج عن محلّ الابتلاء عادة وإن أمكن الابتلاء به عقلا لا تكليف بالاجتناب عنه ، ومن الممكن كونه هو الّذي وقع فيه النجاسة فيكون الطرف الآخر مشكوك التكليف بوجوب الاجتناب ، فتجري الاصول فيه بلا معارضة جريانها في معارضه أصلا (وقد وسّع الخروج عن محلّ الابتلاء إلى بطن الإناء وظهره بدعوى عدم داع لاستعمال خارج الإناء عادة ، وحمل صحيحة عليّ بن جعفر ـ فيمن امتخط بعد الرعاف فصار الدم قطعا قطعا فأصاب إناءه ... الخ (٣) ـ عليه) (٤).

وذكر الآخوند قدس‌سره في حاشية الكفاية (٥) أنّه لا فرق بين كون العلم الإجمالي متعلّقا بتحريم أو بإيجاب ، فحيث يكون طرف الشبهة التحريميّة منتركا لعدم الداعي إليه عادة ، ويكون طرف الشبهة الوجوبيّة لازم الحصول ، لعدم الداعي إلى تركه عادة يكون النهي عن الأوّل كالأمر بالثاني لغوا ؛ لأنّهما لإحداث الداعي نحو ترك الأوّل وفعل الثاني ، فحيث يكون الأوّل منتركا بأسبابه العاديّة والثاني محقّقا حصوله بأسبابه العاديّة لا يمكن توجّه التكليف نحوهما ، فيكون الطرف الآخر مجرى للاصول ؛ لأنّ المقام من مقامات الشكّ في التكليف لا العلم به.

__________________

(١) في الأصل : السادس.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٢٣٤.

(٣) الوسائل ١ : ١١٢ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث الأوّل.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٥) حاشية الكفاية المطبوعة مع حاشية الفرائد : ٣٢٣.

٣٦٩

وقد اختار الميرزا النائيني قدس‌سره (١) مختار الشيخ وأورد على صاحب الكفاية قدس‌سره بالفرق بين الشبهة التحريميّة والوجوبيّة بأنّ الشبهة الوجوبيّة إذا خرج بعض أطرافها عن محلّ الابتلاء عادة تكون صدورها من المكلّف بإرادته واختياره ، فيحسن الأمر بها لصدورها بإرادته واختياره ولو مع عدم القدرة عادة على تركها ، لكن تركها عقلا مقدور ، ومع القدرة العقليّة على تركه يكون التكليف بالفعل حسنا ؛ لأنّه يحسن جعل الداعي حينئذ للمكلّف نحو الفعل ، بخلاف التكليف التحريمي حيث يكون بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء عادة ، فإنّه يعتبر في الترك صدوره عن المكلّف بإرادته واختياره وهو لا يتصوّر إلّا مع القدرة على الفعل عادة أو عقلا ، ومع عدمها يكون الترك بنفسه حاصلا ، لعدم احتياج العدم إلى علّة بل يكفي فيه عدم تحقّق علّة الوجود.

ثمّ إنّه قدس‌سره فرّع على ذلك صحّة توجّه التكاليف التحريميّة مع كون متعلّقها ممّا تتركه الطبيعة بحسب فطرتها مع قطع النظر عن توجّه التحريم إليها شرعا ، مثل أكل لحم الإنسان والعذرة ونحوها فإنّ طباع الناس تقتضي تركها مع قطع النظر عن تحريم الشارع المقدّس ، وما ذلك إلّا للقدرة عليها عقلا وهو واضح.

أقول : الظاهر أنّ هذا الشرط ليس شرطا للتنجيز مستقلّا ، بل إن رجع إلى عدم القدرة عقلا ولو لعدم أسبابه كما فيمن علم إجمالا بنجاسة إناءه أو إناء الملك فهو غير قادر عقلا لعدم تهيّؤ أسبابه له ، فهو عبارة عن اعتبار القدرة على المأمور به وترك المنهيّ عنه ، وإن لم يرجع إلى عدم القدرة عقلا فيجوز توجّه التكليف نحوه ، لإمكان صدوره منه ، فيجعل الزجر عن المحرّم في الشبهة التحريميّة ، ولإمكان تركه عقلا فيبعث نحو فعله في الشبهة الوجوبيّة.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٥١ ـ ٥٧ ، وأجود التقريرات ٣ : ٤٣٠ ـ ٤٣٤.

