غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

والوجه الثالث يرجع إلى الثاني بنحو من التغيير في العبارة (فإنّه ذكر أنّ الرخصة في تطبيق المطلق البدلي على أفراد المطلق الشمولي موقوف على عدم المانع والإطلاق الشمولي مانع) (١).

والظاهر عدم تماميّتهما فإنّ الإطلاق بنفسه بيان لتساوي أفراد المطلق ، وليس تساوي الأفراد أمرا آخر ، فإنّ عدم بيان دخل قيد بيان لعدم دخله (وحينئذ فكلّ من الإطلاقين يصلح أن يكون مانعا عن الآخر ، فافهم) (٢).

فقد تلخّص أنّه إذا كان هناك إطلاقان أحدهما شمولي والآخر بدلي فلا يتقدّم أحدهما على الآخر أصلا ، بل لا بدّ من الرجوع حيث يجتمعان إلى الاصول العمليّة في المقام.

ومن جملة الموارد الّتي قيل فيها بعدم تحقّق التعارض ما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ فقد زعموا (٣) تقدّم التخصيص وله مثالان :

أحدهما : أن يتقدّم العامّ ويتأخّر الخاصّ مثل أن يرد «أكرم العلماء» ثمّ يرد : لا تكرم زيدا العالم ، فيتردّد الخاصّ بين كونه ناسخا أو مخصّصا. ومثل هذا لا ثمرة للبحث فيه بالنسبة إلينا فإنّ زيدا خارج على كلا التقديرين.

الثاني : أن يتقدّم الخاصّ ويتأخّر العامّ فكون الخاصّ مخصّصا موجب لعدم وجوب إكرام زيد فيما يأتي ، وإذا كان العامّ ناسخا له فهو يقضي بوجوب إكرام زيد فيما يأتي من الزمان ، فهنا يتحقّق الثمرة.

وقد ذكروا لتقديم التخصيص على النسخ وجوها ، أحدها : ما هو المعروف من قلّة أفراد النسخ وكثرة التخصيص حتّى قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ ، فيتقدّم التخصيص لذلك (٤).

__________________

(١ و ٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(١ و ٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٣) منهم الشيخ الانصاري والميرزا النائيني انظر الفرائد ٤ : ٩٤ ، وأجود التقريرات ٤ : ٢٩٣.

(٤) انظر الفرائد ٤ : ٩٤.

٧٦١

وقد اشكل عليه بأنّ القلّة والكثرة لا تأثير لها في الترجيح. وربّما وجّه الاستدلال بأنّ الكثرة في التخصيص والقلّة في النسخ توجب في الدليل ظهورا في دوام الحكم فيضعف احتمال التخصيص لكون الظاهر هو التخصيص فيتقدّم التخصيص للظهور.

وللميرزا النائيني كلام في ظهور الحكم في الدوام والاستمرار وقد أنكره واستند في إثبات استمرار الحكم إلى أصالة عدم التخصيص (١) وبما أنّها أصل عملي فيتقدّم العموم عليه حينئذ لو جرت أصالته لكونه لفظيّا رافعا لموضوع الأصل العملي.

ولا يخفى عليك أنّه يمكن استفادة العموم الأزماني للحكم من نفس دليله ، فمثل «اجتنب الخمر» كما ينحلّ إلى الأفراد العرضيّة كذلك ينحلّ إلى الأفراد الطوليّة ، وهذا هو معنى الاستمرار.

(كما ذكر ثانيا أنّ مدخول أداة العموم لا يدلّ على العموم إلّا بعد إجراء مقدّمات الحكمة الّتي منها عدم البيان ، والخاصّ يصلح أن يكون بيانا وقد تقدّم جوابه) (٢).

والظاهر أنّ الخوض في هذا المبحث معدوم الثمرة كلّية ، فإنّ مناط النسخ إنّما هو التأخّر عن المنسوخ في مقام الثبوت لا في مقام الإثبات ، ومقام الثبوت مجهول فيه المتقدّم والمتأخّر ، لأنّ قول الأمير عليه‌السلام كقول الصادق في أنّه إخبار عن الحكم الثابت زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فدوران الأمر بين تقدّم الخاصّ فيكون مخصّصا وناسخيّة العامّ المتأخّر إنّما هو حيث يتقدّم ثبوتا ويتأخّر العامّ واقعا لا في مقام الإثبات وبيان الحكم ، فإنّ مقام الإثبات أجنبيّ عن النسخ والتخصيص معا ، وحينئذ فيقدّم التخصيص ، لأنّه وإن تأخّر في مقام الإثبات لكنّه إخبار عن متقدّم في مقام الثبوت فهو تخصيص وليس نسخا ، وتأخير البيان عن وقت الخطاب بل عن وقت الحاجة

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ٢٩٥.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

