غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

إثبات للمعلول أو أنّ إثبات أحد المعلولين إثبات للمعلول الآخر أو إثبات لعلّته أم لا؟ (مع أنّ البناء على حجّية الأصل المثبت في مثل ذلك لا يبقى موردا لعدم حجّيته ؛ لأنّ جميع موارده من هذا القبيل ، فافهم) (١).

وأمّا ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره : من حجّية الأصل المثبت حيث تكون الواسطة خفيّة (٢) فلا يخفى ما فيه ؛ وذلك لأنّ المرجع هو العرف حيث تكون الشبهة مفهوميّة بحيث لا يعلم فيها سعة الموضوع وضيقه ، أمّا حيث لا تكون كذلك كأسماء المقادير والأعداد فلا عبرة بنظر العرف لتسامحهم فيه مع اعترافهم بعدم الصدق حقيقة ، مثلا يتسامحون في إطلاق الألف على التسعمائة والتسعة والتسعين مع اعترافهم بعدم الصدق الحقيقي ؛ ولذا لو أنكر عليهم أحد لا ينكر عليه.

كما أنّ المرجع هو العرف في تعيين الظهور ، سواء كان مستند ذلك الظهور هو الوضع الحقيقي أو القرينة المقاليّة أو الحاليّة ، ومنها مناسبة الحكم والموضوع ، كما في :

رأيت أسدا يرمي أو في الحمام أو غيرها ، فإنّ الظهور حينئذ يكون في المعنى المجازي لهذا اللفظ لا حقيقته بواسطة القرينة.

إذا عرفت هذا فدعوى خفاء الواسطة إن أدّى إلى أنّ العرف لا يرى واسطة ويرى الأثر أثرا لذي الواسطة فحينئذ لا واسطة حتّى يدّعى خفاؤها ، وإن كان العرف يرى واسطة لكنّه لتسامحه في جميع اموره يعدّ الأثر أثرا لذي الواسطة فلا يعتنى بنظر العرف حينئذ ، وسيأتي ذكر مثاله. وحينئذ فلا فرق في عدم حجّيّة الأصل المثبت بين وضوح الواسطة وخفائها أصلا.

نعم ، يكون الأصل المثبت حجّة في مورد يتعبّدنا الشارع بالأصل مع أنّا لا نجد لذلك المورد أثرا شرعيّا إلّا على لازمه العقلي ، فحينئذ نقول بحجّيّة الأصل المثبت

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٤.

٦٢١

في خصوص ذلك المورد لئلّا يكون التعبّد به لغوا ، وقد ذكر في أمثلة الأصل المثبت مثالا زعمه بعضهم مثبتا (١) وبعضهم (٢) نفى إثباته وهو ما لو كان الجسم النجس أو الطاهر الملاقي له رطبا قبل ملاقاته له ثمّ لاقاه وشكّ في بقاء الرطوبة ليحكم بنجاسة الملاقي أو بعدم بقائها ليحكم بطهارته ، فإنّ استصحاب بقاء الرطوبة إذا جرى فإن قلنا بأنّ النجاسة منشأها الملاقاة ورطوبة النجس أو الطاهر ، فهنا يثبت باستصحاب الرطوبة النجاسة للملاقى ؛ لأنّ الملاقاة حاصلة بالوجدان والرطوبة حاصلة بمقتضى الأصل فيتحقّق الموضوع للنجاسة.

وأمّا إذا قلنا إنّ النجاسة من أحكام عنوان بسيط منتزع من هذين الأمرين وهو السراية فاستصحاب الرطوبة لا يثبت النجاسة إلّا بالأصل المثبت.

وقد ذكر بعضهم (٣) هذا المثال مثالا لخفاء الواسطة ، ولا يخفى ما فيه ، فإنّ العرف إذا زعم أنّ النجاسة من أحكام السراية ، فدعوى خفاء الواسطة وهي السراية لا يكوّن الموضوع للحكم بالنجاسة هو نفس الرطوبة ، كلّا ثمّ كلّا ، هذا كلّه في غير الحيوان.

وأمّا في الحيوان فإن قلنا بأنّ عروض النجاسة على جسم الحيوان ينجّسه كما هو المشهور ، وأنّ زوالها مطهّر له فاستصحاب نجاسة جسم ذلك الحيوان مع ملاقاة الرطب بالوجدان وتحقّق السراية يوجب نجاسة الملاقي له إن قلنا إنّ موضوع نجاسة الملاقي مركّب من هذين الأمرين ، وإن لاقى جسما جافّا بحيث يشكّ في تحقّق السراية فلا يحكم بنجاسة الملاقي إلّا على الأصل المثبت.

وإن قلنا بأنّ عروض النجاسة على جسم الحيوان لا توجب تنجيسه فهو كالكرّ لا ينجس بنجاسة ملاقيه الرطب ، بل إنّ الرطوبة تبقى على نجاستها والجسم الّذي

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٤ : ٤٩٦ ، وأجود التقريرات ٤ : ١٣٨.

(٢) حكاه الشيخ في الفرائد عن المحقّق ، انظر الفرائد ٣ : ٢٤٤.

(٣) انظر الفرائد ٣ : ٢٤٤.

٦٢٢

هي عليه باق على طهارته كما ذهب إليه بعضهم (١) فلا يكاد يجدي استصحاب بقاء الرطوبة ، إذ الملاقاة للنجس حينئذ غير متحقّقة عندنا. نعم الملاقاة لجسم الحيوان متحقّق قطعا إلّا أنّه ليس ينجس ، وإنّما النجس الرطوبة التي عليه ، ولا يترتّب على استصحابها النجاسة لعدم إحراز الملاقاة للنجس حينئذ.

فقد ظهر ما في كلام الميرزا قدس‌سره من دعواه عدم الفرق بين الحيوان وغيره (٢) في الابتناء على أنّ النجاسة موضوعها هو المركّب أو البسيط المنتزع من هذين المركّبين من غير فرق بين القول بتنجيس الحيوان بالملاقاة أو القول بعدم تنجيسه ، فإنّ الفرق بين القولين من ناحية الحكم بنجاسة الملاقي أظهر من الشمس في رائعة النهار.

