غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

والمقبولة إن قلنا بأنّ استناد المشهور إليها وقبولهم لها يوجب وثاقتها فذاك ، وإلّا فمجهوليّة عمر بن حنظلة فيها مانع عن الاعتماد عليها وإن ورد «أنّ عمر بن حنظلة لا يكذب علينا» (١) في بعض الأخبار إلّا أنّ ضعف سندها مانع عن التعويل عليها ، إلّا أنّ الّذي يهوّن الخطب أنّ مضمون هذه المقبولة من الترجيح بالشهرة موجود في غيرها ممّا هو صحيح.

وبالجملة ، فالترجيح أوّلا بالشهرة (*) بحيث يكون المشهور لا ريب فيه عرفا بالإضافة إلى مقابله ، ومع فرض تساويهما فيها يصار إلى موافق الكتاب المخالف للعامّة ، فمتى وجدنا أحد الحديثين المشهورين موافقا للكتاب ومخالفا للعامّة معا عملنا به وطرحنا الآخر الفاقد لهذين الوصفين. أمّا لو كان كلّ منهما موافقا للكتاب ولكن أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف فقد ذكر في صريح المقبولة ترجيح المخالف للعامّة ، لأنّ الرشد في خلافهم ، كما أنّ صحيحة الراوندي أيضا تدلّ على ذلك (٢) ومنها يعلم أنّ كلّا من موافقة الكتاب ومخالفة العامّة مرجّح مستقلّ وإن لم يجتمع مع الآخر ، فلو كانا معا موافقين للعامّة ولكنّ أحدهما موافق للكتاب والآخر لم يستفد حكمه من الكتاب يقدّم ما وافق الكتاب.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٩٧ ، الباب ٥ من أبواب المواقيت ، الحديث ٦.

(*) قد ذكر الاستاذ في دورته الثانية أنّ الشهرة ليست من المرجّحات كلّية ، لأنّ المقبولة قد ذكرت «المجمع عليه» وإن عقّبته بمثل : «ودع الشاذّ الّذي ليس بمشهور» فإنّ الظاهر أنّ المراد بالمشهور الواضح صدوره عن الأئمّة عليهم‌السلام لا المشهور بالمعنى المصطلح ، ومن هنا عقّبه بتقسيم الامور إلى بيّن الرشد وبيّن الغيّ والشبهات. فمن هنا يعلم أنّ المراد بالمجمع عليه المعلوم الصدور عن المعصوم فيكون ذكره لتمييز الحجّة عن اللاحجّة ، لأنّ المعارض لمّا علم صدوره عن المعصوم يطرح لكونه مخالفا للسنّة ، فليست الشهرة بهذا المعنى من المرجّحات ، لأنّ المخالف لها ليس بحجّة.

(٢) الوسائل ١٨ : ٨٤ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

٧٨١

ولو كان إحدى الروايتين موافقة للكتاب وللعامّة والاخرى غير موجود حكمها في الكتاب ولكنّها مخالفة للعامّة فما الحيلة حينئذ؟

فنقول : إنّ حكم هذه الصورة غير موجود في أخبار الترجيح فلا مقيّد حينئذ لأخبار التخيير فيحكم بالتخيير بين الروايتين حينئذ.

ولكن في رسالة القطب الراوندي على ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) رواية صحيحة ظاهرة في أنّ موافقة الكتاب مرجّح متقدّم على مخالفة العامّة ، وأنّه مع موافقة أحدهما للكتاب لا أثر لموافقة العامّة ومخالفتها ، وإنّما تكون معيارا للترجيح حيث لا يوجد حكم كلا الخبرين في الكتاب ولسان الرواية «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فذروه ، فإن لم تجدوه في كتاب الله فأعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه» (٢) فيتقدّم موافق الكتاب على غيره ، ثمّ مع فقد حكمه في الكتاب يرجّح مخالف أخبار العامّة ، فتأمّل.

فتلخّص أنّ المرجّح الأوّل للرواية كونها مشهورة بحيث لا ريب فيها عرفا ، وهي المعبّر عنها بالمستفيضة باصطلاحنا ، ومع كونهما معا كذلك يؤخذ بموافق الكتاب ومع عدم الموافق يؤخذ بمخالف العامّة.

ثمّ إنّ بناء على الاقتصار على المرجّحات المنصوصة فقط ذكر بعض العلماء (٣) الترجيح بالرواية المتأخّرة على المتقدّمة زمانا ، استنادا إلى جملة من الروايات الّتي ذكرها الشيخ في فرائده (٤).

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٦٣.

(٢) الوسائل ١٨ : ٨٤ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

(٣) لم نقف عليه.

(٤) فرائد الاصول ٤ : ٦٦ ، العاشر والحادي عشر.

٧٨٢

ولا أدري أنّه كيف عدّها الشيخ من أخبار ترجيح المتعارضين وكيف ذكرها ذلك البعض من وجوه ترجيح الأخبار المتعارضة مع عدم ذكر تعارض الروايتين فيها أصلا؟ وإنّما مفادها أنّه لو حدّث الإمام بحديث أو أفتى بفتيا ثمّ بعد سنة حدّثه بحديث يناقض الحديث الأوّل أو أفتى بفتيا تناقض الفتيا السابقة ، فأجاب الراوي أنّه كان يأخذ بالمتأخّر منهما ، فاستصوب الإمام عليه‌السلام جوابه في واحدة (١) وترحّم عليه في الاخرى (٢) فالروايات صريحة في كونهما مقطوعي الصدور ، وفي بعضها تصريح بأنّ ذلك إنّما هو للتقيّة (٣) فأيّ ربط لها بالأخبار المتعارضة؟

نعم في حديث المعلّى بن خنيس قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ قال عليه‌السلام : خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله قال : ثمّ قال : إنّا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم» (٤). ولكنّها مع عدم صراحتها بحسب الدلالة على الأخذ بالحادث بل عدم ظهورها في ذلك ، محتملة احتمالا قريبا جدّا في كون الأوّل للتقيّة لوجود الذيل الدالّ على ذلك فيها. (ووجه الأخذ بالأخير أنّه لو كان المتقدّم قد صدر تقيّة فالإمام أعلم بمورد التقيّة ، وإن صدر من الحيّ خلافه فيبيّن ارتفاع زمن التقيّة حينئذ بإخبار الحيّ) (٥).

