غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

لا من جهة الامتثال ، فيمكن استحباب الاحتياط حينئذ من هذه الجهة لهذه الرواية المباركة ، فتحمل على الاستحباب المولوي.

وما ذكره قدس‌سره من جهة الاستحباب المولوي ، متين جدّا. لكن ما ذكره قدس‌سره من لزوم حملها على الاستحباب لوقوعها في سلسلة المعلولات للحكم وهو الامتثال ، لا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ الوقوع في سلسلة المعلولات ليس محتّما لكون الواقع إرشاديّا ، وإنّما يحمل الأمر على الإرشاديّة إذا استحال حمله على المولويّة لأنّ ظهور الأمر في المولويّة مانع عن إرادة الإرشاد.

نعم ، لو استحال حمله على المولويّة لزم مخالفة الظاهر حينئذ قهرا فيحمل على الإرشاد كما في أوامر الإطاعة ، فإنّ الأمر بنفس الواجب لو لم يكن داعيا للمأمور به لم يكن الأمر بالإطاعة داعيا إليه لعدم وجوب امتثال لخصوص الأمر بالإطاعة دون الأمر بالواجب. فلو فرض إمكان التسلسل في أوامر الإطاعة أيضا لو لا حكم العقل بلزوم الإطاعة لا تجدي الأوامر الشرعيّة بالإطاعة أصلا ، وهذا معنى قوله : «من لم يكن له زاجر من نفسه لم تنفعه الزواجر» (١) ففي مثل الأمر بالإطاعة حيث استحال حمله على المولويّة لزم مخالفة ظهوره في المولويّة ، وحمله على الإرشاد لا لكونه في سلسلة معلولات الحكم. وهذا بخلاف الأمر بالاحتياط فإنّ الاحتياط مع إدراك العقل عدم تحتمه وجواز تركه يمكن للشارع مولويّا أن يأمر به إلزاما لأن لا يفوت الملاك الواقعي كما يقوله الأخباري واستحبابا كما نقوله. فقد ظهر حينئذ إمكان حمل أوامر الاحتياط على الاستحباب حتّى بلحاظ جنبة كونه امتثالا.

وأمّا الكلام في الثاني من الأمرين وهو أنّه هل يعتبر في إتيان الاحتياط المستحبّ رجاء الأمر الواقعي فيكون أمر الاحتياط في طول الأمر الواقعي المحتمل

__________________

(١) لم نعثر عليه بعينه ولكن ورد عن أبي جعفر عليه‌السلام : من لم يجعل الله له من نفسه واعظا فإن مواعظ الناس لن تغني عنه شيئا. تحف العقول : ٢٩٤.

٢٨١

إمّا لكون أمر الاحتياط توصّليّا والعمل المفروض عبادة لا بدّ فيها من قصد أمرها ، فلا بدّ من قصد الأمر الواقعي الاحتمالي ، وإمّا لأنّ مفهوم الاحتياط لا يتحقّق إلّا بذلك ولا يتحقّق بإثبات ذات العمل متقرّبا به كما هو في كلّ موضوع حكم لا بدّ من صدقه وانطباقه مع قطع النظر عن ذلك الحكم ، أم لا يعتبر ، بل يكفي إتيانه بقصد الأمر الاستحبابي فيكون أمر الاحتياط في عرض الأمر الواقعي المحتمل؟

فنقول : الظاهر كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) كفاية الإتيان به ولو مع الغفلة عن الواقع إذا وقع مضافا إلى الله تعالى بأحد وجوه الإضافة المتقدّمة الذكر في التعبّدي والتوصّلي ، وهذا لا يفرق فيه بين مبنانا من إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ، ومبنى الميرزا من أخذ قصد القربة بمتمّم الجعل.

بيان ذلك أنّ الواجبات على ما ذكرنا بأجمعها تكون توصّليّة ، إذ المفروض أنّ قصد القربة يكون من متعلّق الأمر ، فعدم سقوط أمر الصلاة بإتيانها بغير قصد القربة لعدم إتيان متعلّق الأمر ، كما لو أمر بغسل الثوب مقيّدا بعصره ، فعدم سقوط الأمر بالغسل بغير العصر إنّما هو لعدم إتيان متعلّق الأمر ، فبناء على ذلك لا يكون فرق بين الأوامر التوصليّة والأوامر التعبديّة أصلا. فبناء على هذا الأمر الأوّلي المتعلّق بالواجب الواقعي إنّما تعلّق بالواجب الواقعي المضاف إلى الله تعالى جهة إضافة ، إذ ليس قصد الأمر بخصوصه مطلوبا ، وإنّما المطلوب القربة وهو جامع بين جميع الإضافات إلى الله ولو لكونه أهلا للعبادة ، بل هذا من أظهر مصاديق الإضافة إليه ، بل أقوى من قصد الأمر ، فالأمر الاستحبابي كذلك. فلو أتى بمتعلّق الأمر الاستحبابي الاحتياطي مضافا إلى الله ولو كان غافلا عن الواقع المجهول أصلا فلا ريب في امتثال الأمر الاستحبابي وحصول الاحتياط قطعا به ، فيكون نظير من نذر الإتيان بصلاة الليل في سقوط أمر النذر بمجرّد الإتيان بها ولو مع الغفلة عن أمرها الاستحبابي.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ١٥٣.

٢٨٢

فقد ظهر ممّا حرّرناه أنّ أوامر الاحتياط عرضيّة بالإضافة إلى الأوامر الواقعيّة ، لأنّ الوجهين الدالّين على الطوليّة غير تامّين.

أمّا الأوّل منهما فلابتنائه على الفرق بين سنخ الأوامر التوصّليّة والتعبّديّة ، وهو باطل كما ذكرنا.

وأمّا الثاني فلابتنائه على أخذ قصد الأمر رجاء في مفهوم الاحتياط ، وهو غير مسلّم ؛ لأنّ مفهوم الاحتياط هو الإتيان بعمل لو فرض كونه مطلوبا في الواقع لسقط أمره به ، ويكفي في ذلك إتيانه بوجه قربي.