٧٦٢

ليس قبيحا ذاتيّا غير قابل للتخصيص ، بل يجوز تخصيصه فيما كان مصلحة في تأخير البيان عنه أو مفسدة في البيان المقارن ، على أنّ محل الكلام قد تقدّم فيه البيان والقرينة وهو الخاصّ فلا يكون للعام ظهور في العموم لسبق المخصّص ، فافهم وتأمّل فإنّه نافع جدّا.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ موارد القرينة وذي القرينة ـ سواء كان عموما وخصوصا أو إطلاقا وتقييدا أو حقيقة ومجازا ـ خارجة عن موضوع بحث التعارض ، فما يأتي إن شاء الله تعالى من بيان حكم المتعارضين لا يشملها أصلا ، والتعارض فيها بدوي زائل بأدنى رجوع إلى العرف.

[انقلاب النسبة]

هذا كلّه في تصوير المعارض إذا كان واحدا ، وأمّا إذا كان المعارض أكثر من واحد بنحو يكون المتعارضات ثلاثة أو أكثر فهل تنقلب النسبة ـ بمعنى ملاحظة أحدهما مع الثاني والنسبة وما تقتضيه تلك النسبة من تقديم أيّهما ثمّ تنسب النتيجة إلى الثالث ـ أو إنّه يلاحظ بالنسبة إلى كليهما وهو على حاله من دون ملاحظة النسبة بين الأوّلين؟ ذهب الآخوند قدس‌سره في الكفاية إلى الأخير (١).

بدعوى أنّ مناط التقديم هو الظهور ووجود المعارض الأوّل لا يرفع الظهور ، فتلاحظ النسبة بينه وبين المعارض الثاني كما تلاحظ بينه وبين المعارض الأوّل.

ولنقدّم قبل الخوض في هذا المبحث مقدّمة عليها يبتني القول بانقلاب النسبة وعدمه وهي : أنّ التلفّظ باللفظ له دلالات ثلاثة بعضها مترتّب على بعض :

الاولى : الدلالة المسمّاة بالتصوّرية باصطلاح القوم وبالانسيّة باصطلاحنا ، وهي سبق المعنى إلى ذهن ذلك السامع لهذا اللفظ لانس ذهنه بهذا المعنى من هذا اللفظ ،

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٥١٥ ـ ٥١٦.

٧٦٣

بحيث لو علم أنّ هذا اللافظ لا شعور له لكونه نائما مع ذلك يكون اللفظ موجبا لتصوّر ذلك المعنى ، والكلام في أنّ هذه الدلالة وضعيّة أو انسيّة تقدّم الكلام فيه في بحث الوضع ولا يترتّب عليه في المقام ثمرة.

الثانية : الدلالة التصديقيّة باصطلاح القوم والوضعيّة باصطلاحنا ، وهي عبارة عن كون المتكلّم بصدد تفهيم مدلول هذه الألفاظ ، وهذه الدلالة موقوفة على إحراز كونه غير نائم وغير غافل وغير مستهزئ ، وإحراز انتفاء هذه إنّما هو ببناء العقلاء على كون المتكلّم بصدد إفهام مداليل الألفاظ بحيث لو ادّعى أحد هذه الامور لا يقبل منه ذلك حتّى في المحاكم العرفيّة.

الثالثة : دلالة هذه الألفاظ على كون المتكلّم قد طابقت إرادته الجدّية إرادته الاستعماليّة ، وهذا أيضا ببناء العقلاء ، فإنّ بناءهم مستقرّ على كون المتكلّم قد أراد بالإرادة الجدّية ما هو ظاهر كلامه إلّا إذا نصب قرينة على خلاف ذلك ، لكنّ القرينة إن كانت متّصلة فلا تخلّ بالدلالة الاولى ، لأنّها غير منوطة بالقصد. نعم تخلّ بالثانية ، فإنّ وجود القرينة المتّصلة مانع عن انعقاد الظهور الاستعمالي ، فإنّ من قال : أكرم العلماء إلّا فسّاقهم ، لم يكن مستعملا للفظ «العلماء» في العموم بنحو يشمل الفسّاق ، نعم قد استعمله في عموم ما عدا الفسّاق ، فحينئذ ترتفع الدلالة الثانية فترتفع الثالثة أيضا لعدم موضوعها.

وأمّا القرينة المنفصلة فإنّما ترفع الدلالة الثالثة لانعقاد الظهور بالاستعمال.

ووجه ارتفاع الدلالة الثالثة إنّما هو أنّ بناء العقلاء الّذي قد استقرّ على كون الإرادة الاستعماليّة مطابقة للإرادة الجدّية إنّما هو حيث لا يكون بيان على خلاف ذلك ، أمّا حيث يوجد البيان على خلاف ذلك فلا استقرار لبنائهم على تطابق الإرادتين.

