غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا إذا لم تكونا مسبوقتين بكونهما ملكا للغير بأن كانتا من المباحات الأصليّة فحاز هو إحداهما وحاز الآخر الثانية فغصبها الأوّل منه ثمّ اشتبها في الخارج وأثمرت إحداهما ففي مثل هذه الثمرة لو تصرّف بها لا ريب في عدم ضمانها قطعا ؛ لأنّ الضمان موضوعه التصرّف في ملك الغير ولم يحرز التصرّف في ملك الغير بتصرّفه بالنماء ولم يحرز كون يده على النماء يدا عدوانيّة ، والحكم بالضمان يدور مدار موضوعه فإذا لم يحرز موضوعه تجري فيه البراءة.

وأمّا جواز التصرّف فيها وعدمه فمبنيّ على النزاع المعروف في أنّ الأصل في الأموال الحلّ أو الحرمة ، فإن قلنا بأنّ الأصل فيها الحرمة استنادا إلى قوله : «لا يحلّ مال إلّا من حيث أحلّه الله» (١) كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) فبالنسبة إلى النماء لم يعلم أنّه أحلّه الله أم لا فيحرم تناوله ، وإن قلنا بأنّ الأصل الحلّ وإنّ قوله : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» (٣) وحديث الرفع من أسباب الحلّ فيجوز التصرّف في النماء حينئذ ؛ لأنّه غير معلوم الحرمة ، فتأمّل.

إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة ، فقد تكون الملاقاة والعلم بها قبل حصول العلم الإجمالي بالنجاسة ، وقد تكونان بعد تنجّز العلم الإجمالي ، وقد تكون الملاقاة قبل العلم الإجمالي إلّا أنّ العلم بها يكون بعد العلم الإجمالي.

وبالجملة ، فالكلام بالنسبة إلى الملاقي لبعض الأطراف بعد التنجّز وحكم الشارع بوجوب اجتناب الطرف الملاقي ، ولا يخفى أنّ محلّ الكلام أنّه إذا كان الملاقي ملاقيا لأحد الأطراف ولم يكن ثمّة ملاقي آخر للطرف الثاني ؛ لأنّه به يحصل علم إجمالي آخر بين الملاقيين ، فقد يقال بوجوب اجتناب الملاقي لبعض الأطراف بأحد وجهين :

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٧٥ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث ٢.

(٢) انظر فرائد الاصول ٢ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٣) انظر البحار ٢ : ٢٧٣ ، والوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٣٨١

الأوّل : أنّ وجوب اجتناب نفس الطرف الملاقي قاض بوجوب اجتناب ملاقيه بدعوى أنّ نفس وجوب اجتناب الطرف للعلم الإجمالي بوقوع نجاسة في أحد الإناءين وتساقط الاصول لتعارضها هو الّذي أوجب الاجتناب عن الملاقي ، غاية ما هناك أنّه كانت دائرته ضيّقة قبل أن يلاقي شيئا وبعد الملاقاة صارت دائرته أوسع ، نظير تقسيم ماء أحد الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما إلى إناءين فتكون أطراف العلم الإجمالي ثلاثة.

واستدلّوا على ذلك ـ يعني على كون نجاسة الإناء هي نجاسة ملاقيه فيجب الاجتناب عنهما ـ برواية الخابية الّتي يكون فيها السمن أو الزيت فتقع الفارة فيها فحكم الإمام عليه‌السلام بوجوب اجتناب الزيت أو السمن فقال السائل : الفأرة أهون عليّ من أترك السمن فقال عليه‌السلام : «إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك فإنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» (١) فقد حكم الإمام عليه‌السلام من وجوب اجتناب الميتة بوجوب اجتناب ما يلاقيها كما يقتضيه التعليل ليس هو إلّا من باب كون نجاسة الملاقي نجاسة ملاقيه.

والجواب أنّ ملاقي النجس ليس نفس ذلك النجس الأوّلي قطعا ، فلو علمنا تفصيلا نجاسة الإناء المخصوص فلاقى شيئا لا يكون ذلك الشيء الملاقى نفس الملاقي قطعا ، وإنّما تكون الملاقاة محقّقة لفرد آخر من أفراد النجس فهو فرد آخر حقّقته الملاقاة وأوجدته لا أنّه نفس ذلك النجس الأوّلي.

ويدلّ على ذلك أنّ الميتة إذا لاقت ماء فأكل إنسان عصيانا تلك الميتة وشرب ذلك الماء فلا ريب في أنّه يعاقب بعقابين : أحدهما لأكل الميتة ، والآخر لشرب الماء المتنجس بها ، ولو كان الماء نفس الميتة فلا ريب في أن يكون عقابه عقاب آكل الميتة فقط ، وحينئذ فملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة ليس هو نفس الطرف أصلا ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٩ ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٢.

٣٨٢

وإنّما أوجبت ملاقاته له إحداث فرد آخر يكون الشكّ في طهارته ونجاسته مسبّبا عن الشكّ في طهارة الطرف ونجاسته.

وبعد جريان الاصول في الطرفين وتساقطهما لتعارضهما يبقى الملاقي سالما فتجري فيه أصالة الطهارة مثلا ولا يعارضها شيء أصلا فيكون الملاقي محكوما بالطهارة ، وذلك أنّ ملاقاة النجس وإن كانت موجبة للنجاسة إلّا أنّ هذا المركّب ممّا يشكّ في تحقّقه ؛ لأنّ الملاقاة وإن كانت متحقّقة إلّا أنّ الجزء الثاني وهو كونها ملاقاة للنجس غير محقّقة فهي نظير شرب أحد المشتبهين بالخمر لا يستوجب حدّا لشاربه.

وقد ظهر أن لا وجه لاستدلالهم بالرواية فإنّها تثبت أنّ الملاقاة موجبة لوجود فرد آخر نجس لا أنّه في مقام بيان أنّ الملاقي هو نفس الملاقى أصلا وليس لها نظر إليه ، والتعليل لرفع ما وقع في ذهن السائل من أنّ صغر الفأرة مانع عن تنجّس ملاقيه فأجابه بعدم الفرق بين الصغر والكبر في حكم الله فهي حجّة مطلقا ويترتّب عليه نجاسة ملاقيه.