٣٧٠

توضيح ذلك أنّ كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) يحوم حول كون المبعوث نحوه والمزجور عنه في الشرع المقدّس يلزم أن يكون أمرا لو لا البعث لما تحقّق ولو لا الزجر لما تخلّف فهو نظير الأوامر من الموالى العرفيّة ، فمن يعلم بأنّ عبده يأتي بالماء قطعا أمره أم لم يأمره يقبح له تكليفه به ، ومن علم أنّ عبده لا يذهب إلى الكوفة أصلا يقبح له زجره عن الرواح ؛ لأنّهما في هذا الأمر عبث ، لحصول الغاية وإن لم يتحقّق بعث وزجر أصلا ، وحينئذ فلا فرق بين قبح توجّه التكليف في المقام وفي كلّ ما يكون البعث والزجر لا أثر لهما ، نظير تحريم أكل لحم الإنسان ونظير أكل لحم الولد مثلا فإنّهما متروكان بمقتضى الطبيعة ، فلا يكون البعث والزجر عمّا هو متحقّق الوجود أو العدم بمقتضى الطبيعة حسنا.

والجواب عمّا ذكره قدس‌سره أنّ الأوامر الشرعيّة لو كانت نظير الأوامر العرفيّة كان ما ذكره متّجها ، ولكن التكاليف الشرعيّة مختلفة عن التكاليف العرفيّة ؛ لأنّ التكاليف العرفيّة المقصود منها صرف الوجود في الخارج وصرف العدم كذلك وليست التكاليف الشرعيّة كذلك ؛ لأنّ العباديّات منها متوقّفة على إتيانها بداعي الأمر والقربة الموقوف على تحقّق الأمر في الخارج ؛ لأنّ الفعل بذاته كان لا بدّ من تحقّقه وأمر الشارع ليس إلّا البعث نحو تحقيقه متقرّبا به إلى المولى فالأمر ليس عبثا بل لا بدّ منه ؛ لأنّه لولاه لم يتحقّق المطلوب ؛ لأنّ صرف الوجود الّذي يتحقّق بحسب الطبيعة ليس مطلوبا وإنّما المطلوب هو الوجود المتقرّب به وهو إنّما بعث الأمر نحوه.

وكذا الكلام في التوصّليات فإنّ ترك أكل لحم الإنسان مثلا وإن كان بنفسه منتركا إلّا أنّ هذا الترك ليس هو مطلوب المولى شرعا ، وإنّما مطلوب المولى أن يكون ثمّة ترك يكون زجر المولى ممّا له مدخليّة فيه ولو إمكانا ، لإمكان أن يتركه لزجر المولى عنه فيكون مرتقيا بذلك أرقى درجات الكمال ، فنفس الترك وإن كان

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٢٣٤ ـ ٢٣٨.

٣٧١

مقدورا قبل الزجر بل ومتحقّقا إلّا أنّه ترك لا يكون امتثالا لأمر المولى ؛ ولذا التزمنا في موارد عديدة كونه مسقطا للتكليف بالترك لا امتثالا له ، وحينئذ فيكون فائدة الزجر كون الترك ممّا يمكن أن يستند إلى زجر المولى ليحصل به كمال النفس وبلوغها درجات الكمال ، ولا ينافيه وجود الداعي الآخر في العبادات.

مثلا الوضوء إن كان بقصد التبريد لا إشكال في بطلانه لعدم وقوعه بنيّة صالحة ، وكذا لو كان بنحو يكون كلّ من أمر المولى والتبريد بنحو المجموع علّة للوضوء ، فإنّ الأمر في المقام ليس مستقلّا بالداعويّة فليس الوضوء بنيّة صالحة ، أمّا لو كان كلّ من أمر المولى والتبريد وحده مستقلّا بالداعويّة بحيث لو لا قصد التبريد لكان يتوضّأ أيضا بقصد الأمر ، ولو لا الأمر لكان يتوضّأ أيضا بقصد التبريد فكلّ منهما مستقلّ بالداعويّة ولكن اقترنا اتّفاقا ، فهنا النيّة الصالحة متحقّقة ولا تنافيها الضميمة كما ذهب إلى الصحّة جملة من المحقّقين (١) فوجود الداعي لو لا الأمر لا يرفع داعوية الأمر فيجوز الأمر من المولى وإن وجد الداعي لما أمر به ، لأنّ الأمر يوجب أن يقع بنيّة صالحة وهو المقصود منه لتحصل الكمالات النفسية الّتي بعث النبيّ لإتمامها ، وإمكان قصد الأمر بالتوصّليّات كاف في داعويّة الأمر أيضا لما ذكرنا.

