غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

لولاها لكان لها حكم شرعي فيكون استعمال هذه الهيئة نافيا لكون هذا الفرد من تلك الطبيعة ، لتخصّصه بخصوصيّة أوجبت خروجه منها مثل : «لا غيبة لمن ألقى جلباب الحياء» (١) فإنّ الغيبة بطبيعتها وهي «ذكرك أخاك بما يكره» (٢) محرّمة بحسب الشرع المقدّس إلّا أنّ غيبة من ألقى جلباب الحياء تخصّصت بخصوصيّة أوجب أن يحكم الشارع بأنّ تلك الطبيعة غير منطبقة على هذا الفرد ، فإذا لم يكن من أفرادها بحكم الشارع لا يثبت لها حكم تلك الطبيعة. واستعمال هذا التركيب في نفي انطباق الطبيعة الكلّية على هذا الفرد ـ لتخصّصه بخصوصيّة أوجبت ذلك ـ في غاية الكثرة مثل قوله : «لا شكّ لكثير الشكّ» (٣) وقوله : «لا سهو في سهو» (٤) ، «لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام» (٥) ، «لا يمين للزوجة بدون إذن الزوج» (٦) ، «لا ربا بين الوالد وولده» (٧) ، و «لا ربا بين الزوج وزوجته» (٨) ، «لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق» (٩) ، «لا بيع إلّا في ملك» (١٠) ، «لا عتق إلّا في ملك» (١١) ،

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٩ : ١٢٩ ، الباب ١٣٤ من أبواب أحكام العشر ، الحديث ٣.

(٢) تنبيه الخاطر : ١٢٦ ، وكشف الريبة : ٥٢.

(٣) لم يرد بعينه في الأخبار وهو مصطاد منها انظر القواعد الفقهيّة للبجنوردي ٢ : ٢٩٥ ـ ٣٢٦.

(٤) وسائل الشيعة ٥ : ٣٤١ ، الباب ٢٥ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٥) انظر الوسائل ٥ : ٣٣٨ ، الباب ٢٤ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٦) انظر الوسائل ١٦ : ١٢٨ ، الباب ١٠ من كتاب الأيمان.

(٧) انظر الوسائل ١٢ : ٤٣٦ ، الباب ٧ من أبواب الربا ، الحديث ١ و ٣.

(٨) المصدر السابق : الحديث ٥.

(٩) نهج البلاغة : الحكمة ١٦٥.

(١٠) لم نعثر عليه بعينه ولكن ورد : لا يجوز بيع ما ليس بملك ، الوسائل ١٢ : ٢٥٢ ، الباب ٢ من أبواب عقد البيع.

(١١) عوالي اللآلي ٣ : ٤٢١ ، الحديث ٣ ، باب العتق.

٤٨١

«لا يمين للمملوك بدون إذن سيّده» (١) وغيرها ، وهي كثيرة جدّا ، وهذا هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

ويستعمل ثالثة في نفي شيء في الشرع كان في الشرائع السابقة محكوما بحكم أو كان قبل الشرع مستعملا ببناء العقلاء ، فيكون نفيه بمعنى نفي ما كان من الحكم في الشرائع السابقة أو ببناء العقلاء ، وذلك مثل «لا رهبانيّة في الإسلام» (٢) فحكم الرهبانيّة في الشرائع السابقة كان محبوبا فالشارع ينفي محبوبيّته في الإسلام ، وهذا لا يوجب حرمته ، ومثل «لا نجش في الإسلام» (٣) فهذا يوجب رفع حكم النجش الثابت ببناء العقلاء وهو الإباحة ، فيرفع إباحته مثلا وهكذا ....

ويستعمل رابعة في نفي شيء من الشرع لا لأجل أنّه كان في الشرائع السابقة وكان بناء العقلاء عليه فهو ينفيه ، بل لأنّ هذا الشيء قد يكون الشارع بما هو شارع سببا له أو يكون المكلّف سببا له فهو ينفي كون المكلّف سببا؟؟؟ له ، مثل قوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٤) فإنّه ظاهر في أنّه ليس في القانون الإسلامي شيء يوجب الحرج ، وهذا بخلاف القسم الثالث فإنّ الشيء المنفيّ فيه هو ما يكون الإنسان بنفسه سببا له وليس لله فيه مدخل أصلا.

إذا عرفت أنّ استعمال لا ضرر قد يكون بهذه الأنحاء الأربعة ، فيبقى الكلام في أنّها من أيّ الأنحاء المذكورة فنقول : إنّ كونها من قبيل الثالث والثاني فمقطوع العدم ؛ لأنّه ليس نفيا للانطباق ، كما ليس الضرر محكوما بحكم في الشرائع السابقة. وإنّما الكلام أنّه من قبيل الأول أو الرابع فنقول : إنّ كونه من قبيل الأوّل وإن كان

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ١٢٨ ، الباب ١٠ من كتاب الأيمان ، الحديث ١ و ٢ و ٣.

(٢) سبق تخريجه آنفا.

(٣) كتاب العين ٦ : ٣٨.

(٤) الحج : ٧٨.

٤٨٢

ممكنا ومستعملا إلّا أنّه ينافي قوله : «في الإسلام» فإنّه ظاهر في أنّه ليس من قوانين الإسلام لا أنّه في مقام النهي عنه ، بل الظاهر أنّه في مقام بيان القوانين الإسلاميّة.

(إلّا أن يقال : إنّ إضافة «في الإسلام» لم تثبت بنحو يصحّ أن يعتمد عليه ، وحينئذ فحمل ظهور النفي على النهي خلاف الظاهر لا يصار إليه إلّا بقرينة مفقودة في المقام وإن وجدت في مثل : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وهو لزوم الكذب لو لم يحمل على النهي) (١) ، مضافا إلى أنّه محتاج لإثبات كونه في مقام ادّعاء وجود مقتضي العدم وانتفاء مانعة ، مضافا إلى التوالي الفاسدة المتقدّمة الذكر من منع تحريم مطلق الضرر وغيرها. فيتعيّن الرابع وهو نفي الحكم.

بقي الكلام في أنّه نفي للحكم بلسان نفي الموضوع ، أو نفي للحكم رأسا.