ومن جملة الأمثلة الّتي وقع النزاع في أنّها من الاصول المثبتة أم من غيرها استصحاب بقاء شهر رمضان في يوم الشكّ وترتيب آثار أوّل شوّال على اليوم الّذي بعده ، فإنّ استصحاب بقاء رمضان لا يثبت به أنّ غدا أوّل شوّال إلّا بالأصل المثبت.

وربّما زعم بعضهم أنّ أوّل شهر شوّال مركّب من كون يوم من شهر شوّال ، واليوم الّذي قبله ليس من ذلك الشهر ، وهذا الموضوع محقّق بعضه بالوجدان وهو كون هذا اليوم من شهر شوّال ، وكون اليوم الذي قبله ليس من ذلك الشهر بالأصل ، فإنّ الاستصحاب قضى بكونه من شهر رمضان ، ولكنّه ليس كذلك فإنّ أوّل الشهر مثلا أمر بسيط منتزع ممّا ذكر لا أنّه هو نفسه ، وحينئذ فإثبات كون ذلك اليوم أوّل شوّال لا يمكن بالاستصحاب.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) بأنّا لو خلّينا والأصل كان كما ذكر إلّا أنّ في المقام روايات تقضي بأنّ المدار في إثبات أوّل الشهر الرؤية أو مضيّ

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٣٨.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ١٣٩.

٦٢٣

ثلاثين يوما ، فمضيّ ثلاثين يوما يكون حاكما على ما دلّ على أحكام أوّل الشهر ومحقّقا لموضوعه.

ولا يخفى (أنّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره من التمسّك بالنصوص صحيح إلّا أنّه خاصّ في خصوص شهر رمضان لا يتعدّى إلى غيره إلّا أن يستفاد منه العموم وأنّ هذا حكم الشهر أيّا كان ، وليس هذا جيّد.

ولو منع ذلك فإنّ) (١) نفس الاستصحاب يثبت به أوّل الشهر ولا يكون من باب الاصول المثبتة ، بيان ذلك أنّ أوّل جزء ممّا بعد اليوم المستصحب إذا انقضى وتحقّق الجزء الثاني نشير إليه ونقول قبل هذا الجزء الثاني قطعا كان أوّل شوّال داخلا قطعا ونشكّ في خروجه فيستصحب ، فترتّب آثار أوّل شوّال. ولا يرد عليه إلّا ما اورد على استصحاب الزمان وأنّه لا يثبت به أنّ ذلك اليوم أوّل الشهر.

والجواب هو الجواب من أنّ المقصود ليس إلّا وقوع ذلك العمل مثلا مقترنا بذلك الزمان وأنّ وقوع العمل حاصل بالوجدان وكون الزمان حاصلا بالأصل ، فيتمّ الموضوع بعضه بالوجدان والبعض الآخر بالأصل.

ومن الموارد الّتي استدلّ بالأصل فيها مع كون الأصل مثبتا أصالة عدم الحاجب في الثوب المغسول من الخبث أو في بدن الجنب أو أعضاء الوضوء للمتطهّر به ، فإنّ المشهور بين المتقدّمين عدم الاعتناء باحتمال وجود الحاجب تعويلا على أصالة عدم الحاجب كما استدلّ به صريحا جملة منهم.

ولا يخفى أنّ الموضوع لو كان هو ملاقاة الماء وعدم المانع فإحراز أحدهما بالأصل وهو عدم المانع ، والثاني بالوجدان وهو ملاقاة الماء كاف في إحراز الطهارة لإحراز سببها. وإن كان سبب الطهارة عبارة عن وصول الماء إلى البشرة كما هو

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٢٤

صريح قوله : ما جرى عليه الماء فقد طهر (١) فاستصحاب عدم الحائل لا تفيد الطهارة من الحدث والخبث إلّا بالأصل المثبت.

وربّما يقال بأنّ أصالة عدم الحائل والحاجب استقرّ عليه بناء العقلاء فمثبته حجّة ، والدليل على استقرار بناء العقلاء عليه هو عدم اعتنائهم به أصلا. ولكن لا يخفى عليك أنّه لم نتحقّق بناء من العقلاء على ذلك ولا سيرة من المتدينين عليه ، إذ لعلّ عدم الاعتناء والفحص من العرف إنّما كان لاطمئنانهم بعدم الحاجب أو لعدم التفاتهم أصلا ، وعلى تقدير تحقّق السيرة والبناء العقلائي فلعلّها حادثة بسبب فتوى المفتين بعدم الاعتناء فلم يتحقّق أنّها سيرة أو بناء عقلائي نالها إمضاء الشارع فلا تكون حجّة.

ومنها ما لو ادّعى ورثة المجنيّ عليه موت أبيهم بالسراية وادّعى الجاني أنّ المورّث شرب سمّا فمات ، فإنّ الظاهر من الشيخ الطوسي قدس‌سره التردّد (٢) ومن العلّامة الجزم بالضمان (٣) ومن المحقّق الجزم بعدم الضمان (٤) ومن بعض الفقهاء (٥) إلقاء التعارض بين أصالة عدم الضمان وأصالة عدم شرب السمّ ، ومن المعلوم أنّ أصالة عدم شرب السمّ مثبت لموته بالسراية بناء على الأصل المثبت.

والتحقيق أنّ الموضوع للقصاص أو الدية إن كان مركّبا من جناية الجاني وعدم شرب السمّ لثبت الموضوع للقصاص ، جزئه بالتعبّد والجزء الآخر بالوجدان ، فإنّ الجناية وجدانيّة وعدم الشرب يحرز بالأصل ، وإن كان الموضوع

__________________

(١) الوسائل ١ : ٥٠٢ ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.

(٢) المبسوط ٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٣) انظر تحرير الأحكام ٥ : ٥٢٤.

(٤) الشرائع ٤ : ٢٤١.

(٥) لم نقف عليه.

