غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

وقد يشكّ العرف في كون العنوان دخيلا في الحكم أم لا ، ففي الأوّل يكفينا إطلاق الدليل ولا حاجة إلى الاستصحاب ، وفي الثاني لا شكّ في ارتفاع الحكم فلا استصحاب أيضا ، وفي الثالث إن فرضنا كون الدليل لا إطلاق فيه للحالة الثانية يجري الاستصحاب ، وذلك نظير حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر ، فإنّ وصف التغيّر من الأوصاف الّتي يشكّ العرف في كون الحكم منوطا بعنوانها ليرتفع الحكم بارتفاع العنوان ، أم لا ليبقى ، ففي مثل هذا المورد يجري الاستصحاب.

والغرض من هذا الكلام بيان أنّ ما اشتهر التمثيل به للاستصحاب التعليقي غير صحيح وهو مسألة الزبيب إذا غلى ، لأنّ الموضوع للنجاسة هو العصير العنبي إذا غلى لا العنب ، والعصير العنبي هو الماء المعتصر من العنب ، والزبيب قد جفّ ماؤه وما يعصر منه ماء قد اختلط به من خارج ، فإنّه ماء نهر الفرات لا ماء العنب أو الزبيب.

ثمّ إنّ الحكم قد يكون في مرحلة الإنشاء الّتي يكون الحكم فيها ليس إلّا جعلا على تقدير وجود الموضوع ولا تحتاج إلى تحقّق الموضوع خارجا ، وحينئذ يكون الشكّ في بقائه من جهة احتمال النسخ ، كما إذا علمنا بحكم من الأحكام ثمّ شككنا فيه من جهة نسخه وهذا يستصحب قطعا ، وقد تقدّم أنّ استصحاب عدم النسخ إجماعي.

وقد يكون الشكّ فيه من جهة سعة الموضوع وضيقه حال توجّه الحكم كما في الماء المتغيّر الّذي زال تغيّره ، وفي هذا أيضا يجري الاستصحاب قطعا أيضا.

وقد يكون الشكّ في الحكم من جهة الامور الخارجيّة مثل المتطهّر الشاكّ في حدثه أو غير ذلك. وفي هذه الأقسام الثلاثة يجري الاستصحاب الحكمي قطعا بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية لصدق أنّه كان على يقين فشكّ ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ. نعم في الثاني ربّما يتعارض استصحاب الحكم باستصحاب عدم الجعل لما زاد على النجاسة حال التغيّر فيسقط للمعارضة ولكنّه يجري الاستصحاب فيه بلا كلام.

٦٠١

إذا عرفت جميع ما ذكرناه هنا من كون الشكّ في الحكم في مرتبة الإنشاء يكون من جهة النسخ ، وفي غيره من جهة الامور الخارجيّة لا من جهة سعة الموضوع وضيقه. فاعلم أنّ (استصحاب الحكم التعليقي فيما إذا كان منشأ الشكّ احتمال النسخ يجري كما يجري الاستصحاب التنجزي ، فكلّ حكم شكّ في نسخه يستصحب تنجيزيّا كان أم تعليقيّا ، كما أنّ الشكّ ان كان من جهة اشتباه الامور الخارجيّة يستصحب الموضوع وتترتّب عليه أحكامه التنجيزيّة والتعليقيّة ، وأمّا إذا كان الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في سعة الحكم وضيقه فقد وقع محلّا للنزاع لظاهر أنّ) (١) القول بجريان الاستصحاب التعليقي وعدم جريانه متركّز على أنّ الشرط في الواجب المشروط هل يعود إلى الحكم أو إلى الموضوع؟

وليس المراد من الموضوع هو المتعلّق ليرجع إلى كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره بل الكلام في أنّ الحكم مقيّد فيكون الوجوب مقيّدا ، ليكون سنخ الوجوب في المشروط مغايرا للوجوب المطلق أو أنّ سنخهما واحد غير أنّ موضوع أحدهما مطلق وموضوع الآخر مقيّد ، فمثلا وجوب الحجّ مقيّد بالاستطاعة ، أو أنّ الوجوب مطلق وإنّما الموضوع مركّب من إنسان مستطيع.

وحيث قد أثبتنا في الوجوب المشروط الثاني ، وأنّ الوجوب لا يتفاوت في المطلق والمشروط ، وأنّ التفاوت بينهما اعتبار شرط في موضوع أحدهما دون الآخر. ومن المعلوم أنّ الحكم يدور مدار موضوعه ، فلو تحقّق أحد الجزءين ولم يتحقّق الجزء الآخر يستحيل وصول الحكم إلى مرتبة الفعليّة أصلا. فحينئذ مثلا الماء الكرّ هو موضوع حكم الشارع بعدم الانفعال بملاقاة النجاسة فكيف يمكن أن يجري ذلك الحكم في الماء فيقال : إنّه على تقدير كرّيّته لا ينفعل؟ فإنّ هذا التقدير لم يتحقّق في الخارج في هذه الواقعة كلّية لنستصحب حكمه ،

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٠٢

وحينئذ فالحكم ليس إلّا في مرتبة الإنشائيّة ، وقد ذكرنا أنّه لا يكون الشكّ فيها إلّا من جهة احتمال النسخ ، وليس شكّنا حينئذ من جهة احتمال النسخ كلّية.

نعم ، لو قلنا : إنّ الحكم المشروط ما يكون الحكم فيه مشروطا وإنّه سنخ مغاير لسنخ الحكم المطلق فله نحو وجود يمكن استصحابه حينئذ ، فإنّه حينئذ حكم كنّا على يقين منه ونشكّ في ارتفاعه وعدم الارتفاع فيستصحب.

ولعلّه لهذا عدل الشيخ الأنصاري بعد قوله بالاستصحاب التعليقي إلى تصويره بتصوير استصحاب تنجيزي فقال : إنّ سببيّة غليان العنب لنجاسته كانت سابقا موجودة فتستصحب في الزبيب (١).