الظاهر هو الثاني ؛ لأنّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع وإن كان ممكنا لكنّه في مثل : «لا ربا بين الوالد وولده» فما يكون للموضوع حكم مع قطع النظر عن «لا ربا» فيكون «لا ربا» نفيا للحكم بلسان نفي الموضوع إلّا أنّه غير ممكن في المقام :

أمّا أوّلا : فلأنّ الموضوع في «لا ضرر» هو الضرر فيكون معنى نفي الحكم بلسان نفي الموضوع نفي حكم الضرر وحكمه الحرمة ، فيكون معناه نفي حرمة الضرر ، وهو يؤدّي إلى ضدّ المقصود ولا ينطبق على مورد رواية سمرة أيضا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الموضوع من قبيل المقتضي للحكم ، فالضرر سواء كان تمام الموضوع أو جزءه ممّا يقتضي ثبوت حكمه فكيف يكون مانعا عن ثبوت حكم نفسه؟ فلا يمكن أن يكون من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أصلا ، بل يكون ممّا رفع فيه أصل التشريع والجعل نظير قوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ويكون الضرر بما أنّ الجعل من قبل الشارع يوجب الامتثال من قبل العبد المطيع ، فيكون الشارع كأنّه هو الملقي له في الضرر ويكون نفيه نفيا لما يكون سببا للإلقاء في الضرر.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

٤٨٣

ولا يقاس برفع الخطأ والنسيان ؛ لأنّ الخطأ والنسيان لا يمكن رفع حكمهما المترتّب عليهما ؛ لأنّ الأحكام المرتّبة على الخطأ والنسيان بعنوانهما لا يرتفعان قطعا ، فلا بدّ من إرادة أحكامهما لو لا الخطأ والنسيان ، وليس الخطأ والنسيان الشارع هو المسبّب لهما حتّى يرفعهما ، بخلاف الضرر فإنّ منشأه جعله ، مضافا إلى أنّ الخطأ والنسيان هما المسبّبان للفعل الخطئي أو النسياني فيمكن رفعهما وإرادة رفع الشيء والأثر المسبّب عنهما ، بخلاف الضرر فإنّه ليس سببا للفعل ، فإذا رفعه واريد رفع الأثر الناشئ منه يكون معناه الرفع للشيء حال الضرر ومثله لا يصحّ رفعه برفع الضرر ؛ لأنّه يكون من قبيل رفع الشيء برفع ظرفه وهذا ليس بصحيح ، مثلا لا يقال في لا صوم في السفر لا سفر.

(مضافا إلى أنّ مفاد قوله : «رفع عن امّتي الخطأ والنسيان» (١) ، كون الخطأ والنسيان مؤاخذا عليهما في الشرائع السابقة ، وقد ذكرنا أنّ المؤاخذة عليهما ليس خروجا عن قانون العدل لإمكان الأمر بالتحفّظ ، وحينئذ فتكون تلك الأحكام هي المرفوعة في هذه الشريعة ، وهذا بخلاف الضرر فإنّه لا حكم له إلّا التحريم في جميع الشرائع ورفعه نقيض المقصود) (٢).

ثمّ إنّه بعد ما ذكرنا من أنّه معنى لا ضرر ليس إلّا نفيا لجعل الحكم الّذي ينشأ منه الضرر نظير نفي الحرج يستفاد منه تحريم إضرار شخص لآخر أيضا ؛ لأنّه لو لا التحريم لكان مرخّصا في ذلك والترخيص في ذلك حكم ينشأ منه الضرر.

فتلخّص أنّ لا ضرر يستفاد منها تحريم الإضرار بل لا بدّ من ذلك ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طبّقها على تحريم إضرار سمرة بذلك الأنصاري (*).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١ و ٢.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(*) والإنصاف أنّ تحريم الإضرار بالغير وإن كان مسلما إلّا أنّ الاستدلال عليه بلا ضرر غير تامّ ؛ لأنّ الحكم الترخيصي بالإضافة إلى المطيع ليس علّة تامّة للفعل ، بل له أن يترك ،

٤٨٤

فتلخّص أنّ معنى لا ضرر نفي جعل الحكم الّذي يكون جعله منشأ للضرر ، سواء في ذلك الأحكام التكليفيّة والوضعيّة.

وينبغي التنبيه على امور :

[التنبيه] الأوّل : أنّ الضرر موضوع كسائر الموضوعات الخارجيّة الكلّية لا بدّ من تحقّقه وتحقّق مصداقه في رفعه ، وحينئذ ففي كلّ مورد تحقّق انطباق هذا العنوان الكلّي عليه يكون الحكم فيه مرفوعا وغير مجعول ، فلا مجال للقول بكون الضرر النوعي كافيا في رفع الحكم ؛ لأنّه لو كان الحكم بوجوب الصوم مثلا ذا ضرر نوعي لحرارة الهواء مثلا واتّفق أنّ شخصا لا يتضرّر به أصلا فهل يفتي أحد بجواز الإفطار لهذا الشخص؟ كلّا ثمّ كلّا ، لعدم انطباق ذلك العنوان الكلّي عليه.

نعم ، ربما ذكروا في الشفعة الالتزام بحدوث حقّ الشفعة ؛ لأنّ عدمها ضرر نوعا ولورود لا ضرر في الشفعة (١) كما ذكروا في خيار الغبن أنّ الالتزام بلزوم العقد ضرر ولا ضرر ولا ضرار (٢) ومعلوم أنّ الضرر في المقامين نوعي ؛ لإمكان كون مشتري الشقص أحسن من بائعه سيرة مع الشريك السابق ؛ ولإمكان كون الغبن المستدعي للفسخ موجبا لتضرّره لقلّة رغبة الناس إليه أو لنزول سعره مثلا عمّا باعه به أوّلا مع الغبن ، كما إذا كان بمائة فباعه بثمانين ثمّ صار بخمسين مثلا.

