غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

الثاني : دعوى ثبوت الإجماع القولي حتّى من السيّد وأتباعه في زماننا هذا وما ضاهاه من الأزمنة الّتي خفيت علينا فيها قرائن الأخبار المفيدة للقطع بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام.

الثالث : دعوى الإجماع العملي على العمل بأخبار الآحاد من أصحاب الأئمّة ـ سلام الله عليهم ـ ومن تبعهم مع عدم نهي الأئمّة عليهم‌السلام لهم الكاشف عن الإمضاء منهم عليهم‌السلام لذلك.

الرابع : دعوى سيرة أهل الفتيا على العمل بأخبار الآحاد خلفا عن سلف وعدم إنكار لذلك فيما بينهم ممّا يكشف عن عدم خلاف بينهم فيه أصلا. وربّما يناقش بعضهم بعضا بدعوى عدم وجود خبر دالّ على المدّعى بعدم الدلالة لا بعدم الحجّية.

الخامس : دعوى استقرار سيرة المتشرّعين على ذلك في امور دينهم ودنياهم ، وهو مسلّم ومن الوضوح بمكان.

ولكن لا يخفى أن جميع هذه الوجوه المذكورة لا يمكن التمسّك بها لاستكشاف قول الإمام منها ، وذلك لأنّ قولهم بالحجّية أو عملهم وبناءهم عليها ليس إلّا لأحد امور : إمّا لكونها قطعيّة بنفسها ، وإمّا لكونها محفوفة بقرائن تدلّ على قطعيّتها ، وإمّا لكونها معلومة الحجّية باستقرار السيرة ، فالإجماع حينئذ لا يكون كاشفا عن قول المعصوم لأنّه تقييدي.

نعم السادس : الّذي هو الإجماع بمعنى استقرار سيرة العقلاء بما هم عقلاء على العمل بأخبار الآحاد من حيث إنّها أخبار آحاد من صدر الإسلام إلى زماننا ، وقد عاصروا الأئمّة وسمعوا منهم فنون العلوم ولم يصلنا ردع من قبلهم عن العمل بهذه السيرة القطعيّة كما وردنا بالنسبة إلى القياس وخطره في الشريعة المقدّسة حتّى نقل عن بعضهم (١) أنّ الأخبار الناهية عن العمل بالقياس ربّما بلغت الخمسمائة مع قلّة

__________________

(١) لم نقف عليه.

١٨١

موارد القياس وكثرة موارد العمل باخبار الآحاد ، فيكون عدم وصول النهي دليلا على إمضاء الشارع المقدّس سيرة العقلاء.

ولا يخفى أنّ هذا موقوف على عدم الردع ، وقد يدّعى الردع بالآيات الناهية عن اتّباع الظنّ بدعوى شمولها لخبر الواحد المفيد للظنّ الّذي هو محلّ الكلام ، أمّا ما يفيد القطع فهو خارج عن محلّ كلامنا.

وقد أجاب الآخوند قدس‌سره بعدم إمكان الردع بهذه الآيات بوجوه ثلاثة ، ذكر في متن الكفاية أحدها ، وفي حاشية الرسائل اثنين منها :

أمّا ما ذكره قدس‌سره في متن الكفاية (١) فملخّصه : أنّ كون الآيات رادعة عن السيرة مستلزم للدور ، لأنّ رادعيّتها موقوف على شمول عمومها أو إطلاقها للسيرة ، وشمولهما للسيرة موقوف على عدم تخصيص السيرة لعمومها أو إطلاقها ، وعدم التخصيص موقوف على الرادعيّة.

ثمّ أشكل على نفسه بأن التخصيص بالسيرة أيضا دوريّ بتقريب : أنّ تخصيص السيرة للعموم وتقييدها للاطلاق موقوف على عدم الردع ، وعدم الردع موقوف على التخصيص. وأجاب بأنّ تخصيص السيرة ليس موقوفا على عدم الردع واقعا بل على عدم ثبوت الردع.

ولا يخفى ما في كلامه ، فإنّ تخصيص السيرة للعموم لو سلّمنا توقّفه على عدم ثبوت الردع فيرتفع الدور ، فكذا العموم موقوف على عدم ثبوت التخصيص فيرتفع الدور السابق لا على نفس عدم التخصيص كي يبقى ، على أنّ عدم ثبوت الردع لا يكفي بل لا بدّ من ثبوت عدم الردع الّذي هو عبارة عن الإمضاء الشرعي ، وعليه فيمكن أن يقال : إنّ الأمر بالعكس وأنّه يرتفع الدور في الأوّل دون الثاني ، لأنّه يكفي في العمل بالعموم عدم ثبوت التخصيص ، لأنّ العموم حجّة بظهوره حتّى

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٤٨.

١٨٢

يثبت المانع ، ولا يكفي في جواز العمل بالسيرة عدم ثبوت الردع بل لا بدّ من ثبوت عدم الردع الّذي هو بمعنى الإمضاء ، فافهم وتأمّل فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق. فظهر إمكان كون هذه الآيات رادعة وعدم إجداء الوجه الأوّل لإثبات الاستحالة.

الوجه الثاني : من الوجوه الّتي ذكرها الآخوند قدس‌سره (١) أنّا لو سلّمنا إمكان كون هذه الآيات رادعة عن السيرة وإمكان تخصيصها للعموم أيضا فهما في عرض واحد ، فلو تعارضا يتساقطان ويكون المرجع هو استصحاب الحجّية الثابتة قبل الردع بهذه الآيات.

الوجه الثالث (٢) : أنّه لا حاجة إلى الاستصحاب أيضا ، لأنّ المقام من قبيل الخاصّ المتقدّم إذا تعقّبه عموم يمكن أن يكون ناسخا له وأن يكون مخصّصا ، فلا إشكال في أنّ تقديم ذات البيان ممكن وإن كان صفة بيانيّته بعد ورود العموم متحقّقه ، وحينئذ فيكون مخصّصا لذلك العموم لكثرة التخصيص وندرة النسخ.