الثاني : أن يقال : إنّ الملاقي لأحد أطراف الشبهة يجتنب ؛ لأنّه يحدث علم إجمالي آخر يوجب الاجتناب عنه ، فإنّ الملاقي للإناء يعلم إجمالا إمّا بنجاسته أو نجاسة الإناء الثاني فيكون هذا العلم الإجمالي منجّزا فيوجب الاجتناب عنه أيضا.

وقد أجاب عنه الشيخ الأنصاري قدس‌سره بما حاصله أنّ أصالة الطهارة بالنسبة إلى الإناء الثاني كان ساقطا بالابتلاء بمعارضه وهو أصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، فتكون أصالة الطهارة في الثوب الملاقي لأحد الإناءين سليمة عن المعارض فتجري من غير مزاحمة أصلا (١) (بتقريب أنّ أصالة الطهارة في الثوب مسببة عن أصالة الطهارة في الإناء فهي لا تجري إلّا بعد سقوط أصالة الطهارة في الإناء ،

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

٣٨٣

وهو لا يسقط حتّى يسقط الأصل في الإناء الثاني لقبح الترجيح من غير مرجّح ، وإذا سقط الأصلان معا جرت أصالة الطهارة في الثوب من غير معارض.

وعلى هذا التقريب تتوجّه الشبهة الحيدريّة المعروفة وهي أنّ أصالة الطهارة في الثوب يعارضها أصالة الحلّ في الإناءين وهما أيضا مسبّبان عن أصالة الطهارة فهما في رتبة واحدة. نعم بعد سقوط أصالة الطهارة في الثوب تجري أصالة الحلّ لو كان مأكولا مثلا ، ولكن لا يجوز استعماله في ما يعتبر فيه إحراز الطهارة) (١).

وتفصيل الكلام أن يقال : إنّ طرفي العلم الإجمالي تارة تكون الاصول الجارية في كلّ طرف بعينها تجري في الطرف الآخر ، نظير الإناءين اللذين يعلم إجمالا بنجاسة أحدهما فأصالة طهارة كلّ منهما معارض بمثله ، وكذا أصالة الحلّ في كلّ منهما أيضا معارض بمثله ، واخرى يكون في أحد الطرفين أصلان طوليّان يعني يكون أحدهما مسبّبا عن الآخر ، وفي الثاني يجري أحد الأصلين كما إذا علم بنجاسة ثوب أو إناء ماء ففي الثوب لا تجري إلّا أصالة الطهارة أو استصحابها ، وفي الإناء تجري أصالة الطهارة واستصحابها أيضا فيتساقطان ، وفي الإناء أصل آخر يمتاز به وهو أصالة الحلّ ، فإن جرت أصالة الطهارة في الثوب كانت رافعة للشكّ الذي هو موضوع أصالة الحلّ ، وهذا بخلاف ما لو لم تجر أصالة الطهارة فيتحقّق موضوع أصالة الحلّ.

إلّا أنّ الكلام في أنّه تتساقط جميع الاصول بالتعارض بمعنى أنّ وجود أصل واحد في أحد طرفي العلم الإجمالي يكفي في إسقاط جميع الاصول في طرفه الثاني أم لا؟ وليس هذا الأمر صريحا في كلماتهم. نعم ، في كلام الميرزا قدس‌سره إشارة إليه تقتضي تساقط جميع الاصول في أحد الطرفين بمجرّد معارضة أصل واحد

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٨٤

في الطرف الآخر (١) بتقريب أنّ تساقط أصالتي الطهارة في الثوب والإناء أوجب تنجيز المعلوم الإجمالي بتمام أحكامه ، فكان المعلوم الإجمالي قد تنجّز فإذا تنجّز ترتّب عليه جميع أحكامه ومنها حرمة شربه.

والّذي ينبغي أن يقال : إنّ الاصول الجارية في الطرفين إمّا أن يكون دليلها واحدا مثل أصالة الطهارة أو استصحابها في مثال الثوب والإناء ، وفي مثله لا إشكال في سقوط الاصول المتعارضة وهي أصالة الطهارة أو استصحابها في الثوب والإناء وبعد تساقطها لا معنى لعدم جريان أصالة الحلّ حينئذ ؛ لأنّ السبب الّذي أوجب سقوط أصالتي الطهارة أو استصحابها إنّما هو الترخيص في المعصية لو جرت في كليهما للقطع بتخصيص كلّ شيء نظيف بأحدهما ، والترجيح من غير مرجّح لو جرت في أحدهما خاصّة. وهذا مفقود بالنسبة إلى أصالة الحلّ في الماء إذ هي لا تجري في الثوب لعدم أكله فهو غير معارض أصلا. وبالنسبة إلى جواز الصلاة فيه فالجاري قاعدة الاشتغال كما هو مقرّر في محلّه لا البراءة. ويشهد لما ذكرنا حكم الفقهاء فيمن علم بنجاسة وغسل عرضتا يده وشكّ في تقدّم أيّهما وتأخّرها ، فهنا استصحاب الطهارة معارض باستصحاب النجاسة فيتساقطان فتجري في اليد قاعدة الطهارة بعد سقوط الاستصحابين وحكمهم في كثير من الموارد بمثلها فلا تغفل.

وإن لم يكن دليلها واحدا كما إذا علمنا إجمالا بنجاسة الإناء أو غصبيّة الثوب ففي مثله لا تجري الاصول ؛ لأنّ جريان كلا الأصلين موجب للترخيص في المعصية للعلم الإجمالي بحرمة شرب أحدهما غير أنّ سببها مجهول لدى المكلّف ، وجريان أحدها دون الآخر ترجيح من غير مرجّح فلا بدّ من تساقطها في مثله.

وملخّص ما ذكرنا أنّه حيث كان تساقط الاصول في الأطراف الّتي علم التكليف بها هو الموجب للتنجيز له ، فالاصول إذا كانت من جنس واحد تساقطت كما في

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٤٧.