مضافا إلى أنّها ليست صحيحة ومعارضة لأخبار الترجيح ، إذ هي بإطلاقها نافية للترجيح بالشهرة وغيرها ، كما أنّ روايات الترجيح بإطلاقها آمرة بالرجوع إلى الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ولو كان القديم واجدا لها دون الحادث ، ولا ريب في استفاضة أخبار الترجيح ، فهي ممّا لا ريب فيه بالإضافة إلى هذه الرواية ،

__________________

(١) الوسائل ١٨ ، ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٧ مع اختلاف يسير.

(٢) المصدر السابق : الحديث ٧.

(٣ و ٤) الوسائل ١٨ : ٧٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨.

(٣ و ٤) الوسائل ١٨ : ٧٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨.

(٥) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

٧٨٣

فحينئذ تطرح هذه الرواية بإطلاق تلك الروايات ، وهذا واضح بحسب الظاهر (*).

__________________

(*) ورد في هامش الأصل هذا التوضيح : لا يخفى أنّ الروايات الّتي قد يستفاد منها الأخذ بالرواية المتأخّرة زمانا أربعة :

الاولى : ما عن الكافي بسنده الموثّق عن محمّد بن مسلم قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا متّهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال عليه‌السلام : إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» ـ الكافي ١ : ٦٤ ، الحديث ٢ ـ ولا يخفى أنّا لو جوّزنا النسخ في الأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام بدعوى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بيّن لهم انتهاء أمد الحكم فهم يخبرون عنه إلّا أنّ النسخ لا يجوز بخبر الواحد قطعا إجماعا من الخاصّة والعامّة ، مضافا إلى الأخبار الآمرة بعرض الروايات على الكتاب «فما وافق كتاب الله فهو قولهم وما خالفه فاضربوه بالجدار» ـ التبيان ١ : ٥ ، وفيه : فاضربوا به عرض الحائط ـ فلا بدّ من إرادة مقطوع الصدور منهم عليهم‌السلام فهو أجنبيّ عن باب المعارضة. وإن أريد بالنسخ معناه اللغوي المتحقّق حتّى بالتقييد وبالتخصيص فخروجه عن باب المعارضة أظهر حينئذ.

الثانية : ما عن الكافي بسنده إلى الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أرأيت لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قال : كنت آخذ بالأخير ، فقال لي : رحمك الله تعالى» ـ الكافي ١ : ٦٧ ، الحديث ٨ من باب اختلاف الحديث ـ.

الثالثة : صحيحة الكتاني عن أبي عبد الله وهي كالثانية إلّا أنّه في آخرها «قد أصبت يا أبا عمرو أبى الله إلّا أن يعبد إلّا سرّا أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه خير لي ولكم أبى الله لنا في دينه إلّا التقيّة» ـ المصدر السابق : الحديث ١٧ ـ وهاتان الروايتان ظاهرتان في مقطوعي الصدور إلّا أنّ إحداهما تقيّة ، فهي أيضا خارجة عن باب التعارض الّتي يعلم فيها بكذب أحد الخبرين إلّا أنّه لا يعلم بعينه.

وأمّا الرابعة : فهي رواية المعلّى بن خنيس ـ المصدر السابق : الحديث ٨ ـ وهي مذكورة في المتن كما ذكر ردها أيضا.

٧٨٤

بقي الكلام في أنّ الرواية إذا اشتملت على لفظ تعارض فيه كلام اللغوييّن هل يدخل في باب التعارض أم لا؟ الظاهر عدم الدخول ، لأنّه لا يصدق «يجيء عنكم الحديثان» وإنّما هو حديث واحد.

ثمّ إنّه إذا وردت الرواية الواحدة بصورتين كما إذا ذكر أحد تلاميذ الكليني الرواية بصورة ، وذكر التلميذ الثاني الرواية بصورة اخرى مغايرة للاولى في زيادة كلمة أو نقصان كلمة أو تقديم كلمة أو تأخيرها مثلا وكان المعنى مختلفا بذلك فهل يدخل ذلك في تعارض الروايتين فيرجّح بالمرجّحات المذكورة أم لا؟

الظاهر دخوله ، لأنّ كلّ واحدة من هاتين الروايتين مع عدم المعارض لها حجّة فبمقتضى تعارضهما يرجّحان بمرجّحات باب التعارض لصدق : «يجيء عنكم الحديثان المختلفان ...» والظاهر أنّه لا ريب فيه وإن أمر المحقّق الهمداني في مصباحه على إلحاقه باختلاف النسخ في عدم تحقّق الترجيح والتخيير فيه (١).

نعم ، لو اختلفت النسخ بنحو يكون مغيّرا للمعنى لا يدخل في اختلاف الروايتين بل هو من باب اشتباه الحجّة باللاحجّة.