والجواب : أنّ هذين الوجهين تامّان لو ثبت إمضاء الشارع للسيرة العقلائيّة قبل ورود الردع بهذه الآيات الناهية ، فالاستصحاب حينئذ ممكن وكون الخاصّ بيانا للعامّ ممكن ، وإلّا فلو لم يثبت الإمضاء فأيّ شيء يستصحب؟ وهل هناك إلّا السيرة العقلائيّة المتحقّقة بعد الردع أيضا ، فلا حاجة إلى استصحابها ، ولا حجّية شرعيّة حتّى تستصحب ، وكذا لا خاصّ شرعا حتّى يكون بيانا للعموم المتأخّر عنه. وبالجملة فحيث يمكن أن يكون زمن نزول هذه الآيات هو أوّل زمان يمكن فيه الردع عن السيرة ، وحينئذ فلا مجال للاستصحاب ولا للبيان لعدم ثبوت حجّيتها شرعا ولو آناً ما حتّى تستصحب أو تكون بيانا للعموم المتأخّر. وبالجملة فهذه الوجوه الثلاثة لم تنفع لدفع احتمال رادعية هذه الآيات عن السيرة على العمل بأخبار الآحاد.

__________________

(١ و ٢) انظر درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ١٩٤ ـ ٢١٥.

١٨٣

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ عمل العقلاء بأخبار الآحاد لا يعدّونه عملا بالظنّ ولا عملا بغير علم بل يرونه عملا بعلم ، وحينئذ فليس ظنّا عندهم ولا غير علم ليكون ما دلّ على المنع عن العمل بالظنّ أو غير العلم رادعا عنها أصلا ـ لو سلّمنا مولويّتها ـ لأنّهم لا يرونها رادعة عنه أصلا ، فلا بدّ عند إرادة الشارع الردع عنها أن يردع عنها بخصوصها لا بعموم لا يرى بحسب العرف شاملا لها وليس ذلك بموجود ، فافهم.

ثمّ إنّ السيرة المذكورة إنّما هي على العمل بالأخبار الموثوقة سواء كان موثوقيّتها من جهة وثاقة رواتها أو من جهة موثوقيّتها بنفسها لجبرها بعمل المشهور وقبولهم لها ، فيثبت حجّية الخبر الموثوق مطلقا بالسيرة وإن كان راويه ضعيفا إذا كان الخبر معمولا به بين الأصحاب. فقد ظهر حجّية خبر الواحد بالكتاب والسنّة والسيرة العمليّة.

[الاستدلال بالوجوه العقلية على حجّية خبر الواحد]

بقي الكلام في الوجوه العقليّة الّتي اقيمت على حجّية الخبر :

أوّلها : أنّ لنا علما إجماليّا بصدور بعض هذه الأخبار الّتي بأيدينا عن أئمّتنا عليهم‌السلام فمقتضى هذا العلم الإجمالي وجوب العمل بالأخبار ، ودعوى حصول العلم الإجمالي بصدق بعض هذه الأخبار واضحة بعد ما عرف اهتمام اصحابنا بتنقيحها وتمحيصها عن الأخبار المدسوسة. وبالجملة فهذا الاهتمام من أصحابنا يشرف على القطع بصحّة أكثر أخبار الكتب الأربعة ، وحيث يحصل العلم الإجمالي بصدق بعضها يجب الاحتياط إن لم يؤدّ إلى العسر والحرج أو اختلال النظام ، وإن أدّى فالعمل بخصوص الأخبار المظنون صدورها أرجح من المشكوك صدورها والمحتمل.

وقد أورد الشيخ الأنصاري قدس‌سره على هذا الوجه بأنّ الوجه في لزوم العمل بالأخبار إنّما هو كونها متكفّلة بالأحكام الواقعيّة ، وحينئذ فالعلم الإجمالي

١٨٤

بوجود جملة من الأحكام في ضمن الأخبار هو الموجب للزوم العمل بالأخبار ، فحينئذ العلم الإجمالي بوجود جملة من الأحكام في بقيّة موارد الأمارات من الشهرات والإجماعات المنقولة والأخبار الأخر غير هذه الأخبار أيضا يوجب العمل بجميعها ، فأطراف العلم الإجمالي ليس هو الأخبار فقط بل هو الأخبار وغيرها من سائر الأمارات الأخر (١).

وقد قرّر الآخوند قدس‌سره (٢) الوجه بوجه يسلم عن هذا الإشكال ، وتوضيحه : أنّ لنا علوما إجماليّة ثلاثة :

الأوّل : أنّ التصديق بالشريعة معناه التصديق بأحكام تتكفّلها هذه الشريعة ، وإلّا فلا معنى لتشريع شريعة لا أحكام فيها ، فمعنى التصديق بالشريعة العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في الجملة.

الثاني : هو العلم الّذي ذكره الشيخ وهو العلم الإجمالي بوجود جملة من التكاليف في ضمن هذه الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة وغيرها وغيرها من الأمارات والشهرات والإجماعات المنقولة وغيرها من بقيّة الأمارات.

الثالث : هو العلم الإجمالي بوجود جملة من الأحكام في خصوص الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة.

إذا عرفت هذا فالعلم الإجمالي الأوّل منحلّ قطعا بالعلم الإجمالي الثاني ، لأنّ العلم بالشريعة إنّما يوجب العلم بمقدار خمسين حكما لا أكثر ، والعلم الإجمالي الثاني علم بمقدار خمسمائة حكم مثلا ، فيوجب انحلال الأوّل ، لأنّا إذا عزلنا الخمسمائة حكم مثلا لا يبقى لنا علم إجمالي بثبوت تكاليف أخر يقتضيها التصديق بالشريعة.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٦١.

(٢) كفاية الاصول : ٣٥١.