٣٨٥

الإناءين أو كأصالة الطهارة أو استصحابها في الإناء والثوب ، ولكنّ أصالة الحلّ في الإناء لا معارض لها حتّى تسقط ، وبعد سقوط الأصل في السبب يجري الأصل في المسبّب قطعا ، وإن كانت من جنسين كالعلم بالغصبيّة أو النجاسة فهنا يشتركان في الحرمة فله علم إجمالي بحرمة شرب أحدهما ، فجعل أصالة الحلّ في كليهما موجب للترخيص في المعصية ، وفي أحدهما بخصوصه ترجيح من غير مرجّح فلا يجريان. هذا كلّه حيث تكون الاصول متّفقة في النفي.

أمّا لو كان أحدها مثبتا والآخر نافيا كما لو علم إمّا بزيادة في صلاة المغرب وإمّا بنقيصة في صلاة العشاء فهنا قاعدتا الفراغ يتساقطان للتعارض ، وحينئذ فتجري الاستصحاب الّذي كان محكوما بقاعدتي الفراغ ، فيثبت عدم الزيادة في المغرب باستصحاب عدم الركعة الرابعة فيه وباستصحاب عدم الركعة الرابعة ، فينتج الاستصحاب لزوم اعادة العشاء ولا تعارض حينئذ ، لأنّ أحدهما يحرز عدم الرابعة في المغرب والآخر يحرز عدم الرابعة في العشاء ، فتأمّل.

إذا عرفت هذا عرفت أنّ الملاقي لأحد أطراف الشبهة بعد تنجيز العلم الإجمالي ينبغي التفصيل فيه فإن كانت الاصول الجارية في كلّ طرف بعينها تجري في الآخر كالإناءين فملاقي أحدهما محكوم بالطهارة قطعا ، ولا يصغى إلى دعوى حدوث العلم الإجمالي بنجاسة أو نجاسة الطرف الآخر فلا تجري أصالة الطهارة فيهما للتعارض أو للترجيح من غير مرجّح.

ووجه عدم الالتفات إلى هذه الدعوى أنّ الاصول في الطرف الثاني قد تساقطت بمعارضها وهو الإناء فلا تعارض الأصل في الشيء الملاقي فالأصل فيه لا معارض له فهو مؤمّن.

وإن كانت الاصول الجارية في الأطراف يسقط بعضها بالمعارضة ولا يسقط بعضها الآخر ، مثل ما لو علم إجمالا بنجاسة الماء أو الثوب فأصالة الطهارة واستصحابها ساقطان بالمعارضة إلّا أنّ قاعدة الحلّ في الماء لا معارض لها أصلا ،

٣٨٦

فهنا لو لاقى الثوب الّذي هو أحد أطراف العلم الإجمالي إناء آخر فيه ماء يحدث حينئذ علم إجمالي إمّا بحرمة ماء الإناء الّذي هو الطرف للعلم الإجمالي ، وإمّا بنجاسة الإناء الّذي لاقى الثوب ، فأصالة الحلّ حينئذ في الماء الّذي هو طرف العلم الإجمالي معارض بأصالة الطهارة في الملاقي فيتساقطان حينئذ ، فيكون الإناء الملاقي للثوب محكوما بالنجاسة لعدم جريان أصالة الطهارة أو استصحابها للمعارضة ، هذا كلّه حيث يكون العلم الإجمالي بالنجاسة سابقا على الملاقاة.

وأمّا لو علم بالملاقاة أوّلا ثمّ علم نجاسة أحد الإناءين الملاقي وغيره فهل يحكم على الملاقي بالاجتناب باعتبار فعليّة العلم الإجمالي واتّحاد زمن الشكّ في نجاسة كلّ منها وطهارته ، فيكون نظير العلم الإجمالي الّذي تكون أطرافه ثلاثة غير أن نجاسة الثالث وعدمها مسبّبة عن نجاسة الملاقي وعدمها فيحكم بوجوب الاجتناب ؛ لأنّ أحد طرفي العلم الإجمالي المنجّز هو الإناء وملاقيه والطرف الثاني هو الإناء فقط كما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره في صريح كفايته (١) أو لا يحكم على الملاقي بوجوب الاجتناب بدعوى أنّ بين الملاقي والملاقي تفاوتا بحسب الرتبة فنجاسة الإناء الملاقى أسبق رتبة من نجاسة ملاقيه وإن كان زمن الشكّ واحدا فتتساقط الاصول في تلك المرتبة ويبقى الأصل الجاري في الملاقى سالما عن المعارض كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢).

الظاهر التفصيل بين ما لو كان النجاسة المعلومة أسبق من الملاقاة المعلومة وبين ما لو كانتا في زمن واحد ففي الأوّل لا يحكم على الملاقي بوجوب الاجتناب ، مثلا لو علم إجمالا يوم الأحد بنجاسة في أحد الإناءين وزمن النجاسة المعلومة كان يوم الجمعة وزمن ملاقاة أحد الإناءين كان يوم السبت فهنا لا يجب الاجتناب ؛

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٢.

(٢) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٤٥ و ٤٥١ ـ ٤٥٢.

٣٨٧

لأنّ العبرة بالمعلوم لا بوقت حصول العلم ، فالنجاسة الآن علمنا أنّ الاصول فيها في طرفها متعارضة ومتساقطة ، فهي يعني الاصول متعارضة ومتساقطة فالملاقي يوم السبت يشكّ في توجّه التكليف باجتنابه ، ولكن أصالة الطهارة مثلا أو الحلّ مؤمّن في ارتكابه ولا معارض له لسقوط الاصول في الأطراف ، فالعلم الإجمالي بالنجاسة اليقينيّة يشكّ في انطباقها على أيّ الإناءين ، فالشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ واحد من الإناءين ، وبالنسبة إلى الملاقى يشك في حدوث النجاسة فيه وعدمها فهو شكّ في الحدوث ولا شكّ في الانطباق.

أمّا لو كان زمن الملاقاة وزمن وقوع النجاسة واحدا كما إذا كان هناك إناءان وفي أحدهما طرف ثوب مثلا فعلم بوقوع قطرة البول بأحدهما لا على التعيين فهنا يجب اجتنابهما معا ، يعني يجب اجتناب الملاقي والملاقى معا ، وذلك لأنّ العلم الإجمالي تعلّق إمّا بنجاسة الإناء الآخر وإمّا بنجاسة الإناء الملاقى وملاقيه فأحد طرفي العلم الإجمالي الإناء والطرف الآخر هو الإناء وملاقيه ؛ لأنّ النجاسة الحادثة يشكّ في تطبيقها على أيّهما ، مثل ما لو كان إناء عن يمين الإنسان وإناءان عن يساره فعلم بوقوع قطرات البول إمّا في الإناء الّذي هو على اليمين وإمّا في الإناءين اللذين هما على اليسار فيكون العلم الإجمالي قاضيا بوجوب الاجتناب عن الأواني الثلاثة ، وإن كان في موردنا نجاسة الملاقي مسبّبة عن نجاسة الملاقى (*).