٦٢٥

بسيطا وهو القتل فالاستصحاب لا يترتّب عليه شيء فلا يجري لعدم الأثر ، فاستصحاب عدم الضمان ليس له معارض أصلا.

ومنها ما لو ادّعى مالك العين أنّها في يد زيد بنحو الضمان وادّعى زيد أنّها ليست بنحو الضمان ، بل قد أذن المالك بكونها في يده إمّا عارية أو هبة أو سكنى أو غيرها ممّا لا تكون اليد فيها يد ضمان ، فالمشهور قدّموا قول المالك ، فقد يتخيّل أنّه مبنيّ على أصالة عدم الرضا فيكون مبنيّا على الاصول المثبتة ، فإنّ أصالة عدم الرضا يلزمه العدوان بالتصرّف ، كما تخيّل أنّ حكمهم بكون القول قول المالك مبنيّ على قاعدة المقتضي والمانع ، فإنّ التصرّف مقتض للضمان ورضا المالك مانع ، وتخيّل أيضا أنّه من باب التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة ، فإنّ عموم «على اليد» شامل له ، وقد خصّص بصورة الرضا ولم يعلم تحقّق المخصّص.

وزعم الميرزا قدس‌سره (١) بطلان هذه الوجوه بأسرها وأنّ فتوى المشهور مبنيّة على أنّ موضوع الحكم بالضمان مركّب من التصرّف وعدم الرضا ، فأحدهما وهو التصرّف محرز بالوجدان وعدم الرضا بالأصل فيلتئم الموضوع.

ولا يخفى أنّ ما ذكره متين فيما لو ادّعى المالك الغصب وادّعى ذو اليد العاريّة ، أمّا لو ادّعى المالك البيع وادّعى ذو اليد الهبة فرضاه لا أثر له هنا ؛ لأنّه قد تصرّف في ملكه ولا أثر لرضا البائع بالتصرّف في العين المبيعة ، غايته أنّه يدّعي الثمن ، ففي مثل هذا لا يمكن أن يكون فتوى المشهور مستندة إلى ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره. نعم لو كان ذو اليد غير رحم ، للمالك الأوّلي الرجوع في هبته الّتي يعترف بها ذو اليد مع بقائها.

وقد بقي موردان من الموارد الّتي تمسّك فيها بالأصل مع كونه مثبتا نذكرهما في ذيل المسألة الآتية ، فافهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٤٢.

٦٢٦

تذنيب : [الكلام في استثناء بعض الموارد عن عدم حجّية الأصل المثبت]

استثنى الآخوند قدس‌سره (١) بعد أن ذكر عدم حجّيّة الأصل المثبت امورا زعم حجّية الاستصحاب فيها وإن كان مترتّبا على اللازم العقلي.

فمنها : ما إذا كان الحكم محمولا على الطبيعة وقد وجد فرد من أفرادها يقينا وشكّ في انعدامه فاستصحاب الفرد يجري ويترتّب عليه الحكم المترتّب على الطبيعة ولا يضرّ كونه مثبتا ، فإنّ الطبيعة ليس لها وجود مستقلّ حتّى يكون الحكم لها.

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ الحكم إنّما يتوجّه للطبيعة على تقدير وجودها في الخارج ، ويستحيل جعل الحكم لها مع قطع النظر عن وجودها الخارجي ، ووجودها الخارجي هو عين وجود فردها خارجا ، فالحكم على الطبيعة معناه هو الحكم على الأفراد غير أنّ الخصوصيّة الفرديّة ملغاة عند الشارع المقدّس.

وحينئذ فالحكم حكم للفرد لا للطبيعة ، فليس من قبيل ترتيب الأثر على اللازم ليستثنى.

ومنها ما كان من قبيل خارج المحمول كالملكيّة والزوجيّة والرقّيّة والحرّيّة وغيرها فإنّ استصحاب منشأ انتزاعها لترتيب آثارها ليس ممنوعا لأنّه أصل مثبت ، لعدم وجود له حتّى يستصحب بنفسه.

ولا يخفى أنّه إن أراد أنّ استصحاب الملك الخاصّ مثلا كملك زيد لداره الّذي كان على يقين منه فشكّ لترتيب آثار كلّي الملك فليس فردا ثانيا من الاستثناء الأوّل ، بل هو هو غير أنّ أحدهما كلّي حقيقي والثاني اعتباري. وقد تقدّم جوابه فلا معنى لجعله ثانيا.

وإن أراد أنّ استصحاب ملك زيد له مثلا ليس لترتيب آثار كلّي الملك عليه ، بل لترتيب آثار ملك عمرو له ؛ لأنّ عمرا استولى على مال زيد الحربي فأخذه كلّه ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧٤ ـ ٤٧٥.

٦٢٧

فهذا من الاصول المثبتة قطعا ؛ لأنّ استصحاب ملك زيد الحربي له يثبت ملكيّته فلازمه العقلي استيلاء عمرو عليه وملكه له ، ولا فرق حينئذ بين خارج المحمول والمحمول بالضميمة في كونهما أصلا مثبتا.

ومنها ما يكون شرعا مجعولا بتبع جعل منشأ الانتزاع كالجزئيّة والشرطيّة فإنّها مجعولة شرعا تبعا ، فاستصحاب ذات الجزء والشرط لترتيب آثار الجزئيّة والشرطيّة مستثنى من عدم ترتيب اللوازم العقليّة.

أقول : لا يخفى ما فيه ، فإنّ استصحاب الجزء والشرط لا يتمّ ، لا لعدم شمول دليل الاستصحاب له ، بل لأنّ الاستصحاب إن جرى في منشأ الانتزاع وهو الأمر بالكلّ أو بالمقيّد أغنى عن استصحاب نفس الجزء والشرط لارتفاع الشكّ فيهما حينئذ ، وإن لم يجر فيه فكيف يستصحب المنتزع مع عدم استصحاب المنشأ للانتزاع؟ لأنّ منشأ الانتزاع إذا لم يكن موجودا فالجزئيّة حينئذ والشرطيّة أيضا غير متيقّنة.