ثمّ إنّ التعارض بين الأدلّة إنّما هو بين المرادات الجدّية لا بين الظهورات مع قيام القرينة على إرادة خلاف الظاهر إرادة جدّية ، وحينئذ فبعد هذا يكون انقلاب

٧٦٤

النسبة كما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره تصوّره مساوق للتصديق به لا يحتاج إلى مئونة بيان وإقامة برهان (١). فلنشرع في الأمثلة توضيحا للمقصود ولنذكر الأمثلة المتعارضة ، سواء كان تعارضها بدويّا أم مستقرّا ، وسواء كان تعارضها الّذي هو بين أكثر من دليل واحد موجبا لانقلاب النسبة أم لم يكن موجبا لذلك.

فنقول : إنّ العامّ إذا ورد مثلا وورد بعده خاصّان فإمّا أن يكون الخاصّان متباينين ، أو يكون بينهما عموم من وجه ، أو يكون بينهما عموم مطلق.

مثال الأوّل كأن يقول : أكرم العلماء ، ثمّ يقول بعد فصل : لا تكرم البصريّين من العلماء ، ويقول أيضا : لا تكرم البغداديّين من العلماء ، وفي مثل هذا لا تنقلب النسبة أصلا فيخصّص العموم بكلا المخصّصين إذا لم يكن محذور في التخصيص ، لأنّ تخصيص العلماء بالبغداديّين لا يوجب ارتفاع عمومه بالإضافة إلى البصريّين بل عمومه باق ، غاية الأمر إنّه صار أضيق منه قبل التخصيص.

وقد يكون هناك مانع من تخصيص العموم بكلا المخصّصين من قلّة الفرد الباقي بحيث يستهجن التخصيص إلى ذلك الحدّ أو عدم الفرد له أصلا ، فهنا يقع التعارض بين العموم وأحد الخاصّين وبين الخاصّ الآخر مثلا إذا ورد : يستحب إكرام العلماء ، ثمّ ورد : يجب إكرام عدول العلماء ، وورد أيضا : يحرم إكرام فسّاق العلماء ، فهنا يقع التعارض بين العام وأحد الخاصّين وبين الخاصّ الآخر ، ضرورة أنّ تخصيص العامّ بكلا هذين المخصّصين يوجب عدم بقاء فرد له بناء على نفي الواسطة بين الفاسق والعادل ، وقلّة الباقي بناء على ثبوت الواسطة.

والسرّ في تحقّق المعارضة هو أنّ العامّ ظاهر في العموم لكنّه نصّ في بعض أفراده ، فعدم إبقاء تلك الأفراد حينئذ يوجب المعارضة ، لاستحالة صدور العامّ والمخصّصين معا من المولى الحكيم وهو واضح. وحينئذ فينبغي الرجوع إلى مرجّحات باب

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ٣٠١.

٧٦٥

التعارض ، لكن حيث إنّ التعارض ليس بين العامّ وكلّ واحد من الخاصّين ، بل بين العامّ وكلا المخصّصين (بمعنى أنّا نعلم بكذب واحد من هذه الأدلّة الثلاثة ، فإمّا أن يكون هو العامّ فالخاصّان صادقان ، وإمّا أن يكون أحد الخاصّين فالعامّ والخاصّ الثاني صادق ، فالكاذب واحد من هذه الثلاثة) (١).

فينبغي أن تلاحظ المرجّحات بين العامّ منضمّا إلى أحد المخصّصين وبين المخصّص الثاني ، وحينئذ فإمّا أن يكون العموم أرجح من المخصّصين ، أو يساويهما ، أو يكون المخصّصان أرجح ، أو يكون العموم أرجح من أحدهما ومساويا للثاني ، أو يكون الثاني أرجح منه.

ففي الصورة الاولى يؤخذ بالعموم ويطرح أحد المخصّصين تخييرا إن لم يكن بينهما ترجيح وإلّا فخصوص المرجوح ، لأنّ الكاذب أحدهما ولا يطرح المخصّصان معا.

وفي الثانية يتخيّر في تقديم العموم أو المخصّصين فإن قدّم العموم تخيّر في المخصّصين وتقديم أيّهما على الآخر ، وإن قدّمهما طرح العموم كليّة.

وفي الثالثة يطرح العموم ويعمل بكلا الخاصّين.

وفي الرابعة يتقدّم العموم والمخصّص المساوي له.

وفي الخامسة يؤخذ بالمخصّص الأرجح ويتخيّر بين العامّ والخاصّ المتساويين ، فافهم وتأمّل.