__________________

(*) هذا ما ذكرناه سابقا ولكن دقيق النظر يقتضي بكون العبرة بزمن العلم وحصوله ؛ لأنّه زمن تنجيز العلم الإجمالي وزمن جريان الاصول ، وحينئذ فتجري الاصول الثلاثة في زمن واحد فيتحقّق حينئذ علم إجمالي بنجاسة هذا الإناء وملاقيه أو بنجاسة الطرف الآخر فينجّز العلم الإجمالي فيجب الاجتناب عن الملاقي أيضا كما يجب الاجتناب عن نفس الإناءين ولا أثر للمعلوم في نفسه بعد فرض عدم حصول العلم في زمن النجاسة الواقعيّة ؛ إذ الكلام في جريان الاصول الّتي هي أحكام ظاهرية متقوّمة بالشكّ ولا دخل لها بالواقع أصلا ، فلا تفصيل بين القسمين. (من إضافات الدورة الثانية).

٣٨٨

فهو نظير من علم ليلا إمّا بفساد صلاة الظهر لنقصان ركوعها وإمّا بفساد صلاة الصبح لفساد طهارتها فقاعدة الفراغ متعارضة بالنسبة إلى الطهارة وصلاة الصبح وصلاة الظهر ، لكن لا يقال : إنّ قاعدة الفراغ لا تجري بالنسبة إلى صلاة الصبح ، لأنّ الشكّ فيها ناشئ عن الشكّ في الطهارة ، وفي مثل المقام لا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الإناء الغير الملاقي والملاقي وملاقاه.

والسرّ في ذلك ـ يعني في تنجيز العلم الإجمالي ـ مع أنّ رتبة الملاقي أسبق من رتبة ملاقاه لتفرّعه عليه هو أنّ تأخّر رتبة الملاقى عن ملاقيه لا تستدعي تأخّر رتبته عمّا هو برتبة الملاقي لما ذكرناه في مبحث الضدّ من أنّ تأخّر المعلول عن علّته رتبة لا تستدعي تأخّر المعلول عمّا هو في رتبة العلّة وهو عدمها ، وقد تقدّم بيانه في مبحث الضدّ تفصيلا ، فإذا كان تأخّر شيء عن شيء رتبة لا يستدعي تأخّره عمّا هو في رتبته ، فتأخّر الملاقي عن الملاقى رتبة لا يقتضي تأخّر الملاقي رتبة عمّا هو في رتبة الملاقى وهو الإناء الثاني فيكون في رتبة الإناء الثاني فيتعارض الأصل الجاري فيه مع الأصل الجاري فيه.

(وتحقيق المقام أنّ التنجّز والتعذير من الأحكام العقليّة الّتي لا يرفع تعارضها إلّا التقدّم والتأخّر الزمانيّين دون الرتبتين ، ويمكن تقريبه بوجهين :

أحدهما : أنّ الأصل في الثوب لا يجري مع جريانه في الإناء الملاقي له لارتفاع الشكّ عن الثوب بجريان الأصل في الإناء الملاقي له إلّا أنّ الأصل في الإناء الثاني لا يرفع الشكّ عن الثوب فلا مانع حينئذ من جريانه وتتحقّق التعارض والتساقط.

__________________

ـ ولكنّه أيّده الله قد عدل عنه في دورته الثالثة إلى ما في المتن بتقريب أنّ الشكّ في الإناءين والملاقي وإن كان في زمن واحد إلّا أنّ الشكّ في الإناءين شكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على أيّهما فلا تجري الاصول فيهما لمنافاته للمعلوم الإجمالي لو جرت فيهما وللزوم الترجيح من دون مرجّح لو جرت في أحدهما. أمّا الملاقى فهو على تقدير كونه متنجّسا فنجاسته حادثة وهي مشكوك فيها فيجري فيه الأصل بلا معارض. (من إضافات الدورة الثالثة).

٣٨٩

الثاني : أنّ لنا علمين إجماليّين ، أحدهما أنّ أحد الإناءين نجس ، الثاني أنّ الثوب أو الإناء الثاني نجس ، فيكون كلّ من العلمين منجّزا فيؤثر أثره) (١) ، فتأمّل.

(وأمّا لو علم يوم السبت بنجاسة أحد الإناءين يوم الجمعة ثمّ علم فيه بملاقاة الثوب لأحد الإناءين ليلة السبت فحاله حال الصورة الاولى في جريان أصالة الطهارة في الملاقي للشكّ في نجاسته بعد أن تساقطت الاصول في الطرفين ؛ لأنّ الشكّ في نجاسة حادثة غير المعلومة.

وأمّا لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ بعد يوم علم بأنّ أحد الإناءين كان فيه طرف الثوب حين احتمال إصابة النجاسة له ، فقد يقال بأصالة الطهارة في الملاقي لتساقط الاصول في الطرفين فيجري الأصل فيه من غير معارض ، إلّا أنّ الظاهر بطلان هذا القول ؛ لأنّ تنجّز العلم الإجمالي يدور حدوثا وبقاء مدار العلم الإجمالي وقد انعدم العلم الإجمالي الّذي طرفه الإناءان ووجد بدله علم إجمالي آخر طرفه أحد الإناءين وطرفه الآخر الإناء وملاقيه فينجّز العلم الإجمالي الثاني فيجب حينئذ الاجتناب عن الملاقى أيضا) (٢).