وثانيا : أنّ ما فرّعه قدس‌سره أيضا غير تامّ ، لأنّ استصحاب ذات الجزء والشرط لا يترتّب عليه الشرطيّة ، لأنّ الشرطيّة ليست من أحكام ذات الشرط الواقع في الخارج حتّى تترتّب باستصحابه ، بل الشرطيّة عبارة عن تقيّد المأمور به بالشرط ، وجد المأمور به في الخارج أم لا ، وكذلك الكلام في الجزئيّة حرفا بحرف.

وبالجملة ، فظاهر كلامه قدس‌سره هو الإيراد على المانع من استصحاب الشرطيّة أو المانعيّة أو الجزئيّة استنادا إلى أنّ كلّا منها ليس حكما شرعيّا كما أنّه ليس له أثر شرعي ، لأنّه أمر انتزاعي عقلي ، فإنّ استصحاب الطهارة مثلا ليس له أثر إلّا جواز الدخول في الصلاة وهو حكم عقلي يرتّبه العقل ، إذ هو المحكّم في مرحلة الامتثال.

وجواب هذا الإشكال إنّما هو بأن يقال : إنّ للشارع التصرّف في مرحلة الامتثال أيضا كما يتصرّف في مرحلة التكليف ، وقد تصرّف في مرحلة الامتثال

٦٢٨

في قاعدة التجاوز والفراغ حيث قال : «بلى ، قد ركعت» (١) وغيرها. وحينئذ فالمستصحب إن اعتبرنا كونه حكما شرعيّا أو موضوعا ذا أثر توجّه الإشكال في استصحاب عدم المانع ، لعدم كونه حكما ولا موضوعا ذا حكم إلّا أنّا لا نلتزم بذلك ، بل نقول : إنّ الاستصحاب يجري في كلّ ما هو قابل للتعبّد الشرعي ، سواء كان حكما أو موضوعا ذا حكم أو غيرهما ممّا هو قابل للتعبّد الشرعي ، والمقام من هذا القبيل ، فافهم وتأمّل.

ومنها ما ذكره من أنّه لا فرق في المستصحب بين أن يكون حكما أو عدم حكم ، فإنّ عدم الحكم أيضا ممّا هو قابل للتعبّد الشرعي وعدم صدق الحكم عليه لا يضرّ ، إذ لم يرد عندنا دليل يخصّ الاستصحاب بما يسمّى حكما بحسب اصطلاح الشارع ، كما أنّه لا فرق في استصحاب الموضوع ذي الأثر بين أن يكون أثره وجوديّا أو عدميّا لما ذكرنا أيضا. ولا يتوهّم أنّه لا بدّ أن يكون الأثر وجوديّا ، فاستصحاب عدمه لا يجدي ، إذ لا يترتّب عليه وجود ضدّه إلّا باللازم العقلي.

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره متين لما ذكرنا إلّا أنّه فرّع عليه الإشكال على الشيخ الأنصاري قدس‌سره على ما في الرسالة (٢) مع أنّ الأنسب ، بل المتعيّن ذكر هذا الإيراد في ذيل التنبيه الآتي ، وهو أنّ الممنوع هو الآثار العقليّة المترتّبة على الحكم الواقعي ، وأمّا الآثار العقلية المترتّبة على الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري فترتّب بلا مانع كوجوب امتثال التكليف الفعلي واستحقاق العقاب على تركه ، فإنّ الشيخ إنّما منع من استصحاب عدم التكليف ، لأنّه زعم أنّ عدم العقاب المترتّب على عدم التكليف ليس أثرا شرعيّا ، وقد صرّح بعدم الفرق بين الوجود والعدم في جريان الاستصحاب في ذكر الأقوال ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٩٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥٩.

٦٢٩

وقد ظهر لك من هذا الكلام الكلام في :

التنبيه التاسع : [ترتّب آثار مطلق الحكم على المستصحب]

وهو أنّ عدم ترتّب الأثر العقلي أو العادي على المستصحب إنّما هو بالنسبة إلى آثار الحكم الواقعي الخاصّة به ، لعدم ثبوت التعبّد إلّا به شخصه فلا تترتّب لوازمه لعدم ثبوت التعبّد بها ، وأمّا الآثار العقليّة أو العاديّة للحكم ، أعمّ من الواقعي أو الظاهري فترتّب عليه قطعا ، كوجوب الإطاعة وحرمة المخالفة وكعدم العقاب فعلا وتركا في مورد حكم الشارع بعدم الحكم الإلزامي فيه وغيرها من الأحكام العقليّة ، لتحقّق موضوعها قطعا وهو الحكم الظاهري بنفي الحكم أو ثبوته. فلا تتوهّم أنّ هذه الآثار أيضا لا تترتّب لأنّها آثار عقليّة ، فتأمّل.

التنبيه العاشر : [ضرورة ترتّب الأثر على المستصحب بقاء لا حدوثا]

وهو أنّ الّذي لا بدّ منه في المستصحب من كونه قابلا للتعبّد الشرعي المعبّر عنه في كلمات القوم بكونه حكما أو موضوعا ذا أثر شرعي إنّما هو في ظرف التعبّد وهو البقاء ، ولا يلزم أن يكون له أثر في ظرف حدوثه لعدم التعبّد في ظرف الحدوث وإنّما التعبّد في ظرف البقاء ، فمثلا لو كان زيد حيّا قبل سنة ولم يكن لحياته أثر شرعا ثمّ مات مورّثه وهو أبوه مثلا بعد سنة ، وشككنا في حياته وعدمها فاستصحاب حياة زيد حينئذ جار لترتيب الأثر الشرعي في ظرف البقاء وإن لم يكن لحياته أثر في ظرف الحدوث ، وكذا الكلام في الحكم كعدم الجعل مثلا.