نعم ، قبل الأمر بالاحتياط كان الاحتياط منحصرا بالإتيان به رجاء ، ولكنّه بعد الأمر بالاحتياط صار له طريق آخر وهو إضافته إلى الله بهذا الأمر الاستحبابي. وكأنّ هذا الوجه مبنيّ على الخلط بين مورد الاحتياط الّذي يعتبر فيه احتمال بقاء الأمر الواقعي وبين مفهومه ، فتخيّل دخالته في المفهوم وليس كذلك ، فإنّ الرجاء وإن كفى إلّا أنّه لا لخصوصيّة له ، بل من جهة أنّه أحد طرق الإضافة ، فافهم.

ولا حاجة إلى ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره من انقسام الأوامر النذريّة في الشريعة إلى تعبّديّة وهي ما كان متعلّقه عبادة ، وتوصّليّة وهي ما كان متعلّقه توصّليّا أصلا.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من توقّف الإتيان بالمستحبّ على قصد الأمر بالواقع المحتمل لا يستقيم على مبناه أيضا.

[التنبيه الثالث] : بقي الكلام في أخبار «من بلغ» وهي أخبار كثيرة بلسان أنّه «من بلغه ثواب على عمل فعمله أوتيه وإن لم يكن كما بلغه» وهذه الأخبار أخبار كثيرة وصحيحة ، وقد عقد لها الحرّ العاملي قدس‌سره في الوسائل بابا في مقدّمة العبادات ، وسرد أخبارا تسعة بهذه المضامين (١).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٥٩ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات.

٢٨٣

وبالجملة ، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها من حيث سندها ؛ لأنّ فيها صحيحة هشام (١) مضافا إلى تسالم الأصحاب على قبولها وعدم مناقشة المناقش من الأصحاب في سندها أصلا ، وإنّما المناقشة في دلالتها.

فنقول ـ وعلى الله الاتّكال ـ : وقع الكلام بين الأصحاب في دلالة هذه الأخبار ، وأنّ دلالتها ما هي ، فهل إنّها إرشاد إلى حكم العقل ، بمعنى أنّ العقل يحكم بأنّ الأوامر الاستحبابيّة يثاب العبد عليها إذا عملها ، فهي في مقام بيان ما يستقلّ العقل بإدراكه من الثواب على إتيان المأمور به المستحبّ مع قطع النظر عن كيفيّة بلوغه إلى العبد وأنّه بلوغ وجداني كما إذا قطع بالاستحباب ، أو تعبّدي كما إذا قام الطريق الشرعي كالخبر الواحد بشرائطه المعهودة على الاستحباب ، فهي غير ناظرة إلى التسامح في أدلّة السنن أصلا.

أو إنّها مخصّصة للأدلّة الدالّة على اعتبار العدالة والضبط وغيرها في الخبر الواحد فتكون أخبار من بلغ تخصّصه بغير المستحبّ ، أمّا في المستحبّ فهذه الشروط ملغاة مثلا.

أو إنّها تكون هي بأنفسها جاعلة للاستحباب لما كان بهذا العنوان ـ أي بعنوان بلغ ـ فإذا كان ما بلغ الثواب عليه غير مقول للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا للأئمّة ، وإنّهم لم يوعدوا واقعا بالثواب عليه فهو بالعنوان الثانوي ، وهو عنوان بلوغه إلى العبد محبوب للمولى ومطلوب له؟ أوجه ثلاثة (*).

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ١ و ٢ و ٦.

(*) يوجد في الهامش إضافة من المناسب إيرادها هنا : وربّما فصّل بعضهم فزعم دلالة نوع هذه الأخبار على جعل استحباب ذات العمل وزعم دلالة الروايتين المشتملتين على قوله : فعمله التماس قول النبيّ أو طلب قول النبيّ ، على استحباب الانقياد ـ انظر كفاية الاصول : ٤٠١ ـ ولا يخفى أنّه لا مقتضى لهذا التفصيل بعد ضعف سند هاتين الروايتين بمحمّد بن مروان المجهول وغيره الضعيف.

٢٨٤

ولكنّ يضعّف الأوّل ـ مضافا إلى الاستغناء عنه بحكم العقل ـ أنّ لسانها ليس لسان إرشاد ، بل لسان جعل الداعي للمكلّف والتشويق له نحو ذلك العمل ، وأنّه مطلوب للمولى كما هو ظاهر لكلّ من له ذوق سليم.

ويضعّف الثاني أيضا بالذيل المذكور في الروايات من قولهم عليهم‌السلام : «وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (١) إذ ظاهرها جعل الاستحباب بالعنوان الثانوي وليس لسانها لسان إلغاء الشكّ ولزوم التصديق لذلك الخبر وترتيب الأثر عليه ، فيتعيّن الوجه الثالث (*) كما فهمه المشهور من أصحابنا وذهبوا إليه (٢) وإن كان تعبيرهم بالتسامح في أدلّة السنن يعطي الوجه الثاني ، إلّا أنّ حكمهم بالاستحباب الشرعي في تلك الموارد كاف في كون هذا الخبر جاعلا للاستحباب.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٥٩ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ١ و ٣ و ٤.

(*) وربّما استدلّ بعض الأعاظم (لم نعثر عليه) على إفادة هذه الأخبار جعل الاستحباب بقوله عليه‌السلام فيها : «فعمله» بدعوى أنّ الجملة الفعليّة قد تستعمل في الطلب ، بل هي آكد من الجملة الإنشائيّة فيه.

وفيه أنّ الجملة الفعليّة إنّما تستعمل في الطلب حيث تكون جواب شرط ظاهر أو مقدّر ، حيث إنّ حملها على الإخبار كذب فتحمل على الإنشاء ، بل لم نجد فعلا ماضيا استعمل في الطلب ولم يكن جواب شرط.