وبالجملة ، فحيث إنّ التعارض يقع بين كلّ اثنين من هذه الأدلّة الثلاثة والثالث إذ صدق العموم مع صدق المخصّصين معا مستحيل ، فالعامّ مع أحد المخصّصين معارض للمخصّص الثاني ، والعامّ مع المخصّص الثاني معارض للمخصّص الأوّل ، والمخصّصان معا معارضان للعامّ.

فحينئذ ظهر ما في كلام صاحب الكفاية في المقام (٢) من أنّه إذا كان أحد

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٥١٥ ـ ٥١٦.

٧٦٦

المخصّصين أرجح من العامّ والثاني أضعف من العامّ فإنّه ذكر أنّه يتخيّر حينئذ بين العموم والمخصّصين ، إذ المعارض إنّما هو هما معا ولم يترجّحا عليه كما لم يترجّح عليهما ، ثمّ إن قدّم العام تخييرا تحقّقت المعارضة بين الخاصّين حينئذ.

ولا يخفى أنّ هذا يتمّ لو لم يكن بين العامّ وأحد الخاصّين وبين الخاصّ الثاني معارضة ، وإلّا فمقتضى ما ذكرنا تقديم الراجح والعامّ وطرح المرجوح من الخاصّين ، إذ يكفي في رفع التعارض رفع اليد عن أحد هذه الأدلّة ، وما ذكرناه بحسب الظاهر واضح ، فافهم.

وأمّا إذا كانت النسبة بين الخاصّين العموم من وجه كأن يقول : أكرم العلماء ، ثمّ يرد : لا تكرم فسّاق العلماء ، ثمّ يرد : لا تكرم النحوي من العلماء ، مع أنّ بعضهم فاسق ففي هذا المثال وأشباهه هل يخصّص العامّ بأحد الخاصّين ثمّ تلحظ النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر أم أنّهما يخصّصان العامّ معا؟ الظاهر الثاني ، لأنّ كلّا من الخاصّين نسبته إلى العامّ نسبة العموم والخصوص ولا تلحظ النسبة بين الخاصّين في المقام أصلا.

وربّما يقال بأنّ الخاصّ الوارد أوّلا وهو : لا تكرم فسّاق العلماء ، باعتبار تقدّمه زمانا يرفع الظهور الاستعمالي من العامّ ويكشف عن عدم تطابق الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعماليّة فيخرج حينئذ العامّ عن الحجّية ، فيكون الخاصّ الثاني حينئذ معارضته من قبيل معارضة الحجّة باللاحجّة ، فلا بدّ من ملاحظته بعد التخصيص حتّى يصير حجّة في الباقي فتنقلب حينئذ النسبة.

ولا يخفى عليك ضعفه من جهة أنّ التقدّم الزماني إنّما هو في ورود المخصّص ووصوله وإلّا فالمخصّصات جميعا زمان حدوثها واحد ، وإنّما تتأخّر وتقدّم بحسب وصولها وإلّا فبيانها لامناء الوحي واحد لا تقدّم فيه لبعض على بعض ، وحينئذ فلا وجه لتقديم بعض على بعض ، وحينئذ فهما خاصّان فيتقدّمان لتخصيص العموم لكشفهما عن عدم تطابق الإرادة الاستعماليّة مع الإرادة الجدّية ، نعم لو كان تخصيص العامّ بهما ممّا يوجب عدم المورد للعامّ أو قلّته اتّجه التعارض الآنف ذكره ويأتي فيه الكلام المتقدّم فلا نعيده.

٧٦٧

وأمّا إذا كان بينهما أي بين الخاصّين عموم وخصوص مطلق مثل أن يرد : «لا ضمان في العارية» (١). ثمّ يرد : «أنّ في عارية الدرهم والدينار ضمانا» (٢) ويرد : «أنّ في عارية الذهب والفضّة ضمانا» (٣). فهل يخصّص العامّ بالأخصّ أوّلا ثمّ تلحظ النسبة بينه بعد التخصيص وبين الخاصّ الآخر فتنقلب النسبة إلى العموم من وجه أو أنّه يخصّص بالخاصّ ، ويكون الأخصّ حينئذ داخلا في الخاصّ؟ الظاهر الثاني ، لعين ما تقدّم من كشف الخاصّ عن عدم تطابق الإرادة الاستعماليّة للإرادة الجدّية فيخصّص ذلك العموم بالخاصّ ، وحينئذ فالأخصّ من جملة مصاديق الخاصّ.