فظهر أنّ ما ذكر من أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء عادة ممّا يوجب عدم تنجيز العلم الإجمالي ليس صحيحا بإطلاقه ، بل إن رجع إلى عدم القدرة العقليّة فهو مسلّم ، وإلّا فلا لما ذكرناه فراجع.

ثمّ إنّه إذا قلنا بمقالة القوم من أنّه يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي كون جميع الأطراف داخلة في محلّ الابتلاء فلا كلام ، كما أنّه إذا قلنا بعدم اعتبار أزيد من القدرة العقليّة فلا كلام أيضا.

__________________

(١) انظر المنتهى ٢ : ١٧ ، والتذكرة ١ : ١٤٣ ، والطهارة للشيخ الأنصاري ٢ : ٩٣ ، وغيرها.

٣٧٢

وأمّا إذا شككنا في أنّه هل يعتبر وراء القدرة العقلية شيء أم لا؟ فهل يمكن التمسّك بإطلاق الخطاب أم لا؟ ذهب الشيخ قدس‌سره إلى التمسّك بإطلاقات خطاب تحريم النجس مثلا لو كان العلم الإجمالي بالنجاسة (١).

وأشكل عليه الآخوند قدس‌سره بأنّ التمسّك بالإطلاق إنّما هو فرع إمكان الإطلاق والكلام بعد في إمكانه ؛ لأنّه لو كان بعض الأطراف غير مقدور عرفا لا يعقل وجود الإطلاق (٢).

وردّ عليه الميرزا النائيني قدس‌سره بأنّ التمسّك بالإطلاق في المقام ممكن وبه يحرز الإمكان في مقام الثبوت (٣) وبعبارة اخرى الثبوت غير معلوم الإمكان ولكن بالإثبات يحرز معلوميّة إمكانه ، فإنّ رفع اليد عن الظهور باحتمال اعتبار شيء وراء القدرة العقليّة وهو الخروج عن القدرة العاديّة لا يرتضيه عاقل ، نعم لو احرز أنّه معتبر فلا يمكن حينئذ التمسّك بالإطلاقات ، مثلا آية النبأ ظاهرة في حجّيّة خبر الواحد فلا يرفع اليد عن ظهورها في حجّيّة خبر الواحد ، لاحتمال استحالة جعل الحجّيّة له بمجرّد قول ابن قبة إنّه تحليل للحرام وتحريم للحلال.

وبالجملة ، فقد استقرّ بناء العقلاء على الأخذ بظهور كلام المولى ما لم يثبت استحالته ، مثلا إذا قال المولى : «أكرم العلماء» ونحتمل أن يكون في إكرام الفسّاق من العلماء قبحا يوجب استحالة أمر المولى بإكرامهم ، فلا يسعنا ترك إكرام الفسّاق منهم بمجرّد هذا الاحتمال بل يتمسّك بإطلاق إكرام جميع العلماء قطعا.

وكذا الكلام لو اشترطنا عدم الخروج عن محلّ الابتلاء ولكن تردّد مورد بين كون تمام أطرافه داخلة أم لا من جهة الشبهة ، كما لو علمنا بأنّ الطرف لو كان في بلد

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٢٣٨.

(٢) كفاية الاصول : ٤١٠.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٣٥ ـ ٤٣٦.

٣٧٣

آخر كان خارجا ، وشككنا فيما هو في البلد أنّه خارج عن محلّ الابتلاء أم داخل ، فإنّه يكون من قبيل الشكّ في زيادة التقييد منتفيا بالأصل.