١٨٥

وإنّما الكلام أنّ العلم الإجمالي الثاني هل ينحلّ بالعلم الإجمالي الثالث أم لا؟ فإن لم ينحلّ ثبت إيراد الشيخ قدس‌سره وإن انحلّ فلا ، فنقول : إنّ المقدار المقطوع به في الأخبار الصحيحة جملة منه تفيد الأحكام الّتي هي على طبق الشهرات والإجماعات المنقولة ، وحينئذ فلا فائدة في الإجماعات المنقولة والشهرات حيث تكون الأخبار موافقة لها ، وبقيّة الأخبار الصحيحة الموجودة فيما بأيدينا بعد عزلها لا يبقى لنا علم إجمالي ببقاء تكليف إلزامي في غيرها أصلا ، فتكون التكاليف في غيرها تكاليف بدويّة الشكّ فتنفى بالبراءة ، وحينئذ فالعلم الإجمالي الثاني أيضا منحلّ قطعا بالثالث ، فلا يبقى حينئذ إيراد الشيخ واردا بل إنّا نعلم إجمالا بوجود تكاليف في ضمن الأخبار ولا علم لنا بوجودها في ضمن بقيّة الأمارات. فمرجع العلم الإجمالي الأوّل إلى العلم الإجمالي الثاني لأنّه ينحلّ به ، كما أنّ مرجع العلم الإجمالي الثاني ـ وهو وجود جملة من التكاليف في ضمن الأمارات وغيرها ـ ينحلّ إلى العلم الإجمالي الثالث فإيراد الشيخ الأنصاري حينئذ غير وارد أصلا.

إنّما الكلام في أنّ هذا العلم الإجمالي بوجود أخبار صادرة في ضمن هذه الأخبار من الأئمّة ـ سلام الله عليهم ـ هل يترتّب عليه النتيجة وهي حجّية خبر الواحد أم لا؟

فنقول : إنّ الحجّية المبحوث عنها هو بمعنى ترتيب آثار الواقع عليها حتّى كان الخبر الواحد قطع في لزوم ترتيب آثاره ، غاية الأمر أنّه قطع تعبّدي لا وجداني ، فيرفع اليد بواسطته عن الاصول العمليّة أو عن عموم أو إطلاق الاصول اللفظيّة لو كان على خلافها.

فالكلام أوّلا يقع فيما كان الخبر على خلاف الأصل العملي فنقول : إنّ الخبر الوارد في موارد الاصول العمليّة يكون تارة مثبتا للتكليف ، واخرى يكون نافيا.

فإن كان مثبتا للتكليف فتارة يكون الأصل العملي أيضا مثبتا للتكليف كاستصحاب التكليف أو قاعدة الاشتغال ، كما إذا دلّ الخبر على وجوب صلاة

١٨٦

الجمعة في زمن الغيبة فالاستصحاب هنا يوافقه ، أو العلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر يوافقه أيضا ، فهنا لا ثمرة عمليّة تظهر على القول بحجّية الخبر حينئذ ، لأنّه كان يعمل بمقتضى تكليفه وهو صلاة الجمعة كان الخبر موجودا أم لا. (نعم إن قلنا بالوجوب من جهة حجّية خبر الواحد وكونه علما تعبّدا يصحّ أن يسند مؤدّاه إلى الله وتكون لوازمه حجّة ، وإن قلنا بالوجوب من جهة قاعدة الاشتغال لا يصحّ الاستناد ولا تكون لوازمه حجّة) (١).

واخرى يكون الأصل العملي نافيا للتكليف كالبراءة ، كما إذا دلّ الخبر على وجوب السورة والأصل ينفيه ، فالعمل على طبق الخبر هنا أيضا لا يفرّق فيه بين القولين ، لأنّ القائل بالحجّية عامل بالخبر لحجيته وغيره عامل به أيضا لكن ليس لكونه خبرا بل للعلم الإجمالي بوجود أخبار صحيحة في ضمنها ، ومع العلم الإجمالي لا مؤمّن له في ترك العمل ، لأنّ دفع الضرر المحتمل لازم.

وإن كان الخبر نافيا للتكليف فتارة يكون الأصل العملي الّذي في مورده أيضا نافيا ، واخرى يكون مثبتا. فإن كان نافيا فلا ثمرة عمليّة لاتّحاد النتيجة أيضا ، نعم الفرق في الاستناد واللوازم. وإن كان الأصل العملي الّذي في مورده مثبتا فهنا تظهر الثمرة بين القولين ، فمن قال بحجّية الخبر فلا يعمل بالأصل المثبت حيث يكون قاعدة الاشتغال ، إذ الخبر رافع للشكّ الّذي هو مورد قاعدة الاشتغال فلا تجري. ومن لم يقل بحجّية الخبر فالخبر وإن كان فيه ما علم إجمالا حجّيته إلّا أنّه لم يعلم أنّه هذا بخصوصه ، ودفع الضرر المحتمل لازم ، فيجب عليه الالتزام بقاعدة الاشتغال.

وأمّا حيث يكون الأصل المثبت هو الاستصحاب نظير الحائض إذا انقطع دمها ولم تغتسل فهل يجوز وطؤها أم لا؟ فالاستصحاب وإن اقتضى حرمة وطئها إلّا أن هناك خبرا يدلّ على جواز الوطء حيث تغسل فرجها. فهنا إن علمنا إجمالا بأنّ في

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٨٧

الاستصحابات المتفرّقة في موارد الفقه ما ليس موافقا للواقع ، فإن جوّزنا جريان الاستصحاب ـ لعدم تحريم المخالفة الاحتماليّة ـ فتظهر الثمرة أيضا ، لأنّ القائل بحجّية الخبر يرفع موضوع الاستصحاب وهو الشكّ ، والقائل بعدم الحجّية يعمل بالاستصحاب. وإن لم نجوّز جريان الاستصحاب في المقام لحرمة المخالفة الاحتماليّة فلا تظهر أيضا ثمرة ، لأنّ القائل بحجّية الخبر يعمل به لكونه منجّزا ، والقائل بعدم الحجّية يعمل به لعدم المعارض مع كونه أحد أطراف العلم الإجمالي.