بقي الكلام في أنّ التخيير تخيير اصولي أو عملي :

في أنّ التخيير في المتعارضين تخيير في مسألة اصوليّة

يظهر من السيّد الصدر شارح الوافية أنّه يذهب إلى كون التخيير تخييرا في العمل ورفعا للحيرة في مقام العمل (٢) وهو وإن كان لا يأباه بعض الروايات مثل قوله : «بأيّة عملت ...» (٣) إلّا أنّ الظاهر أنّ التخيير في العمل بالرواية ليس مثل التخيير

__________________

(١) انظر مصباح الفقيه ٢ : ٥٩٧ (طبع حجري) كتاب الصلاة.

(٢) شرح الوافية : ٥٠٠.

(٣) الوسائل ١٨ : ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.

٧٨٥

في العمل مطلقا ؛ لأنّ معنى التخيير فيها هو الأخذ بمدلولها وهو أيضا يعطي التخيير في المسألة الاصوليّة فيتّحد مدلول الروايات.

وإن أبيت إلّا عن عدم ظهورها في التخيير في المسألة الاصوليّة فلا أقلّ من كونها مجملة تفسّرها بقيّة الروايات ، فإنّ الظاهر منها جميعها حيث قد صرّحت بالأخذ أنّه أخذ للخبر بنحو يكون حجّة للعمل ، بل الظاهر أنّ الأخذ هنا عين الأخذ في مقام وجود بعض المرجّحات ، فإنّ الظاهر أنّ الأخذ فيهما واحد ، وحيث إنّ الأخذ في الأوّل أخذ بالحجّة لا أخذ في حكم فرعي فكذا الثاني.

وبالجملة ، ظاهر الروايات كون التخيير تخييرا في مسألة اصوليّة لا في مسألة فرعيّة ، وحينئذ فيكون اختيار المكلّف هو الجزء الأخير لحجّية الرواية ولعدم حجّية غيرها.

ثمّ إنّه على هذا يبتني كون التخيير بدويّا أو استمراريّا ، فإنّه إن كان تخييرا في مسألة اصوليّة فهو ابتدائي ليس إلّا ، وإن كان تخييرا في العمل نظير التخيير بين القصر والاتمام في مواطن التخيير فهو استمراري ، لأنّ الحكم الواقعي فيها التخيير ، لكنّ الظاهر أنّ التخيير تخيير في مسألة اصوليّة وأنّه من باب تمييز الحجّة عن اللاحجّة ، فهو تارة يكون ببيان المرجّحات واخرى يكون باختيار المجتهد فيكون اختياره هو الجزء الأخير للحجّية.

ثمّ إنّه قد ذكر الآخوند قدس‌سره وجهين لكون التخيير استمراريّا في المسألة الاصوليّة (١) : الأوّل : هو الإطلاق فإنّ إطلاق : «فتخيّر» شامل لما إذا اختار أوّلا ولما إذا لم يختر.

الثاني : هو الاستصحاب ، فإنّه قبل الأخذ بأحدهما كان مخيّرا فيستصحب.

__________________

(١) انظر الكفاية : ٥٠٨.

٧٨٦

ولا يخفى عليك ما فيهما :

أمّا الأوّل فإنّ إطلاق الأمر بالتخيير في الأخذ لمن جاءه الحديثان ، والحديثان قد جاءا أوّل مرّة ولم يجيئا مرّة ثانية.

وبعبارة اخرى إنّما يخاطب بالأخذ بإحدى الروايتين المتعارضتين من لم يكن آخذا. أمّا من أخذ فلا يخاطب بالأخذ ، وأمّا الاستصحاب فهو على عكس المطلوب أدلّ ، إذ إنّه قبل الاختيار ليس أحدهما حجّة ، وحيثما اختار إحداهما صارت هي الحجّة في حقّه وخرجت الاخرى عن الحجّية فيستصحب ذلك ، فافهم وتأمّل.

بقي الكلام في شيء كان حقّه هو التقديم لكنّه تأخّر سهوا ، وهو أنّ الترجيح بهذه المرجّحات (تخييري أو ترتيبي ، وعلى الثاني فترتيبه بأيّ نحو من الأنحاء) (١) ، قد ذكر الآخوند بعد تسليم لزوم الترجيح بالمرجّحات أنّها لا ترتيب فيها وإنّما هي لبيان المرجّحات وليس الأخبار ناظرة إلى تقديم بعضها على بعض (٢).

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ ظاهر قوله : «فأعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه» (٣) بإطلاقه شامل لما إذا كان الثاني مخالفا للعامّة. فدعوى أنّها لا تقديم فيها لبعض على بعض مناف لقوله : «فإن لم تجدوه في كتاب الله فأعرضوهما على أخبار العامّة» فإنّ ظاهره كونه في الرتبة الثانية.

وذكر الوحيد البهبهاني على ما نسب إليه (٤) أنّ المرجّحات الجهتيّة تتقدّم على غيرها فأوّل ما يلاحظ أن لا تكون موافقة للعامّة ، فإنّها إذا كانت إحداهما موافقة للعامّة فنحن نقطع أنّها لم تصدر أو صدرت تقيّة (٥).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٢) انظر الكفاية : ٥١٧.

(٣) الوسائل ١٨ : ٨٤ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

(٤) نسبه إليه صاحب الكفاية ، انظر الكفاية ٥١٨.

(٥) انظر الفوائد الحائريّة : ٢٢٠.

٧٨٧

ولا يخفى ما فيه أيضا ، فإنّه من المحتمل الممكن أن يكون موافق العامّة هو الصادر لبيان حكم الله الواقعي ، ضرورة أنّ أحكام العامّة ليس كلّها مخالفة للواقع.