ولكنّ الإنصاف أنّ الشفعة حكمتها الضرر ، ولا ضرر كما ذكرنا لعلّه من الجمع في الروايات لا أنّها ذيل للرواية السابقة وحكم البيع الغبني كما ذكرناه ليس مدركه

__________________

ـ وحينئذ فالفعل لا بدّ أن يستند إلى اختيار الفاعل وإرادته فليس الضرر حينئذ مستندا إلى الشارع ، نعم «لا ضرار» بمعنى لا تصدّي إذا حمل «لا» فيها على النهي ـ لكون التصدّي فعل المكلّف ـ تفيد التحريم. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

(١) الوسائل ١٧ : ٣١٩ ، الباب ٥ من أبواب الشفعة ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر التذكرة ١١ : ٦٨ ، والمكاسب للشيخ الأنصاري ٥ : ١٦١.

٤٨٥

لا ضرر ، بل إنّ مدركه الشرط الضمني ، فإنّ كلّ معاوضة ليست محاباتيّة إنّما تكون بالتبديل مع حفظ الماليّة مثلا تكون ماليّته محفوظة غير أنّ التبدّل إنّما هو بخصوصيّاته ، وحينئذ فإذا غبنه فالشرط الضمني لم يتحقّق ، ولهذا يفسخ لتخلّف الشرط ، وإلّا فلو كان المنشأ لا ضرر لما صحّ البيع أصلا فإنّ البيع هو الضرري لا اللزوم ، وإنّما جواز الفسخ تدارك للضرر ، فإنّ البيع بنفسه مع صحّته هو الموقع في الضرر والفسخ تدارك له.

التنبيه الثاني : أنّه أشكل على «لا ضرر» بلزوم تخصيص الأكثر ، فإنّ الزكاة والخمس والجهاد والحجّ والحدود والديات والضمانات ووجوب اجتناب النجس وحرمة أكله وغير ذلك كلّها ضرريّة.

وقد أجاب الشيخ الأنصاري قدس‌سره بإمكان خروجها بمخصّص واحد وهو غير مستهجن ؛ لأنّ المستهجن كثرة التخصيص بمعنى تعدّد المخصّص لا بمعنى كثرة خروج الأفراد (١).

وقد أشكل عليه الآخوند قدس‌سره بأنّ خروج الأكثر مستهجن سواء كان بمخصّص واحد أو أكثر (٢).

وهو الحقّ فإنّ التعبير بعامّ مع خروج أكثر أفراده قبيح قطعا (فيما هو من نظير المقام ممّا كانت القضيّة فيها خارجيّة فإنّ نظر «لا ضرر» إلى الأحكام الّتي هي أحكام لهذه الشريعة المقدّسة) (٣).

فالتحقيق أن يقال : إنّ خروج هذه الموارد من باب التخصّص لا من باب التخصيص ؛ لأنّ حديث «لا ضرر» ناظر بمقتضى مورده إلى الأحكام الغير المبنيّة

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٥.

(٢) انظر درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢٨٤.

(٣) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية للدرس.

٤٨٦

على الضرر ، أمّا الأحكام المبنيّة على الضرر فهو غير ناظر لها أصلا ، بمعنى أنّ الأحكام الّتي قد تكون ضرريّة وقد لا تكون ضرريّة هي الّتي تجري فيها قاعدة «لا ضرر» كدخول دار الأنصاري للعذق فإنّ الدخول لما هو مملوك له جائز بحكم الشرع المقدّس ، فما هو جائز إذا اتّفق أن طرأ عليه أنّه صار ضرريّا يرتفع حكمه ، أمّا الأحكام المبتنية على الضرر فغير مشمول لحديث «لا ضرر» حتّى يحتاج خروجه إلى التخصيص ، مع أنّ باب الخمس لا ضرر فيها ؛ لأنّه لم يملك الربح كلّه حتّى يكون وجوب أدائه للخمس ضررا وإنّما ملك ما عدا مقدار الخمس من المال ، فهل ترى أن أداء مال الغير لصاحبه ضررا؟

(وأمّا الزكاة فهي وإن كان وجوبها ضرريّا لخروج المال بعد الحول أو بعد بدوّ الصلاح أو التسمية عن ملكه إلى ملك الفقراء إلّا أنّه مبنيّ على الضرار فلا يشمله حديث رفع الضرر) (١).

كما أنّ باب الجنايات والضمانات لا يشملها حديث لا ضرر أيضا ؛ لأنّه امتناني وليس في جريانه في موارد الإتلاف والجناية امتنان على المجنيّ عليه أو المتلف منه ، فيكون حديث «لا ضرر» حينئذ انتقاميّا له وإن كان امتنانيّا للجاني والمتلف.

وبالجملة ، يلزم أن لا يكون في مورده شيء ينافي الامتنان.

وأمّا الدهن المتنجّس وغيره فإن قلنا بأنّ حديث «لا ضرر» مختصّ بنقص المال فمعلوم أنّ هذا لم ينقص ماله ؛ لأنّه ملكه وإن تنجّس ، وإن قلنا بشموله لنقص الماليّة فيكون هو بنفسه مخصّصا لهذا الحديث المبارك ، كما أنّ شراء ماء للوضوء ولو بأضعاف قيمته يكون مخصّصا و؟؟؟ الغسل إذا؟؟؟ الجنابة على القول به أيضا يكون مخصّصا له.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية للدرس.

٤٨٧

ومع تسليم كون هذه الموارد بأسرها ضرريّة خارجة من عموم لا ضرر فهو أيضا ليس تخصيصا للأكثر قطعا ؛ لأنّ «لا ضرر» تجري حتّى في هذه الموارد بالنسبة إلى ما زاد على هذا الضرر ، مثلا لو كان أداء الخمس يستدعي ضررا بدنيّا لا إشكال في سقوطه أو كان الوضوء بماء ـ مضافا إلى أنّه يستدعي ثمنا أضعاف قيمته ـ مستوجبا للتضرّر البدني يسقط وجوبه حينئذ قطعا ، وكذا في الجنايات والضمانات ؛ ولذا لم يحكموا بالقصاص فيما يكون قابلا للزيادة والنقيصة في الاقتصاص.

وبالجملة ، فخروج هذه الموارد منه ـ لو سلّم أنّها ضرر ومشمول للحديث ـ ليس تخصيصا للأكثر قطعا ، فافهم.