بقي الكلام فيما ذكره الآخوند قدس‌سره (٣) فإنّه ـ بعد أن ذكر أنّه يجب الاجتناب عن الإناءين دون ملاقيهما ـ ذكر أنّه قد يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه ومثّل له بما لو علم إجمالا بنجاسة الإناء الموجود فعلا أو الإناء الخارج عن محلّ الابتلاء الملاقي لثوبه ، فإنّه يتعارض الأصل في الإناء الفعلي بالأصل في الثوب فيتساقطان ، ثمّ يدخل الإناء الخارج عن محلّ الابتلاء في محلّ الابتلاء فإنّه حينئذ يجري فيه الأصل من غير معارض.

__________________

(١ و ٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) كفاية الاصول : ٤١٢.

٣٩٠

وذكر مثالا آخر أيضا لما يجب فيه الاجتناب عن الملاقى دون طرف العلم الإجمالي وهو ما لو علم إجمالا نجاسة طعام أو إناء ثمّ علم بملاقاة ذلك الطعام الإناء ، إمّا هو نجس أو الإناء الّذي هو طرف للعلم الإجمالي السابق فإنّه زعم أنّ الاصول بين الإناء الأوّل والطعام تساقطت فالإناء الّذي علم أخيرا نجاسته أو نجاسة الإناء الأوّل لا يعارض الأصل فيه الأصل في الإناء السابق لسقوطه فيجري بلا معارض ؛ لأنّه فرد يشكّ في حدوث نجاسته.

والظاهر أنّ هذين الموردين هما كغيرهما من بقيّة ملاقي أحد الأطراف في أنّه يجب الاجتناب عنهما دون ملاقيهما إلّا في الصور الّتي قدّمنا الّتي يجب فيها الاجتناب عنهما ، حيث يبقى أصل غير ساقط في أحد الطرفين كأصالة الحلّ في الإناء. بيان ذلك في المثال الأوّل واضح ؛ وذلك لأنّ جريان الاصول في المعدوم إذا كان له أثر لا مانع منه ، إذ يجوز للشارع أن يتعبّدنا بأثر ذلك المعدوم فلا مانع من جريان الأصل حينئذ ، إذ المانع إنّما هو عدم إمكان التعبّد فإذا أمكن الجعل لوجود أثر له فلا مانع.

مثال ذلك في الشبهات البدويّة أنّه لو توضّأ بإناء ثمّ شكّ في طهارته وقد انعدم الإناء فهل تجري فيه حينئذ أصالة الطهارة في ظرفه لإثبات صحّة الوضوء فعلا أم لا؟ لا ريب في الجريان لوجود الأثر الشرعي. والمقام أيضا إذا فرض خروج الإناء في المثال الأوّل عن محلّ الابتلاء أو عن القدرة العقليّة فلا مانع من جريان الأصل في نفس الملاقي وإن كان معدوما باعتبار وجود أثره الشرعي في ملاقيه ، فإذا جرى فيه وتساقطا للمعارضة بينه والإناء الآخر أي بين المعدوم لوجود أثره وهو الملاقي وبين الإناء الموجود الآخر فأثره عدم الطهارة في الملاقي المسبّبة عن طهارته فيكون الملاقى فردا مشكوك الطهارة فتجري فيه أصالة الطهارة أصالة رأسا.

وبالجملة ، أثر جريان أصالة الطهارة في الإناء المعدوم هو عدم الحكم بطهارة الملاقي وهو كاف في الجريان فيتعارضان ويتساقطان فيبقى الملاقي مشكوكا فتجري فيه نفسه حينئذ أصالة الطهارة فلا يجب الاجتناب عنه.

٣٩١

وبيان وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقي في المثال الّذي ذكره الآخوند أوّلا ـ وإن ذكرناه نحن ثانيا ـ يتمّ بإعادة نفس المثال لزيادة التوضيح وهو أن نعلم إجمالا يوم السبت بوجود نجاسة في أحد الإناءين اللذين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري يوم الجمعة ثمّ علمت يوم الأحد بوجود نجاسة يوم الخميس في الإناء الّذي عن يميني أو في ثوب احتمال نجاسة الإناء الّذي عن يساري من ملاقاة ذلك الثوب له.

وقد ذكر الآخوند قدس‌سره وجوب اجتناب الإناءين دون الثوب بدعوى أنّ العلم الإجمالي الحاصل يوم السبت بوجود نجاسة في أحد الإناءين نجّز فتساقطت الاصول فيهما بالتعارض ، فوجود العلم الإجمالي الآخر يوم الأحد غير منجّز إذ أحد أطرافه الإناء اليميني وقد تساقطت فيه الاصول فيكون الثوب الّذي هو الملاقي للإناء اليساري مجرى للاصول من غير معارض فيجب الاجتناب عن الملاقى دون الملاقي.

وما ذكره قدس‌سره مبنيّ على كون العبرة بالعلم الإجمالي وسبقه ولحوقه لا على كون العبرة بالمعلوم وسبقه ولحوقه وإن كان العلم متأخّرا (*).

__________________

(*) وهذا هو الصحيح على ما اخترناه أخيرا وشرحناه في ما علّقناه في ظهر هذه الصحيفة من أنّ التنجيز والتعذير يدوران مدار العلم لا مدار المعلوم ؛ لأنّه وقت التنجّز وتساقط الاصول. وحينئذ فما ذكره الآخوند : من الصور الثلاثة في الملاقى من عدم لزوم الاجتناب عنه ولزوم الاجتناب عن الطرفين فيما علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ علم بالملاقاة ولزوم الاجتناب عن الطرفين والملاقى فيما علم بالملاقاة أولا ثمّ علم بنجاسة أحد الإناءين ولزوم الاجتناب عن الثوب والطرف الآخر دون الإناء الّذي لاقاه الثوب ، صحيح في المثال الأخير ، فافهم. (من إضافات الدورة الثانية للدرس). ولكنّه في الدورة الثالثة لم يرتضه لما تقدّم. (من إضافات الدورة الثالثة).