وذكر الميرزا قدس‌سره أنّ المرجّح الأوّل هو المرجّح السندي من الشهرة وصفات الراوي ثمّ المرجّح الجهتي ثمّ موافقة الكتاب زاعما أنّ الرواية أوّلا يلزم أن يحرز صدورها ثمّ يحرز وجه الصدور (١).

ولا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا متين لكنّه اجتهاد في مقابلة النصّ ، فإنّ الترجيح يلزم أن يكون بالنحو الوارد عن الأئمّة سلام الله عليهم ، وقد وصفوا لنا طريقة خاصّة ، فالتعدّي عنها بالوجوه الاستحسانيّة اجتهاد في مقابلة النصوص ، فلا يعتنى بها ، فافهم.

في التعدّي عن المنصوص من المرجّحات وعدمه وحجّة الطرفين

قد ذكرنا أنّ الروايتين المتعارضتين بنحو التباين يؤخذ بالمشهور الّذي لا ريب فيه ويطرح ما فيه الريب ، ومع فرض التساوي فيؤخذ بما وافق الكتاب ، وعلى تقدير التساوي يؤخذ بما خالف العامّة ، فلو فرض التساوي أيضا بمخالفتهم أو موافقتهم فهل الحكم هو التخيير أو الحكم هو التعدّي إلى بقيّة المرجّحات؟ الظاهر هو الأوّل (*) ، فإنّ إطلاقات التخيير محكّمة ولا مقيّد لها بحسب الأخبار. ولو تعدّينا إلى مطلق المرجّحات لم يبق لها مورد إلّا الشاذّ النادر.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٨١.

(*) كتب المقرّر هذه التعليقة في أوراق مفردة وذكر أنّ موضعها هنا : لا يخفى أن أستاذنا آية الله الخوئي قد اختار في دورته السابقة المنتهية في أواخر سنة (١٣٦٩ ه‍) أنه يرجع إلى التخيير بعد فقد المرجّحات المنصوصة من الشهرة فموافقة الكتاب فمخالفة العامة استنادا إلى الروايات الدالة على ذلك اعتمادا على أن استناد المشهور إليها جابر لضعف سندها. إلّا أنه في هذه الدورة المنتهية عام (١٣٧٥ ه‍) حيث بنى على ان استناد المشهور لا يكون جابرا ـ

٧٨٨

__________________

ـ لضعف السند أسقط الشهرة عن كونها مرجحا إلى كونها مميّزة للحجة عن اللاحجة ، بحمل المجمع عليه على معناه الحقيقي وهو المجمع على روايته ، وحمل لا ريب فيه على نفي الريب حقيقة كما هو ظاهرها.

فحصر المرجّحات بخصوص موافقة الكتاب أولا فلو كانت الروايتان معا موافقتين أو مخالفتين بنحو التخصيص أو لم يكن للحكم ذكر في الكتاب كلية فالرجوع إلى خصوص الرواية المخالفة للعامة ، وعلى تقدير مخالفتهما معا فمقتضى القاعدة الأولية قصور دليل الحجّية عن شموله للمتعارضين معا فيقتضي أن تسقط الروايتان معا عن الحجّية إلّا أن يخرجنا عن هذه القاعدة دليل حاكم.

وإذا انتهينا إلى هذا فقد استظهر أيّده الله عدم الدليل المخرج عن القاعدة الأولية ، لأنّ الروايات الدالة على التخيير إمّا ابتداء وبعد فقد المرجّحات ، كلّها أو بعضها لا تخلو من ضعف في السند أو الدلالة ، وقد تشتمل عليهما معا ، وحينئذ فلا بدّ من الرجوع إلى أدلّة الأصول والعمل بما تقتضيه من براءة أو احتياط أو استصحاب أو غير ذلك ، واستناد المشهور إلى الرواية الضعيفة لا يوجب جبرها بحسب نظره أيّده الله ، فتسقط كلّها عن الحجّية. وقد أيّد دعواه بأنا لم نجد فقيها ذهب إلى التخيير عند فقد المرجّحات أصلا وإنّما هو كلام يسطر في الأصول فقط.

وتفصيل الروايات الدالة على التخيير على ما ذكره صاحب الحدائق (انظر الحدائق ١ : ٩١ ـ ٩٦) ان الروايات ثمانية :

١ ـ رواية الاحتجاج : عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحق فقال عليه‌السلام إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت (الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠).

وقد ردها الاستاذ أيّده الله بضعف السند.

٢ ـ مرفوعة زرارة : إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر وقد ردّها بالطعن

٧٨٩

__________________

ـ في غوالي اللآلي ومؤلفه وإنها لم توجد في كتب العلّامة على أنها على تقدير الوجود مرفوعة لا يمكن العمل بها (مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢).

٣ ـ مرسلة الكافي بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك (الوسائل ١٨ : ٧٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦).

وقد ردّها الأستاذ بضعف السند.

٤ ـ مكاتبة الحميري إلى صاحب الزمان عجل الله فرجه حيث سأله عن التكبير بعد التشهد الأول : الجواب ، في ذلك حديثان أمّا أحدهما فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير وأما الحديث الآخر فإنه روى إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر وجلس ليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا (الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩).

وقد ردّها بضعف السند أولا وبخروجها عن التعارض الاصطلاحي ، إذ أن الثانية مخصّصة لعموم الأولي.

٥ ـ رواية الاحتجاج عن الحرث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : إذا سمعت من اصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد عليه (الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١).