وقد أشكل عليه النائيني قدس‌سره (٢) بأنّ الأحكام الوضعيّة قد بني على أنّها منتزعة من التكليف خصوصا مثل السببيّة والشرطيّة وما أشبهما ، وحينئذ فلا يمكن استصحاب سببيّة الغليان للنجاسة ، فلا بدّ من استصحاب الحكم الّذي صار منشأ لانتزاع السببيّة ، وقد فرضنا أن لا حكم لعدم تحقّق موضوعه خارجا حتّى يستصحب. (وممّا ذكرنا سابقا يعلم أنّا لو بنينا على أنّ السببيّة مجعولة بجعل مستقلّ لا يجري فيها الاستصحاب ، إذ السببيّة لم تبلغ المرتبة الفعليّة والمرتبة الإنشائيّة لا يحتمل ارتفاعها لعدم احتمال نسخها) (٣).

ثمّ إنّ هنا موردا يجري فيه الاستصحاب يكاد أن يكون شبيها بما نحن فيه من الاستصحاب التعليقي ، وهو موارد العقود التعليقيّة مثل الوصيّة والتدبير والمسابقة وغيرها ، ممّا كانت الملكيّة فيها مجعولة على تقدير موت الموصي والمدبّر وسبق زيد عمروا أو بالعكس ممّا لا ريب في أنّه قد تحقّق الجعل الإمضائي من الله تعالى لما جعله العبد على نفسه وكما في الأيمان والنذور وغيرها أيضا.

__________________

(١) انظر فرائد الأصول ٣ : ٢٢٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٢٤.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٠٣

وقد منع الشيخ الأنصاري من جريان الاستصحاب فيها في بعض تحقيقاته (١) على ما نسبه الميرزا النائيني إليه وأجاز جريان الاستصحاب التعليقي ، وليته عكس فمنع الاستصحاب التعليقي وأجاز هذا. أمّا جريان الاستصحاب في هذه لو شكّ في عروض الفسخ وعدمه منه مثلا فواضح ، إذ التمسّك ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) في بقاء المعاملة لا مانع منه أصلا ، فوجوب الوفاء بالعقد قد كان قطعا وليس في تحقّقه سابقا شكّ ، وإنّما الشكّ في بقائه فيستصحب ، وهذا من قبيل الشكّ في النسخ وقد تقدّم جريان الاستصحاب فيه عنده.

وبالجملة ، مناط الاستصحاب ثبوت شيء سابقا وتحقّق الشكّ في بقائه لاحقا ، وهذا موجود في هذه العقود التعليقيّة ، فإنّ تملّك الموصى له على تقدير تحقّق موت الموصي قد تحقّق سببه عند إيصاء هذا الشخص له قطعا ، وحينئذ فإذا شكّ في رجوعه فيما أوصى به يستصحب ذلك أو وجوب الوفاء أو غيرها من الآثار المتحقّقة.

(نعم ، إذا ناقشنا في استصحاب عدم النسخ كما ناقشنا فيه وقلنا : إنّ جعل الحكم إلى ما بعد زمان احتمل النسخ فيه حينئذ مشكوك والأصل عدم الجعل ، لم يجز حينئذ التمسّك بالاستصحاب في المقام لنفس الملاك المذكور) (٢).

وأمّا عدم جريان الاستصحاب التعليقي فلأنّ موارد جريان الاستصحاب كما ذكرنا محصورة إمّا من جهة الشكّ في النسخ وليس شكّ في تلك الجهة ، إذ احتمال نسخ حكم العنب إذا غلى من النجاسة والحرمة منفيّ قطعا ، كما أنّ الشكّ أيضا ليس من جهة سعة الموضوع وضيقه ، لأنّه ليس الحكم متحقّقا في الخارج حتّى يستصحب ، إذ الحكم إنّما يكون فعليّا متحقّقا في الخارج إذا تحقّق موضوعه ، والمفروض أنّ المتحقّق

__________________

(١) لم نظفر عليه.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٠٤

العنب دون الغليان فلم تصل الحرمة والنجاسة مرتبة الفعليّة ، إذ قد تحقّق جزء الموضوع ، وبقي جزء آخر ، فهو نظير ما لو كان ثمّة ماء يغلي فهل يحكم بنجاسته ، لأنّه لو كان عنبا لتنجّس بالغليان؟ كلّا ثمّ كلّا.

وبالجملة ، فعدم الجريان للاستصحاب التعليقي واضح جدّا ، لعدم تحقّق شيء شكّ في ارتفاعه حتّى يتحقّق موضوع الاستصحاب.

بقي هنا شيئان :

أحدهما : أنّ استصحاب الحكم على تقدير جريانه في الأحكام الكلّية كما هو محلّ الفرض لو قلنا بجريانه في الحكم التعليقي فهل يعارضه استصحاب الحلّية التنجيزي الّذي كان ثابتا للزبيب قبل الغليان أم لا؟

والثاني : أنّ الاستصحاب التعليقي بناء على جريانه في الأحكام فهل يجري في الموضوعات والمتعلقات أم لا؟

أمّا الكلام في الأوّل فهو أنّ استصحاب الحكم التعليقي في الزبيب وهو الحرمة على تقدير الغليان معارض باستصحاب الحلّية الثابتة للزبيب قبل الغليان فيتعارضان ويتساقطان ، وتصير نتيجة ذلك عدم جعل الشارع الاستصحاب في الحكم التعليقي.

وقد أجاب عن هذا الإشكال النائيني (١) بما ملخّصه : أنّ بين الاستصحابين سببيّة ومسببيّة ، ومع جريان الاستصحاب في السبب لا يجري في المسبّب ، فإنّ الشكّ في الحلّية مسبّب عن الشكّ في ثبوت الحرمة التعليقيّة ، وإلّا فلو علمنا بثبوت الحكم التعليقي لم يجر استصحاب الحلّية.

ولا يخفى أنّ ما ذكره : من كون أحد الاستصحابين سببي والآخر مسبّبي ، غير مسلّم ، لأنّهما ـ أي الاستصحابين ـ معا مسبّبان عن الشكّ في سعة موضوعهما

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٧٤ ـ ٤٧٥.