وأمّا إذا شككنا في مصداق من مصاديق أطراف العلم الإجمالي أنّه مقدور أم لا ، مثلا نعلم إجمالا بنجاسة أحد الثوبين إمّا ثوبي وإمّا ثوب فلان البغدادي وأنا أشكّ في كونه تحت قدرتي عقلا أم لا ، فهل يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزا فيحرم الصلاة في هذا الثوب الّذي هو ثوبي أم لا يكون منجّزا؟ وهل يمكن التمسّك بالإطلاق في المقام أم لا؟ وحيث ذكرنا أنّه لا يمكن التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة وإن كان المخصّص لبيّا فلا يجوز التمسّك بالإطلاق فيه أصلا خصوصا مثل موردنا ممّا يكون المخصّص بمنزلة اللفظي المتّصل ، وحينئذ فلا يمكن التمسّك بإطلاق تحريم النجس لاحتمال عدم كونه مقدورا ، فيكون توجّه التكليف نحوه لغوا ، فيكون توجّه التكليف نحو الطرف الآخر الّذي هو ثوبي مشكوكا لاحتمال كون النجس هو ثوب البغدادي ، فيكون نجاسة ثوبي مشكوكة بدوا فتجري فيها أصالة الطهارة لعدم المعارض لها ، لعدم جريانها في الطرف الثاني لعدم قابليّته للتكليف وضعا ورفعا.

وبهذا ظهر أنّ موارد الخلاف بيننا وبين القائلين باعتبار كون جميع الأطراف داخلة في محلّ الابتلاء تكاد تكون معدومة ؛ لأنّ كلّما زعموا أنّه خارج عن محلّ الابتلاء هو مشكوك القدرة عندنا فلا يمكن التمسّك فيه بإطلاق الخطاب ؛ لأنّ الشبهة مصداقيّة والمخصّص لبّي بمنزلة المتّصل فتجري فيه بالنسبة إلى الطرف المقدور الاصول ؛ لأنّها لا معارض لها. فعلم أنّ نتيجة ما ذكرنا متّحد مع نتيجة ما ذكره القوم إلّا أنّا نختلف في طريقها فإنّهم يقولون بعدم التنجيز للخروج عن محلّ الابتلاء ، ونحن نقول بعدم التنجيز للشكّ في القدرة.

(وما قدّمناه في الشبهة الحكميّة من عدم جواز الرجوع إلى البراءة في الشكّ في القدرة على المأمور به إنّما هو إذا احرز وجود الغرض الملزم من الشارع ، إذ الغرض

٣٧٤

الملزم لازم التحصيل كالتكليف فلا بدّ من الفحص عن القدرة عليه ، ولا يكتفى باحتمال عدم القدرة وليس في المقام إحراز لفوات الغرض الملزم لو ترك الطرف المقدور ، لاحتمال حصوله بترك الطرف المشكوك مقدوريته) (١).

بقي أمران :

أحدهما : أنّه كما لا يكون العلم الإجمالي منجّزا إذا كان بعض الأطراف ممتنعا عقلا فهل يكون المنع الشرعي كالمنع العقلي أم لا؟ فلو كان بعض الأطراف ممنوعا شرعا منه ، مثلا إذا كان عنده إناءان أحدهما المعيّن مغصوب ثمّ وقعت قطرة دم إمّا في المغصوب وإمّا في الإناء الآخر فهل ينجّز مثل هذا العلم الإجمالي؟ الظاهر عدم التنجيز ؛ لأنّ الإناء الثاني محرّم الاستعمال فلا يتوجّه نحوه تحريم آخر ، ومن المحتمل أن يكون هو النجس فلا يعلم التكليف الحادث بوقوع القطرة ، لاحتمال أن لا يحدث تكليف لي بوقوعها فيكون الطرف الآخر مجرى للاصول من غير معارض.

الثاني : أنّ أطراف العلم الإجمالي إن كانت طوليّة فهل يقتضي العلم الإجمالي التنجيز بالنسبة إليها أم لا؟ مثلا إن علم بنجاسة إمّا في الماء أو التراب المنحصرين عنده ، فهل يكون العلم الإجمالي بالنسبة إليهما منجّزا فيكون فاقدا للطهورين فيجري عليه حكمه أم لا يكون منجّزا فيتيمّم أم يتوضّأ أم يجمع احتياطا؟

ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى الثاني ووجوب الوضوء بتقريب أنّ العلم بالنجاسة لا أثر له بالنسبة إلى التراب ؛ لأنّ التراب لو كان نجسا فلا تكون نجاسته مانعة عن التيمّم بل به لا يجوز له التيمّم به حينئذ لكونه واجدا للماء ، وحينئذ فلا تجري أصالة الطهارة في التراب حتّى تعارض أصالة الطهارة في الماء لعدم أثر لها في التراب ، فتجري أصالة الطهارة في الماء بلا معارض فيجب عليه حينئذ الوضوء (٢).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٣٩.