(هذا كلّه إن كانت حجّية الاستصحاب ثابتة مع قطع النظر عن حجّية الخبر الواحد ـ إمّا بدعوى كونه ثابتا ببناء العقلاء ، أو بدعوى كون أخباره متواترة ، أو مقرونة بالقرينة القطعيّة ـ وإلّا لم يجر الاستصحاب أيضا ، لعدم ثبوت حجّيته بعد) (١).

فائدة : العلم الإجمالي إمّا أن يتعلّق بالتكليف ، وإمّا أن يتعلّق بعدم التكليف ، فإن تعلّق بالتكليف فلا ريب في عدم جريان الاصول في أطرافه مطلقا ـ محرزة كانت أو محضة أو ملفّقة ـ لأنّ جريانها في جميع الأطراف يوجب المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وجريانها في بعض الأطراف دون بعض ترجيح من غير مرجّح.

وأمّا إن تعلّق العلم الإجمالي بعدم التكليف فلا مانع من جريان الاصول المحضة بالتكليف ، لأنّها تعيّن الوظيفة العمليّة بحسب الظاهر مع قطع النظر عن الواقع ، كما إذا كان المورد من الفروج والدماء نظير ما إذا علم إجمالا أنّ إحدى هاتين المرأتين محلّلة الوطء له للعقد عليها ، فأصالة الاحتياط في الفروج تعيّن عليه ترك وطئهما ظاهرا وإن كان الحكم الواقعي لإحداهما الحلّية الواقعيّة لكن الحرمة الظاهريّة لا تنافي الحلّية الواقعيّة. وأمّا الاصول التنزيليّة فقاعدة الشغل تجري (٢)

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) في الأصل : لا تجري ، والصواب ما أثبتناه ، راجع دراسات في الاصول ٣ : ١٩٤.

١٨٨

أيضا [و] تعيّن الشغل الواقعي لكليهما (١) فتنافي الحلّية الواقعيّة المعلومة إجمالا. وأمّا الاستصحاب فذهب الآخوند قدس‌سره إلى جريانه والميرزا والشيخ الأنصاري (٢)(٣) إلى عدم جريانه ، وتمام الكلام في باب الاستصحاب.

وأمّا الخبر الوارد في قبال العموم والإطلاق من الاصول اللفظيّة فهل يتفاوت القول بحجّيته مع القول بعدم حجّيته والعلم بالخبر من باب العلم الإجمالي؟

ظاهر الآخوند (٤) وصريح الشيخ الأنصاري (٥) قدس‌سرهما أنّه بناء على حجّية الأخبار يعمل بالأخبار مخصّصة أو مقيّدة ، وبناء على عدم الحجّية والعمل بها من باب العلم الإجمالي فلا ، لأنّ الظهور في العموم والإطلاق منعقد ولا يرفع اليد إلّا بالحجة الأقوى على خلافه ، والخبر الوارد لم يعلم أنّه هو الصادر حتّى يخصّص أو يقيّد.

والظاهر تفاوت الحال بين كون العموم والإطلاق مبيّنين لحكم غير إلزامي والخبر مبيّن لحكم إلزامي ، وبين كونهما مبيّنين لحكم الزامي والخبر مبيّن لحكم غير إلزامي.

أمّا في الصورة الاولى مثل قوله : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٦) وقوله : نهى النبيّ عن بيع الغرر (٧) فبناء على حجّية الخبر يكون مخصّصا أو مقيّدا ، وبناء على العمل بالخبر من باب العلم الإجمالي لا بدّ من العمل بالخبر أيضا من باب الاحتياط.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٥٠.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٩٠.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٤١٠.

(٤) كفاية الاصول : ٣٥٠.

(٥) فرائد الاصول ١ : ٣٦٠.

(٦) البقرة : ٢٧٥.

(٧) الوسائل : ١٢ : ٤٠ ، باب جواز مبايعة المضطرّ والربح عليه من أبواب آداب التجارة ، الحديث ٣.

١٨٩

وما قيل : من أنّ حجّية الظهور لا يرفع اليد عنها إلّا بالحجّة الأقوى ، صحيح إلّا أنّ المفروض وجود الحجّة وهو العلم الإجمالي (*). فهو كالعلم التفصيلي ، وحينئذ فلا ثمرة بين القولين هنا.

وأمّا في الصورة الثانية ، وهي صورة قيام العموم والإطلاق على حكم إلزامي وقيام الخبر على حكم غير إلزامي ، مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) وقوله : لا بأس بالربا من اليهودي ـ مثلا ـ فبناء على حجّية الخبر الواحد يكون مخصّصا أو مقيّدا ، وبناء على عدم الحجّية والعمل به من باب الاحتياط فلا يمكن العمل به ، إذ الاحتياط هنا ينافي الاحتياط ولم يعلم حجّية هذا الخبر بخصوصه.

(والعلم الإجمالي لا أثر له في المقام ، لعدم تنجيزه بالاضافة إلى هذا الفرد ، لأنّ العلم الإجمالي بالإباحة لا أثر له) (١). وبالجملة هنا تظهر الثمرة بين القولين.

فملخّص الجواب عن هذا الدليل العقلي أنّه يوجب العمل بالأخبار المثبتة دون النافية.