وقد ردّها الاستاذ بضعف السند أولا وبضعف الدلالة ثانيا فإنها في مقام بيان حجية خبر الثقة ولا تعرض فيها للتعارض.

٦ ـ الفقه الرضوي الوارد في النفساء (مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢).

وقد ردها بأن الفقه الرضوي لم يثبت كونه كتاب رواية فضلا عن كونها معتبرة.

٧٩٠

غير أنّ جملة من فقهائنا ذهبوا إلى التعدّي بل لعلّه المشهور ، وصرّح به الشيخ الأنصاري على ما في الفرائد (١) ، وقد استدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : قوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بتقريب أنّ العلّة في الأخذ بالمشهور هو كونه لا ريب فيه ، ومعلوم أنّه ليس المراد أنّه لا ريب فيه عقلا ، لبقاء احتمال عدم الصدور في المشهور ، فلا بدّ أن يكون المراد لا ريب فيه بالنسبة إلى الآخر الّذي ليس بمشهور والمعبّر عنه بالمشتبه ، وحينئذ فكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى معارضه يؤخذ به أخذا بعموم التعليل المذكور.

__________________

ـ ٧ ـ موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره بأخذه والآخر ينهاه كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : يرجه حتى يلقي من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه (الوسائل ١٨ : ٧٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥).

وقد ردّها السيّد الاستاذ بأن السعة والتخيير من جهة انه لا بدّ في مثله من الدوران بين المحذورين من التخيير عقلا لانه لا بدّ امّا من الفعل أو الترك في مثله.

٨ ـ صحيحة علي بن مهزيار في مكاتبة عبد الله بن محمد : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم أن صلّها في المحمل وروى بعضهم أن لا تصلّها إلّا على الأرض فأعلمني كيف تصنع أنت لاقتدي بك في ذلك؟

فوقع عليه‌السلام موسع عليك بأية عملت (الوسائل ١٨ : ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤).

وقد ردّها الاستاذ بأنّ التخيير في المقام هو مقتضى الجمع العرفي بين الروايتين المزعومتين وإن التخيير في المقام تخيير واقعي ، إذ أن صلاة ركعتي الفجر ـ أي نافلته ـ لا يحتمل تحتم ايقاعها في المحمل ، بل إن الصلاة على الأرض أفضل والمحمل أيضا جائز باعتبارها نافلة لا يعتبر فيها الاستقرار.

(١) انظر فرائد الاصول ٤ : ٧٥ ـ ٧٧.

٧٩١

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ معناه على هذا الأخذ بالرواية إذا كان رواتها أكثر من رواة الثانية ولو بواحد ، بأن كان رواة إحداهما واحدا مثلا ورواة الاخرى اثنين ، لأنّ ما رواتها اثنان لا ريب فيه بالإضافة ، وهو مع أنّه خلاف صريح الرواية ، إذ قد علّق المرجّح على كونها مشهورة لا ريب فيها ، ولو كان يكفي ما ذكر لقال : إذا كان الراوي اثنين مثلا ، فتأمّل ، ومع ذلك فهو نفسه لا يلتزم بذلك.

وأمّا ثانيا : فلأنّ «لا ريب فيه» ليس المراد منها نفي الريب عقلا كما ذكره ، ولكن أيضا ليس المراد نفي الريب بالإضافة لما ذكرنا ، بل المراد نفي الريب عرفا وهي المعبّر عنها بالمستفيضة عندنا ، وحينئذ فكلّما كانت الرواية لا ريب فيها عرفا بحيث يطمئنّ بصدورها نتعدّى إليها ونطرح المعارض عملا بالعموم ولكن أنّى يوجد ذلك فيها.

الثاني : قوله عليه‌السلام على ما ذكره هو : «فإنّ الرشد في خلافهم» تعليلا للأخذ بما خالف العامّة وبعمومه يتعدّى ، فإنّ المراد بالرشد ليس لمخالفتهم ، لأنّهم يكذبون في كلّ ما خالفنا ، لأنّ كثيرا من أحكامهم موافقة لنا قطعا ، بل لأنّ ما يصدر عن الأئمّة على طبق مذاهب العامّة فهو للتقيّة حيث يوجد له معارض ، لقوّة احتمال التقيّة حينئذ أو لكذب العامّة كثيرا ولعملهم بالقياس.

وحينئذ ف (الرشد) بمعنى الحقّ والواقع لا بمعنى الحسن كما في الكفاية احتماله (١) ، ولا بمعنى الرشد بالإضافة إلى معارضه ، بل المراد منه الحقّ ويكون مخالفة العامّة طريقا غالب الإصابة للواقع ، نظير قاعدة اليد وسوق المسلمين ، وليس المراد منه الحسن لعدم كونه ذا دخل في الطريقيّة ولا الرشد الإضافي لعدم فهم العامّة له ، فكلّما كان الاحتمال لعدم الصدور أقوى في الرواية يؤخذ بالطرف الثاني (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٠٩.

(٢) انظر فرائد الاصول ٤ : ٧٧ ـ ٧٨.

٧٩٢

ولا يخفى عليك ما فيه أوّلا : أنّا لم نجد علّة بهذا اللفظ ، نعم في المرفوعة : «فإنّ الحقّ فيما خالفهم» وقد ذكرنا أنّها ضعيفة السند جدّا فلا يعوّل عليها ، نعم في المقبولة : «قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد» (١) ومعلوم أنّه جواب وليس تعليلا حتّى يؤخذ بعمومه ، وعلى تقدير عمومه أو وجود رواية كما هو الظاهر من الكليني في ديباجة الكافي (٢) إن لم يكن نقلا بالمعنى فهو مردود بما رددنا به الوجه السابق ، فافهم.