نعم ، ربّما يقال بأنّه أيّ وجه لتخصيص الدرهم والدينار بالذكر دون بقيّة الأفراد؟ ويجاب بأنّه ربّما يكون لخصوصيّة السؤال عنه أو لغير ذلك ككونه أكثر تداولا أو غير ذلك ، ولو سلّم انتفاؤها فالإشكال مبنيّ على القول بحجّية مفهوم اللقب أو الوصف الغير المعتمد وكلاهما باطلان ، نعم لو كان أحد الخاصّين كالأخصّ مثلا متّصلا بذلك العموم لانقلبت النسبة حينئذ قطعا لتقيّد موضوع عدم الضمان بغير الدرهم والدينار ، كأن يقول : لا ضمان في عارية غير الدرهم والدينار ، فالتخصيص بالذهب والفضّة ممّا يوجب كون النسبة هي العموم من وجه لاجتماعهما في الحليّ فيتساقطان ويرجع إلى دليل آخر.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرناه من انقلاب النسبة إذا كان الأخصّ متّصلا إنّما هو مسلّم حيث لا عموم آخر غير مقيّد ، وأمّا إذا كان عموم آخر كأن يكون عندنا : لا ضمان في العارية وخبر آخر : «لا ضمان في عارية غير الدرهم والدينار» وخبر الثالث : «في عارية الذهب والفضّة ضمان» فقد وقع في المقام كلام لا بأس بالتعرّض له.

__________________

(١) انظر الوسائل ١٣ : ٢٣٥ ، الباب الأوّل من كتاب العارية ، الحديث ١ و ٢ و ٣ و ٦ و ٧ و ٨ و ١٠.

(٢ و ٣) انظر المصدر السابق : الباب ٣.

٧٦٨

ذهب الميرزا النائيني إلى كون العامّ أيضا طرفا للمعارضة بوجهين :

الأوّل : أنّ العامّ الفوقاني يخصّص بالدرهم والدينار لاتّفاق الخاصّين على ضمانه فتنقلب النسبة حينئذ إلى العموم من وجه ، وحينئذ فيكون من صغريات ما إذا كان بين الخاصّين عموم من وجه فيخصّص العامّ بهما (١).

الثاني : أنّ أحد الخاصّين مبتلى بمعارضه فلا يكون مخصّصا فلا بدّ من كونه أحد أطراف المعارضة والعموم أحد أطرافها أيضا.

ولا يخفى عليك ما في كلامه قدس‌سره فإنّ ما ذكره من اندراجه تحت ما إذا كان بين الخاصّين عموم من وجه وتخصيص العامّ بكلا الخاصّين غير صحيح ، لأنّ ذلك إنّما هو في الخاصّين اللذين بينهما عموم من وجه ولا معارضة بينهما بحسب الحكم ، أمّا في المقام فالمعارضة بينهما بحسب الحكم في خصوص غير المسكوك فإنّ مقتضى قوله : «لا ضمان في عارية غير الدرهم والدينار» عدم الضمان في الحلي وقوله : «في عارية الذهب والفضّة ضمان» مقتضاه ثبوت الضمان في الحلي. فإذا كان بينهما معارضة بحسب الحكم فكيف يخصّص العموم بهما؟ بل لا بدّ من إعمال قواعد التعارض بالعموم من وجه بين الخاصّين نفسهما من التساقط في مورد الاجتماع المتنافي وهو الحليّ مع عدم المرجّح الدلالي ، فنرجع حينئذ إلى العموم وهو لا ضمان في العارية في مورد التنافي وهو الحليّ ، ومع عدم العموم فيرجع إلى الأصل العملي وهو البراءة ، ومع وجود المرجّح الدلالي أو الرجوع إلى المرجّحات السنديّة فيتقدّم ما هو الأرجح ويخصّص به العموم أو يرجع إليه دون الأصل إن لم يكن عموم.

وبالجملة ، إنّما يرجع إلى العموم في المخصّصات حيث إنّها أظهر دلالة مع فرض حجّيته فتكشف عن عدم تحقّق الإرادة الجدّية على طبق الإرادة الاستعماليّة ، ومع ابتلاء المخصّص بالمعارض يخرج عن الحجّية فكيف يخصّص به العامّ؟

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ٣٠٢.

٧٦٩

وأمّا ما ذكره الميرزا أخيرا من أنّ ابتلاءه بالمعارض يوجب أن لا يخصّص العام (١) فكلام متين إلّا أنّه لا يلازم كون العامّ طرفا للمعارضة ، (بل يجري بين الخاصّين علاج التعارض ثمّ تؤخذ النتيجة فيخصّص بها العموم ، وهذا هو الفارق بين المقام وبين ما إذا كان الخاصّان بينهما عموم مطلق وكانا متّفقين في الحكم مثل : لا تصلّ خلف شارب الخمر ، ولا تصلّ خلف الفاسق ، فإنّ اتّفاقهما في الحكم أوجب تخصيص العامّ بهما معا بخلاف المقام) (٢) ، فافهم.