٣٩٢

وقد ذكرنا أنّ العبرة بالمعلوم وسبقه وإن كان العلم متأخّرا ، وحينئذ فقد ظهر فساد ما ذكره الآخوند قدس‌سره لأنّ العلم الإجمالي الكائن يوم الأحد تعلّق بنجاسة يوم الخميس مردّدة بين الثوب والإناء اليميني ، فيكون كلّ من الثوب والإناء اليميني ممّا يشكّ في انطباق النجس المعلوم عليهما فينجّز العلم الإجمالي بالنسبة إليهما ، وأمّا بالنسبة إلى الإناء اليساري فيكون الشكّ فيه تمسّكا في الحدوث لفرد آخر نجس فيجري فيه أصالة الطهارة من غير معارض ، والعلم الإجمالي بالنجاسة بين الإناءين يوم السبت (*) وإن كان أسبق إلّا أنّ معلومه متأخّر زمانا فيكون منحلّا ، لأنّ الطرف اليميني واجب الاجتناب بموجب العلم الإجمالي الأسبق معلوما فيكون الطرف اليساري الّذي نجاسته على تقديرها من نجاسة الثوب جائز التناول لجريان أصالة الطهارة فيه من غير معارض.

هذا تمام الكلام في الملاقي ، فتلخّص أنّ الملاقى قد يجب الاجتناب عنه خاصّة ، وقد يجب الاجتناب عنه وعن ملاقيه كما تقدّم.

هذا تمام الكلام في العلم الإجمالي الّذي يتردّد بين المتباينين ، وقد ذكرنا تنجيز العلم الإجمالي فتجب الموافقة القطعيّة وتحرم المخالفة الاحتماليّة.

البحث في العلم الإجمالي إذا تردّد بين الأقلّ والأكثر

إذا علم إجمالا بتكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر فهل يكون العلم الإجمالي منجّزا كالمتباينين أم لا؟

__________________

(*) قد انعدم وانقلب إلى العلم الإجمالي الأوّل فليس بموجود بقاء حتّى ينجّز ، بل الباقي العلم الإجمالي الثاني فينجّز ويؤثّر أثره. (من إضافات الدورة الثالثة).

٣٩٣

وينبغي أن يعلم أنّ محلّ الكلام في موضعين :

أحدهما : فيما إذا كان المكلّف به ذا أجزاء خارجيّة ارتباطيّة ، ويسمّى بالشك في الجزئيّة.

الثاني : فيما إذا كان المكلّف به ذا أجزاء تحليليّة عقليّة ، ويسمّى بالشكّ في الشرطيّة.

والكلام في الأوّل أيضا يقع في مقامين :

أحدهما : في جريان البراءة العقليّة.

وثانيهما : في جريان البراءة الشرعيّة.

[في جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر]

أمّا الكلام في الأوّل وهو جريان البراءة العقليّة ، وهو قبح العقاب بلا بيان.

فنقول : ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) في جريانها وجها ملخّصه أنّ الأقلّ متيقّن إمّا بالأصالة وإمّا مقدّمة للكلّ فهو واجب إمّا نفسيّا وإمّا غيريّا ، فكلّي الوجوب فيه متيقّن وأمّا الزائد فيشكّ في التكليف به ، فتجري فيه البراءة لانحلال العلم الإجمالي إلى متيقّن قطعي ومشكوك بدوي.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري ـ مع فساده في نفسه لعدم اتّحاد سنخ وجوب الأقلّ مع سنخ الوجوب النفسي المعلوم إجمالا ـ مخالف لمبناه أيضا ، فإنّ ما ذكره مبنيّ على القول بأنّ أجزاء الواجب الخارجيّة واجبة وجوبا غيريّا ، وهو لا يلتزم به ؛ لأنّ الوجوب الغيري إنّما يكون للمقدّمة المتميّزة بحسب الوجود الخارجي عن ذيها ، وقد قدّمنا في بحث المقدّمة عدم اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيري أصلا.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٣٩٤

فالأولى الاستدلال على البراءة العقليّة بأن يقال : إنّ الوجوب النفسي المنحلّ إلى أجزاء الواجب قد انحلّ إلى العلم بوجوب الركوع قطعا والعلم بوجوب السجود كذلك وكذا بقيّة أجزاء الواجب المتيقّنة.

وأمّا الجزء المشكوك كالسورة مثلا فلم يعلم انحلال التكليف بالمركّب إليه ، فلا بيان حتّى يثبت وجوب السورة ، فلا يكون ثمّة بيان لوجوب السورة ، فيقبح العقاب لقبح العقاب بلا بيان.

(وتوضيحه : أنّ ذات الأقلّ نفسا مطلوب بمقتضى انبساط الطلب النفسي عليه إلّا أنّه مطلوب بإحدى الخصوصيّتين ، فإمّا أن يكون مطلوبا بشرط شيء أو لا بشرط ، وهما خصوصيّتان متباينتان إلّا أنّ كونه بشرط شيء تقييد وزيادة كلفة فينفيها أصل البراءة ، ولا يعارض بأصالة البراءة في الطرف الثاني ؛ لأنّه لا امتنان في رفع التوسعة ولا معنى له وسيجيء توضيحه) (١).

وقد اشكل على تقريب البراءة بوجوه :

أوّلها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) وقد قرّب هذا الإشكال بتقريبين ، ولأجله اختار الاشتغال العقلي فيما دار بين الأقلّ والأكثر.

الأوّل : من تقريبه أنّ الانحلال مستلزم للمحال ؛ لأنّ لزوم الأقلّ متوقّف على تنجّز التكليف به على كلّ تقدير ، ولو كان التكليف متعلّقا بالأكثر فإذا كان لزوم الانحلال مستلزما لعدم تنجّز التكليف إلّا إذا تعلّق بالأقلّ لزم الخلف.

الثاني : من التقريبين أنّ الانحلال يلزم من وجوده عدمه ؛ لأنّه يستلزم عدم التنجّز للتكليف على كلّ حال ، وعدم التنجّز مستوجب لعدم لزوم الأقلّ على كلّ تقدير وهو مستلزم لعدم الانحلال.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) كفاية الاصول : ٤١٣.

٣٩٥

وجوابهما على ما قرّرناه ظاهر ، فإنّ لزوم الأقلّ ليس متوقّفا على تنجّز التكليف على كلّ حال حتّى يلزم ما ذكره ، وإنّما يتوقّف على العلم بالتكليف به إمّا مستقلّا وإمّا في ضمن الأكثر ، يعني إمّا مطلوبة لا بشرط أو بشرط شيء وهو انضمام الجزء المشكوك ، وهذا موجود قطعا ، ضرورة أنّه بتركه الأقلّ يقطع بتوجّه العقاب إليه إمّا لتركه الأقلّ وهو الواجب أو لتركه الأقلّ وهو جزء الواجب.