٦٠٥

وضيقه ، فإنّ استصحاب الحلّية التنجيزيّة إنّما هو من جهة الشكّ في سعة موضوعها وشموله حتّى لما بعد الغليان وعدمه ، كما أنّ استصحاب الحرمة التعليقيّة أيضا منشؤه هو الشكّ في سعة الموضوع للزبيبيّة على تقدير الغليان وعدمه فليس بينهما سببيّة ولا مسببيّة ، وإنّما السبب الشكّ في سعة الموضوع وضيقه.

ولو قلنا بأنّ كونهما سببي ومسبّبي مسلّم ولكن ليس كلّ مسبّب لا يجري الاستصحاب فيه مع جريان الاستصحاب في سببه ، بل إذا كان جريان الاستصحاب في السبب رافعا للشكّ في المسبّب شرعا فلا يجري الاستصحاب في المسبّب لعدم الشكّ حينئذ حتّى يجري الاستصحاب ، وذلك كما في مثل الثوب النجس المغسول بماء مستصحب الطهارة ، فإنّ من آثار طهارة الماء شرعا طهارة ما غسل به فلا يبقى حينئذ شكّ في طهارة الثوب حتى يستصحب نجاسته ، وهذا بخلاف المقام فإنّ استصحاب الحكم التعليقي وهو الحرمة لا يترتّب عليه عدم الحلّية إلّا من باب الملازمة العقليّة من عدم اجتماع الضدّين.

هذا ملخّص ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره في الدورة الثانية ، وقد ذكر في الدورة الاولى في جواب هذا التعارض وردّه تقريبا آخر فرّق فيه بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة ، ففي الموضوع يجري الأصل فيرتفع الشكّ كما ذكرنا في غسل الثوب ، وفي الحكميّة ذكر كلاما آخر وملخّصه : أنّ الحكم التعليقي بعد تحقّق ما علّق عليه يكون بنفسه فعليّا وأنّ الحكم بالحرمة مثلا هو حكم بعدم الحلّية ، لأنّ الحكم بالحرمة يقتضي ترتيب آثارها ، ومن آثارها أن لا يكون حلالا وليس من لوازمها العقليّة ، بل من آثارها الشرعيّة ، وحينئذ فاستصحاب الحرمة التعليقيّة إلى ما بعد الغليان يحقّق الحرمة الفعليّة ، وإذا تحقّقت رفعت الحلّية فلا يبقى شكّ في الحلّية حتّى تستصحب (١).

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٤ : ٤٧٧.

٦٠٦

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّه حين تحقّق الغليان لهذا الزبيب يشكّ في حكمه ، وهذا الشكّ مسبوق بحكمين أحدهما تعليقي والآخر تنجيزي ، فكما يجري استصحاب الحرمة فيرفع الحلّية لأنّها من آثاره ، كذلك يجري استصحاب الحلّية فيرفع الحرمة لأنّ الحرمة أيضا من آثاره ، فأيّ مرجّح لأحدهما على الآخر؟ فافهم وتأمّل.

وقد أجاب الآخوند قدس‌سره عن هذا الإشكال (١) بأنّ حلّية الزبيب مقطوعة لنا وإنّما الشكّ في أنّ هذه الحلّية هي الحلّية الّتي كانت ثابتة له حال كونه عنبا أم أنّها حلّية اخرى غيرها ، فبالاستصحاب يثبت أنّها هي الاولى ، ولا ريب أنّها حين كانت في العنب كانت مغيّاة بعدم الغليان فهي في الزبيب أيضا على ما كانت سابقا ، وحينئذ فهي مغيّاة بعدم الغليان فبعد الغليان لا تجري أصلا ، وحينئذ فلا معارضة. وهذا الجواب هو الّذي أراده الآخوند بعبارته في الكفاية وإن قصرت لاختصارها عن بيانه ، وهذا هو الجواب الصحيح.

وأمّا الكلام في الثاني وهو أنّه هل يختصّ الاستصحاب التعليقي بالأحكام أم يجري حتّى في الموضوعات والمتعلّقات؟ ذكر بعضهم (٢) من أدلّة جواز الصلاة في اللباس المشكوك الاستصحاب التعليقي ، بتقريب أنّ الصلاة قبل لبس هذا اللباس المشكوك لو صلّيت كانت صلاة بغير ما لا يؤكل لحمه ، فنشكّ بعد اللبس للمشكوك أنّها تغيّرت عمّا كانت عليه لو صلّيت أم لا فيستصحب.

وقد أجاب الميرزا النائيني بأنّ الاستصحاب يلزم فيه وجود الركن الركين من موضوعه خارجا ويشكّ فيه من ناحية اخرى ، وفي المقام الركن الركين هو الصلاة ولم تكن موجودة قبل حتّى يستصحب حكمها. ثمّ رتّب على ذلك عدم صحّة جعل ما اشتهر التمثيل به في الاستصحاب التعليقي مثالا ، لأنّ الموضوع العصير العنبي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦٨

(٢) لم نقف عليه.

٦٠٧

لا نفس العنب ، ومن المعلوم أنّ المراد به ما يكون من ماء العنب وهو منتف في الزبيب ، لأنّ مائيّة العنب الّتي يتحقّق بها عنوان العصير مفقودة ، وهذا الماء الّذي يعصر هو ماء الفرات (١).

ولا يخفى أنّ ما ذكره من اعتبار بقاء الركن الركين في الاستصحاب مسلّم ، وكذا ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب التعليقي في الزبيب إذا غلى مسلّم أيضا كما تقدّم ، إلّا أنّ دعواه أنّ الصلاة لم تكن متحقّقة فاسدة ، فإنّ الواجب منها هو الطبيعة وما يوجده المكلّف يكون محصّلا لتلك الطبيعة المأمور بها لا أنّه هو هو ، وحينئذ فوجوب الصلاة متحقّق قطعا حينئذ ، فلو أتى بها كانت صلاة بغير ما لا يؤكل لحمه فبالاستصحاب بعد اللبس يتحقّق صحّة الصلاة على تقدير جريان الاستصحاب التعليقي.