وربّما استدلّ عليه بأنّ هذه الأخبار رتّبت نفس الثواب البالغ على العمل ، ولو كان الثواب على الانقياد لم يكن وجه لإعطاء نفس الثواب بعينه ، بل يعطيه ثواب الانقياد الّذي يستقلّ به العقل.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّه يمكن أن يكون أصل الحكم بالثواب عقليّا ، وتقديره بالبالغ من الثواب تفضّل في تفضّل ، فإنّ أصل الثواب تفضّل ، فتأمّل. (الجواهري).

(٢) انظر مفاتيح الاصول : ٣٤٦.

٢٨٥

وبالجملة ، الظاهر من سياق هذه الأخبار هو جعل الاستحباب بالعنوان الثانوي ، إلّا أنّ الكلام في أنّها توجب استحباب ذات العمل أو توجب استحباب العمل المأتيّ به رجاء الأمر الاستحبابي واقعا؟

قال الاستاذ أيّده الله تعالى : وهذا النزاع إنّما يتأتّى إذا قلنا إنّ أدلّة الاحتياط لا تقتضي استحباب الإتيان بالاحتياط رجاء ، وإنّما تقتضي استحباب ذاته.

وأمّا إذا قلنا باقتضاء الإتيان به رجاء لإدراك الواقع فلا حاجة إلى البحث هنا في هذا الكلام ؛ إذ يأتي به رجاء بأدلّة الاحتياط من غير حاجة إلى أخبار من بلغ الظاهر أنّها دالّة على استحباب ذات العمل ، لأنّ الصحيحة في تلك الأخبار وهي صحيحة هشام : «من بلغه شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (١) فقد رتّب الثواب على نفس العمل لا العمل رجاء إدراك الواقع ، فافهم (*).

(وممّا يدلّ على أنّ أخبار من بلغ في مقام جعل الاستحباب لذات العمل لا في مقام الإرشاد لحكم العقل بحسن الانقياد ، هو اعتبار البلوغ في موضوعها مع عدم اعتبار البلوغ في موضوع الانقياد ، إذ من احتمل وجوب شيء لا من خبر بلغه إذا أتى به منقادا يثاب بثواب الانقياد قطعا ، فاعتبار البلوغ دليل على جعلها لاستحباب ذات العمل) (٢).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٥٩ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث الأوّل.

(*) ولا يخفى أنّ أخبار الاحتياط مثل : «أخوك دينك» وغيرها إنّما هي في الواجبات المحتملة ، وأخبار من بلغ في محتمل الاستحباب ، فموضوع أحدهما غير موضوع الآخر ، إلّا أن يقال بأنّ الإتيان بمحتمل الوجوب رجاء مشارك مناطا للإتيان بمحتمل الاستحباب ، فتأمّل.

(الجواهري). راجع الوسائل ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة وأضاف المقرّر في آخره : فتأمّل (الجواهري).

٢٨٦

وربّما يقال بأنّ الإتيان بالفاء في قوله : «فعمله» دالّ على كون العمل من جهة إدراك الواقع وبلوغ الثواب له ، مع أنّ بعض تلك الروايات مقيّد بقوله «طلبا لقول النبيّ» وبعضها مقيّد «بالالتماس للثواب» فيقيّد تلك المطلقات ، وعدم حمل المطلق على المقيّد في المستحبّات إنّما هو من جهة احتمال وجود محبوبين : أحدهما المقيّد والآخر المطلق ، وهو مفقود في المقام ، لأنّ العمل المحبوب في المقام واحد قطعا ، فإمّا المطلق أو المقيّد فيحمل المطلق على المقيّد ولا يتوقّف.

وقد أجاب الآخوند قدس‌سره عن الشبهة الاولى ـ وهي شبهة التفريع بالفاء ـ بأنّ التفريع إنّما يعطي أنّ الباعث لذلك العمل والداعي له هو بلوغ الثواب ، ولا يقتضي أن يكون العمل المدعوّ إليه معنونا بكون الإتيان به بقيد رجاء إدراك المستحبّ الواقعي.

وعن الشبهة الثانية ـ وهي شبهة كون بعض هذه الروايات مقيّدة بالتماس الثواب وطلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أي مقوله ـ بأنّ موضوع هذه الروايات استحباب الانقياد إرشادا إلى حكم العقل بحسنه (١) ولكن هذا لا يقتضي أن تكون الروايات المطلقة أيضا أمرها إرشاديّا ، وملخّصه أنّ موضوع الروايات المطلقة استحباب ذات العمل وموضوع المقيّدة استحباب الانقياد إرشادا إلى حكم العقل بحسنه ، فموضوع كلّ منهما غير موضوع الآخر فلا مجال لحمل المطلق على المقيّد أصلا في المقام.

والتحقيق في الجواب عن الشبهة الاولى أنّ التفريع إنّما يقضي بكون العمل الخارجي متفرّعا على بلوغ الثواب عليه لا أزيد من ذلك ، ولا يقتضي كون الإتيان به برجاء الأمر الواقعي الّذي هو محلّ الكلام إذ إنّ الباعث في المستحبّ القطعي أيضا هو بلوغ الثواب ، فلا ريب أنّ التفريع إنّما يقضي بكون العمل مبعوثا إليه من جهة بلوغ الثواب ، فالداعي إذا كان بلوغ الثواب فلا يضرّنا أصلا ، وإنّما يضرّنا كون إتيان العمل لرجاء إدراك الواقع محبوبا ، وأحدهما غير الآخر.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٢.

٢٨٧

ومن هنا ظهر أنّ كون العمل معنونا بعنوان أنّه بلغ الثواب عليه لا يضرّ أصلا كما في المستحبّات القطعيّة ، فإنّ إتيانها إنّما هو بعنوان بلوغ الثواب عليها ، ومع ذلك لا يناقش في استحباب ذات العمل أصلا.