٣٧٥

ونحن نقول : إنّ اعتبار كون الأطراف عرضيّة وإن كان صحيحا في أطراف العلم الإجمالي ، فالكبرى وهي اعتبار العرضيّة مسلّمة فلا ينجّز إذا كانت طوليّة ، إلّا أنّ في كون المقام ممّا كانت الأطراف فيه طوليّة محلّ تأمّل.

بيان ذلك : أنّ التراب الّذي هو أحد أطراف المعلوم نجاسته إمّا أن يكون السجود عليه ممكنا ، أو لا يكون ممكنا.

فإن كان السجود عليه ممكنا فالتراب لنجاسته أثر قطعا وهو حرمة السجود عليه ، فيكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ العلم بالنجاسة ذو أثر قطعا ؛ لأنّ النجس إن كان هو الماء فلا يجوز شربه ولا التوضّؤ به ، وإن كان هو التراب فلا يجوز السجود عليه ، وحينئذ فلا يمكن جريان الاصول فيهما لتعارضها حينئذ ، ولا في بعضها ؛ لأنّه ترجيح من غير مرجّح فتساقط الاصول ، وبعد تساقطها يصير فاقدا للماء بحكم الشارع ، فيجب عليه التيمّم بذلك التراب قطعا لجريان أصالة الطهارة فيه بالنسبة إلى جواز التيمّم وتفكيك الاصول بحسب الآثار غير عزيز.

وإن كان التراب لا يمكن السجود عليه ويمكن التيمّم به كما إذا كان جدارا أو كان مملوكا لمن لا يجوّز السجود عليه ويجوّز التيمّم به أو كان المكلّف مكلّفا بالإيماء ، ففي مثل هذه الموارد يتمّ ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره ويجب عليه الوضوء لعدم معارض لجريان أصالة الطهارة فيه حينئذ.

فما ذكروه من اعتبار كون الأطراف عرضيّة وإن كان صحيحا إلّا أنّ عدم كون الأطراف عرضيّة فيما أمكن السجود عليه ممنوع ، نعم هو تامّ فيما لا يمكن السجود عليه ، فافهم وتأمّل.

هذا ما ذكرناه في بادئ النظر ، ولكنّ هذا المكلّف كما أنّه عالم بوجوب اجتناب أحدهما عالم أيضا بوجوب أحد الأمرين من الوضوء والتيمّم ولا مجال للاكتفاء بالتيمّم في الفرض الأوّل وهو فرض إمكان السجود على التراب أو أثر آخر غيره ؛

٣٧٦

لأنّ التيمّم إنّما شرّعه الشارع المقدّس حيث يفقد الماء حقيقة أو يفقده شرعا ، كما إذا كان الماء موجودا وكان مانع من استعماله كخوف عطش أو سبع يفترسه إن ذهب ليأتي به أو يحكم العقل بقبح الوضوء كما قيل فيما إذا علم بغصبيّة أحد الإناءين ، فهنا العقل يحكم بأنّه فاقد ، لقبح الوضوء بماء يحتمل بغض الشارع له (*) أو يبيح الشارع التيمّم له كما في الإناءين المشتبهين بالنجس حيث حكم بأنّه يهريقهما ويتيمّم ، وليس المقام أحد هذه الامور إذ لا فقد حقيقة ولا شرعا ولا عقلا ، إذ إنّ الوضوء بالماء النجس ليس حراما ذاتيّا ، بل لا يكون متطهّرا لو توضّأ به ، وليس كالغصب الّذي يبغضه الشارع ، ولا ممّا رخّص في التيمّم مع وجوده كالمشتبهين بالنجس ، وحينئذ فلا بدّ من ضمّ التيمّم إلى الوضوء والإتيان بهما رجاء ، وخصوصا إذا قدّم التيمّم ثمّ توضّأ لئلّا يبتلّ بنجاسة أعضاء التيمّم بناء على اعتبار الطهارة فيها ، وحينئذ فيكون بدنه ملاقيا لأحد أطراف الشبهة المحصورة وسيأتي أنّه لا يحكم بنجاسته.