بقي شيء وهو أنّه قد يكون الأصل العملي أو اللفظي مثبتا لحكم إلزامي والخبر مثبتا لحكم إلزامي بخلافه ، مثل أن يتكفّل الأصل الوجوب ويتكفّل الخبر الحرمة فأحدهما يلزم بالفعل ، والآخر بالترك ، فهنا إن عملنا بالخبر من باب أنّه حجّة فلا إشكال في تقديمه ، لأنّه يكون رافعا لموضوع الأصل العملي لعدم الشكّ حينئذ ، ومقيّدا أو مخصّصا للأصل اللفظي. وإن عملنا بالخبر من باب العلم الإجمالي مع علمنا إجمالا ببقاء بعض العمومات في الكتاب والسنّة مرادة بعمومها فهنا يكون مورد ذلك الخبر طرفا لعلمين إجماليّين :

__________________

(*) المراد به العلم الإجمالي بتخصيص بعض عمومات الكتاب وتقييد بعض إطلاقاته ، ومعه لا تجري أصالة العموم أو أصالة الإطلاق ، ومع عدم الجريان فالعلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار يقتضي الاحتياط. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٩٠

أحدهما : حجّية هذا الخبر الملزم بالترك المعلوم صدوره أو صدور بقيّة الأطراف من الأخبار.

وثانيهما : العلم الإجمالي ببقاء بعض العمومات والإطلاقات غير مقيّدة وغير مخصّصة المتردّد بين هذا العموم وغيره من العمومات. فهنا يتكوّن فرع لم نعلم بسبق تدوينه وهو ما لو كان الفرد متعلّقا لعلمين إجماليّين ، مثلا لو كان لرجل ثلاث زوجات صغرى ووسطى وكبرى وقد علم إجمالا أنّه حلف على وطء واحدة من الصغرى أو الوسطى في ليلة معيّنة وعلم إجمالا بأنّه حلف على ترك وطء واحدة مردّدة بين الوسطى والكبرى في تلك الليلة فهنا الوسطى وقعت طرفا لكلّ من العلمين ، فما حكم هذا العلم الإجمالي بالنسبة إلى هذه الأطراف؟

فنقول : إنّ مقتضى تنجيز العلم الإجمالي ترتيب الاحتياط في كلّ من الصغرى بوطئها والكبرى بترك وطئها ، وأمّا الوسطى فيكون حكمها التخيير نظير التخيير في دوران الأمر بين المحذورين وليس المورد منه ، لأنّه من الممكن أن لا تكون الوسطى محكومة بحكم من هذين الحكمين في الواقع ، بأن يكون المحلوف على وطئها الصغرى وعلى ترك وطئها الكبرى ، والوسطى غير محكومة أصلا ، بخلاف مورد دوران الأمر بين المحذورين فإنّه لا ينفكّ عن أحدهما قطعا. وبالجملة فملاك التخيير في دوران الأمر بين المحذورين وهو عدم القدرة على الامتثال القطعي موجود في المقام ، فلذا يحكم بالتخيير العقلي لعدم القدرة على إحراز الامتثال.

لا يقال : إنّ الاضطرار إلى وقوع أحد الأمرين في الوسطى خارجا يوجب انحلال العلم الإجمالي فلا يجب الاحتياط في الأطراف ، لأنّ هذا الطرف ـ وهو الوسطى ـ مرخّص فيه للاضطرار وبقيّة الأطراف مشكوكة شكّا بدويّا فتجري الاصول فيها لعدم المعارض.

فإنّه يقال : إنّ الاضطرار في المقام عقلي من باب عدم تعقّل خلوّ الوسطى من أحد الأمرين خارجا في مقام العمل ، فليس كالاضطرار الموجب لانحلال العلم

١٩١

الإجمالي ، لأنّ هذا الاضطرار بعد تساقط الاصول لتعارضها وتنجيز العلم الإجمالي بتساقطها ، وحينئذ فلا يحيى الأصل بعد موته فلا يجري الأصل في الأطراف الأخر أصلا فيكون مخالفة الاحتياط فيها بلا مؤمّن ، وهذا بخلاف الاضطرار حيث يوجب الانحلال بزعمهم ، على أنّ لنا كلاما فيه أيضا يأتي في باب العلم الإجمالي تبعا للميرزا النائيني قدس‌سره.

وهذه الكبرى الكلّية وإن كانت صادقة في مثال الحلف الّذي ذكرناه إلّا أنّ موردنا ـ وهو مورد العلم الإجمالي بصحّة بعض الأخبار والعلم الإجمالي ببقاء بعض العمومات على عمومها ـ ليس من صغرياتها ، وذلك لأنّ المورد مورد علم إجمالي واحد ، فإنّا نعلم إجمالا إمّا أن يكون العموم باقيا على عمومه بالنسبة إلى هذا الخبر ، أو أنّ الخبر صحيح. وبعبارة اخرى أنّ لنا علما إجماليّا بأحد الأمرين في المورد ، فيكون المثال المماثل له هو أن يتعلّق علم إجمالي بوقوع حلف ويتردّد بين كونه على وطء أو على ترك وطء ، فإن كان على وطء فأطرافه الصغيرة أو الوسطى ، وإن كان على ترك وطء فأطرافه الوسطى والكبيرة. والحكم في هذا العلم الإجمالي عين حكم العلم الإجمالي المتقدّم من أنّ مقتضى الاحتياط وجوب وطء الصغيرة من زوجاته وترك وطء الكبيرة في الزمن المعيّن والتخيير في الوسطى لوجود ملاك التخيير بين المحذورين وإن لم يكن المورد منه ، فتأمّل فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

الثاني من الوجوه العقليّة الّتي اقيمت على حجّية الخبر : ما ذكره في الوافية على ما حكي (١) وهو أنّا نعلم تفصيلا بأنّا مكلّفون بالصلاة والصيام والحجّ ، والاقتصار على خصوص المعلوم من أجزائها وشرائطها بالتواتر يؤدّي الى القطع بعدم موافقتها لمراد الشارع ، فلا بدّ من العمل بالأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر.

__________________

(١) في كفاية الاصول : ٣٥٠ ، وانظر الوافية : ١٥٩.