التنبيه الحادي عشر : [استصحاب مجهول التاريخ]

لا يعتبر في جريان الاستصحاب أزيد من تحقّق اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء وإن كان مقطوع الوجود الآن إذا كان مسبوقا بالشكّ ، كما إذا قطعنا

٦٣٠

بحياة زيد يوم السبت وشككنا في حياته يوم الأحد وقطعنا بكونه ميّتا يوم الاثنين ، فاستصحاب حياته يوم الأحد يجري لتحقّق اليقين والشكّ ولا نريد اكثر من ذلك ، إلّا أنّ استصحاب حياته يوم الأحد لا يترتّب عليه إلّا آثار الحياة يوم الأحد ولا يترتّب عليه آثار حدوث الوفاة يوم الاثنين ، لأنّه لازم عقلي له.

(نعم ، لو قلنا بأنّ الحدوث هو الوجود فعلا والسبق بالعدم أمكن إثبات الأوّل بالوجدان ، والثاني بالتعبّد فيتمّ الموضوع ، إلّا أنّ الظاهر أنّ الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم موصوفا بهذه الصفة لا مركّب من الأمرين ، فلا يمكن إثباته حينئذ بالاستصحاب) (١) ، فافهم.

وإنّما الكلام في الحادثين اللذين يشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر وعدمه ، ولا يخلو الحال فيهما من أن يكونا مجهولي التاريخ أو يكون أحدهما مجهول التاريخ ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يكون الأثر مترتّبا على الوجود أو العدم ، وعلى جميع التقادير إمّا أن يكون الأثر مترتّبا على الوجود أو العدم بنحو مفاد «كان» و «ليس» التامّتين أو بنحو مفاد «كان» و «ليس» الناقصتين ، فهذه صور ثمانية.

وقبل الخوض في أحكامها نتكلّم في أمر كان قد سبق التنبيه عليه وهو أنّ الموضوع للتكليف أو المتعلّق إن كان مركّبا من جزءين لو كان أحدهما ثابتا بالوجدان والثاني ثابتا بالتعبّد يلتئم الموضوع ، فالماء الكرّ إذا شكّ في بقائه على المائيّة أو انقلابه مضافا بممازجة بعض الأجزاء له إذا كانت الكرّية متحقّقة ، فباستصحاب المائيّة يلتئم الموضوع ، وكذلك في المتعلّق فإنّ الصلاة مع الطهارة حاصلة فيما إذا صلّى بطهارة مستصحبة ، فإنّ الصلاة ثابتة بالوجدان والطهارة بالتعبّد. نعم إذا كان الموضوع بسيطا منتزعا من هذين الجزءين المركّبين لا يكفي إثبات الجزء بالتعبّد ، لأنّه حينئذ مثبت.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٣١

وقد اورد على جريان الأصل في المركّب بأنّ الاستصحاب في الجزء وإن كان جاريا إلّا أنّ معارضته باستصحاب عدم المركّب تسقطه عن الحجّية.

وقد أجاب الميرزا قدس‌سره (١) بأنّ استصحاب الجزء حاكم على استصحاب عدم تحقّق المركّب ، لأنّ الشكّ في تحقّق المركّب ناشئ من الشكّ في تحقّق ذلك الجزء في الخارج ، لأنّ الجزء الثاني محرز بالوجدان حسب الفرض ، وحينئذ فبجريان استصحاب تحقّق ذلك الجزء في الخارج ينتفي الشكّ. ولا يخفى أنّ السببيّة وإن كانت متينة إلّا أنّ ليس كلّ سببيّة تمنع من جريان الاستصحاب ، بل الّتي يكون لها أثر تعبّدي شرعي كما تقدّم في طهارة الثوب بالنسبة إلى طهارة الماء وارتفاع الشكّ في المقام ليس أثرا شرعيّا.

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ هذا الإشكال ناشئ عن المغالطة ، فإنّ الموضوع إن كان مركّبا كما هو الفرض فلا يجري حينئذ استصحاب عدم تحقّق ذلك الأمر البسيط المنتزع من الجزءين إذ الموضوع هو ذات الجزءين ، إذ المركّب ليس إلّا هما. وإن كان الموضوع هو الأمر البسيط فلا يجري استصحاب الجزء ، لعدم ترتّب أثر له حينئذ إلّا بلسان الإثبات ، وقد بيّنّا بطلانه.

فلنرجع إلى أقسام المسألة الثمانية.

أمّا الأقسام الأربعة الّتي هي لمجهولي التاريخ :

فالأوّل : هو أن يكون الأثر مترتّبا على تحقّق الموضوع بنحو مفاد «كان» التامّة وذلك كما في مثل المسابقة ممّا كان الأثر مترتّبا على تحقّق سبق أحدهما في الخارج فإنّ حيازة السبق للسابق ، فهنا تارة نعلم بتحقّق السبق لأحدهما لا بعينه ولكن نشكّ في تطبيقه وقد ادّعى السبق كلّ منهما فهنا يتعارض الأصلان ويتساقطان.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٤٧.

٦٣٢

واخرى : نحتمل التقارن أيضا فهنا يجري كلا الاستصحابين ، استصحاب عدم تقدّم زيد وعدم تحقّق تقدّم عمرو فلا يستحقّ كلّ منهما شيئا على صاحبه وإن لم تترتّب أحكام المقارنة أيضا ، لأنّه مثبت إلّا أنّ عدم الاستحقاق مترتّب على عدم التقدّم لا على ثبوت التقارن.

الثاني : أن يكون الأثر مترتّبا بنحو مفاد «كان» الناقصة كما إذا كان الأثر مترتّبا على ولادته حيّا كما في الميراث ، وقد ذكر الآخوند قدس‌سره (١) عدم جريان الاستصحاب هنا ، إذ لم تتحقّق ولادته حيّا قبل ذلك حتّى يستصحب.

ولا يخفى أنّ الغرض ليس ترتيب الآثار الوجوديّة لعدم الولادة حيّا بل الغرض نفي الآثار لولادته حيّا ، وباستصحاب العدم الأزلي الّذي قد تقدّم منه في بحث العامّ والخاصّ حجّيته نكتفي في نفي الآثار لولادته حيّا ، فإنّه قبل الولادة بسنة مثلا لم يكن حيّا قطعا ونشكّ في حدوث الحياة فيجري استصحاب العدم الأزلي ولا مانع منه بحسب الظاهر.