ثمّ إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى ما هو الحقّ في مبحث العارية من ناحية الأدلّة الواردة فنقول : إنّه قد ورد في بعض الروايات ما مضمونه أنّه لا ضمان في العارية إذا لم يشترط إلّا في الدرهم. وورد أيضا : لا ضمان في العارية إذا لم يشترط إلّا في الدينار ، فبعد تخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر يصير حاصلهما استثناء الدرهم والدينار متّصلا ، فهما بحكم الخبر الواحد نتيجة فهما حينئذ مخصّص متّصل.

وهناك أخبار أخر مثبتة للضمان في مطلق الذهب وبينهما حينئذ تعارض كما ذكرنا في خصوص غير المسكوك وهو الحليّ.

وهناك أخبار نافية للضمان من مطلق اليد الأمانيّة فبعد إجراء معاملة التعارض بالعموم من وجه بين المخصّصين وتساقطهما في مورد الاجتماع كما ذكرنا يرجع في مورد التعارض إلى العموم اللفظي فيحكم بعدم الضمان ، وقد حكم الميرزا النائيني قدس‌سره بتخصيص تلك العمومات اللفظيّة بكلا المخصّصين (٣) ، وقد عرفت ما فيه.

نعم ذكر الميرزا في دورته السابقة أمرا لا بأس به وهو أنّ عارية الدرهم والدينار نادرة لعدم الفائدة باستعارته إلّا نادرا (٤) ، وحينئذ فلا يصلح حمل المطلق

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ٣٠٤.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٣) انظر أجود التقريرات ٤ : ٣٠٦.

(٤) فوائد الاصول ٤ : ٧٥٢.

٧٧٠

وهو لا ضمان في عاريّة الذهب والفضّة عليه ، وحينئذ فهذا من جملة مرجّحات باب تعارض العموم من وجه أنّه لو حمل الإطلاق على أحدهما يبقى الثاني قليل المورد ، فيرجّح حينئذ عموم ثبوت الضمان في الذهب والفضّة كلّية فيخصّص به العموم الأوّلي فيحكم حينئذ بالضمان في مطلق عارية الذهب والفضّة ، إلّا أنّ هذا شيء خاص بالمقام والقاعدة الكلّية هي ما ذكرنا.

هذا تمام الكلام في تعارض العامّ ومخصّصاته حيث تكون المعارضة بين أكثر من دليلين ، وأمّا إذا ورد دليلان عامّان بينهما عموم من وجه ، كما إذا ورد يستحبّ إكرام العلماء ، وورد أيضا : يكره إكرام الفسّاق ، فبين هذين الدليلين عموم من وجه ومورد اجتماعهما هو العالم الفاسق ، فهو بموجب العموم الأوّل مستحبّ الإكرام ، وبموجب الثاني مكروه الإكرام ، فإذا ورد مخصّص فتارة يكون المخصّص مخصّصا لمورد الاجتماع فيخرج الدليلان عن كونهما متعارضين ، وتنقلب النسبة من العموم من وجه إلى التباين في الحكم لتباين الموضوع ولا تعارض حينئذ ، وذلك كما إذا ورد مثلا يباح إكرام العالم الفاسق ، فالعالم الفاسق محكوم بإباحة إكرامه فيخرج من العموم المثبت لاستحباب إكرام العالم ، وبكون العامّ مثبتا لاستحباب إكرام العادل ، كما أنّ العالم الفاسق يخرج من كراهة إكرام الفاسق فيختصّ العموم المثبت للكراهة بالفاسق الغير العالم ، وحينئذ فموضوع كلّ من العامّين بعد التخصيص مباين لموضوع الآخر ولا ربط بينهما ، فهو كقولنا : الماء مباح والخمر حرام فقد انقلبت النسبة إلى التباين حكما ، لتباين الموضوع بين العمومين بعد أن كانت عموما من وجه ، وهذا من أظهر موارد انقلاب النسبة.

وتارة يكون المخصّص مخصّصا لمورد الافتراق من أحد العامّين وهو على قسمين :

فإنّه قد يخصّص مورد الافتراق كلّه فتنقلب النسبة إلى عموم وخصوص مطلق كأن يرد في المثال : يجب إكرام العالم العادل ، فيخرج من عموم : يستحبّ إكرام

٧٧١

العالم ، ويختصّ استحباب إكرام العالم الّذي هو مؤدّى العامّ بغير العادل ، فحينئذ تنقلب النسبة بين العامّين من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، إذ يكون مؤدّى العامّ المخصّص : يستحبّ إكرام العالم الغير العادل ، فيخصّص : يحرم إكرام الفسّاق ، بغير العلماء.

وقد يخصّص بعض مورد الافتراق فتبقى النسبة عموما من وجه كما كانت ، كما إذا ورد : يجب إكرام العادل الهاشمي العالم ، إذ يبقى حينئذ تحت العموم العالم العادل الغير الهاشمي والعالم الهاشمي الغير العادل ، ففي العالم الهاشمي الغير العادل يكون مورد الاجتماع.