وبهذا الجواب ظهر الجواب عن الشبهة الثانية ، وهو تقييد الخبر بالتماس الثواب والطلب لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ التماس الثواب عبارة اخرى عن قوله : بوجه قربي ، إذ أنّ ذات العمل لا يترتّب عليها الثواب وإنّما يترتّب الثواب على العمل المعنون بعنوان كونه عبادة ، فقوله : التماسا للثواب ، مرادف لقوله : بوجه قربي ، فالتماس الثواب وطلبه موجودان في كلّ عمل واجب أو مستحبّ وإن قطع باستحبابه ، وهذا لا ربط له بكون العمل محبوبا لذاته أو محبوبا برجاء إدراك الواقع ، وما يضرّنا هو الثاني ، والروايتان المقيّدتان لا يعطيانه أصلا حتّى يتكلّم في إمكان كونهما مقيّدتين للباقي من الروايات المطلقة أو لا أصلا. فافهم ما في جواب الآخوند قدس‌سره ، إذ ظاهره تسليم كون هاتين الروايتين إرشاديّتين إلى حكم العقل ، فافهم.

(نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الإخبار عن إيتاء الثواب على العمل الّذي بلغ عليه الثواب لا يدلّ بالملازمة على الأمر به نظير قولنا : من أكل الرمّان يوم الجمعة كان له كذا ، لأنّ أكل الرمّان لا يقضي الثواب بنفسه. فيستكشف من ترتيب الثواب عليه وجود أمر به ونتيجته الاستحباب. أمّا المقام فالإخبار عن الثواب لازم أعمّ لإمكان كون الثواب من جهة الانقياد فلا يقتضي بالملازمة أمرا بالعمل فلا يثبت استحبابه بهذا العنوان.

فالإنصاف أنّ هذه النصوص إنّما تكون إرشادا إلى حكم العقل بحسن الانقياد ولا تثبت أكثر من ذلك ، بل إنّ ظهورها في الاستحباب أقلّ من ظهور أوامر الاحتياط ، لأنّ أوامر الاحتياط مشتملة على أمر مثل : فاحتط لدينك ، وهو ظاهر في المولويّة ، بخلاف المقام فإنّه لا أمر فيه أصلا.

٢٨٨

ثمّ إنّه قد يقال : إنّ أخبار من بلغ إنّما تدلّ على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب لخصوص من بلغه فلا تشمل المقلّد ، وإنّما تختصّ بخصوص المجتهد الّذي بلغه الثواب بالرواية الضعيفة. ولكنّه مردود بأنّ المقلّد يبلغه الثواب بنفس فتوى ذلك الفقيه بالاستحباب ، فإنّ قوله : يستحبّ كذا ، فيه بلوغ ثواب على عمل فيتحقّق موضوع بلوغ الثواب بنفس الفتيا) (١).

بقي شيئان :

أحدهما : أنّ إطلاق هذه الروايات معارض لما دلّ على اعتبار العدالة في خبر الواحد مثل آية النبأ وغيرها (٢).

والجواب :

أوّلا : أنّها بالنسبة إلى آية النبأ خاصّ فتقدّم روايات من بلغ عليها لتقديم الخاصّ على العامّ ، فإنّ آية النبأ دلّت على اعتبار العدالة في مطلق الروايات وأخبار من بلغ خاصّ بما بلغ عليه الثواب ، وبالنسبة إلى غير آية النبأ ممّا دلّ على اشتراط العدالة في خصوص ما بلغ عليه الثواب لو فرض تقدّم هذه الأخبار لتلقّي الأصحاب لها بالقبول.

وثانيا : أنّا لا نريد إثبات حجّية الخبر الضعيف حيث يكون الراوي فاسقا حتّى يكون منافيا لما دلّ على اشتراط العدالة ، وإنّما نريد تحقيق موضوع البلوغ بورود ذلك الخبر الضعيف ، والجاعل للاستحباب هو أخبار من بلغ لا نفس الخبر الضعيف ، بل الخبر الضعيف محقّق لموضوع أخبار من بلغه ، فافهم.

والثاني : أنّ أخبار من بلغ أخبار آحاد لا تصلح لإثبات الحجّية للخبر الضعيف ، إذ خبر الواحد لا يثبت المسألة الاصوليّة.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) راجع فرائد الاصول ١ : ٢٩٧ ـ ٣١٠.

٢٨٩

والجواب :

أوّلا : أنّ هذه الأخبار قد ادّعي (١) تواترها ، وهو غير بعيد.

وثانيا : أنّا لا نريد إثبات حجّية الخبر الضعيف بها ، وإنّما نريد أن نحقّق موضوع البلوغ ، فليس البحث عن الحجّية حتّى تكون من المسائل الاصوليّة.

وثالثا : أنّ المسائل الاصوليّة بأسرها تثبت بأخبار الآحاد إلّا خبر الواحد للزوم الدور فيه بخصوصه ، وإلّا فالاستصحاب إنّما ثبتت حجّيته بأخبار الآحاد ، وخبر الواحد لا يثبت اصول العقائد لا اصول الفقه ، فافهم.

التنبيه الثاني (٢) في بيان امور :

الأوّل : أنّ أدلّة «من بلغ» بإطلاقها شاملة للبلوغ بنحو المطابقة أو الالتزام كما إذا نطقت الرواية الضعيفة باستحباب عمل ، فإنّه بضميمة الأدلّة الدالّة على الثواب على إتيان المستحبّ يبلغ الثواب.

الثاني : أنّ أخبار «من بلغ» بما أنّ موضوعها بلوغ الثواب على العمل فهي شاملة لما إذا كانت الرواية الضعيفة ناطقة بالوجوب ، فإنّ الواجب أيضا قد بلغ الثواب عليه ، ولا مخصّص لهذه الروايات بخصوص الثواب البالغ على خصوص المستحبّ ولذا ترى الفقهاء إذا عثروا على رواية ضعيفة تدلّ على وجوب شيء يقولون : لكنّها قاصرة من حيث السند فلا بأس بحملها على استحباب ذلك العمل. وهل تكون شاملة للإخبار بالكراهة أو الحرمة حيث يكون الخبر الدالّ عليهما ضعيفا؟ الظاهر عدم الشمول ، لأنّ هذه الأخبار ناطقة ببلوغ الثواب ، وليس في ترك المكروه إلّا ترك شيء في فعله حزازة وليس في الترك ثواب.