١٩٢

والجواب : أنّ هذا الدليل بعينه الدليل المتقدّم غير أنّ هذا أضيق من ذاك ، إذ أطراف ذاك هو جميع الأخبار ومورد هذا خصوص الأخبار الواردة فيما ذكره من الصلاة والصيام ، فيرد عليه ما اورد على الوجه الأوّل من أنّ مقتضى هذا هو لزوم العمل بخصوص الأخبار المثبتة لأجزاء ما ذكر وشرائطها والمدّعى حجّية عموم الأخبار ، والدليل لا يدلّ على حجّية الأخبار النافية الّتي ورد على خلافها عموم أو إطلاق أو أصل عملي.

وقد أورد الشيخ الأنصاري (١) عليه بأنّ لازم ذلك هو العمل بكلّ خبر دلّ على الجزئيّة أو الشرطيّة احتياطا إن أمكن وإلّا فخصوص المظنون من جميعها لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره من كونها موجودة في كتب الشيعة معمولا بها ، لأنّ العلم الإجمالي حاصل بالنسبة إلى جميعها.

ولا يخفى أنّ كون علم الشيخ الأنصاري لا ينحلّ إلّا بالاحتياط في جميع الأخبار المشتملة على الشرائط وغيرها لا يصلح أن يكون ردّا على صاحب الوافية ، إذ لعلّ علمه ينحلّ بالعمل بالأخبار المشتملة على الشرائط الّتي ذكرها كما هو غير بعيد ، فالعمدة في الجواب هو الجواب الأوّل.

الثالث من الأدلّة العقليّة ما ذكره صاحب الحاشية (٢) وهو أنّا نعلم علما قطعيّا بلزوم الرجوع إلى السنّة إمّا لحديث الثقلين أو لغيره فيجب علينا التمسّك بها ، فإذا ميّزناها قطعا عملنا بها وإلّا فالمرجع هو الظنّ بها.

والجواب أنّه ما المراد من السنّة الّتي زعم إلزامنا بالعمل بها؟ فإن أراد من السنّة الأقوال الحاكية لقول المعصوم أو فعله أو تقريره فأيّ دليل دلّ على لزوم متابعة هذه الأخبار المحتملة للصدق والكذب؟ إذ ليس لزوم الرجوع إليها أمرا بديهيّا ،

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٦١.

(٢) هداية المسترشدين ٣ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

١٩٣

فإن كان الدليل هو العلم الإجمالي ، فحينئذ يرجع هذا الدليل إلى الأوّل فيرد عليه ما أورد هناك. وإن أراد من السنّة خصوص أقوال المعصوم عليه‌السلام ويكون الدليل على لزوم اتّباعها حينئذ ما دلّ على لزوم تصديقه بما يقول والتصديق بإمامته فلا بدّ من تمييزها بالعلم أو الاحتياط إن أمكن وإلّا فبالظنّ ، وحينئذ فهذا هو بعينه دليل الانسداد فيعتبر فيه ضمّ بقيّة مقدّماته إليه. هذا تمام الكلام على الأدلّة المذكورة لحجّية خصوص الخبر الواحد.

١٩٤

في الأدلّة العقليّة على حجّية مطلق الظنّ

وهي أربعة :

أحدها : أنّ في مخالفة الحكم المظنون مظنّة الضرر ودفع الضرر المظنون واجب فيجب العمل بالحكم المظنون ، ولا يخفى أنّ قاعدة وجوب دفع الضرر غير مبنيّة على التحسين والتقبيح العقليّين أصلا بل هي من المرتكزات الفطريّة ، فلا يرد (١) على ما ذكرنا أنّها لا يقول بها الأشاعرة لإنكارهم التحسين والتقبيح العقليّين ، لأنّها من المرتكزات الفطريّة للإنسان بل لكافّة أفراد الحيوان.

كما أنّ الظاهر أنّ المراد من الوجوب في المقام ليس الوجوب التكليفي بل المراد الإلزام الطريقي الإرشادي بحيث لا يترتّب على مخالفته أكثر ممّا يترتّب على مخالفة الواقع نفسه ، إذ لا يعقل أن يكون مخالفة القطع أقلّ من مخالفة الظنّ ، فتكون مخالفة القطع ذات عقاب واحد وهو العقاب على مخالفة الواقع ، ومخالفة الظنّ ذات عقابين : أحدهما على مخالفة الواقع ، والآخر على مخالفة لزوم دفع الضرر المظنون تكليفا.

والجواب : أنّ المراد من الضرر إن كان العقاب الاخروي فالكبرى وإن كانت مسلّمة إلّا أنّ الصغرى غير مسلّمة ، وذلك لأنّ العقاب إنّما هو على مخالفة التكاليف الواصلة وجدانا كما في موارد القطع ، أو تعبّدا كما في موارد الأمارات ، والتكليف

__________________

(١) انظر شرح مختصر الاصول : ١٦٣ ، المتن للحاجي والشرح للعضدي.

١٩٥

المظنون ليس وأصلا إذ الكلام بعد في حجّيته ، وليس العقاب ممّا يترتّب على مخالفة التكاليف الواقعيّة ، وإلّا لزم عند احتمال التكليف الواقعي لزوم دفع الضرر المحتمل أيضا كما نلتزم به في أطراف العلم الإجمالي ولا يلتزم القائل بلزوم دفع الضرر المحتمل عند احتمال التكليف الواقعي ، وليس ذلك إلّا لعدم الملازمة بينهما (١).

ووجود المؤمّن في الضرر المحتمل وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان بعينها موجودة في الضرر المظنون أيضا.

وبهذا ظهر ما في كلام الآخوند قدس‌سره (٢) من قوله : إنّ العقل وإن لم يستقلّ بالتنجيز بمجرّد الظنّ فلا يستقلّ أيضا بعدم التنجيز من الضعف ، فإنّ العقل لا يعقل أن يتردّد في حكم نفسه ، لأنّه إن وجد موضوعه يحكم ، وإلّا فلا ، فلا معنى لتردّده أصلا في المقام ، فإنّ العقاب إن كان على مخالفة التكليف الواصل فلا مجال له في المقام ، وإن كان على مخالفة التكليف الواقعي فلا مجال لعدم استقلاله ، فافهم وتأمّل.