هذا كلّه حيث يكون التعارض بنحو التباين.

وأمّا التعارض بنحو العموم من وجه

فتحقيقه أن يقال : إنّ التعارض بالعموم من وجه مثل : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، ففي مورد الاجتماع وهو العالم الفاسق هل يتساقطان ويرجع إلى العامّ الفوق إن كان وإلّا فالأصل العملي ، أو يرجع إلى الأصل العلمي ، أو يرجع في مورد التعارض إلى المرجّحات جميعها أو تلغى المرجّحات السنديّة فقط كما ذهب إليه الميرزا النائيني (٣) دون الدلاليّة أو الجهتيّة فيرجع إليها؟

ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره الاحتمالين الأوّلين (٤) ولم يرجّح أحدهما على الآخر ، نعم ذكر مبعّدا للرجوع إلى أحكام التعارض فيهما ، لأنّ الإلغاء لأحدهما على عمومه طرح للحجّة من غير موجب ، لأنّ مورد الافتراق فيه لا معارض له ،

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر الكافي : ١ : ٨.

(٣) فوائد الاصول ٤ : ٧٩٢ ـ ٧٩٣.

(٤) انظر فرائد الاصول ٤ : ٥١ ـ ٥٦.

٧٩٣

وإلغاء خصوص مورد التعارض لا معنى له ، لأنّ كذب أحدهما لا يتبعّض فيكون كذبا بالإضافة إلى مورد الاجتماع وصدقا بالإضافة إلى مورد الافتراق فلا يمكن أن تجري فيه أحكام المتعارضين لذلك.

ومن هنا فصّل الميرزا النائيني قدس‌سره فألغى المرجّحات السنديّة فلم يرجّح بها ولكنّه رجّح بالمرجّحات الدلاليّة والجهتيّة فألغى المرجّحات بصفات الراوي وبالشهرة ، ولكنّه رجّح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة في العموم من وجه بدعوى ظهور المرجّحات السنديّة في المتكاذبين بجميع مدلولهما بخلاف غيرهما كما في المقام ، فإنّه يمكن أن يكون التصريح بعموم أحد العمومين ، كان للتقيّة أو غير مراد جدّا (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ تسمية بعض المرجحات بالسنديّة ، واخرى بالدلاليّة ، والثالثة بالجهتيّة اصطلاح خاصّ للمتأخّرين من الاصوليّين وليس له ذكر في الأخبار أصلا ، وحينئذ فجاز أن تكون المرجّحات كلّها صدوريّة أو كلّها دلاليّة ، وحينئذ فإذا كان عموم أخبار التعارض شاملا للمتعارضين بنحو العموم من وجه سرت فيه جميع المرجّحات وإلّا فلا يجري واحد منها أصلا.

وقبل الخوض فيما هو المختار في المقام نقدّم مقدّمة تمهيديّة هي أنّ الأحكام تارة تكون ثابتة للدالّ واخرى للمدلول ، فمن الأوّل الكذب فإنّه حكم ثابت للدالّ بحسب الظاهر ، فإنّ من قال : جاء العلماء ، ولم يجيء واحد منهم ، لا يحكم عليه بأنّه كذب خمسين كذبة إذا كان عدد العلماء خمسين ، ولا يعاقب من الشارع بخمسين عقابا ، وإنّما يعاقب بعقاب واحد ويعدّ كاذبا كذبة واحدة ، وهذا بخلاف الغيبة فإنّ من اغتاب جماعة فقال : هؤلاء فسّاق مثلا ، عدّ مغتابا لكلّ واحد واحد منهم ويعاقب بعقابات متعدّدة لكلّ واحد منهم ، ولا بدّ أن يستوهب من كلّ فرد لو أراد التوبة.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٩٤.

٧٩٤

ثمّ إنّ الخبر الواحد يمكن فيه التبعيض في الحجّية ، لأنّ حجّيته باعتبار كشفه عن المراد الجدّي ويكون بعضه حجّة لعدم الابتلاء بالمعارضة ، وبعضه ليس بحجّة للابتلاء بها ، وهذا كثير الوقوع ، لأنّ الخبر يتضمّن خبرين حينئذ ، مثلا لو قال المولى : أكرم العلماء ، ثمّ ورد : لا تكرم الفسّاق ، فهو بمثابة أن يقول : أكرم العلماء عدولا وفسّاقا ، كما أنّ الثاني بمثابة أن يقول : لا تكرم الفسّاق علماء كانوا أم جهّالا ، ففي خصوص العالم الفاسق يقع التعارض ، وحينئذ ففي غيره يكون العموم حجّة وفيه لا يكون حجّة ، لأنّه بمنزلة إخبارين فيكون أحدهما حجّة دون الآخر.

وهذا نظير البيّنة القائمة على كون الدار لزيد فأقرّ زيد بأنّ نصفها لعمرو مثلا والتبعيض في الحجّية كثير. وقد ورد في الفقه عمل العلماء بصدر الرواية وطرح عجزها للابتلاء بمعارض ، والمقام يقاربه والملاك واحد في الجميع.

إذا عرفت هذه المقدّمة التمهيديّة فاعلم أنّ المتعارضين بنحو العموم من وجه تارة يكون عمومها لفظيّا مستفادا من عموم مستند إلى الوضع مثل قولنا : أكرم كلّ عالم ولا تكرم أيّ فاسق.