(وبعبارة اخرى أنّ المعتبر في باب الاستصحاب اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة ، وهو موجود في المقام لا وجود الموضوع خارجا وإلّا لم يجر الاستصحاب حيث يشكّ في أصل بقاء وجود الموجود السابق) (٢).

فالتحقيق أن يقال : إنّه على تقدير جريان الاستصحاب في الأحكام ، وعلى تقدير جريان الاستصحاب التعليقي لا يجري في الموضوعات الخارجيّة والمتعلّقات ، وذلك لأنّ المستصحب يلزم أن يكون مجعولا بنفسه أو يكون ذا أثر مجعول ، وهو في المقام ـ أعني الاستصحاب التعليقي ـ منتف في الموضوع أو المتعلّق ، لأنّ الصلاة على تقدير وقوعها قبل ساعة مثلا وقبل لبس المشكوك كانت بمأكول اللحم ، ومعلوم أنّ الصلاة ليست حكما ولا موضوعا لحكم ما دامت تقديريّة ، وإنّما تكون موضوعا للحكم بالصحّة بوجودها الخارجي ، أمّا الوجود التقديري فليس موضوعا

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية للدرس.

٦٠٨

لحكم من الأحكام فيمتنع جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات لعدم الجعل ولعدم الأثر الشرعي فتأمّل.

(على أنّ الاستصحاب التعليقي معارض باستصحاب عدم تحقّق الصلاة الّذي هو تنجيزي ، ولا يندفع بما دفع به في الحكم ، لأنّ الحكم مجعول تشريعي قابل لتعليقه على عدم المعلّق عليه فلا تعارض ، بخلاف الموضوع والمتعلّق فإنّها موجودات تكوينيّة ، فلا يمكن تعليقها) (١).

التنبيه السابع : [في استصحاب أحكام الشريعة السابقة]

ربّما يتوقّف في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الشاكّ الّذي لم يتيقّن ثبوت الحكم له مثل الشخص في زمن الغيبة إذا شكّ في وجوب الجمعة عليه أم لا ، بدعوى أنّ هذا الشخص لم يتيقّن ثبوت الحكم له ، إذ من علم ثبوت الحكم له هو الموجود زمن حضور الإمام عليه‌السلام أمّا الموجود في زمن الغيبة فلم يتيقّن ثبوت الحكم له حتّى يستصحب عند الشكّ.

وقد أجاب الشيخ الأنصاري (٢) عن ذلك بجوابين :

أحدهما : أنّ الكلام إنّما هو فيمن أدرك الزمانين زمان الحضور وزمان الغيبة وفيمن أدرك الشريعتين العيسويّة والمحمّديّة مثلا ، فإذا ثبت في حقّ المدرك ذلك يعني جريان الاستصحاب جرى في حقّ غيرهم بقاعدة الاشتراك.

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ قاعدة الاشتراك إنّما يثبت بها الحكم لنفس صاحب العنوان الّذي بسببه ثبت الحكم الأوّل له ، وقد ثبت جريان الاستصحاب لمدرك كلا الشريعتين والزمانين بما أنّه متعنون بعنوان متيقّن وشاكّ ، وهذا العنوان غير متحقّق في غير المدرك للشريعتين والزمانين معا.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، الأمر الخامس من تنبيهات الاستصحاب.

٦٠٩

ثانيهما : أنّ هذا متيقّن وشاكّ ، إذ الحكم إنّما ثبت للكلّي ولم يثبت للشخصي.

والظاهر أنّ مراده قدس‌سره أنّ الأحكام إنّما وضعت بنحو القضايا الحقيقيّة ولم يعتبر فيها وجود الموضوع خارجا كما هو شأن القضايا الخارجيّة ، وحينئذ فهو متيقّن وشاكّ فيجري فيه الاستصحاب.

فتلخّص أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في الأحكام الشريعة السابقة إذا شكّ في نسخها ، إلّا أنّ هنا بخصوصه إشكالا ، ملخّصه :

أنّ الشريعة اللاحقة لا بدّ وأن تكون ناسخة لجملة من الأحكام الثابتة للشريعة السابقة فنعلم إجمالا بأنّ جملة من الأحكام منسوخة ومعه لا يمكن جريان الاستصحاب.

وقد أجاب عنه الميرزا وغيره قدس‌سره بأنّ المقدار المعلوم بالإجمال قد عثرنا على أضعافه فانحلّ العلم الإجمالي فلا مانع من الاستصحاب (١).

إلّا أنّ الميرزا النائيني منع من الاستصحاب لحكم الشريعة السابقة (٢) إمّا لقوله : بأنّ الأحكام الّتي جاءت بها شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مجعولة جديدا ، وتوافق بعضها إنّما هو بإنشاء حكم مماثل للحكم السابق.

وإمّا لقوله : بلزوم إمضاء أحكام الشريعة السابقة ، والاستصحاب لإثبات الإمضاء مثبت.

ولا يخفى أنّ دعوى كون الأحكام كلّها مجعولة بجعل استقلالي يغاير جعل الحكم المماثل في الشريعة السابقة بعيدة (*) بل ممنوعة ، بل الظاهر أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٢٨.

(٢) المصدر المتقدّم.

(*) جاء في هامش الأصل : وجه البعد أنّ الجاعل للأحكام هو الله تعالى ، والرسل سفراء لتبليغ تلك الأحكام فلا تحتاج إلى جعل جديد للحكم إذا عيّن سفيرا بعد السفير الأوّل ، خصوصا إذا كان المجعول مماثلا ، إذ النسخ وجعل الحكم المماثل لغو.

٦١٠

أحكام شريعتنا على تقدير المماثلة بين بعضها وبعض أحكام الشريعة السابقة محتاجة إلى الإمضاء.

ولا يخفى أنّ دليل الاستصحاب يكون بنفسه إمضاء ، إذ «لا تنقض» شاملة لذلك أيضا قطعا ، فنهيه عن نقضها إمضاء لها لا أنّه بجريانه نثبت الإمضاء ليكون مثبتا ، فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ من هذه الجهة ، إنّما الكلام في أنّ استصحاب عدم النسخ بنفسه يجري أم لا يجري؟ الظاهر عدم الجريان بناء على ما هو الحقّ في النسخ من انتهاء أمد الحكم ، فإنّ الحكم إذا انتهى أمده لا شكّ في بقائه.