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) كذا ، ولم يسبق ذكر للتنبيه الأول في هذا البحث.

٢٩٠

نعم ، في بعض الأخبار : «من بلغه خير» (١) لكنّ ذيل هذا الخبر «فعمله» وهو ممّا يعطي كون الخير في العمل لا في تركه ، والمناط وهو إرادة التوسعة فيما لا إلزام فيه ، وإن كان يقضي بدخول المكروه أيضا لكنّه ليس قطعيّا ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

(نعم ، لو كان الترك محبوبا شرعا كما في ترك المخيط والطيب لمن أحلّ من إحرامه بالحجّ بالطواف والسعي فإنّه يستحبّ له ترك لبس المخيط والطيب حتّى يطوف طواف النساء ، فلو كان الخبر الدال على ذلك ضعيفا فهو وإن لم تشمله أخبار من بلغ بمنطوقها ، لأنّها ظاهرة في الأفعال الوجوديّة إلّا أنّها شاملة لها ملاكا قطعا ، وتعبير الأخبار «بعمل» وبقوله «فعمله» من جهة كون غالب المستحبّات وجوديّة.

وحينئذ فلو كان العمل الواحد فيه خبران ضعيفان : أحدهما يقتضي استحباب فعله ، والآخر يقتضي استحباب تركه ، فالظاهر أنّهما من باب المتزاحمات حيث يكونان من قبيل الضدّين اللذين لهما ثالث وتزاحم المستحبّات دائمي ، فإنّ استحباب قراءة القرآن والدعاء والوعظ ثابت في كلّ آن لكلّ مكلّف.

نعم ، لو كانا من قبيل الفعل والترك أو الحركة والسكون من النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما كانا من باب المتعارضين ، إذ استحباب كلّ منهما عرضا غير معقول ، لعدم القدرة عليهما معا في زمان واحد ، واستحباب أحدهما في ظرف ترك الآخر أيضا محال ، لكونه حاصلا حينئذ بالضرورة ، فلا معنى لطلبه حينئذ فتكون أخبار من بلغ قاصرة عن شمول ما كان من النقيضين أو الضدّين اللذين ليس لهما ثالث فلا يحكم باستحبابه.

نعم ، لو كان أحد من الضدّين عباديّا خرج عن الفرض وصار ممّا لهما ثالث ، وكذا لو كان كلا الضدّين عباديّا ، ومن هنا حكم الشيخ الأنصاري باستحباب صوم

__________________

(١) الوسائل ١ : ٦١ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٨.

٢٩١

يوم عاشورا واستحباب تركه أيضا (١) وأنّه من تزاحم المستحبّات ، وزعم أنّ الترك أقوى ملاكا لمداومة الأئمّة عليهم‌السلام على الترك ، فقد أعمل قواعد التزاحم ، لأنّ الصوم عبادي فهما من الضدّين اللذين لهما ثالث ، فافهم) (٢).

الثالث : أنّ البلوغ هل يتحقّق بفتوى الفقيه أم لا؟ أمّا من كان من الفقهاء يفتي بمتون الأخبار كابن بابويه والشيخ في النهاية فلا ريب في تحقق البلوغ بفتاويهم ، وأمّا من لم يكن كذلك فلا يبعد تحقّق البلوغ بفتاويهم أيضا فإنّه بفتواه يخبر عن قول المعصوم عليه‌السلام.

ودعوى انصراف البلوغ إلى البلوغ بحسب الرواية كما ادّعاها الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) عهدتها على مدّعيها.

وهل تشمل أدلّة من بلغ أخبار الأئمّة ومصائبهم وأقوالهم الواقعة في القصص المنقولة بروايات ضعيفة فيجوز نسبتها إليهم أم لا فلا بدّ من الإشارة إلى كون الرواية ضعيفة؟ الظاهر عدم الشمول ، لأنّ أقاويل الأئمّة الّتي في ضمن القصص لم تكن متضمّنة لثواب على عمل أصلا وأخبار : حدّثوا شيعتنا بما جرى علينا من المصائب وما يحيي أمرهم عليهم‌السلام أخبار صريحة بحسب الدلالة وصحيحة من حيث السند إلّا أنّها لا تثبت صغراها وهو كون ما هو في هذه الرواية من مصائبهم أم لا ومن معاجزهم عليهم‌السلام أم لا ، فلا يجوز نقل مثل هذه الأخبار ، وقول «قال الصادق» مثلا بالنسبة إلى مضامينها إلّا بالإشارة إلى كون هذا مرويّا برواية كقوله : روي عن الصادق ، ولا يقول «قال الصادق» فإنّه قول بغير علم.

__________________

(١) انظر رسائل فقهيّة : ١٥٦ (قاعدة التسامح).

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) انظر فوائد الاصول ٣ : ٤١٥.

٢٩٢

الرابع : هل تشمل هذه الأخبار الشبهات الموضوعيّة أم مختصّة بالشبهات الحكميّة ، فلو قام خبر ضعيف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يدلّ على كون مكان ما مسجدا فهل يستحبّ الصلاة فيه بأخبار من بلغ أم لا؟ الظاهر عدم الشمول ، لأنّه وإن كان إخبارا عن الحكم بالملازمة إلّا أنّ ظاهر أخبار من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كون المخبر به عن النبيّ ممّا هو من وظائفه بما أنّه نبيّ. ومن المعلوم أنّ وظائفه بما هو نبيّ بيان الأحكام الكلّية بنحو القضايا الحقيقيّة ، وأمّا انطباق الصغرى على كبراها وبيان الموضوعات فليس من وظائفه بما أنّه نبيّ.