الثاني : من الإشكالات على البراءة ما يظهر منه قدس‌سره (١) في ضمن كلماته ، وملخّصه : أنّ التكليف الواحد الارتباطي المنبعث عن مصلحة واحدة بما أنّه واحد فلا يعقل تنجّزه بالنسبة إلى بعض الأجزاء وعدم تنجّزه بالنسبة إلى البعض الآخر ، وتوضيح مراده أنّ احتمال وجوب الأكثر يمنع عن العلم بوجوب الأقلّ ؛ لأنّه يحتمل أن يكون الأقلّ واجبا حيث يكون ملحوقا بالجزء المشكوك وجوبه ، فلا يكون إتيانه من دون إتيان المشكوك منجّزا ، بمعنى كون الأقلّ الّذي هو الواجب واجبا بوصف كونه ملحوقا ببقيّة الأجزاء ، فإتيانه به وحده لا يكون إتيانا له بصفته ، مثلا الركوع الّذي هو جزء من أجزاء الأقلّ قطعا قد لا يكون التكليف به منجّزا إلّا حيث يكون بعد السورة الواجبة وأمّا إتيانه بلا أن يكون مسبوقا بالسورة لا يعلم تعلّق الطلب به فلا يقين بالشغل بالأقلّ.

والجواب أنّ التنجّز ليس بحكم الشارع حتّى يدور مدار المكلّف به ، وإنّما هو بحكم العقل الحاكم بتنجّز ما وصل وقبح العقاب على ما لم يصل ، فوجوب الأقلّ وصل ووجوب الأكثر لم يصل فيحكم بقبح العقاب على ترك ما لم يصل ، فافهم.

الثالث : من الإشكالات على البراءة ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) وملخّصه : أنّ العلم الإجمالي تعلّق بطبيعة الأجزاء مهملة ، وخصوصيّة كون الأمر تعلّق بها مطلقة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٩٢ ـ ٤٩٣.

٣٩٦

أو مقيّدة كلاهما مجهول ، (والعلم بالجامع من مقوّمات العلم الإجمالي ، فكيف يكون موجبا للانحلال الّذي يؤول إلى قضيّة متيقّنة واخرى مشكوكة؟) (*).

توضيحه : أنّ الجزء كما يمكن أن يكون مطلوبا مطلقا ، مثلا الركوع يمكن أن يكون مطلوبا مطلقا ـ أي سواء سبق بالسورة أم لا ـ يمكن أن يكون مطلوبا مقيّدا بكونه مسبوقا بالسورة ، والعلم الإجمالي تعلّق بالتكليف بذات الركوع وغيره من الأجزاء المتيقّنة حال كون ذات الأجزاء مهملة ، وخصوصيّة كون الأجزاء مطلوبة مطلقا أي سواء أتى بالجزء المشكوك أم لا ، وخصوصيّة كون الذات مطلوبة بشرط شيء وهو الإتيان بالجزء كلا هاتين الخصوصيّتين مجهولة فكيف انحلّ العلم إلى الأقلّ المتيقن؟

ثمّ أيّد كلامه بأنّ الشكّ في ناحية الامتثال مجرى لقاعدة الاشتغال ، فلو لم يأت بالجزء المشكوك وأتى ببقيّة الأجزاء يشكّ في امتثال أمر الأجزاء لاحتمال كونها مطلوبة بشرط شيء فهو مجرى لقاعدة الاشتغال.

وجريان البراءة من جهة الجزء المشكوك لو سلّم جريانه إلّا أنّ أمر الأجزاء المعلومة يشكّ في امتثاله من جهة فواته بما هو موصوف باللحوق للجزء المشكوك.

والجواب : أنّ ما ذكره قدس‌سره من كون العلم الإجمالي متعلّقا بالتكليف بذات الأجزاء مهملة ، وإن كان صحيحا متينا وكون الخصوصيّتين مجهولتين أيضا كذلك ، إلّا أنّ أصالة عدم التقييد الّذي هو تكليف زائد يعيّن أنّه غير مقيّد ، ولا يعارضه أصالة عدم الإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق ليس شيئا زائدا بل هو عدم التكليف لا شيء زائد عليه فلا معنى لأصالة عدمه.

وبالجملة ، يكون العلم الإجمالي بوجوب إحدى الخصوصيّتين وهما ذوات الأجزاء مطلقا أو بشرط لحوق الجزء الآخر المشكوك منحلّا بأصالة عدم تقييد ذوات الأجزاء باللحوق الغير المعارضة بأصالة عدم الإطلاق ؛ لأنّه عدم التكليف فلا ينفى بالأصل.

__________________

(*) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٩٧

مع أنّه يقطع بأنّ ترك الركوع يوجب عليه العقاب قطعا لكونه على تقدير تركه تاركا للتكليف القطعيّ فهذا ينجّز عليه الإتيان بالركوع ، واحتمال تقييده بكونه بعد السورة ، ينفى بالأصل لقبح العقاب بلا بيان إذ لا بيان بالسورة فرضا. وعلى تقدير التقييد واقعا فليس ترك المقيّد مستندا إلى تقصير المكلّف ، بل لعدم وصول ذلك إليه فالموجب والسبب من قبل المولى ، فلا معنى لعقاب العبد على تركه ما لا بيان به.

وأمّا ما ذكره مؤيّدا : من أنّ الشكّ في الامتثال مجرى لقاعدة الاشتغال وأنّه بعد إتيانه الركوع يشكّ في سقوط أمر الركوع لاحتمال تقيّده بالسورة ، فإن أراد بالشكّ في السقوط الشكّ في سقوط أمره واقعا فهو مسلّم إلّا أنّه لا يستلزم عقابا إذ الشكّ في السقوط الواقعي إنّما يوجب العقاب حيث يتمّ البيان ويكون التقصير في ناحية الامتثال ، وأمّا حيث يكون التقصير في ناحية البيان من المولى فلا ، وإن أراد السقوط بحكم العقل فغير مسلّم إذ السقوط بحكم العقل إنّما هو بإتيان ما وصل إليه ، وما وصل إنّما هو خصوص الركوع فيقبح العقاب على السورة لكونه عقابا بلا بيان.