وبعد استحالة الإهمال في الواقعيّات فالحكم إمّا مطلق من جهة الزمان أو مقيّد ، فالشاكّ في بقائه شاكّ في أصل ثبوته له من أوّل الأمر لا شاكّ في رفعه عنه بعد ثبوته له.

نعم ، بناء على أنّ النسخ بمعنى البداء يصحّ الاستصحاب إلّا أنّ النسخ بهذا المعنى مستحيل على الله لأدائه إلى الجهل تعالى الله عن ذلك علوّا كثيرا.

وحينئذ فما ادّعاه المحدّث الاسترآبادي من قيام الضرورة على استصحاب عدم النسخ (١) إن أراد به العمل على طبق الحكم السابق فصحيح ولا يسمّى هذا بالاستصحاب ، وإن أراد به الاستصحاب المصطلح فدعوى الضرورة غير مسموعة ، وحينئذ فإذا كان الحكم من أحكام شريعتنا فبقاعدة الاشتراك يثبت الحكم ، بل بإطلاق الدليل أو عمومه الّذي بهما ثبت الحكم لو كان ، وإن كان من أحكام الشريعة السابقة فلا يمكن جريان الاستصحاب ولا دليل على الاشتراك ولا نعلم إطلاقا في أدلّتهم من حيث الزمان ، إذ لم نطّلع عليها.

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٤٣ ، كما حكى عنه الشيخ في الفرائد ٣ : ٣١.

٦١١

ومن هذا الكلام يظهر أنّ ما ذكرناه سابقا من القول بجريان استصحاب عدم النسخ غير تامّ (حتّى لو قلنا بجريان الاستصحاب في الحكم الكلّي ، لعدم يقين المكلّف بحكم فعلي في حقّه ، فاستصحاب عدم جعل الحكم بالإضافة إلى غير المتيقّن من الزمان لا معارض له) (١).

التنبيه الثامن : في الأصل المثبت

والكلام في أنّ الجعل الشرعي تعلّق بالمتيقّن أو تعلّق بالمتيقّن بجميع لوازمه؟ وينبغي أن يعلم أنّ الكلام إنّما هو في لوازم البقاء العقليّة أو العاديّة ، أمّا لوازم الحدوث فهي يجري فيها الاستصحاب لتعلّق اليقين بها بتعلّقه بالمتيقّن سابقا. وإنّما يقع الكلام في الأصل المثبت بالنسبة إلى لوازم البقاء الّتي هي ليست من لوازم الحدوث كما في الأمثلة الّتي ذكرها الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) ، مثل الرجل الملفوف باللحاف المريض فلو قطعه زيد نصفين بسيفه فهل يمكن باستصحاب حياته الحكم بأنّ زيدا هو القاتل له مع احتمال أنّه ميّت حتف أنفه وأنّ زيدا إنّما قطع ميّتا ، فإن قلنا بحجّية الأصل المثبت فيحكم على زيد بأنّه قاتل عمدي فيقتصّ منه ، وإن لم نقل بحجّية الأصل المثبت فلا يحكم بأنّه هو القاتل فلا يقتصّ منه.

وقبل الخوض في ذلك نبيّن ما يمتاز به الأصل من الأمارة بنحو الإجمال حتّى ننظر المجعول في دليل الاستصحاب ما هو؟ فنقول : المعروف كما هو مسطور في كلمات صاحب الكفاية (٣) وغيره وكلمات الميرزا النائيني (٤) أنّ الفرق بين الأمارة والأصل أنّ الأمارة ما يكون موردها الجهل وموضوعها مهمل من ناحية

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٠.

(٣) انظر كفاية الاصول : ٤٩٧.

(٤) أجود التقريرات ٣ : ١٣٤ ـ ١٣٥.

٦١٢

العلم والجهل. والأصل ما يؤخذ الجهل بالحكم الواقعي في موضوعه ، وبهذا اللحاظ قدّموا الأمارة على الأصل فإنّها ترفع الجهل بالحكم الواقعي الّذي هو موضوع الأصل.

ولا يخفى أنّ ما ذكر ليس إلّا تسطير ألفاظ وإلّا فالموضوع في دليلي الأصل والأمارة هو عدم العلم بالحكم الواقعي ، لما ذكرنا مرارا من أنّ الموضوع إذا كان منقسما إلى قسمين فاخذ في موضوع حكم من الأحكام ، فإمّا أن يؤخذ مطلقا أو يؤخذ متخصّصا بإحدى الخصوصيّتين المأخوذة في القسمين ، إمّا متخصّصا بوجود الخصوصيّة أو بعدمها ، ولا يعقل أن يؤخذ مهملا ؛ لأنّه لا يعقل أن لا يعلم الحاكم حكم نفسه ، وجهل الموضوع وإهماله يؤدّي إلى جهل سعة الموضوع وضيقه فيؤدّي إلى جهل الحكم نفسه في الحقيقة ، وحينئذ فموضوع الأصل والأمارة بالإضافة إلى المكلّف المنقسم إلى العالم بالحكم الواقعي والجاهل به إمّا أن يكون مقيّدا بالعالم أو مطلقا ولا معنى له ، فتعيّن أن يكون الموضوع هو الجاهل بالحكم الواقعي فيهما معا.

فلو سلّم أنّ أدلّة الأمارات غير مقيّدة لموضوع الأمارة بالجاهل لفظا إلّا أنّه بعد استحالة الإهمال في الواقعيّات واستحالة تقييدها بخصوص العالم بالحكم ؛ لعدم الفائدة فيستحيل شمول الإطلاق له فتعيّن تقييده بالجاهل ، على أنّه قد اخذ عدم العلم في موضوع جملة منها صريحا في قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) بناء على دلالتها على حجّية قول المفتي أو خبر الواحد وغيرها.