الخامس : أنّ أخبار من بلغ لا تشمل ما قامت حجّة على تحريمه بعموم أو إطلاق أو نحوهما ، فلو كان هناك عموم أو إطلاق دلّا على حرمة عمل وقام الخبر الضعيف على استحبابه فلا يكون مستحبّا بأخبار من بلغ ، لأنّه قد قامت الحجّة القويّة على ثبوت العقاب عليه ، وبقاعدة الملازمة نعلم أنّه لا ثواب على فعله وإلّا لم يكن معنى للعقاب على فعله ، وبهذين الأمرين نعلم أنّه لا ينبغي الريب في عدم شمول هذه الأخبار الأخبار الضعيفة الواردة في مصائبهم ومعجزاتهم عليهم‌السلام لأنّ الصغرى وهي كونها من معجزاتهم غير معلوم أصلا ، وهناك عموم دالّ بعمومه على حرمة القول بغير علم وهذا منه قطعا ، فإنّه قول بغير علم إلّا أن يشير في أوّل كلامه فيقول : روي عن النبيّ ، ولا يقول : قال النبيّ أو الصادق أو الباقر أو غيرهما. فما اختاره الشهيد الأوّل (١) وتبعه عليه الشهيد الثاني (٢) واحتمله الأنصاري في رسالته (٣) من شمول أخبار من بلغ هذا ونحوه لم يعلم وجهه ولم يصلنا ما يدلّ عليه أصلا ، فتأمّل.

__________________

(١) الذكرى ٢ : ٣٤.

(٢) الدراية : ٢٩.

(٣) رسائل فقهيّة : ١٥٩.

٢٩٣

بقي الكلام في الثمرة بين القول باستحباب ذات العمل الّذي بلغ عليه الثواب وبين القول بالإتيان بالعمل رجاء ، وكون أخبار من بلغ إرشادا إلى حكم العقل بحسن الانقياد ، ويترتّب عليها ثواب الانقياد من دون أن يكون ذات العمل مستحبّا. والفرق بين القولين أنّه على الأوّل يكون العمل بذاته مستحبّا شرعيّا ، بخلافه على الثاني فإنّه ليس مستحبّا شرعيّا ، بل حسن عقلي ، وحينئذ فلو كان هناك أثر لأحدهما فلا يترتّب على الآخر. فيجوز الإتيان بالعمل لاستحبابه الذاتي على الأوّل ، بخلافه على الثاني فلا يجوز إلّا رجاء لحرمة التشريع.

وقد ذكر هناك ثمرتان :

الاولى : بالنسبة إلى غسل ما استرسل من اللحية في الوضوء لو دلّت على استحبابه رواية ضعيفة ، فلو قلنا بأنّ أخبار من بلغ تجعل الاستحباب لذات العمل فيجوز المسح بماء المسترسل من شعر اللحية للقدمين والرأس ، وإن قلنا بأنّ الأخبار إرشاد إلى حكم العقل باستحسان الإطاعة الاحتماليّة فلا يجوز المسح به أصلا.

وقد أورد الآخوند قدس‌سره (١) في تعليقته بعدم ترتّب هذه الثمرة وعدم جواز المسح على كلا التقديرين ، لأنّ المسح يلزم أن يكون بماء الوضوء وهذا ليس مسحا بماء الوضوء.

والظاهر أنّ جواب الآخوند قدس‌سره مبنيّ على استفادته من خبر غسل المسترسل استحبابه النفسي الاستقلالي ، والظاهر أنّ الخبر الدالّ على غسل المسترسل إنّما دلّ على استحبابه جزءا للوضوء فهو من اجزاء الوضوء المستحبّة ، وحينئذ فترتّب الثمرة ممّا لا ريب فيه.

__________________

(١) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢٢٧.

٢٩٤

الثاني : من الإيرادات على هذه الثمرة ما ذكره الشيخ الأنصاري (١) من منع إجزاء المسح بكلّ جزء من أجزاء الوضوء لو كان مستحبّا ، بل المجزئ هو المسح بماء أجزاء الوضوء الواجبة فلا يصحّ المسح بماء ما استرسل من اللحية ، لأنّه ليس من الأجزاء الواجبة الغسل ، بل لو ورد استحباب غسل المسترسل بالخبر الصحيح لما صحّ المسح به ، فضلا عن كونه بالخبر الضعيف المتمّم بأخبار من بلغ.

الثانية : ما لو دلّ خبر ضعيف على استحباب الوضوء لسبب من الأسباب مثل الخروج لقضاء حاجته مثلا ، فلو دلّت أخبار من بلغ على استحباب ذات الوضوء يصحّ الدخول به في الصلوات ، وإن لم تدلّ على استحباب ذات العمل بل كانت إرشادا إلى حكم العقل بحسن الطاعة الاحتماليّة لا يصحّ الصلاة به ، لعدم معلوميّة الأمر به حتّى يكون وضوءا شرعيّا.

وقد أورد الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) بأمره بالتأمّل إيرادا على هذه الثمرة ، وفسّره المحشّون بأنّ هناك كثيرا من أفراد الوضوء قد أمر الشارع به مع عدم صحّة الدخول به في الصلاة ، كوضوء الحائض للجلوس في مصلّاها ووضوء الجنب لمعاودة المواقعة وللنوم مع عدم صحّة الصلاة به.

ولا يخفى عدم ورود الإيراد المذكور ، لأنّ الوضوء إنّما يرفع الحدث الأصغر لا الأكبر وعدم صحّة الصلاة في هذه الموارد من جهة وجود الحدث الأكبر ، على أنّا نحتمل ارتفاع مرتبة من الحدث الأكبر وأنّ الوضوء مخفّف له ومذهب لشدّته فحيث يثبت استحبابه ذاتا يجوز الدخول به في الصلاة ، بخلافه على الاحتمال الثاني لعدم الأمر الشرعي به حينئذ ، فالثمرة من هذه الجهة تامّة.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ١٥٨.

(٢) المصدر السابق.

٢٩٥

لكنّ أصل الثمرة المذكورة لا تتمّ إلّا بناء على عدم استحباب الوضوء النفسي وليس كذلك ، بل هو مستحبّ نفسي ، كما قرّر في محلّه. وحينئذ فيصحّ الصلاة بهذا الوضوء كانت أخبار من بلغ دالّة على الاستحباب النفسي أم لم تكن.