التنبيه الثالث : ربّما يتوهّم كون النسبة بين أدلّة الأحكام وقاعدة لا ضرر عموما من وجه ؛ لأنّ أدلّة الأحكام تقتضي وجوب متعلّقها مثلا مطلقا سواء كان ضرريّا أم لا ، وقاعدة «لا ضرر» بالنسبة إلى كلّ مورد تقتضي نفي الضرر سواء كان في ذلك الحكم أم لا فيجتمعان في ذلك المورد حيث يكون ضرريّا ، وحينئذ فلا بدّ من الخروج عن التعارض بينهما بوجوه :

أحدها : ترجيح أدلّة «لا ضرر» لانجبارها بفتوى المشهور فتتقدّم لذلك على غيرها ، ومع عدم الشهرة أو عدم إحرازها فالحكم بالتساقط والرجوع إلى قاعدة البراءة حيث يتعارضان أو الاستصحاب.

الثاني : دعوى كون التعارض تعارض العموم المطلق ؛ لأنّ «لا ضرر» يعارض الأحكام كلّها بنحو المجموع دفعة فلا بدّ من تقديمه لأخصّيته.

الثالث : دعوى كون التعارض عموما من وجه إلّا أنّ التقديم لقاعدة لا ضرر من جهة أنّ تقديم أدلّة الأحكام يوجب عدم المورد لها ، وتقديمها لا محذور فيه ، وتقديمها على بعض دون بعض ترجيح من غير مرجّح ، فيتعيّن الوسط وهو تقديمها.

٤٨٨

الرابع : ما ذكره الآخوند قدس‌سره من كون لا ضرر مبيّنة للحكم الفعلي في مورد الضرر وكون أدلّة الأحكام مثبتة للحكم الاقتضائي في مورد الضرر ، مدّعيا أنّ الفهم العرفي يوفق بما ذكره بين هذين المتعارضين (١).

ولا يخفى أنّ هذه الوجوه كلّها مبنيّة على التعارض بين أدلّة الأحكام وحديث نفي الضرر ، والتعارض غير صحيح لما سنبيّنه إن شاء الله. فهذه الوجوه تكون باطلة لبطلان أساسها ، مضافا إلى أنّا لو قلنا بالتعارض لا يتمّ الوجه الأوّل ؛ لأنّ الشهرة في الفتوى لا تصلح مرجّحا وإنّما المرجّح الشهرة في الرواية ولا معنى لادّعائها في العامّين من وجه. والرجوع إلى البراءة للتساقط لا ينفي وجوب الوضوء فبأيّ دليل يجب التيمّم؟ لأنّ نفي وجوب الوضوء الضرري بأصل البراءة لا يثبت وجوب التيمّم إلّا بالأصل المثبت بخلاف ما إذا نفي بحديث «لا ضرر» فإنّه ناظر إلى الحكم الواقعي فيثبت لازمه وهو وجوب التيمّم حينئذ.

كما لا يتمّ الوجه الثاني أيضا ؛ لأنّ قاعدة «لا ضرر» من قبيل العامّ الاستغراقي ففي كلّ مورد من موارد الأحكام تنحلّ إلى حكم إذا كان ذلك المورد ضرريّا ، وحينئذ فالتعارض من وجه لا مطلق ، ولا مجال لملاحظة مجموع أدلّة الأحكام دليلا واحدا.

كما لا يتمّ الوجه الثالث أيضا بأنّ مقتضى ما اخترناه في باب التعارض من تقدّم العموم الوضعي على الإطلاقي تقدّم ما كان عمومه وضعيّا من أدلّة الأحكام ، ومع كون عمومه إطلاقيّا يتساقطان إلى عموم أعلى إن كان أو أصل ، وعلى المشهور من تقديم الأرجح سندا مطلقا لا يكون تقديم قاعدة «نفي الضرر» على بعض أدلّة الأحكام الأوّليّة لرجحان سند القاعدة على تلك الأدلّة ، وتقديم بعض أدلّة الأحكام الأوليّة على القاعدة لرجحان سند أدلّة الأحكام على سند القاعدة ترجيحا من غير مرجّح.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٣٣.

٤٨٩

كما أنّه لا يتمّ الرابع أيضا بأنّ الحكم الاقتضائي إن اريد به المصلحة فليست هي في مساق الأحكام ولا في طرازها ، مع أنّ لا دليل على لزوم تحصيل المصالح حيث لا ضرر لفرض وحدة الدليل وكونه اقتضائيّا في الفرضين.

وإن اريد بالحكم الاقتضائي شيئا آخر فهو مع عدم تعقّله وتصوّره أصلا لا معنى له ؛ لأنّ الحكم حينئذ يكون اقتضائيّا وحينئذ فما هو الموجب لذلك الحكم في غير مورد الضرر مع عدم ظهوره في الفعليّة؟ فإنّه إن كان ظاهرا في الفعليّة لا يرفع اليد عن ظهوره لاحتمال المانع أمّا مع عدم ظهوره ـ كما هو المدّعى وحمله في مورد الضرر على الاقتضائيّة لعدم ظهوره في الفعليّة ـ فما الدليل على فعليّته في غير موارد الضرر ، مع احتمال أن يكون ثمّة مانع آخر عن الفعليّة؟ فافهم وتأمّل.

ثمّ إنّ هذا كلّه على تقدير أن يكون بينهما تعارض.

وأمّا بناء على ما سنذكره إن شاء الله من أنّ دليل لا ضرر حاكم على موارد الأحكام فينتفي حينئذ موضوع التعارض ، وتقرير ذلك أن يقال : إنّ نتيجة تعارض العامّ والخاصّ الّتي هي تقديم الخاصّ لأظهريّته دلالة على العامّ ، ونتيجة تعارض العموم من وجه الّتي هي تقديم أحدهما على الآخر من جهة أقوائيّة الدلالة هي حاصلة بالحكومة المدّعاة. وبيان ذلك يتوقّف على بيان معنى الحكومة وتطبيق المورد عليها والدليل على تقدّم دليل الحاكم على دليل المحكوم فنقول : الحكومة الواقعيّة أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى دليل الآخر وشارحا إيّاه بحيث يؤدّي بألفاظه النتيجة من تقديم الخاصّ على العامّ.