فلا فرق بينهما من الجهة الّتي ذكروها. نعم بينهما فرق من جهة اخرى وهي أنّ الجهل بالحكم الواقعي في الأمارة يعتبر ابتداء لا استدامة ؛ لأنّ نفس الأمارة ترفع الجهل استدامة ، وهذا بخلاف الأصل فالجهل فيه حدوثا واستدامة ، فهو حال جهله حكمه كذا.

__________________

(١) النحل : ٤٣ ، والأنبياء : ٧.

٦١٣

ثمّ إنّه يقع الكلام في المجعول فنقول : ذكر الآخوند قدس‌سره أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو المستصحب المتيقّن ، فإن كان حكما فالمجعول هو الحكم المماثل له ، وإن كان موضوعا فالمجعول هو الحكم المماثل لحكمه السابق (١). وذكر الميرزا قدس‌سره أنّ المجعول هو الجرى العملي (٢).

ولا يخفى أنّ هذين القولين وإن كانا ممكنين بحسب الثبوت إلّا أنّ الكلام فيهما بحسب الإثبات ، فإنّ أدلّة الاستصحاب لا تعرّض لها بالنسبة إلى المتيقّن ولا للجري العملي ، على أنّ الجري العملي من لوازم المجعول ، والمجعول على ما هو ظاهر الأدلّة هو نفس اليقين ، والجري العملي من آثاره ، فهو نظير التنجيز والتعذير اللذين زعم أنّهما من لوازم الحجّية ردّا على الآخوند قدس‌سره حيث زعم أنّهما هما المجعولان في باب جعل الحجّية (٣) فكذلك الجري العملي من لوازم جعل اليقين ، فكأنّه بجعله يقول : رتّب على نفسك آثار اليقين فإنّك متيقّن بحكم الشارع لا شاكّ.

والوجه في تقديم الأمارة على الاستصحاب ـ مع كون التعارض بين أدلّة حجّيتهما العموم من وجه ، فإنّ أدلّة الأمارة دلّت على حجّيتها كان في مقابلها استصحاب أم لا ، وأدلّة الاستصحاب دلّت على حجّية الاستصحاب كان في مورده أمارة أم لا ـ واضح ممّا ذكرنا في وجه الفرق بينهما ؛ وذلك أنّ الاستصحاب مثلا قد اخذ الشكّ في موضوعه ابتداء واستدامة ، فقيام البيّنة حينئذ يرفع الجهل استدامة بالحكم الواقعي وإن كان الشكّ ابتداء موجودا كي تجري البيّنة وتكون حجّة ، فيرتفع الجهل استمرارا فلا يجري الاستصحاب حينئذ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٣٠.

(٣) انظر كفاية الاصول : ٣١٩.

٦١٤

وبهذا ظهر أيضا وجه تقديم الاستصحاب على سائر الاصول من البراءة والاشتغال ، فإنّ دليل الاستصحاب يقول : افرض نفسك متيقّنا في ظرف الشكّ ، وحينئذ فمع جريان الاستصحاب لا يبقى شكّ ليتحقّق موضوع البراءة وهو : «قبح العقاب بلا بيان» ، أو «رفع ما لا يعلمون» لأنّ الشارع فرض الاستصحاب يقينا فهو بيان وعلم بجعل الشارع وتعبّده فلا يكون العقاب بلا بيان وعلم.

قال الاستاذ الخوئي أيّده الله تعالى : الوجه في تقديم الاستصحاب على سائر الاصول المحضة هو أنّ الشارع فرض الشاكّ لو لا جريان الاستصحاب متيقّنا بجريان الاستصحاب ، فمع فرض كونه متيقّنا لا يبقى مجال للاصول المحضة الّتي موضوعها عدم البيان أو عدم العلم أو عدم العلم بالفراغ في قاعدة البراءة عقليّة أو شرعيّة وقاعدة الاشتغال ، وحينئذ فينتفي ببركة الاستصحاب عدم العلم إلى العلم وعدم البيان إلى البيان فلا تجري بقيّة الاصول المحضة.

ووجه تقديم الأمارة على الاستصحاب هو أنّ الأمارة لم يؤخذ في موضوعها عدم العلم لفظا ، وإنّما قيّدت به عقلا ، إذ جعل الطريق للعالم لا معنى له فدليلها مطلق من حيث كون العامل بها عالما أم لا إلّا أنّه قيّدها العقل بغير العالم وجدانا ، وأمّا العالم تعبّدا كما في الاستصحاب فلم تقيّد به ، ولذلك تجري حتّى في مورده ؛ لأنّ العقل الّذي قيّدها بالعلم الوجداني لم يقيّدها بالعلم التعبّدي ، وحينئذ فهو أمارة أيضا إلّا أنّه حيث لا أمارة ، أمّا مع وجودها فأماريّته منتفية.

وإن أبيت عمّا ذكرناه فسيأتي في المتعارضين بنحو العموم من وجه من جملة المرجّحات لأحدهما على الآخر ما إذا كان تقديم أحدهما غير تارك العامّ الثاني بلا مورد ، بل يبقى له موارد كثيرة ، بخلاف تقديم الثاني فهو معدم لمورد الأوّل فيتقدّم ما يبقى بتقدّمه للثاني موارد كثيرة ، وهو في المقام كذلك ، فإنّا إذا قدّمنا الأمارة يبقى للاستصحاب موارد كثيرة وهي الموارد الخالية عن الأمارة ، أمّا إذا قدّمنا الاستصحاب ، لا يبقى للأمارة مورد إلّا نادرا ، فإنّ كلّ أمارة إنّما تقوم على أمر حادث فهو مسبوق بالعدم ، هذا ملخّص ما أفاده في مجلس الدرس.

٦١٥

أقول : ولا يخفى عليك أوّلا أنّه مناقض لما ذكره قبل ليلة كما هو مسطور من أنّ الأمارة مأخوذ في موضوعها عدم العلم واستشهاده بقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) ودلالتها على حجّية فتوى المفتي أو خبر الواحد ، مضافا إلى أنّ جميع الأدلّة الدالّة على حجّية الأمارات موضوعها عدم العلم مثل آية النبأ (٢) فإنّ قوله : (فَتَبَيَّنُوا) ظاهر في كونهم غير متبيّن لهم الأمر فهم جاهلون به ، وكذا قوله : «الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين أو تقوم به البيّنة» (٣) الظاهر في أنّه غير مستبين قبل قيامها ، وكذا قوله : «فللعوام أن يقلّدوه» (٤) وكذا غيرها (٥) ، وكلّها كما ترى قد اخذ في موضوعها عدم العلم.