فظهر أن لا ثمرة في المقام يمكن أن تكون إلّا فتوى الفقيه ، فإنّه على تقدير استفادة الاستحباب لذات العمل يستطيع أن يفتي بالاستحباب في رسالته العمليّة ، وعلى تقدير عدم استفادة الاستحباب لا يستطيع أن يفتي بالاستحباب ، بل لا بدّ أن يقول : يأتي به رجاء ، فتأمّل.

[التنبيه الرابع] : ثمّ إنّ بعض المحقّقين ـ والظاهر أنّه المحقّق الخونساري قدس‌سره (١) ـ ذهب إلى عدم جريان أدلّة البراءة في الشبهة الموضوعيّة واختصاص جريانها بخصوص الشبهة الحكميّة عكس الأخباريّين (٢) بدعوى أنّ الشبهة الحكميّة بما أنّ بيانها موكول إلى الشارع فرفع ما لا يعلمون يتناوله ، بخلاف الشبهة الموضوعيّة فإنّ الشارع بتحريمه الخمر أدلى الحجّة وأوضح البيان. فلو اشتبه فرد خارجي أنّه خمر أم خلّ لا يجوز شربه ، لوجود البيان بتحريم الخمر ، ولا بدّ من الخروج عن عهدته قطعا ، وهو إنّما يكون بترك محتمل الخمريّة أيضا كمقطوعها ، لأنّ الشكّ في مرحلة الامتثال بعد إحراز الشغل اليقيني المستدعي للفراغ اليقيني.

وقد أجاب الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٣) عنه بأنّ النهي المتوجّه نحو الشيء من قبل الشارع المقدّس إنّما هو بنحو القضايا الحقيقيّة فينحلّ ذلك النهي إلى أفراد المنهيّ عنه فيكون أحكاما عديدة بعدد أفراد المنهيّ عنه وإن كان الخطاب واحدا ، وحينئذ فلو

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) انظر الحدائق ١ : ٤٢ ـ ٥١.

(٣) انظر فرائد الاصول ٢ : ١٢٠ ـ ١٢١.

٢٩٦

شكّ في مصداق خارجي أنّه فرد من أفراد المنهيّ عنه أم لا ، فالشكّ في الحقيقة يكون شكّا في توجّه النهي إليه وعدمه لأنّ النهي إنّما يتوجّه نحو عنوان الخمر ، فإذا شكّ في العنوان شكّ في توجّه الأمر فيكون الشكّ شكّا في التكليف ، فتجرى البراءة ولا يكون من قبيل الشكّ في المحصّل أصلا.

وقد أجاب الآخوند قدس‌سره (١) في كفايته بأنّ النهي تارة يكون طلبا لترك مجموع الأفراد بحيث لو وجد فرد واحد لما امتثل أصلا ، ففي مثله لا تجري البراءة في الفرد المشكوك فلا يجوز له تناوله إلّا إذا كان هناك استصحاب الترك محكّما ، فإنّه حينئذ يسوغ له فعله اعتمادا على الاستصحاب. وتارة يكون النهي متوجّها نحو الأفراد بحيث كأنّ النهي نهي عن كلّ فرد بنهي مستقلّ ، بحيث لو فعل أحد الأفراد المنهيّ عنها يعاقب بعقاب ، ولو فعل فردين يعاقب بعقابين ، ففي مثل هذا إذا شكّ في فرد من الأفراد أنّه فرد لذلك المنهيّ عنه أم لا يكون الشكّ شكّا في التكليف فتجري البراءة فما ذكره المحقق الخونساري لا يتمّ على إطلاقه.

والتحقيق أن يقال : إنّ النهي تارة يكون نهيا حقيقيّا إذا كان ناشئا عن مفسدة في فعل المنهيّ عنه ، واخرى يكون النهي نهيا غير حقيقي وهو إذا كان ناشئا عن مصلحة في الترك فيكون النهي طلبا للترك.

فإذا كان النهي نهيا حقيقيّا فتارة تكون المفسدة في إيجاد الطبيعة بكلّ فرد فرد بنحو انحلال النهي إلى كلّ فرد فرد من أفراد الطبيعة بنحو يكون لكلّ فرد امتثال وعصيان ، وفي مثله لا إشكال في جريان البراءة في الفرد المشكوك ، إذ العقاب بلا بيان قبيح ومعلوم تحقّقه في المقام ، فإنّ المراد من البيان ليس هو معرفة الكبرى فقط بل وبيان الصغرى ، والمفروض انتقاؤه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٢.

٢٩٧

واخرى يكون النهي نهيا عن مجموع الأفراد ، لأنّ المفسدة إنّما تتوجّه إذا تحقّق جميع الأفراد ، ففي مثله يجوز الإتيان بأفراد المنهيّ عنه المعلوم كونها من أفراده بشرط ترك فرد من أفراد المنهيّ عنه ، فإنّ ترك المجموع متحقّق قطعا بترك واحد منها وارتكاب الباقي ، إذ المفسدة إنّما تترتّب بارتكاب المجموع ، ولكنّ الكلام كلّ الكلام في أنّه للمكلّف أن يأتي بجميع الأفراد المعلومة ويترك الفرد المشكوك فقط أم لا؟

قال الاستاذ : الظاهر الجواز ، إذ الزجر إنّما توجّه نحو فعل المجموع ولم يعلم المكلّف أنّه فعل المجموع ، لاحتمال كون الفرد المشكوك من أفراده فيكون بتركه تاركا للمجموع بما هو مجموع ، فتأمّل جيّدا وافهم (*).

وثالثة : يكون الزجر متوجّها نحو أوّل وجود من وجودات تلك الطبيعة فهل له الإتيان بالفرد المشكوك؟ الظاهر الجواز ، إذ لم يعلم توجّه النهي عن هذا الوجود ، إذ لم يحرز أنّه من وجودات هذه الطبيعة ، فالشكّ في توجّه التكليف نحو تركه وعدم توجّه التكليف نحو تركه وهو مورد البراءة بلا إشكال.