وإن كان المراد من الضرر الضرر الدنيوي فمعلوم أنّ مخالفة الأحكام الإيجابيّة بناء على التبعيّة للمصالح والمفاسد في المتعلّقات ليس فيه ضررا ، بل عدم المصلحة ، وعدم المصلحة ليست ضررا. والأحكام التحريميّة أيضا تارة لا يكون في مخالفتها ضرر أصلا كالكذب الغير الضارّ لأحد ، واخرى تكون في مخالفتها ضررا نوعيّا لا شخصيّا نظير أكل أموال الناس وغيرها ، ولا يستقلّ العقل بلزوم دفع غير الضرر الشخصي ، وتارة تكون الأحكام التحريميّة فيها ضررا شخصيّا كما في أكل لحم الميتة مثلا وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير مثلا وشبهها ، إلّا أنّ كلامنا في التكليف الّتي توجب مخالفتها عقابا ولم يعلم أنّ في إلقاء الإنسان نفسه في هذه المفاسد المذكورة والإضرار عقابا أصلا. وبعبارة اخرى حيث يكون الضرر الدنيوي محرزا أيّ دليل دلّ على أنّ دفع الضرر الدنيوي المظنون لازم؟ فننكر الكبرى حينئذ.

__________________

(١) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٧.

(٢) كفاية الاصول : ٣٥٤.

١٩٦

وإن كان المراد من الضرر المفسدة فهو أخصّ من المدّعى ، إذ المفسدة في خصوص الظنّ بالتحريم لو خولف والمدّعى حجّية مطلق الظنّ.

الدليل الثاني : أنّه إن لم يؤخذ بالظنّ واخذ بالاحتمال لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح.

وفيه : أنّه يتمّ لو ثبت المنجّز للتكليف ، لدوران الأمر حينئذ بين المظنون والمحتمل نظير الدوران في القبلة فإنّ الأمر بالصلاة إلى القبلة منجّز ، فإذا فرض أنّ القبلة مشتبهة بين جهتين إحداهما مظنونة والاخرى محتملة ولا يسع الوقت إلّا لصلاة واحدة ، فحينئذ يكون تقديم الموهومة ترجيحا للمرجوح على الراجح ، وهو قبيح.

أمّا لو لم يكن التكليف منجّزا كما في المقام ، فإنّ الظنّ لم يثبت تنجيزه ، لأنّ الكلام بعد في حجّيته ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى التكليف المظنون محكّمة.

وبالجملة فهذه المقدّمة تثمر لو اضيف إليها المقدّمتان المذكورتان وهما تنجيز التكليف وعدم وجوب الاحتياط ، وإلّا فلو ثبت التنجيز ولم يثبت عدم وجوب الاحتياط للزم الاحتياط حينئذ.

الدليل الثالث : أنّ العلم الإجمالي بالتكليف إذا انضمّ إليه رفع الحرج يثبت حجّية الظنّ ، وذلك لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين المظنون والمشكوك والموهوم يحتّم عليك الاحتياط ، فإذا فرض عدم وجوب الاحتياط فيدور الأمر بين الإتيان بالمظنون وغيره ، وترجيح المرجوح على الراجح قبيح.

والجواب : أنّ هذا حسن لو لم ينحلّ العلم الإجمالي بما لدينا من الأخبار الصحيحة ، وأمّا مع الانحلال كما هو المفروض فلا. نعم لو ضمّ إلى هذه المقدّمة بقيّة مقدّمات الانسداد ـ من انسداد باب العلم والعلمي ـ كان الاستدلال بها متّجها.

١٩٧

الدليل الرابع من الأدلّة الدالّة على حجّية مطلق الظنّ : هو الدليل المعروف في اصطلاح الاصوليّين بدليل الانسداد ، وهو مؤلّف من مقدّمات :

الاولى : إنّا نعلم إجمالا بثبوت تكاليف إلزاميّة في الشريعة المقدّسة ، والعلم بثبوت هذه التكاليف من ضروريّات الإقرار بالشريعة وبالدين ، إذ لا معنى لشريعة ليس فيها أحكام إلزاميّة قطعا.

الثانية : أنّ باب العلم إلى امتثال تلك الأحكام منسدّ علينا وكذلك باب العلمي ، والمراد بالعلم الحجّية الذاتيّة وبالعلمي الحجّة الجعليّة كالأمارات.

الثالثة : أنّا مكلّفون بامتثال تلك الأحكام ولسنا كالبهائم والأطفال والمجانين ولا يخفى أنّ ما ذكر في هذه المقدّمة الثالثة بعينه هو ما في المقدّمة الاولى غايته بتغيير في التعبير ، لأنّ معنى العلم بتكاليف إلزاميّة هو أنّا مكلّفون بها وإلّا لم تكن إلزاميّة ، ولو اريد بالمقدمة الاولى عدم نسخ الشريعة المقدّسة فمع أنّه يرجع أيضا إلى هذه المقدّمة من ضروريّات الدين فلا معنى لذكرها وان توقّف عليها دليل الانسداد ، للزوم ذكر وجود الصانع وبعثة الرسل أيضا ، لتوقّفه عليه أيضا ، فالأولى جعل المقدّمات أربعة كما فعله العلّامة الأنصاري قدس‌سره بحذف الاولى (١).

الرابعة أنّ الامتثال المطلوب إمّا أن يكون بجريان الاصول في الأطراف ، وهو مؤدّ إلى الخروج من الدين مع عدم جريانها ، للزوم المخالفة القطعيّة. أو يكون بالتقليد ، وهو مع أنّه لا دليل عليه مستلزم لرجوع العالم إلى من يعتقد خطأه. أو يكون بالقرعة ، وهو باطل قطعا نظير كونه بالاستخارة إجماعا بحسب الظاهر. أو يكون بالاحتياط ، وهو غير واجب أو غير جائز. فيتعيّن حينئذ دوران الأمر بين الامتثال الظنّي أو الشكيّ أو الوهمي ، فنفتقر حينئذ إلى ذكر المقدّمة الخامسة ، وهي أنّ ترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا ، فيتعيّن العمل بالظنّ ، للزوم تقديم المشكوك أو الموهوم تقديم المرجوح على الراجح.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٨٤.