الثالث : ما إذا كان الأثر مترتّبا على الموضوع المتّصف بعدم شيء بمعنى ما إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على العدم النعتي ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب لترتيب ذلك الأثر المترتّب على الاتّصاف بالعدم ، لعدم إحراز الموضوع قبل ذلك متّصفا بالعدم حتّى يستصحب ، بل يجري استصحاب عدم الاتّصاف لنفي آثار الاتّصاف بالعدم ، لأنّ الاتّصاف لم يكن متحقّقا قبل تحقّق الذات المشكوك اتّصافها ، والآن نشكّ في تحقّق الاتّصاف وعدمه بعد تحقّق نفس الذات ، فاستصحاب العدم الأزلي كاف في نفي آثار الاتّصاف. ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره الآخوند (٢) من عدم جريان الاستصحاب متين إن أراد الأوّل ، وغير متين إن أراد الثاني.

__________________

(١ و ٢) انظر كفاية الاصول : ٤٧٨.

٦٣٣

الرابع : ما إذا كان الأثر مترتّبا على العدم المحمولي بمعنى أنّ الأثر مترتّب على وجود شيء وعدم وجود آخر ، والجزء الأوّل ثابت بالوجدان فهل يمكن باستصحاب عدم الثاني أن يلتئم الموضوع ويتمّ فيترتّب الأثر أم لا يمكن ، وعلى تقدير عدم الإمكان فهل هو لقصور أدلّة الاستصحاب عن شموله أو للتعارض؟

ذهب الآخوند قدس‌سره إلى الأوّل (١) وجماعة إلى الثاني (٢) ، مثلا إذا كان الأثر مترتّبا على موت المورث وعدم موت ولده وبالعكس فماتا ولا نعلم أنّ أيّهما تحقّق فيه هذان الجزءان ، فهنا إن قلنا بعدم جريان الاستصحاب للتعارض أو لقصور الدليل لا أثر لذلك عملا ، وإنّما يجدي النزاع ثمرة علميّة ليس إلّا.

أمّا لو كان الأثر مترتّبا على أحد الأمرين دون الآخر ، كما إذا كان الأثر مترتّبا على موت المورث وعدم إسلام الوارث دون العكس ، فإنّ إسلام الوارث وعدم موت المورث لا أثر له إلّا بنحو الأصل المثبت ، فهنا لو كان الموت متحقّقا بالوجدان وشكّ في تحقّق الإسلام وعدمه فاستصحاب عدم تحقّق الإسلام إن جرى في نفسه لوفاء دليل الاستصحاب بشموله ، فلا يعارضه استصحاب عدم تحقّق الموت إلى حين الإسلام لعدم الأثر لثبوت الإسلام حال الحياة ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب لقصور دليله عن الشمول فلا يجري أصلا.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى عدم وفاء أدلّة الاستصحاب بشمول هذا القسم (٣) لأنّه يستفيد من قوله : «إذا كان على يقين فشكّ» لزوم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، فحيث يقطع بعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين لا يجري الاستصحاب ، كما إذا قطعنا بعدالة زيد يوم الخميس وقطعنا بفسقه يوم الجمعة

__________________

(١) المصدر المتقدّم.

(٢) منهم الشيخ في الفرائد ٣ : ٢٤٩.

(٣) كفاية الاصول : ٤٧٩.

٦٣٤

وشككنا في عدالته يوم السبت فاستصحاب العدالة غير ممكن ، للفصل بين زمان اليقين بالعدالة والشكّ فيها بيقين الفسق ، فلا يجري إلّا استصحاب الفسق. وكذا لو شكّ في اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، لأنّه تمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة ، وهي في المقام ليست بحجّة قطعا وإن قيل بحجّيتها في غير المقام ، لأنّه إنّما يقال بجواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة حيث يكون المخصّص منفصلا لا ما كان متّصلا وكان الموضوع من أوّل الأمر صغيرا كما في المقام.

وتقرير ما ذكره الآخوند قدس‌سره أنّ الحياة للمورث وعدم إسلام الوارث كانا يوم الجمعة قطعا مثلا ، ثمّ إنّا نعلم أنّ يوم السبت تحقّق انتقاض أحدهما لا على التعيين. وفي يوم الأحد ، الثاني منتقض قطعا حدوثا أو بقاء قطعا أيضا ، فإذا كان الأثر مترتّبا على عدم الإسلام في عمود الزمان فلا مانع من جريان استصحاب عدم الموت يوم السبت ، وأمّا إذا كان الأثر مترتّبا على عدم الإسلام في حال الموت فإن كان الموت في الواقع متحقّقا يوم السبت فهو يوم الشكّ في تحقّق الإسلام ، وحينئذ فالاستصحاب لا مانع منه لاتّصال زمان الشكّ وهو يوم السبت بزمان اليقين بعدم الإسلام وهو يوم الجمعة ، وإذا كان الموت في الواقع قد تحقّق يوم الأحد فهو زمان اليقين في تحقّق الإسلام حدوثا أو بقاء. وحينئذ فلا يجري استصحاب عدم الإسلام إذا شكّ في الحال ، للفصل بيوم السبت الّذي يحتمل أن يكون زمان يقين ، فإذا تردّد الموت فلا يجري الاستصحاب ، لأنّه تمسّك بعموم دليل الاستصحاب أو إطلاقه في الشبهة المصداقيّة ، إذ لم يحرز كون المورد من موارده ليجرى فيه الاستصحاب.

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أوّلا فلأنّ قولنا : إذا كان الموت يوم الأحد فنحن على يقين من كون الإسلام يوم السبت ، فيه مسامحة ظاهرة ، إذ التلازم بين الواقعيّين لا بين واقع الأوّل ويقيننا بالثاني ، كما أنّ مدار الاستصحاب ليس على الواقع من المشكوك والمتيقّن فإنّ واقعهما لا مدخليّة له في الاستصحاب ، بل المدار فيه على فعليّة اليقين والشكّ ،

٦٣٥

ولا بدّ في متعلّقهما من كون اليقين متعلّقا بالحدوث والشكّ في البقاء ، ولا بدّ من كون الشكّ في البقاء متأخّرا عن يقين الحدوث.