والحكومة على أنواع :

الأوّل : أن يكون الحاكم واردا بلفظ «أعني وأردت وقصدت» وهذا في غاية الندرة.

٤٩٠

الثاني : أن يكون ناظرا إلى عقد الوضع من الدليل المحكوم ومبيّنا لموضوعه إمّا موسّعا كما في قوله : «الطواف في البيت صلاة» (١) أو مضيّقا كما في قوله : «لا شكّ لكثير الشكّ» إذ ليس المراد أنّه لا يشك ؛ لأنّه فرضه كثير الشكّ ، بل المراد أنّ الحكم المترتّب على الشاكّ من البناء على الأكثر مثلا هو منفيّ عن شكّ كثير الشكّ ، فيكون قصرا لحكم الشكّ بغير كثير الشكّ وكقوله : «لا ربا بين الوالد وولده». وهذا القسم كثير جدّا في الأحكام الشرعيّة.

الثالث : أن يكون دليل الحاكم ناظرا إلى عقد الحمل من دليل المحكوم فيكون موسّعا لحكم أو مضيّقا ، وهذا لم نجد له مثالا في الأحكام الشرعيّة إلّا (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) ومثل «لا ضرر ولا ضرار» فإنّها ناظرة إلى الأحكام الموضوعة على الأشياء بعناوينها الأوّليّة فمثل «لا ضرر» تقول بأنّ تلك الأحكام إنّما تثبت في غير موارد الضرر وأمّا موارده فلا ، فهي ناظرة إلى الحكم. فالمراد بالتفسير منها هو ما ذكرنا من استفادة التوسعة منها لفظا وكذا التضييق مثلا ، وهذا هو مراد الشيخ الأنصاري من قوله : بمثل قصدت وعنيت ونحوه (٣) فإنّ هذا الّذي ذكرناه داخل في قوله «ونحوه».

فلا مجال لإيراد الآخوند بأنّ ورود «قصدت وعنيت» قليل في الشرع المقدّس (٤) فإنّه لم يقصره عليهما بل أضاف قوله «ونحوه» وهذا من نحوه.

__________________

(١) سنن البيهقي ٥ : ٨٧.

(٢) الحج : ٧٨.

(٣) انظر الفرائد ٤ : ١٣١.

(٤) لم نقف عليه في الكفاية ولا في تعليقته على الفرائد ولكن هذا الإيراد أورده النائيني رحمه‌الله انظر أجود التقريرات ٤ : ٢٨١.

٤٩١

كما لا مجال لما ذهب إليه الشيخ الأنصاري من اعتبار تقدّم دليل المحكوم على دليل الحاكم زمانا (١) لأنّه لا بدّ أن يكون ناظرا إليه ، وذلك لأنّ المعتبر إنّما هو التقدّم الرتبي بينهما لا الزماني ، وذلك لإمكان أن ينفي الحكم أو الموضوع أوّلا ثمّ يأتي بالمحكوم بعده مثلا يقول : لا شكّ لكثير الشكّ ، ثمّ يبيّن حكم الشكّ.

وقد اتّضح ممّا ذكرنا معنى الحكومة الواقعيّة وانطباق «لا ضرر» عليها ، وبقي أنّ الحكم بتقديم دليل الحاكم على دليل المحكوم مع كون النسبة بينهما هو العموم من وجه ما وجهه ودليله؟

فنقول : أمّا في الحكومة الّتي يكون دليل الحاكم متصرّفا في عقد الوضع من دليل المحكوم فواضح ، إذ لا تعارض بينهما أصلا ؛ وذلك لأنّ أدلّة الأحكام الثابتة للأشياء مثل الدليل الدالّ على حكم الشكّ وأنّه البناء على الأكثر لا يتعرّض لموضوعه وتحقّقه في الخارج وعدم تحقّقه ، وإنّما يثبت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، وأدلّة الحاكم مثل «لا شكّ لكثير الشكّ» تقول بأنّ كثير الشكّ ليس داخلا في موضوع الحكم السابق فهي تنفي كون هذا الفرد من موضوعه ، والدليل المحكوم لم يتعرّض لهذا وأنّه من أفراده حتّى تقع المعارضة بينهما ، وهذا بخلاف العامّ والخاصّ فإنّهما يتعارضان في مثل «أكرم العلماء» و «لا تكرم فسّاقهم» في زيد الفاسق فدليل «أكرم العلماء» يقتضي إكرامه ودليل «لا تكرم فسّاقهم» يقتضي العدم فتقع المعارضة.

وأمّا أنواع الحكومة الواقعيّة الباقية ـ سواء كانت ب «عنيت وقصدت» أو كانت بالتصرّف في عقد الحمل من دليل المحكوم أو كانت نفيا للحكم مثل لا ضرر ـ فوجه تقدّمه على دليل المحكوم هو الوجه في تقدّم الأدلّة الاجتهاديّة على الاصول ، فكما أنّ الأدلّة الاجتهاديّة تنفي موضوع الأصل كذلك مثل «لا ضرر» تكون نافية

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١٣ ـ ١٤.

٤٩٢

للحكم الضرري ؛ لأنّها ناظرة إلى الأحكام المجعولة للأشياء بعناوينها الأوليّة ومبيّنة للمراد منها وأنّ المراد منها الأحكام الغير الضرريّة أمّا الأحكام الضرريّة فلا ، وبهذا المناط يتقدّم حديث لا ضرر على أدلّة الأحكام ، بل وبه أيضا يتقدّم ظهور اللفظ بالمعنى المجازي على ظهوره في معناه الحقيقي بسبب القرينة المكتنفة له ؛ لأنّ ظهوره في المعنى الحقيقي إنّما هو بأصالة الظهور المنتفية مع وجود القرينة ، فافهم.

التنبيه الرابع : في أنّ المراد من «لا ضرر» هو الضرر الواقعي أم الضرر العلمي ، وقد ذكر المشهور أنّ من توضّأ لاعتقاده عدم كون الوضوء ضرريّا ثمّ ظهر أنّه ضرري وقد أضرّ به صحّت صلاته (١) كما ذكروا في خيار الغبن أن لا يكون المغبون عالما من حين شرائه بأنّه مغبون وإلّا فلا خيار له (٢).