١٩٨

ثمّ إنّ هذه المقدّمة الرابعة قد يقرّر عدم الامتثال بنحو الاحتياط فيها ، بأنّ الاحتياط فيها غير لازم شرعا (*) بمعنى أنّ الاحتياط غير واجب فيها فيكتشف العقل حينئذ أنّ الشارع قد جعل الظنّ حجّة ، إذ لا معنى لبقاء تكاليفه بغير طريق يعيّنه لامتثالها فلا بدّ من جعله الظنّ حجّة ليكون طريقا لامتثالها ، وهذا هو تقرير المقدّمات بنحو الكشف.

وقد يقرّر عدم الامتثال بنحو الاحتياط بأنّ الشارع لا يرضى بامتثال جميع تكاليفه بنحو الاحتياط ، إذ لم يجعل الاحتياط طريقا شرعيّا لامتثال جميع التكاليف ، فالعمل بالاحتياط كلّية غير جائز في جميع الأحكام ، فإذا علمنا بعدم رضا الشارع بالاحتياط الّذي هو مقتضى العلم الإجمالي فالاحتياط بجميع الفروع يبغضه الشارع ، فلا بدّ من التبعيض في الاحتياط بالعمل بالمظنونات من باب أنّ العلم الإجمالي منجّز له لا من باب أنّ الظنّ حجّة بحكم العقل ، وإلّا لكان اللازم تحصيل الظنّ بالامتثال وهو لا يحصل بالإتيان بالمظنونات فقط ، إذ المفروض

__________________

(*) غير ممكن وغير واجب لأدائه إلى العسر والحرج ، أو غير جائز لأدائه إلى اختلال النظام ، وحينئذ فلا دليل على بطلان الاحتياط كلّية ، إذ الاحتياط حيث يمكن ولا يلزم منه عسر وحرج ولا اختلال النظام ليس بباطل ، بل يحتّمه العقل ويدرك حسنه ، فنتنزّل إلى التبعيض في الاحتياط ، فنحتاط احتياطا يوجب الظنّ بالإصابة بعد فرض عدم جواز الاحتياط بنحو يوجب الجزم بالإصابة. وهذا هو تقرير المقدّمات بنحو الحكومة بمعنى إدراك العقل حسن الاحتياط في خصوص المظنونات ، ولا يستكشف منه جعل حجّية الظنّ.

وقد يقرّر بعدم جواز الاحتياط في كلّي الشريعة ومجموع أحكامها ؛ لأنّ أساس الشريعة لا يمكن أن يبتنى على الاحتياط للإجماع على لزوم الجزم في النيّة في الجملة ، وحينئذ فيستكشف العقل أنّ الشارع قد جعل طريقا إلى إدراك أحكامه وامتثالها ، وحيث لا أقرب من الظنّ فيستكشف أنّه هو المجعول للشارع المقدّس ، وإلّا لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

١٩٩

أنّ جملة من المشكوكات أيضا يحتمل كونها موارد للتكليف ، فلا بدّ أن يأتي بالمظنونات والمشكوكات حتّى يحصل له الظنّ بامتثال الأحكام الشرعيّة.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّ المقدّمات على تقدير تسليمها فإنّما تنتج الكشف ، وأمّا حكومة العقل فلا ، إذ لو لم يكتشف العقل جعل الشارع لا تصل النوبة إلى جعل العقل ؛ إذ العقل ليس مشرّعا وجاعلا وإنّما هو مدرك ، والعلم الإجمالي هو بعينه يعيّن العمل بالظنّ من باب أنّ مقتضاه الاحتياط في جميع الأطراف ، فإذا فرض أنّه غير جائز فالاحتياط في بعض الأطراف ـ وهو المظنونات ـ لا دليل على مبغوضيّته للشارع.

ثمّ إنّه بناء على تقرير المقدّمات بنحو الكشف فالنتيجة ليست حجّية مطلق الظنّ ، بل خصوص الظنّ الاطمئناني إن وفى بمقدار المعلوم بالإجمال ، وإلّا فالأقلّ منه بمرتبة وهو قويّ الظنّ ، ثمّ الظنّ العادي وهكذا ، إذ اكتشاف العقل حكم الشارع من باب قبح التكليف بدونه ، فإذا ارتفع قبح التكليف بجعل خصوص الاطمئناني لا يستكشف الجعل ، إذ لا قبح حينئذ. بخلاف العمل بالاحتياط من باب العلم الإجمالي ، فإنّ عدم رضا الشارع المقدّس بالاحتياط الكلّي من جهة إخلال النظام إنّما يمنع عن الاحتياط في جميع فروع الدين مثلا ، لأنّه لا يلغي نيّة الجزم بالوجه في جميع التكاليف ، بل لا بدّ منها في بعضها. فمقتضاه حينئذ لزوم الاحتياط في المشكوكات والمظنونات ، إذ لم يثبت بغض الشارع لهذا الاحتياط فالعلم الإجمالي يكون منجّزا بالنسبة إليه.

نعم ، لو علم أنّ الاحتياط بهذا المقدار أيضا مستلزم لإخلال النظام عمل بخصوص المظنونات ، ويرجع في الباقي إلى الظنّ أو الاصول العمليّة ، ولو استلزم ذلك أيضا عمل بخصوص القويّ منها.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا عدم إمكان تقرير المقدّمات بنحو الحكومة أصلا ، إذ حكم العقل لا معنى له ، لأنّ العقل ليس شأنه الجعل والتشريع وإعطاء صفة الطريقيّة

٢٠٠