الرابع : من الإشكالات على جريان البراءة ما ذكره الشيخ الأنصاري (١) بلفظ «إن قلت» وتقريره : أنّ الأحكام بما أنّها تابعة للمصالح والمفاسد عند العدليّة فبإتيان الأقلّ لا يعلم حصول المصلحة فلا بدّ من إتيان الأكثر ؛ لأنّ الشكّ يكون شكّا في المحصّل ، إذ لا يعلم تحقّق المصلحة في ضمن الأقلّ فلا بدّ من الإتيان بالأكثر لتحقيقها قطعا.

وقد أجاب عنه الشيخ الأنصاري بما لم يكن متوقّعا من مثله ، فإنّه أجاب أوّلا بأنّ هذا مبنيّ على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد أمّا على رأي الأشاعرة فلا يرد.

ولا يخفى أنّ هذا الجواب جدلي ، إذ له أن يقول : أنت ما جوابك عن هذا الوجه مع بنائك على التبعيّة؟

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٣١٩ ـ ٣٢١.

٣٩٨

وأجاب ثانيا بأنّ المصالح لا يعلم حصولها بالإتيان بالأكثر أيضا في صورة الشكّ في الجزئيّة فاحتمال حصول المصلحة موجود بإتيان الأقلّ وبإتيان الأكثر ، والقطع بحصولها منفيّ حتّى لو جيء بالأكثر ؛ لأنّ الإتيان بالأكثر إنّما يكون بإتيان مشكوك الجزئيّة برجاء المطلوبيّة إذ لا يستطيع الجزم بها ؛ لأنّه تشريع ، ومن المحتمل أن تكون المصلحة مترتّبة على إتيان كلّ جزء بعنوان كونه جزءا يقينيّا بحيث يقصد به وجه الوجوب الغير المتحقّق في المقام.

وهذا الجواب كسابقه فإنّه :

أوّلا : إنّما يتمّ حيث يكون المأمور به عباديّا ، لأنّه الّذي يحتمل فيه اعتبار قصد الوجه ، وأمّا التوصليّات فلا ، لحصول الغرض بصرف الإتيان وإن لم يقصد به القربة.

وثانيا : أنّ لازمه عدم إمكان الاحتياط أصلا ؛ لأنّ كلّ جزء يمكن أن يعتبر فيه قصد الوجه ، فهذا يوجب رفع مشروعيّة الاحتياط كلّية ولا يلتزم بها أحد أصلا حتّى الشيخ نفسه.

وثالثا : أن لا احتمال لاعتبار قصد الوجه في الأجزاء فإنّ من يعتبره لتلك الشبهة الكلاميّة إنّما يعتبره في مجموع العمل الّذي يمكن فيه معرفة الوجه ، أمّا ما لم يمكن فيه معرفة الوجه من العمل الكامل أو الجزء وإن أمكن فيه معرفة الوجه فلا يعتبر فيه قصد الوجه أصلا.

وقد أجاب الميرزا النائيني (١) عن هذه الشبهة بأنّ الغرض إن كان ترتّبه على العمل ترتّب المعلول على علّته التامّة فيمكن أن يأمر الشارع به وأن يأمر بعلّته ، مثلا يقول : اقتل المشرك أو اضرب عنقه ، وحيث يكون من الأفعال الّتي هي مترتّبة على عمل يكون ترتّبها عليه ليس كترتّب المعلول على علّته التامّة ، فهنا إنّما يسع الشارع أن يأمر بالسبب ولا يسعه أن يأمر بالمسبّب ؛ لأنّه قد لا يقدر عليه.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ٥٠١ ـ ٥٠٢.

٣٩٩

فالمقام من هذا القبيل ؛ لأنّ المصلحة ليس ترتّبها على الصلاة ترتّب المعلول على علّته التامّة لاحتياج تحقّق المعراجيّة إلى الملائكة العمّالة فهو نظير ترتّب الثمر على الزرع ، وفي مثله لا مجال للأمر بتحصيل الثمر لعدم القدرة عليه ؛ ولذا لم يأمر بتحصيل المصلحة وإنّما أمر بتحصيل أسبابها فلا أمر بالمصلحة في المقام.

ولا يخفى عليك ما في كلامه قدس‌سره فإنّ تقسيم الغرض إلى ما يترتّب ترتّب المعلول على علّته التامّة ، تارة والناقصة اخرى ، إن أراد به الغرض الأقصى فليس المكلّف مكلّفا به أصلا حيث لا يكون ترتّبه حتميّا لانفكاكه عن الفعل الّذي قد أمر به المكلّف ، وإن أراد به الغرض الإعدادي فهو دائما مترتّب ترتّب المعلول على علّته التامّة فحيث يشكّ في تحقّقه مع التكليف به قطعا يجب الإتيان بالأكثر ولا يكون الإتيان بالأقلّ محصلا.

فالتحقيق في الجواب : أنّ الغرض لا يزيد على أصل الأمر فكما أنّ الأمر حيث يشكّ به ينفى بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كذلك الغرض أيضا ، فإنّ الغرض الإعدادي يدور مدار المأمور به فإذا كان المأمور به واصلا بمقدار خارجي وهو الأقلّ دون الأكثر فالغرض الإعدادي الّذي كلّف به الإنسان قطعيّا حاصل أيضا بالإتيان بالأقلّ.

توضيح الجواب : أنّ الأمر إن تعلّق بالغرض فلا بدّ من جريان الاشتغال في الجزء المشكوك ، وإن تعلّق بالعمل المسبّب له وكان الأمر به أمرا بالغرض عرفا كضرب العنق في القتل فلا بدّ من الاشتغال أيضا ، وإن لم يكن كذلك بأن أمر بالعمل وليس أمرا به عرفا فإن أوجب الاحتياط في الجزء المشكوك فهو ، وإلّا فحينئذ نعلم أنّ الغرض الإعدادي مترتّب على الأقلّ وأنّ الغرض لو كان مترتّبا على الأكثر فهو لا يريده وإلّا لأوجب الاحتياط مع أنّ نفي تبعيّة الأحكام للمصالح في المتعلّقات غير بعيد ، كما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله تعالى.

٤٠٠