فتلخّص أنّ الأقوال أربعة :

أحدها : أنّه فاقد الطهورين ، وهذا باطل بالوجدان ؛ لأنّه واجد قطعا.

الثاني : لزوم الوضوء ، وهو باطل ؛ لأنّ العلم الإجمالي بوجوب الوضوء والتيمّم منجّز.

الثالث : لزوم التيمّم وحده ، وهو باطل ؛ لأنّه ليس فاقدا للماء بما قرّبناه.

الرابع : الاحتياط والإتيان بهما معا ، وهذا هو الأقوى ، فتأمّل فإنّه دقيق.

__________________

(*) كما ذهب إليه بعضهم. ولكن يمكن أن يقال : إنّه ليس بفاقد للطهورين ؛ لأنّه كما يعلم غصبيّة أحدهما يعلم إباحة الثاني فهو واجد الطهور قطعا ، فالظاهر أنّه من قبيل دوران الأمر بين المحذورين فيكتفي بالموافقة الاحتماليّة فيتوضّأ حينئذ بأحدهما. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

٣٧٧

(ولو علم إجمالا أنّه إمّا التراب مغصوب أو الماء نجس ، فهنا أيضا تتعارض أصالة الطهارة مع أصالة الإباحة ويكون من دوران الأمر بين المحذورين ، فتجب الموافقة الاحتماليّة إلّا أنّه يتعيّن هنا الماء لعدم المبغوضيّة في استعماله بخلاف التراب لاحتمال الإثم من جهة الغصب ، ولو انعكس المثال انعكس الحكم) (١).

ملاقي بعض أطراف الشبهة

ويقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في الملاقي بعد تنجيز العلم الإجمالي ، وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من تمهيد مقدّمة هي : أنّ العلم الإجمالي :

ـ تارة يتعلّق بالحكم كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، وفي مثله لا محيص عن تنجّزه لتساقط الاصول في جميع الأطراف بتعارضها ، ولا يمكن جريانها في البعض دون الآخر ؛ لأنّه ترجيح من غير مرجّح.

ـ وتارة يتعلّق بموضوع ذي حكم وهو :

ـ تارة يكون تمام الموضوع للحكم كما إذا علم بخمر مردّد بين الإناءين بالنسبة إلى حرمة شربه فإنّ الخمر تمام الموضوع بالنسبة إلى حرمة شرب الخمر ، وفي مثله أيضا تتساقط الاصول فينجّز العلم الإجمالي ؛ لأنّ وجود الموضوع ذي الحكم في الخارج قطعا وجود لحكمه قطعا ، فالتكليف محرز قطعا ولا مؤمّن لتساقط الاصول.

ـ واخرى يكون بعض الموضوع فلا يكون العلم الإجمالي منجّزا ، وفي الحقيقة ليس لنا علم بالتكليف ؛ لأنّ المكلّف لا علم له بوجود تمام الموضوع للحكم وإنّما علم بجزئه ، ومع العلم بالجزء لا علم بالتكليف الّذي يكون موضوعه مركّبا من الجزء المحرز والجزء المشكوك ، ومثاله ما لو علم وجود الخمر في أحد الإناءين فشرب

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٧٨

شخص أحد الإناءين ، فبالنسبة إلى إقامة الحدّ على الشارب ليس وجود الخمر وحده موضوعا كحرمة الشرب بل الموضوع لإقامة الحدّ شرب الخمر ، ولم يحرز شرب الخمر لاحتمال كون الشارب شرب الماء ، وكقاتل أحد الشخصين اللذين علم الحاكم الشرعي أنّ أحدهما مسلم والآخر حربيّ مهدور الدم ، فليس للحاكم الشرعي قتله قصاصا لعدم العلم بكونه قتل مسلما.

ومن هنا وقع الكلام فيما لو علم إجمالا بغصبيّة إحدى الشجرتين الموجودتين في دار زيد فبالنسبة إلى حرمة التصرّف فيهما أو في أحدهما تمام الموضوع موجود وهو وجود المغصوب في الخارج فينجّز.