فالأولى أن يقال في وجه تقديم الأمارة : إنّ الشارع فرضها علما فلا يرى فيها شكّا أصلا ، وحينئذ فلا يجري الاستصحاب لعدم الشكّ ، وهذا واضح ، وفي الاستصحاب الشكّ باق إلّا أنّه لا حكم له بحكم الشارع فلا يمكن أن يجري الأصل المحض حينئذ لعدم حكم لهذا الشكّ الموجود ، فافهم وتأمّل حينئذ.

ثمّ إنّه بعد ما ذكرنا نتكلّم في وجه عدم حجّية الأصل المثبت في الاستصحاب وعدم ترتيب ما للآثار العقليّة الثابتة للمستصحب في الاستصحاب وترتيبها في الأمارات فنقول : ذهب الآخوند قدس‌سره (٦) إلى أنّ الأمارات بما أنّها ناظرة إلى الواقع فمؤدّاها بدليل حجّيتها هو ثبوت الموضوع الواقعي تعبّدا ، وحينئذ فإذا ثبت الواقع بهذا الخبر مثلا ، فدليل حجّية الخبر يجعل المخبر به ثابتا واقعا ، ومن المعلوم أنّ المخبر

__________________

(١) النحل : ٤٣ ، والأنبياء : ٧.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٤) الوسائل ١٨ : ٩٥ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

(٥) مثل : عليك بالأسدي ، المصدر السابق : الباب ١١ ، الحديث ١٥.

(٦) كفاية الاصول : ٣٢١.

٦١٦

بثبوت شيء واقعا يخبر عن لوازمه وثبوتها في الواقع كنفس المخبر به ، وهذا بخلاف الأصل فإنّه لا نظر له إلى الواقع فيقتصر على مؤدّاه وهو التعبّد بالمتيقّن ، ولا يدلّ دليله على أكثر من ذلك.

ولا يخفى أنّ ما ذكره في مفاد الاصول وإن كان صحيحا إلّا أنّ ما ذكره في الأمارات من أنّ الإخبار بشيء إخبار عن لوازمه صحيح في اللوازم البيّنة بالمعنى الأخصّ ، وهي الّتي لا تنفكّ عن ملزوماتها أصلا بحيث تصوّر اللازم يكون تصوّرا للملزوم ، نظير الأربعة وزوجيّتها ونظير الشمس الخارجيّة مع الضوء مثلا ، أمّا اللوازم البيّنة بالمعنى الأعمّ فلا ، إذ ليس الإخبار بها إخبارا بلوازمها ، وإلّا لزم تكفير من يخبر بشيء لازمه البعيد تكذيب نبيّ أو إمام مثلا ، ولا يلتزم بذلك أحد ، فإنّ الإخبار لازمه القصد والّذي لا يقصد اللازم لا يخبر عنه قطعا.

وذكر الميرزا قدس‌سره في مقام التفرقة بين الأمارات فلوازمها حجّة والاصول فلوازمها لا تثبت بها ، بما ذكره من أنّ الأمارات تجعل الواقع ، فالأمارة علم تعبّدي بالواقع ، فكما يترتّب على العلم الوجداني بالواقع العلم بلوازمه يترتّب على العلم التعبّدي ذلك أيضا ، إذ لا فرق بينهما إلّا أنّ أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد ، وهذا بخلاف الأصل فإنّه لا تعبّد فيه بعلم وإنّما مؤدّاه لزوم الجري العملي على خصوص المتيقّن السابق (١). ودعوى أنّ أثر الأثر أثر إنّما هو حيث يكون الأثران من جنس واحد ، أمّا حيث يكون أحدهما عقليّا والآخر شرعيّا فلا.

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ النظر إلى الواقع كما هو متحقّق في الأمارة متحقّق في الاصول المحرزة كما صرّح به في القطع (٢).

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٨٧ ـ ٤٨٨.

(٢) انظر فوائد الاصول ٣ : ١٩.

٦١٧

وأمّا ثانيا : فلأنّ النظر إلى الواقع في الأمارات لا يوجب أن يكون المخبر بالواقع مخبرا عن اللوازم البعيدة له بحيث لا يكون تصوّر المخبر به مستلزما لتصوّرها ، (وقياسه على العلم الوجداني مع الفارق ، فإنّ العلم الوجداني بالملزوم مع العلم بالملازمة يولد العلم باللازم ، فيكون هذا العلم المتولّد حجّة ؛ لكونه علما وجدانيّا ، بخلاف الأمارات إذ المفروض أنّ العلم الوجداني باللوازم مفقود ، وكذا العلم التعبّدي ، إذ المفروض أنّها إنّما أخبرت بالملزوم فقط) (١).

وكيف كان ، فالظاهر أنّه لا فرق بين الاصول والأمارات في أنّه يتبع دليل حجّيتها ، فإن دلّ على التعبّد بمؤدّياتها فقط فلا يتعدّى كما في الاصول ، وإن دلّ على التعبّد بمؤدّياتها بمالها من اللوازم فيثبت حينئذ التعبّد بالجميع ، لكنّ الأدلّة الّتي جعلت الاصول لا تدلّ على أزيد من التعبّد بمؤدّاها ، ففي الاستصحاب لا تدلّ على أزيد من التعبّد بخصوص المتيقّن ، وفي الأمارات يختلف الحكم باختلاف لسان جعل الأمارة ، ففي خبر الواحد مثلا دليل الجعل السيرة ، وهي متحقّقة بالنسبة إلى المؤدّى ولوازمه القريبة والبعيدة ولو بوسائط عديدة ، وكذلك في الإقرار وغيره ممّا كان العرف يفهمون من الإخبار بالشيء الإخبار بلازمه ، مثلا لو أقرّ شخص بأنّه هو سقى زيدا السمّ وأنكر كونه قاتلا له لا يعتنى بإنكاره ؛ لأنّ إقراره باللازم إقرار بالملزوم.