واخرى يكون عمومهما مستندا إلى الإطلاق ومقدّمات الحكمة مثل قولنا : أكرم العالم ولا تكرم فاسقا ، فإنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم.

وثالثة يكون أحدهما وضعيّا والآخر بمقدّمات الحكمة. قد عرفت فيما تقدّم أنّ القسم الأخير خارج عن محلّ الكلام ، لأنّ العموم اللفظي كما ذكرنا يمنع جريان مقدّمات الحكمة في الثاني فإن من جملتها عدم البيان ، والعامّ يصلح أن يكون بيانا.

وقد تقدّم الكلام فيه والنزاع بين الآخوند والشيخ ، وذكرنا أنّ الحقّ مع الشيخ قدس‌سره فالكلام يقع في القسمين الأوّلين فنقول وعلى الله التكلان :

أمّا القسم الأوّل منهما : فالظاهر جريان المرجّحات المذكورة فيه فلو قال : أكرم كلّ عالم ، ثمّ قال : لا تكرم كلّ فاسق ، ففي العالم الفاسق يقع التعارض ، وقد ذكرنا أنّ التبعيض في الحجّية ممكن وواقع ، وعليه بناء العقلاء في جميع شئونهم بحيث

٧٩٥

لا يرتابون فيه ، كما ذكرنا أنّ ذلك العموم يكون بمنزلة أمرين ، أحدهما : بإكرام العلماء العدول ، والآخر : بإكرام الفسّاق ، كما أنّ النهي كذلك : نهي عن إكرام الفاسق الجاهل ، ونهي عن إكرام العالم الفاسق ، فيكون أحد الأمرين وأحد النهيين حجّة لعدم المعارض ، ويكون الثاني غير حجّة وهو مورد المعارضة فيرجع فيه إلى مرجّحات تعارض الروايتين ، فيرجع إلى المشهور من العمومين فيؤخذ بالعموم المشهور ويطرح الثاني في مورد المعارضة ، لأنّ الشهرة تكون مرجّحة لعدم اشتباه الراوي فيه وكون الاشتباه في الثاني.

ولو فرض شهرتهما فيرجع إلى موافقة الكتاب لأحد العامّين ، ولو فرض الموافقة أيضا أو عدم التعرّض في الكتاب لحكمهما يرجع إلى مخالفة العامّة فتعتبر مرجّحا لمورد التعارض وذلك لصدق «يأتي عنكم الخبران» إذ المراد بهما الإخباران ، إذ ليس العبرة بألفاظ الخبر ، والإخباران متحقّقان في المقام وإن كان العموم واحدا ، إذ الإخبار يتعدّد بتعدّد المخبر به ، فافهم.

هذا كلّه حيث يكون العموم مستندا إلى عموم لفظي مثل «كلّ» وأشباهها. وأمّا حيث يكون العمومان مستندين إلى الإطلاق ومقدّمات الحكمة ، كما إذا ورد : يجب إكرام العالم ، وورد أيضا : يحرم إكرام الفاسق ، فهنا المخبر ـ أعني الراوي ـ إنّما أخبر عن ثبوت الحكم للماهيّة بنحو الإهمال ، فإنّه أخبر عن وجوب إكرام ماهيّة العالم وعن تحريم إكرام ماهيّة الفاسق ونحن بدليل «صدّق العادل» نصدّقه فيهما.

أمّا عموم الحكم فليس الراوي مخبرا به كي يشمله وجوب تصديق العادل ، بل إنّ استفادة عموم الحكم لنا وله على حدّ سواء ، بحيث لو أنّه يرى أن لا عموم لوجود القدر المتيقّن المانع عن التمسّك بالإطلاق في رأيه فهنا لا يجب متابعته وتصديقه ، لأنّ هذا اجتهاد منه وليس نقلا عن المعصوم ليجب تصديقه فيه ، فيجوز لنا الحكم بالعموم بناء على عدم إخلال وجود القدر المتيقّن إذا لم يؤدّ إلى الانصراف كما تقدّم الكلام فيه مفصّلا.

٧٩٦

وبالجملة ، فعموم كلا الحكمين في المقام موقوف على مقدّمات الحكمة فيهما ولا يمكن جريانها فيهما ، للعلم الإجمالي بعدم إرادة كلا الإطلاقين قطعا ، ولأنّ منها عدم البيان ، وكلّ منهما يصلح أن يكون بيانا للآخر ولا ترجيح فيتساقطان ، ويرجع إلى العموم الفوقاني لو كان ، أو يرجع إلى الاصول العمليّة.

وممّا ذكرنا في حكم الخبرين المتعارضين يظهر حكم تعارض الخبر مع الكتاب وأنّه مع كون الخبر خاصّا والكتاب عامّا يخصّصه لكون العرف يراه قرينة على عدم كون الإرادة الجدّية في الكتاب مطابقة للإرادة الاستعماليّة ، ومع كون الخبر مباينا للكتاب يطرح الخبر لقولهم : «ما خالف قول ربنا لم نقله» (١) و «زخرف» في اخرى (٢) و «باطل» في ثالثة (٣) و «اضربه على الجدار» في رابعة (٤) وغيرها (٥) إذ هي في المتباينة قطعا.

وإذا كان الخبر معارضا للكتاب بنحو العموم من وجه ، فتارة يكون أحدهما بالإطلاق والآخر بالعموم اللفظي ويتقدّم العموم اللفظي حينئذ ؛ لكونه بيانا مانعا عن إطلاق المعارض إذ من جملة مقدّماته عدم البيان.