وليس يتصوّر غير هذه الصور الثلاث في النهي الحقيقي. نعم ، يتصوّر ما ذكره الآخوند قدس‌سره في النهي الغير الحقيقي وسيأتي الكلام فيه.

وإن كان النهي بمعنى طلب الترك فهو أيضا على صور ثلاثة :

الاولى : أن تكون مصلحة مترتّبة على ترك هذا الفرد لا ربط لها بالمصلحة المترتّبة على ترك ذلك الفرد ، وفي مثله لو شكّ في فرد أنّه من أفراد المنهيّ عنه أم لا ،

__________________

(*) أشار بالتأمّل إلى إمكان عدم جواز فعل ما عدا المشكوك في هذه الصورة ، إذ النهي توجّه نحو ترك شرب الماء الّذي في دار عمر ، وهو مردّد بين العشرة أواني ففيها المفسدة من غير ضمّ الفرد المشكوك ، وبين الأحد عشر فيكون النهي متوجّها نحو العشرة بشرط ضمّ الحادي عشر ، فهو من قبيل المتباينين تباين لا بشرط وبشرط شيء ، فتأمّل.

٢٩٨

لا مناص عن التمسّك بالبراءة للشكّ في توجّه النهي إليه ، لعدم العلم بالمصلحة في تركه حتّى يطلب تركه ، فهو مجرى البراءة عقلا ونقلا.

الثانية : أن يكون النهي متوجّها نحو مجموع التروك فالمطلوب مجموع التروك ، فهنا ربّما يقال بأنّ الشكّ في فرد أنّه من أفراد المنهيّ عنه أم لا ، شكّ في مرحلة الامتثال فلا بدّ من اليقين بالامتثال ولا يكون إلّا بتركه ، إلّا أن التحقيق أنّ الشكّ بالنسبة إلى هذا الفرد المشكوك شكّ في توجّه النهي إلى هذا الفرد وعدمه ، إذ النهي قطعا متوجّه نحو ما علم أنّه من أفراد الخمر قطعا ، وتردّد أمر أفراد الخمر بين الأقلّ والأكثر ، فالشكّ في كون هذا المائع فردا للخمر شكّ في توجّه النهي عن الخمر إليه وعدمه ، فالشكّ شكّ في التكليف كسائر موارد دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر.

وسيأتي أنّ الأقلّ متيقّن والأكثر مشكوك فيه شكّا في التكليف ، وهو مجرى البراءة قطعا.

نعم ، ليس له أن يوجد فردا من الأفراد المعلومة ، إذ بوجوده تفقد المصلحة المترتّبة على مجموع التروك ، إذ لم يتحقّق حينئذ مجموع التروك.

الثالثة : أن يكون النهي متوجّها نحو عنوان بسيط منتزع عن مجموع التروك ، فيكون المطلوب بالنهي إيجاد ذلك العنوان البسيط المنتزع عن مجموع تروك هذه الطبيعة ، فيكون المطلوب بالنهي عن شرب الخمر صحوه عن سكر الخمر مثلا. ففي مثل هذه الصورة إذا شكّ في فرد أنّه من أفراد الخمر أم لا يلزمه تركه قطعا ، لأنّه بوجوده قد لا يحقّق العنوان البسيط المنتزع المطلوب تحقّقه حسب الفرض ، ففي مثل هذه الصورة يكون التكليف معلوما والشكّ في مرحلة الامتثال ، فلا تجري حينئذ البراءة لا عقلا لوجود البيان وهو التكليف بالأمر البسيط ، ولا شرعا لأنّه قد علم التكليف ، بخلاف الصور الخمسة المتقدّمة فإنّها مجرى البراءة ، لأنّها من فروع الأقلّ والأكثر ، وسيأتي أنّه مجرى البراءة إن شاء الله تعالى.

٢٩٩

وهناك صورة رابعة : وهي أن تكون المصلحة قائمة بصرف الترك لفرد من أفراد الطبيعة ، ولا يضرّ في الامتثال إذا ترك فردا من أفرادها وإن أتى ببقيّة الأفراد لتحقّق المطلوب بترك ذلك الفرد ، إذ قد امتثل بتركه.

ولا يخفى عليك ما في عبارة الآخوند قدس‌سره في قوله : والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه إلّا أنّ قضيّة لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرّز عنه ولا يكاد يحرز إلّا بترك المشتبه (١) انتهى. فإنّه قدس‌سره إن أراد القسم الأخير ـ وهو أنّ المأمور به هو العنوان البسيط المنتزع ـ فلا معنى لقوله : «والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه» إذ الفرد ليس موردا للتكليف ، بل مورده الأمر البسيط المنتزع من أفراد التروك لا أفراد التروك. وإن أراد مجموع التروك ـ وهو القسم الّذي هو قبل الأخير ، وهو الثاني من أقسام طلب الترك ـ ففي مثله لا مجال لقاعدة الاشتغال ، ولا يقتضي لزوم إحراز الترك وجوب التحرّز عنه ، لأنّه ينحلّ النهي إلى المنع عن أفراد معلومة ، ولم يعلم توجّه النهي نحو هذا الفرد المشتبه فهو مجرى البراءة ، فافهم وتأمّل.

بقي الكلام في القسم الأخير الّذي ذكرنا أنّه لا بدّ من إحراز الترك ليقطع بوجود العنوان البسيط المأمور به فلا بدّ من ترك المشتبه ، نعم لو كان العنوان البسيط متحقّقا قبل فله أن يرتكب الفرد المشكوك فرديّته فيشربه مثلا اعتمادا على استصحاب العنوان البسيط.

وربّما يقال بعدم جريان الاستصحاب في المقام ، لأنّ المستصحب ليس حكما شرعيّا ولا له أثر مجعول ، إذ إنّ المستصحب عنوان بسيط ليس حكما شرعيّا ، وإنّما هو متعلّق لحكم شرعي ولا أثر شرعي له ، إذ أثره براءة الذمّة وهو عقلي.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٣.

٣٠٠