وأمّا ثانيا فلأنّه إذا كان الموت في الواقع متحقّقا يوم السبت فلا شكّ في أنّ الإسلام لم يتحقّق حينئذ ، لأنّه حادث يوم الأحد قطعا حسب فرض المثال. وكذا لو كان الموت متحقّقا يوم الأحد لا شكّ في تحقّق الإسلام حينئذ ، فلا مجال لاستصحاب عدمه في شيء منهما.

ومن هنا يظهر أنّ مدار جريان الاستصحاب على فعليّة تحقّق اليقين بالحدوث والشكّ في بقاء ذلك الحادث ، وفرض خلوّ زمان منهما مستحيل حينئذ إلّا أن يكون زمان غفلة أو نوم.

وبالجملة ، ففرض اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين بهذا المعنى المذكور مقطوع العدم.

وبالجملة ، المقام نظير أن يقال : لا يجري استصحاب حياة زيد ، لأنّه شرب شيئا مردّدا بين كونه ماء وسمّا ، فإن كان ماء فلا شكّ في حياته ، بل هي مقطوعة ، وإن كان سمّا فلا إشكال في موته فليس أيضا حينئذ شكّ ، فهل يلتزم أحد بعدم جريان الاستصحاب؟ والسرّ في ذلك أنّ اليقين بالملازمة لا يترتّب عليها اليقين باللازم ما لم ينضمّ إليها اليقين بالملزوم.

وبالجملة ، المناط في جريان الاستصحاب هو فعليّة اليقين والشكّ وإن كان المتيقّن والمشكوك في زمان متقدّم ، فهل يعقل أن لا يعلم أحد بكونه على يقين من أمر وشكّ في بقائه؟ كلّا ثمّ كلّا ، فهو نظير أن يشكّ المرء في كونه قاطعا أم غير قاطع ، وهو محال وإن فرضه السيّد اليزدي قدس‌سره في عروته (١) إلّا أنّ بطلانه بحسب الظاهر ظاهر ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١) لم نقف عليه بعينه.

٦٣٦

بقي شيء ربّما يتوهّم وروده وهو أنّه في المثال المفروض إنّما ينفع الشكّ في الإسلام فيما إذا تحقّق الموت ، لأنّه إنّما نشكّ في عدم الإسلام وتحقّقه حال الموت ، لأنّه ذو الأثر الشرعي ، وذلك إنّما يكون يوم الأحد إذ هو اليوم الّذي نقطع فيه بتحقّقهما معا ، وإنّما نشكّ في أنّ أيّهما متقدّم وأيّهما متأخّر ، فيوم الأحد هو يوم الشكّ إلّا أنّ زمان اليقين بعدمهما هو يوم الجمعة حسب الفرض ، فيوم السبت هو فاصل قطعي وليس زمان يقين ولا زمان شكّ ، فكيف يجري الاستصحاب؟

(وربّما قيل (١) بأنّه مراد الآخوند قدس‌سره من متن الكفاية وهامشها (٢) والظاهر أنّ مراده ما ذكرناه سابقا ، إذ لو أراد الوجه الأخير لعلّل بالقطع بالانفصال فيخرج عن أخبار الاستصحاب قطعا ، ولا يكون من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة ولكنّه علّل باحتمال الانفصال فلا ينطبق إلّا على ما ذكرنا.

وأمّا أصل هذا الوجه) (٣) فقد ظهر جوابه ممّا ذكرنا ، فإنّ العبرة في جريان الاستصحاب بفعليّة كلّ من الشكّ واليقين وإن كان متعلّقهما متقدّما على هذا الزمان ، وحينئذ فلا أثر لفصل يوم أو أكثر أصلا ، ولا يتصوّر أن يكون المورد من قبيل الشبهة المصداقيّة لجريان الاستصحاب.

نعم ، يتصوّر الشبهة المصداقيّة في الاستصحاب فيما إذا لم يظهر من الدليل كون الأثر الشرعي مترتّبا على نفس اليقين أو على لازمه ، كما ادّعي في الشكّ في وجود الحاجب إذا تردّد أنّ المأمور به هل هو صبّ الماء على الأعضاء وأن لا يكون ثمّة حاجب ، فهو موضوع مركّب يثبت أحد جزءيه بالوجدان وهو الصبّ والآخر بالتعبّد وهو عدم الحاجب ، أو أنّ المأمور به هو غسل البشرة وهو عنوان بسيط

__________________

(١) انظر نهاية الأفكار ٤ : ٢٠٩ ـ ٢١١.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٤٨٠.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٣٧

لا يترتّب على عدم الحاجب إلّا بالأصل المثبت؟ فإذا شكّ ولم يظهر من الدليل أحدهما يكون شبهة مصداقيّة للاستصحاب لكن لا من جهة الشكّ واليقين ، بل من جهة ما ذكرنا ، فإنّ صفة الشكّ واليقين من الامور الوجدانيّة لا يعقل فيها شبهة مصداقيّة.

وربّما ذكر صورتان لكون المورد من موارد الشبهة المصداقيّة لجريان الاستصحاب :

إحداهما : ما ذكره بعض الأكابر (١) وهو ما إذا كان على يقين فشكّ ولكنّه حينئذ يحتمل تخلّل زمان كان متيقّنا فيه بنقض الحالة السابقة ، مثلا كان على يقين من الوضوء صبحا ثمّ شكّ ظهرا في بقاء طهارته وعدمها ، وشكّ في أنّه هل تيقّن في ضمن هذه الفترة بوقوع حدث أم لا؟ فهنا لا يحرز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين فهو من الشبهات المصداقيّة لجريان الاستصحاب.

ولا يخفى ظهور جوابه ممّا قدّمنا ذكره ، فإنّ تخلّل اليقين لا يضرّ وجوده ، إذ لا يعتبر في جريان الاستصحاب عدمه ، لأنّ العبرة في جريان الاستصحاب فعليّة اليقين والشكّ ، فإن كانا فعليّين جرى الاستصحاب كان فصل أم لا ، وإلّا فلا ، كان فصل أم لا.