وثالثة يكون المخصّص مخصّصا لكلا العامّين ومخرجا لجميع أفراد مورد الافتراق بحيث لا يبقى تحت العامّين إلّا مورد الاجتماع ، كما إذا ورد في المثال المذكور في العامّين : يجب إكرام العالم العادل ، وورد : يحرم إكرام الجاهل الفاسق ، فلم يبق تحت العمومين إلّا العالم الفاسق ، فتنقلب النسبة من العموم من وجه إلى تعارض المباينة ، إلّا أنّ الكلام في أنّ إجراء عمليّة التعارض يكون بين خصوص العامّين أو بينهما وبين الخاصّين أيضا؟ صريح كلام الميرزا النائيني قدس‌سره الأوّل (١) والظاهر الثاني ، إذ نحن نعلم بكذب أحد هذه الأدلّة الأربعة العامّين والخاصّين فينبغي إجراء عمليّة المعارضة بين الجميع ، فافهم.

وإن كان بين العامّين تباين بحيث كان الموضوع واحدا وقد حكم عليه بأحد العامّين بحكم وفي العام الثاني بحكم آخر ، كما إذا ورد : يجب إكرام العالم ، ثمّ ورد : لا تكرم العالم ، فإذا ورد بعد ذلك مخصّص لأحدهما كأن ورد : أكرم العالم العادل ، قيّد إطلاق لا تكرم العالم بما إذا كان عادلا ، فيكون أخصّ فيخصّص العام الثاني ، إذ يصير حينئذ لا تكرم الفاسق العالم فيخصّص به عموم يجب إكرام العالم.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

٧٧٢

وإن ورد مخصّص لكلا العامّين المتباينين ، كما إذا ورد أنّه لا بدّ من التعدّد في غسل النجس ، وورد مخصّص له بأنّه لا يعتبر التعدد في الجاري ، وورد عامّ آخر يدلّ على عدم اعتبار التعدّد وخصّص بخصوص القليل فتقع المعارضة في الكرّ ، فأحدهما يعتبر التعدّد في الغسل فيه والآخر ينفيه ، فيرجع حينئذ إلى ما تقتضيه القاعدة المسطورة الآتية إن شاء الله تعالى ، فافهم. هذا تمام الكلام في صور المعارضة بين أكثر من دليلين ، وهناك صور أخرى يظهر حكمها ممّا تقدّم.

[مرجّحات باب التعارض]

فلنتكلّم الآن في مرجّحات باب التعارض ونقدّم مرجّحات التعارض بنحو التباين على مرجّحات التعارض بنحو العموم من وجه فنقول وبالله الاستعانة :

إنّ الدليلين المتعارضين بنحو التباين مثل : «بيع العذرة سحت» (١). و : «لا بأس ببيع العذرة» (٢).

قد يكونان مقطوعي الصدور كما إذا كانا متواترين مثلا فلا ريب في أنّ التعارض يكون بين ظهوريهما ، ضرورة أنّه يستحيل أن يراد كلا الظهورين لفرض أنّ إرادة ظهور أحدهما تنفي إرادة ظهور الآخر ، فيكون التعارض بين الظهورين فيسقط الظهوران عن الحجّية.

وقد يكون أحد المتعارضين مقطوع الصدور والآخر مظنونه كما إذا كان أحدهما متواترا والآخر خبر واحد موثّق ، فمقتضى القاعدة أنّه يقع التعارض بين سند غير المتواتر وظهور المتواتر فيسقطان عن الحجّية ، ولكن هناك أخبارا تقتضي الأخذ بما هو موافق للسنّة القطعيّة وطرح الآخر فيؤخذ المتواتر حينئذ بموجبها ويطرح الآخر.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ١٢٦ ، الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١٢ : ١٢٦ ، الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٣.

٧٧٣

وقد لا يقطع بصدور أحدهما ، وحينئذ (فربّما يقال : إنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح فيحمل أحد الخبرين على فرد ويحمل الآخر على فرد آخر ، مع أنّ هذه القاعدة ليس فيها إلّا تنسيق الألفاظ ، ضرورة أنّ هذا الجمع هو الجمع التبرّعي الّذي لا شاهد عليه ، مع أنّه ليس جمعا بينهما بل طرح لهما لطرح إطلاقهما ، فهو في الحقيقة داخل تحت (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١).