أمّا مسألة خيار الغبن فقد أشرنا أنّ مدرك الخيار فيها ليس قاعدة «نفي الضرر» وإلّا فقد يكون الفسخ ضرريّا لو نقصت قيمته السوقيّة إلى حدّ أزيد من المقدار الّذي باعه به ، وإنّما مدرك الخيار فيه هو الشرط الضمني ؛ لأنّ بناء العقلاء على حفظ الماليّة وتبديل الأعيان ، فهو إنّما يسلّطه على الثمن على تقدير كون المثمن تساوي قيمته واقعا ثمنه ولا يسلّطه على تقدير العدم ، وحينئذ فحيث يعلم أنّ قيمته أقلّ من ثمنه الّذي يدفعه لا يشترط عليه شرطا ضمنيّا أصلا.

وأمّا مسألة الوضوء والغسل وغيرهما فقد صارا محطّا للبحث من جهة أنّ «لا ضرر» بمقتضى ظاهرها نافية للضرر الواقعي من دون تقييد بالعلم ، وحينئذ فهذا الوضوء غير مأمور به فكيف يحكم فيه بالصحّة؟

وقد اجيب عنه بجوابين ، أحدهما وهو المشهور : أنّ «لا ضرر» حكم امتناني فلا يجري حيث لا يكون فيه امتنان ، ونفي الضرر بخصوص المقام ليس فيه امتنان ؛

__________________

(١) انظر العروة الوثقى في أحكام التيمّم ، مسألة ١٩.

(٢) انظر المكاسب للشيخ الأنصاري ٥ : ١٥٨ و ١٦٦.

٤٩٣

لأنّه يوجب عليه إعادة الوضوء وإعادة الغسل أو التيمّم (١). وما ورد في مورد الامتنان لا يثبت تكليفا ؛ لأنّ ثبوت التكليف خلاف الامتنان. وقد تقدّم في حديث الرفع نظيره في صورة تعذّر الجزء ، فإذا شكّ في كون الجزئيّة مطلقة أو خاصّة بحال القدرة لا يجري حديث الرفع لإثبات الجزئيّة حال القدرة ؛ لأنّ جريانه يثبت وجوب بقيّة الأجزاء مثلا ، وحديث الرفع بما أنّه امتناني فلا يجري حيث يثبت تكليفا بجريانه.

الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢). وملخّصه أنّه لو كان مفاد «لا ضرر» نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كان لما ذكر من الإشكال وجه ، أمّا لو كان نفيا لنفس الحكم الّذي ينشأ منه الضرر فلا وقع للإشكال ؛ لأنّ المنشأ للضرر في المقام ليس هو الحكم وإنّما هو جهله بالضرر ؛ ولذا لو لم يحكم بالوجوب وكان يتوضّأ هو لوقع في الضرر ، وحينئذ فالحكم بما أنّه ليس بضرري فليس بمرفوع ؛ ولذا يصحّ العمل.

وما ذكره المشهور متين إلّا أنّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره ليس بتامّ ؛ لأنّ المرفوع هو تشريع الحكم الّذي ينشأ منه الضرر وجعله في الشريعة المقدّسة ، ولا ريب في أنّ التشريع بناء على ما ذكره الميرزا متحقّق.

ثمّ إنّ الحكم بالصحّة موقوف على أن يقال بجواز الإضرار بالنفس إضرارا لا يبلغ الهلكة ولا يبلغ قطع بعض الأعضاء.

أو يقال بحرمة الإضرار مطلقا إلّا أنّ حرمة الفعل التوليدي لا توجب حرمة سببه الّذي يتولّد هو منه (*). أمّا إذا قيل بسريان حرمة العنوان التوليدي إلى حرمة

__________________

(١) انظر رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري : ١١٨.

(٢) منية الطالب ٣ : ٤١٠ ، وأجود التقريرات ٤ : ٢٨٢.

(*) وربّما يتوهّم أنّ اختلاف السبب والمسبّب في الحكم بحيث يكون أحدهما واجبا والآخر حراما محال وإن لم تعتبر اتّفاقهما فيه. ولكنّه مدفوع بأنّ محاليّته إنّما هي لكونه حينئذ

٤٩٤

ما يتولّد عنه وقلنا بحرمة الإضرار بالنفس مطلقا فحينئذ لا مناص عن القول ببطلان العمل ؛ لأنّ الوضوء الضرري مثلا وإن لم يشمله لا ضرر مع الجهل بالضرر لكنّه يدخل تحت عنوان الإضرار بالنفس فيكون محرّما واقعا. وإذا كان مبغوضا للمولى لا يمكن أن يقع على وجه قربي لا لانتفاء قصد القربة ؛ لأنّها ممكنة لفرضه جاهلا ، بل لأنّه يعتبر مضافا إلى قصد القربة صلاحية العمل لأن يتقرّب به والمبغوض واقعا غير صالح.

فحينئذ لا بدّ من التكلّم في هاتين المقالتين فنقول وبالله الاستعانة :

أمّا سراية حرمة الفعل التوليدي إلى ما تولد منه فقد ذكرنا في محلّه أنّ الأفعال التوليديّة تارة يكون لها في الخارج بنظر العرف وجود مستقلّ مباين لوجود المتولّد منه ، نظير إلقاء الحطب في النار وإحراق النار للملقى فإنّ الإحراق وإن تولّد من إلقاء الحطب إلّا أنّ وجود أحدهما غير وجود الآخر بنظر العرف ، ففي مثل هذا لا يسري النهي عن الإحراق إلى النهي عن الإلقاء ، نعم يبتني على الكلام في مقدّمة الحرام.

وتارة يكون وجودها بنظر العرف بعين وجود المتولّد منه مثل عنوان التعظيم والإكرام فإنّهما غير ما به التعظيم حقيقة إلّا أنّها بنظر العرف شيء واحد ، ففي مثل هذا يسري النهي عن الفعل التوليدي إلى ما تولّد عنه ، ومقامنا من هذا القبيل ، فحينئذ يسري الحكم بتحريم الإضرار بالنفس إلى تحريم الوضوء ، لكونه هو هو بحسب النظر العرفي.