وأمّا بالنسبة إلى ثمر إحدى الشجرتين لو أثمرت دون صاحبتها فقد ذهب جماعة (١) إلى عدم تحريم أكل ثمر المثمرة لو لم يستلزم التصرّف فيها ؛ لأنّ الثمرة لم يتعلّق بها العلم الإجمالي كأصلها لعدم وجود ثمرة في صاحبتها فيجوز الأكل منها.

وقد أشكل عليهم الميرزا النائيني قدس‌سره بأنّ الثمرة تكون مضمونة ويحرم أكلها أمّا ضمانها فلأنّ الثمرة تابعة للأصل ، ومن ثمّ ضمن الغاصب العين المغصوبة ومنافعها فالمنافع تابعة للعين في أصل الضمان ، وأمّا الحكم بتحريم الأكل فلأنّ ملاك حرمة التصرّف في مال الغير موجود من حين العلم بغصبيّة إحداهما فهو يعني حرمة التصرّف في الثمرة لم يكن فعليّا لعدم موضوعه لكن ملاكه كان موجودا عند العلم بالغصبيّة ويكفي وجود الملاك في التحريم (٢).

ولا يخفى عليك ما في كلامه في ردّ هذه الشبهة.

__________________

(١) وفي مصباح الاصول : (فقد يقال فيه) ولم نقف على قائله ، انظر مصباح الاصول ٢ : ٤٠٧ ، وفوائد الاصول ٤ : ٤٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٤٠ ـ ٤٤١.

٣٧٩

أمّا في تحقّق الضمان فلأنّ المنافع وإن كانت تابعة لأصل العين إلّا أنّها حيث تكون موجودة أمّا لو لم تكن موجودة فلا ؛ إذ الضمان إنّما هو لملك الغير ولا ملك للثمرة قبل حصولها أصلا.

وثانيا فلأنّ الشجرة المثمرة لم يعلم كونها هي المغصوبة حتّى يكون حكمها الضمان فتتبعها الثمرة.

وأمّا ما ذكره من التحريم لتحقّق الملاك فكلام لم نفهم له معنى ؛ إذ قبل وجود الثمرة أيّ معنى لتحقّق ملاك تحريمها؟ وهل هو إلّا حرمة التصرّف في ملك الغير الّذي هو بعد تحقّق الملكيّة المنتفية قبل وجود الثمرة وبالنسبة إلى الشجرة ، فالحكم فعلي بالنسبة إلى إحداهما قطعا فأيّ معنى للملاك؟ فإن أراد بالنسبة إلى الثمرة فالملاك موقوف على تحقّق ملك للغير حتّى يحرم التصرّف فيه ، وبعد وجود الثمرة الحكم فعلي ، فأيّ معنى للملاك حينئذ؟ على أنّه بالنسبة إلى كونها ملك الغير حتّى بعد بروزها غير معلوم.

وبالجملة ، فما أفاده في الجواب لم يظهر له معنى محصّل.

فالّذي ينبغي أن يقال : إنّ الشجرتين اللتين يعلم غصبيّة إحداهما إن كانتا مسبوقتين بكونهما ملكا للغير بأن كانا ملك الغير ثمّ اشترى إحداهما واغتصب الاخرى واشتبها ، فبالنسبة إلى ذات الثمرة يجري استصحاب ملك الغير لها فيثبت أنّها ملك الغير ويجري على الشجرة أحكام ملك الغير ، ومن أحكامه الشرعيّة ضمان منافعه وحرمة التصرّف فيها وليس ذلك من باب تنجيز العلم الإجمالي حتّى يقال : إنّ الثمرة لم تكن موجودة عند تساقط الاصول فالأصل بالنسبة إليها سالم عن معارض بل من باب الاستصحاب.

ولا يعارض هذا الاستصحاب الاستصحاب في الثاني لعدم الأثر العملي المترتّب على مخالفتهما للمعلوم الإجمالي ، وقد ذكرنا مرارا أنّ جريان الأصلين في الطرفين حيث يكون موافقا للاحتياط ولا يلزم منه مخالفة عمليّة لا بأس به والمخالفة المقطوعة بعد جريانهما لا أثر لها.

٣٨٠