وبالجملة ، فالفرق بين الاصول والأمارات ليس في مقام الثبوت وإنّما هو في مقام الإثبات ، فمن يقول بأنّ لوازم الأمارات تتبع دليل الأمارة قوله هو الصحيح ولا ينبغي أن يستغرب منه ، بل هو الّذي ينبغي أن يعتمد عليه ، فافهم وتأمّل.

بقي أمران لا بدّ من التعرّض لهما :

أحدهما : هو أنّه بعد ما عرفت أنّ المانع من حجّية الأصل المثبت إنّما هو مانع إثباتي وهو عدم وفاء الدليل ، لا ثبوتي بين مؤدّى نفس الأصل والأمارة ، فلو قلنا

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦١٨

بحجّيّة الأصل المثبت فهل هناك مانع آخر عن جريان التعبّد بالنسبة إلى اللوازم أم لا؟ ذكر كاشف الغطاء قدس‌سره أنّ هناك مانعا هو تعارض الأصلين بالنسبة إلى اللازم (١) فإنّه إذا جرى في الملزوم الاستصحاب وقلنا بإثباته اللازم فاستصحاب عدم اللازم يعارض وجوده ، مثلا استصحاب حياة زيد على تقدير أنّها تثبت لازمها وهو قتل الضارب بسيفه المضروب فاستصحاب عدم قتله يعارضه ، فيتعارض الاستصحاب في اللازم والملزوم ، فوجود التعارض حينئذ يكشف عن عدم شمول التعبّد لإثبات اللازم.

وقد أجاب الشيخ الأنصاري قدس‌سره عن هذا الإشكال بما ملخّصه : أنّ الاستصحاب لإثبات اللازم مع جريانه يحكم على استصحاب عدم اللازم ، إذ الثاني إنّما يجري إذا لم يجر الأوّل ، فمع جريان الأوّل لا يبقى شكّ في القتل ليستصحب عدمه (٢).

ولا يخفى أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري يتمّ على تقدير أن يقال : إنّ جريان الاستصحاب في الملزوم يثبت اللوازم العقليّة تعبّدا كما يثبت اللوازم الشرعيّة ، فإنّه حينئذ يرتفع الشكّ في استناد القتل إلى الضارب ، فلا تجري أصالة عدمه واستصحابها ، لعدم [تماميّة] أركان الاستصحاب.

وإن قلنا بحجّيّة الأصل المثبت من باب أنّ التعبّد تعبّدان : تعبّد بالشيء وتعبّد بلوازمه العقليّة ، وأنّهما تعبّدان بدليل واحد نظير الكلّي بالنسبة إلى أفراده فلا يتمّ ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، إذ القتل أمر مشكوك فيه وليس استصحاب الحياة لإثباتها أولى من استصحاب عدم القتل لنفيه ، وأحدهما وإن كان مسبّبا عن الآخر إلّا أنّه ليس كلّ مسبّب لا يجري فيه الأصل بعد جريانه في السبب ، بل لا بدّ من كونه رافعا لموضوعه وليس المقام من ذلك ، فالاستصحابان متعارضان ، فالحقّ حينئذ مع كاشف الغطاء قدس‌سره.

__________________

(١) انظر كشف الغطاء ١ : ٢٠١.

(٢) انظر الفرائد ٣ : ٢٣٧.

٦١٩

الثاني من الأمرين هو أنّه ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) حجّية الأصل المثبت حيث تكون الواسطة الّتي يترتّب الحكم الشرعي عليها خفيّة لا يدركها العرف ، بحيث يعدّ العرف الحكم حكما لنفس المستصحب لا للواسطة لخفائها ، وإن كان دقيق النظر يراه حكما لنفس الواسطة إلّا أنّ العبرة بصدق النقض عرفا وهو متحقّق حسب الفرض.

وقد ألحق صاحب الكفاية قدس‌سره بما ذكره الشيخ قدس‌سره (٢) جلاء الواسطة فزعم أنّ ما كانت ملازمته واسطته جليّة كذلك ، وقد مثّل لذلك بالامور المتضايفة مثل الابوّة والبنوّة وغيرها ، كما أنّه قدس‌سره ألحق قسما آخر وهو اللازمان اللذان يرى العرف بينهما الملازمة الواقعيّة والظاهريّة بحيث يعدّ ترتيب الأثر على أحدهما دون الآخر نقضا له كما في العلّة والمعلول والمعلولين لعلّة ثالثة.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الآخوند قدس‌سره : من الكبرى الكلّية وهي إلحاق هذين الأمرين ودعوى حجّية المثبت فيهما ؛ لأنّه لو لم نقل بحجّيتهما يصدق النقض عرفا ، متين جدّا ، إلّا أنّ الظاهر أنّه ليس لها مصداق في الخارج ؛ إذ إن أراد من الامور المتضايفة كالابوّة والبنوّة ذاتهما فليس بين ذات زيد وذات ولده ملازمة عرفيّة ، وإن اريد عنوانهما فهو مستحيل الانفكاك ، فكيف يعقل أن يكون أحدهما متيقّنا دون الآخر؟ ثمّ يشكّ فيه فيستصحب. ثمّ يقع الكلام في الآخر إذ الامور المتضايفة متلازمة في اليقين والشكّ ، فإذا تيقّن بأحدهما يتيقّن بالآخر وإذا شكّ شكّ.

ومن هذا ظهر الجواب عن الثاني وهي مسألة العلّية والمعلوليّة أو المعلولين لعلّة ثالثة ، فإنّ ذاتيهما ليس بينهما تلازم عرفي ، وعنوانيهما يستحيل الانفكاك بينهما بحسب العرف ، فلا يعقل أن يتيقّن أحدهما ثمّ يشكّ فيه ليقع الكلام في أنّ إثباته

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٤.

(٢) كفاية الاصول : ٤٧٣.

٦٢٠