__________________

ـ تكليفا بما لا يطاق وهو في صورة وصولهما معا إليه ، أمّا في صورة جهله بأحدهما كما في المقام ـ إذ المفروض الجهل بالإضرار المحرّم ـ فلا تكليف بما لا يطاق. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

٤٩٥

إلّا أنّ الكلام في حرمة الإضرار بالنفس فنقول : ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى كون حرمة الإضرار بالنفس كحرمة الإضرار بالغير ممّا دلّت عليها الأدلّة السمعيّة والعقليّة (١) والظاهر أنّ حرمة الإضرار بالنفس هو المشهور إلّا أنّا لم نجد من الأدلّة العقليّة ما يقضي بالحرمة ، بل إنّ سيرة الناس مطلقا على الإضرار بالنفس نوعا في مثل تجاراتهم فإنّه يذهب إلى التجارة ويتحمّل الحرّ والبرد والمطر والجوع والعطش ، ومع ذلك كلّه لم نر من يجتنب ذلك لزعمه حرمته.

بل لم نجد من الأدلّة السمعيّة أيضا ما يقتضي الحرمة للضرر حيث لا يوجب الهلكة ولا مثل قطع بعض الأعضاء ، فإنّ لا ضرر بقرينة قوله : «فإنّك رجل مضارّ» ظاهرة في حرمة الإضرار بالغير. وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه» (٢) أيضا صريحة في حرمة الإضرار بالغير قطعا. وأمّا رواية الجار (٣) فلا ظهور فيها أصلا بل ظاهرها أنّ الإنسان كما لا يضرّ نفسه بحسب طبعه وسيرته ولا يرى عمل نفسه إثما فينبغي أن يكون يرى جاره كذلك.

وبالجملة ، فلم نجد في الأدلّة ما يقتضي حرمة الإضرار بالنفس أصلا ، ولذا نحكم بصحّة الصلاة لأنّ الإضرار بالنفس ليس محرّما فلا يكون الوضوء مبغوضا واقعا حتّى يرفع صلاحيته للتقرّب ، فيكون الوضوء أو الغسل صحيحا مع الجهل بضرره وإن كان مضرّا بالنفس واقعا ضرارا لا يبلغ الهلكة.

نعم ، هناك رواية في الفقه الرضوي تدلّ على حرمة الإضرار بالنفس (٤)

__________________

(١) رسائل فقهيّة : ١١٥ ـ ١١٦.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٩٦ ، الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل.

(٣) الكافي ٥ : ٣١ ، باب إعطاء الأمان ، الحديث ٥ (الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم).

(٤) الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه‌السلام : ٢٥٤ ، المستدرك ١٦ : ١٦٥ ، الباب الأوّل من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث ٥.

٤٩٦

ونظيرها رواية تحف العقول الصريحة في حرمة الإضرار بالنفس (١) إلّا أنّ الاولى معلوم أمرها فإنّ الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلا عن صحّتها ، ورواية تحف العقول لا تصلح لضعفها مستندا.

نعم ، هناك رواية رواها الشيخ في التهذيب (٢) ونقلها عنه صاحب الوسائل في الأطعمة والأشربة «إنّ الله حرّم الدم والخمر ولحم الخنزير والميتة لعلمه بضررها» (٣) وهذه الرواية ـ مع احتمال أن يكون المراد منها العلم بالضرر الأخلاقي المانع من وصول المرء إلى درجات الكمال كما يؤيّده قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)(٤) فيظهر منها أنّ في الخمر نفعا للبدن ـ ظاهرة في كون علمه بالضرر حكمة من حكم التشريع لا علّة كي يدور الحكم مدارها وإلّا لأبحنا أكل مقدار حمصة من الميتة لأنّها لا تضرّ قطعا.

وبالجملة ، فلم نجد دليلا دالّا على حرمة الإضرار بالنفس ، بل في بعضها ما يظهر منه جواز الإضرار بالنفس مثل رواية أكل الجبن وحده والجوز وحده مع حلّيتهما (٥).

في صحّة الوضوء الضرري وبطلانه

لو توضّأ الإنسان مع علمه بالضرر أو الحرج في الوضوء فهل يحكم بصحّة وضوئه أو فساده أو يفصّل بين موارد الضرر فيحكم بالفساد وموارد الحرج

__________________

(١) تحف العقول : ٣٣٧ ، والوسائل ١٧ : ٦٢ ، الباب ٤٢ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث الأوّل.

(٢) التهذيب ٩ : ١٩٨ ، الحديث ٢٨٨.

(٣) الوسائل ١٦ : ٣٠٩ ، الباب الأوّل من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث الأوّل.

(٤) البقرة : ٢١٩.

(٥) الوسائل ١٧ : ٩٠ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، والباب ٦٢ ـ ٦٥.

٤٩٧

فيحكم بالصحّة؟ كما يظهر من العروة (١) وبعض تعليقاتها بل لعلّه المشهور ، ووجهه أنّ الإضرار بالنفس حرام عندهم فيكون الوضوء مبغوضا ، ولا يمكن أن يتقرب بالمبغوض لعدم قابليته (ولعدم إمكان التقرّب وإن بنينا على أنّ حرمة العمل التوليدي لا تسري إلى حرمة سببه إذا كان مغايرا له في الوجود بالنظر العرفي ؛ وذلك لأنّ السبب والمسبّب لا يمكن أن يكون أحدهما حراما والآخر مباحا محكوما بالإباحة للتزاحم بينهما ، إذ الفرض وصولهما بمعنى وصول حكم كلّ من السبب وهو الوضوء والمسبّب وهو الإضرار ، فيستحيل إباحة الأوّل وحرمة الثاني) (٢) إلّا أنّ إلقاء النفس في الحرج ليس حراما فيكون العمل صحيحا.

وأشكل الميرزا النائيني رحمه‌الله عليهم بأنّ التفصيل في الآية وهي قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)(٣) قاطع للشركة. وبناء على صحة الوضوء الحرجي يكون مخيّرا بين الوضوء والتيمّم وهو يقتضي كونه واجدا فاقدا وحينئذ يكون إلغاء للتفصيل (٤).