وإن كانا معا بالعموم اللفظي فبالنسبة إلى مورد الاجتماع يرجع إلى المرجّحات المذكورة ، غير أنّه في المقام يكون عموم الكتاب مرجّحا ، لأنّه هو الموافق للكتاب ، كما لو كان هناك خبران أحدهما موافق لعموم الكتاب والآخر مخالف ، وإن كان العموم بينهما بنحو الإطلاق ومقدّمات الحكمة فيتساقطان ، وليس هذا إسقاطا

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

(٢) المصدر السابق : الحديث ١٢ و ١٤.

(٣) المحاسن ١ : ٣٤٧ ، باب الاحتياط في الدين ، الحديث ١٢٨.

(٤) التبيان ١ : ٥.

(٥) انظر الوسائل ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٦ ، والمحاسن ١ : ٣٤٨ ، الحديث ١٣١ و ١٣٢ وغيرها.

٧٩٧

لدلالة الكتاب ، بل إسقاط لمقدّمات الحكمة من جهة ابتلائها بمعارضها وللعلم الإجمالي بعدم الجريان في أحدهما ، فيتساقطان ويرجع إلى عموم لفظي فوقهما لو كان ، وإلّا فإلى الأصل العملي.

هذا تمام الكلام في التعادل والترجيح.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

تمّت على يد مقرّرها ومحرّرها محمّد تقي الجواهري.

وقد وقع الفراغ من تحريرها عشيّة الاثنين المصادف ٢٦ ذي القعدة الحرام ١٣٦٩ ه‍.

٧٩٨

بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد

في مبحث الاجتهاد والتقليد (*)

عرّف الاجتهاد بتعاريف كثيرة ، منها قولهم : هو استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي ، ومعلوم أنّ مثل هذا التعريف لأبناء العامّة (١) لعدم اعتبار الظنّ عندنا ، ولعلّه لذلك أنكره الأخباريون كما أنكروا جواز تقليده وزعموه بدعة (٢) فإنّ هذا الظنّ ممّا لم يقم على اعتباره دليل شرعي ، فيبقى تحت عموم النهي عن العمل بالظنّ ، إلّا أنّ الاجتهاد الّذي يقول به الاصوليّون هو استفراغ الوسع في تحصيل

__________________

(*) لا يخفى أنّ كلّ متدين بشريعة يعلم أو يحتمل إجمالا بوجود إلزامات فعلية أو تركية فلا بدّ عقلا من حصول المؤمّن من تبعيّتها ، فلا بدّ من أن يكون مجتهدا في تحصيل تلك الإلزامات وأمثالها ، ولما كانت القطعيات فيها نادرة فلا بدّ من تحصيلها أمّا بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط ، وحيث إن الاحتياط خلافي فلا بدّ من أن يقلّد في جواز الاحتياط ، وحيث إنّ جواز التقليد أوّل الكلام فلا بدّ أن يكون مجتهدا في جواز التقليد. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

(١) انظر شرح مختصر الاصول ٢ : ٤٦٠ ، والأحكام الآمدي ٢ : ٣٩٦ ، وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت المطبوع مع المستصفى للغزالي ٢ : ٣٦٢.

(٢) انظر الفوائد المدنيّة : ٢ وبعدها.

٧٩٩

القطع بالحكم الشرعي (١) والظاهر أنّ هذا المعنى من الاجتهاد لا ينكره الأخباريّون ولا يمنعون من جواز رجوع العوام إلى مثل هذا الشخص ، لأنّ العاميّ إن لم يرجع إلى مثل هذا المجتهد يلزمه أن يترك الأعمال. وتسمية مثله راو أو مجتهد لا تضرّ ، إذ لا مشاحّة في الاصطلاح.

(والظاهر أنّ بهذا يظهر أنّ النزاع بين الأخباريّين والاصوليّين لفظي) (٢). ولفظ الاجتهاد لم يقع في رواية أو آية بهذا المعنى موضوعا لحكم من الأحكام الشرعيّة كي يقع الكلام في معناها ، فالاجتهاد له أحكام ، ففي كلّ حكم ننظر ما أخذه الشارع موضوعا لذلك الحكم ، وننظر في معنى ذلك الحكم. وقد اخذ الاجتهاد وموضوعا لأحكام ثلاثة :

الأوّل : أنّ المجتهد لا يجوز له أن يعمل برأي الغير ، بل إمّا أن يعمل برأيه أو يحتاط.

الثاني : نفوذ حكمه وقضائه في حقّ غيره ممّن لم يطّلع على فساد المستند حينئذ.

الثالث : جواز تقليده والرجوع إليه في الأحكام الشرعيّة.

أمّا الموضوع الّذي قد حكم عليه بعدم جواز رجوعه إلى الغير في أحكام دينه فهو بناء على ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره وادّعى عليه الإجماع (٣) ولم يخالف فيه أحد إلّا بعض السادة المتأخّرين ـ والظاهر أنّ المراد به السيّد إبراهيم صاحب ضوابط الاصول ـ هو واجد الملكة يعني ملكة الاستنباط ، وحينئذ فواجد ملكة الاستنباط وإن لم يستنبط بالفعل لا يجوز له الرجوع إلى الغير في أحكامه ، بل إمّا أن يعمل برأيه أو يعمل بالاحتياط للإجماع المدّعى ولانصراف أدلّة التقليد عن مثله ، فتعريفه حينئذ هو استفراغ الوسع لتحصيل الملكة على استنباط الحكم الشرعي.

__________________

(١) انظر الكفاية : ٥٢٩.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٣) رسالة التقليد للشيخ الأنصاري : ٣٠.

٨٠٠