الثانية : ما ذكره الميرزا قدس‌سره في صور العلم الإجمالي ، فإنّه تارة يعلم إجمالا بطهارة أحد الثوبين المتنجّسين من دون مشخّص له لا خصوصيّة ولا عنوان بحيث لا يعلم إلّا نجاسة أحدهما.

واخرى يكون الثوبان نجسين فيغسل أحدهما ثمّ يشتبه المغسول أنّه هو الأصفر أو الأبيض ، فهنا هو يعلم بطهارة أحدهما بمشخّصاته وهو الّذي غسله.

وثالثة : لا يعرفه إلّا بعنوان واحد وهو ما كان تحت السماء ، كما إذا علم نجاسة إناءين وعلم بطهارة واحد وهو ما كان خارج السقف ، لأنّه أصابه المطر.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٥٤.

٦٣٨

وقد أفاد قدس‌سره عدم جريان الاستصحاب في الأوّل لمانع ، وفي الآخرين لكونه من قبيل الشبهة المصداقيّة لجريان الاستصحاب ، ردّا على السيّد اليزدي في عروته حيث حكم بجريان الاستصحاب في جميع هذه الصور (١).

ووجه منع الميرزا قدس‌سره في الأوّل دعواه عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي وإن لم يستلزم مخالفة عمليّة ، لأنّ الاستصحاب من الاصول المحرزة الّتي لها نظر إلى الواقع فلا يمكن التعبّد بها مع العلم بالخلاف ، وسيأتي الكلام في ذلك وأنّه لا مانع من جريان الاستصحاب ، (لأنّ التعبّد ليس بهما بنحو المجموع حتّى يستحيل التعبّد بخلاف الواقع وإنّما التعبّد بكلّ منهما مستقلّا. وقد التزم الميرزا (٢) تبعا للمشهور بذلك في جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الصلاة المسبوقة بالحدث المحتمل وقوع طهارة بعده مع الزامه بوضوء للصلاة الثانية ، مع أنّا نعلم بأنّه إمّا الوضوء غير واجب أو الصلاة الاولى باطلة ، فتأمّل. وحينئذ فلا مانع من جريان الاستصحابين في المقام) (٣) إلّا أن يستلزم مخالفة عمليّة إن شاء الله تعالى.

وأمّا الأخيران فإنّه منع جريان الاستصحاب فيها ، لأنّه يرى أنّ ذلك الإناء المعلوم بمشخّصاته أو بعنوان أنّه تحت السقف قد انقطع اليقين بنجاسته باليقين بطهارته ، ثمّ بعد اشتباهه بالآخر أيضا لا يجري فيه الاستصحاب ، إذ الآن أيضا نعلم بطهارة ذلك الإناء المعلوم بمشخّصاته أو بعنوانه فقط ، فكيف يجري فيه الاستصحاب مع تقوّمه بالشكّ؟ وحينئذ فتردّد ما لا يجري فيه الاستصحاب بين فردين يمنع الجريان فيهما ، إذ كلّ فرد من هذين الثوبين أو الإناءين يحتمل أن يكون هو الّذي قد انقطع فيه الاستصحاب ، فيكون التمسّك بالعامّ من أدلّة الاستصحاب فيه من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة.

__________________

(١) العروة الوثقى ، فصل في طريق ثبوت الطهارة (آخر المطهّرات) : المسألة ٢.

(٢) انظر فوائد الاصول ٤ : ٥٢٤.

(٣) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

٦٣٩

وقد بنى (١) على ذلك بالنسبة إلى الدم الملطوخ بالثوب المحتمل كونه من الدم المسفوح فيكون نجسا أو المتخلّف في الذبيحة ليكون طاهرا ، لأنّه قد بنى على نجاسة الدم كليّة ، ثمّ بخروج المقدار المتعارف الخروج بالذبح يحكم الباقي بالطهارة ، فإنّه حكم بعضهم بنجاسة هذا الدم استصحابا لحكمه السابق ، وآخرون حكموا بطهارته للاستصحاب الموضوعي الّذي لا يجري معه الاستصحاب الحكمي ، فإنّ استصحاب بقاء هذا الدم إلى زمان خروج الدم المسفوح يوجب الحكم بطهارته.

وقد منع الميرزا قدس‌سره من جريان الاستصحاب بدعوى أنّ الدم الخارج المسفوح قد حكم الشارع بنجاسته قطعا فهو غير مشكوك فيه ، كما أنّ المتخلّف في الذبيحة قد حكم بطهارته بعد خروج المتعارف منه. وحينئذ فيشكّ في كون هذا الدم الملطوخ من الدم المحكوم بطهارته أم لا ، فمع احتمال انقطاع الشكّ لاحتمال انطباق كونه محكوما بالنجاسة أو الطهارة قطعا يوجب عدم جريان الاستصحاب ، لأنّه شبهة مصداقيّة أنّها من موارد الاستصحاب أم لا (٢).

أقول : إن منع من جريان الاستصحاب في هذه الموارد بتلك العناوين المتيقّنة فالأمر كما أفاده ، إلّا أنّ هذا الإناء مثلا بعنوان أنّه موجود الآن كان متيقّن النجاسة سابقا قطعا ومشكوك النجاسة بهذا العنوان فقد تحقّق أركان الاستصحاب فلا مانع من جريانه حينئذ ، ولا مجال لأنّ يقال : إنّا نحتمل أنّه قد انقطع الشكّ باليقين بالطهارة ، فإنّ الشكّ بهذا العنوان أمر وجداني فعلا ، كما أنّ الشكّ في خروجه إلى زمان خروج الدم المسفوح أمر وجداني فيستصحب عدم خروجه ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في كل منهما في نفسه إلّا أنّه مع تحقّق الأصل الموضوعي لا يبقى مجال للحكم. فلا مجال لما ذكره ، فالحقّ جريان الاستصحاب

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٥٥.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٦٤٠