ويمكن أن يقال : إنّ الآية ظاهرة في التفصيل الإلزامي دون الترخيص الذي هو محل الكلام وتقول : الواجد للماء يتوضّأ والفاقد يتيمّم وليست بصدد حصر من يتوضّأ ويتيمّم ، وبمقتضى الآية يجب الوضوء الحرجي لكونه واجدا للماء وليس له مانع عن استعماله لا عقلا ولا شرعا إلّا أنّ بمقتضى حديث نفي الحرج تستفاد الرخصة له في التيمّم إرفاقا به ، بل مقتضي الجمع بين الأخبار (٥) فيمن في رجله قرحة مكشوفة التخيير بين الغسل والتيمم ففي بعضها أن يغتسل ويغسل ما حول

__________________

(١) انظر العروة الوثقى أحكام التيمّم ، المسألة ١٨.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦.

(٤) منية الطالب ٣ : ٤١٢.

(٥) الوسائل ١ : ٣٢٥ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء.

٤٩٨

القرحة وفي بعضها أنّه يتيمّم وكلاهما مطلقان ، وحينئذ فمن الممكن أن يقال : إنّ هذا الواجد جعله الله في حكم الفاقد وقد حكم بجواز التيمّم للواجد إذا أوى إلى فراشه للنوم ولصلاة الجنازة (١) وإن فرض السؤال خاصّا في بعضها إلّا أنّ العبرة بإطلاق الجواب ، هذا وجه التفصيل بين موارد الحرج وموارد الضرر. ولكنّا حيث بنينا على عدم حرمة الإضرار بالنفس فلا يفرق بين الوضوء الضرري والحرجي.

وحينئذ فيكون الكلام في أنّ حديث نفي الضرر وحديث نفي الحرج مثلا هل يرفعان الإلزام أو يرفعان أصل التشريع؟ فهل هما حكمان إرفاقيان يرفعان الإلزام فقط أو يرفعان أصل تشريع الحكم؟ وحيث بنينا على أنّهما يرفعان أصل التشريع بنحو الحكومة وعدم الجعل للضرري والحرجي فمقتضاهما ارتفاع تشريع ذلك العمل الضرري أو الحرجي فيكون ذلك العمل بلا دليل دالّ على تشريعه ، فيكون الإتيان به عبادة حراما فتكون باطلة سواء كانت تلك العبادة ضرريّة أو حرجيّة.

والتحقيق أنّهما إنّما يرفعان تشريع الحكم الإلزامي فمثل الصلاة والصوم يرتفع تشريعهما وجعلهما حيث يكونان ضرريّين أو حرجيّين ، وأمّا مثل الغسل والوضوء اللذين لهما أمر استحبابي نفسي إجماعا في الأوّل وتحقيقا في الثاني فحديث : لا ضرر ولا حرج ، لا يرفع المستحبّات النفسيّة ؛ لأنّهما حديثان إرفاقيّان ولا إرفاق في رفع الاستحباب لعدم الكلفة بوضعه حتّى يكون رفعه إرفاقا ، فلو أتى بالوضوء الضرري أو الحرجي لاستحبابه النفسي أو لغاية مستحبّة فلا مانع من صحّتهما بحسب الظاهر ، وحينئذ فيصحّ إتيان الصلاة الواجبة بهما لتحقّق الطهارة الّتي هي شرطها ، فافهم.

__________________

(١) انظر الوسائل ٢ : ٨٠٠ ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٢ ، و ١ : ٢٦٥ ، الباب ٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٤٩٩

إن قلت : ما هو الفارق بين حديث «رفع ما لا يعلمون» الّذي عمّمتموه للمستحبّات مع وروده مورد الامتنان وبين حديث رفع الضرر والحرج؟

قلت : إنّ حديث : رفع الضرر والحرج ، إنّما هما بمعنى : أنّا لم نجعلكم في الضرر والحرج وبجعل المستحبّ لم يوقعنا في ضرر بسبب جعله ؛ لأنّه قد رخّصنا في تركه ، فلو اخترناه لكان الضرر والحرج مستندين إلى اختيارنا لا إلى جعله ، فتأمّل.

[لو تيمّم لاعتقاد الضرر ثمّ انكشف خلافه]

بقي الكلام في فرع ذكره في العروة (١) كما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره لمناسبة ما (٢) وهو أنّه لو تيمّم لاعتقاد الضرر ثمّ انكشف أن لا ضرر أو لزعمه عدم الماء ثمّ انكشف له وجوده فنسب قدس‌سره إلى المشهور الحكم بصحّته وصحّة الصلاة الواقعة به ، وذكر أنّ بعضهم تخيّل أنّ اعتقاد الضرر له موضوعيّة في خصوص باب التيمّم ومن ثمّ صحّحوا تيمّم مثل هذا ، لوجدان الموضوع وهو الاعتقاد بالضرر ، ووجّهه قدس‌سره بأنّ موضوع التيمّم في الآية هو عدم الوجدان والمراد به عدم التمكّن من استعمال الماء ، وهذا بما أنّه يعتقد الضرر أو يعتقد عدم الماء فهو غير متمكّن من استعمال الماء ، والمراد من عدم الوجدان في الآية هو عدم التمكّن.

أقول : ما ذكره متين جدّا في معتقد عدم الماء ؛ لأنّ من اعتقد عدم الماء فهو غير واجد عقلا. ومتين في معتقد الضرر أيضا إن بنينا على حرمة الإضرار بالنفس ؛ لأنّ المنع الشرعي كالمنع العقلي. أمّا إذا قلنا بجواز إضرار الإنسان نفسه إذا لم يؤدّ إلى الهلكة وفرضنا أنّ الوضوء لا يؤدّي إلى الهلكة فمقتضى القاعدة بطلان تيمّمه ، إلّا أنّ في الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ما يدلّ على أنّ خوف الضرر موجب

__________________

(١) انظر العروة الوثقى : أحكام التيمّم ، المسألة ١٨.

(٢) منية الطالب ٣ : ٤١٢.

٥٠٠