وبعبارة اخرى أنّا نعلم أنّ هذين الظهورين ليسا مرادين جزما إلّا أنّ إرادة هذا الجمع المذكور بهذا التأويل أيضا غير معلوم) (٢). فهل يرجع إلى المرجّحات لزوما من الامور المذكورة في الأخبار من كونه مخالفا للعامّة أو أعدل أو أوثق ، فإن فقدت فالتخيير ، أو يكون الحكم بالتخيير أوّلا والترجيح بالمرجّحات استحبابي؟ اختار الثاني صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) لإطلاق جملة من الأخبار بالتخيير رأسا وهي ثلاث روايات (٤) وكون روايات الترجيح مختلفة في تقديم بعض المرجّحات في بعضها وتقديم الآخر في بعض وغير ذلك من أمارات الاستحباب.

وقد ذكر الآخوند أنّ الأخبار على أربعة طوائف : وهي أخبار التوقّف والاحتياط والتخيير والترجيح ، فأمّا أخبار التوقّف فإن أراد أخبار : «قف عند الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٥). بدعوى أنّ مورد تعارض الخبرين من موارد الشبهة أيضا ، ففيه أنّ أخبار التخيير حاكمة ورافعة للشبهة على تقديرها ، وإن أراد قوله في ذيل بعض الأخبار : «فأرجه حتّى تلقى

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٣) كفاية الاصول : ٥٠٢.

(٤) الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ و ٤٤.

(٥) الوسائل ١٨ : ٨٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥.

٧٧٤

أمامك» (١). فمعلوم أنّ الإرجاء إنّما كان لأنّه لا معنى للتخيير فيها ، لأنّها لبيان حكم الخصمين ، والتخيير يوجب أن يختار كلّ من الخصمين ما يلائمه فمن هنا أمر الإمام عليه‌السلام بالتأخير إذ لا معنى للتخيير فيها. وإن أراد خبر سماعة بن مهران الّتي امر فيها بالتوقّف ابتداء (٢) فمع الغضّ عن ضعف سندها كمقبولة ابن حنظلة (٣) ظاهرة في حضور الإمام عليه‌السلام لا في زمن غيبته.

ثمّ إنّ الميرزا قدس‌سره (٤) جمع بين أخبار التوقّف وأخبار التخيير بأنّ أخبار التوقّف آمرة بالردّ إليهم عليهم‌السلام وهو مختصّ بزمان ظهورهم ، فنقول بأنّ أخبار التوقّف إنّما هو في زمن ظهورهم وأخبار التخيير في زمن غيبتهم عليهم‌السلام وذكر أنّ هذا هو مقتضى الجمع بين الأخبار مضافا إلى عدم ظهور قائل بالتخيير زمن حضورهم عليهم‌السلام.

ولا يخفى أنّ ما ذكره غير تامّ ، لأنّ أخبار التخيير صريحة في كون التخيير زمن حضورهم ، فإنّ صريح خبر الحرث بن المغيرة زمن الحضور لقوله فيها : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فتردّ عليه» (٥) ، فتأمّل.

ولو لم يكن فيها صراحة بالتخيير زمن الحضور فهو المتيقّن من إطلاقها ، إذ تخيير المخاطب قطعي وتخيير من يأتي بعده زمن الغيبة إنّما هو بدليل الاشتراك.

ولا يهمّنا البحث في التوقّف ، لأنّه على تقدير القول به فإنّما هو زمن حضورهم عليهم‌السلام لا زمن الغيبة ، للإجماع على عدم التوقّف زمن غيبتهم وظهور أخبار التوقّف بل صراحتها في زمن الحضور ، فافهم.

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث الأوّل.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٥.

(٣) الوسائل ١٨ : ٨٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥.

(٤) انظر فوائد الاصول ٤ : ٧٦٤.

(٥) الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

٧٧٥

وما ذكره السيّد الصدر من التخيير (١) ليس خرقا للإجماع ، لأنّه قدس‌سره ذهب إلى التخيير العملي بعد التوقّف في الفتوى ، فليس قائلا بالتخيير بين الروايات في مقام الفتوى كي يكون موافقا لصاحب الكفاية قدس‌سره فانحصر القائل بالتخيير الابتدائي به قدس‌سره.

وكيف كان ، فالأولى ما ذكرناه من أنّ خبر التوقّف إنّما امر فيه بالتوقّف ، لأنّه مورد خصومة والتخيير لا يقطعها قطعا ، ولو كان هناك خبر يقضي بالتوقّف يطرح في قبال الأخبار الآمرة بالترجيح والتخيير.

وأمّا الأخبار الّتي تقضي بأخذ الحائطة في الدين ، والظاهر أنّه أراد رواية غوالي اللآلي الّتي رواها ابن أبي جمهور الأحسائي قال فيها ـ بعد ذكر جملة من المرجّحات ـ : «خذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر» (٢). وهذه الرواية مع خلوّ بقيّة الأخبار عن ذلك مطروحة للطعن في غوالي اللآلي ومؤلّفه كما هو مشهور ، مضافا إلى أنّا لو وجدناها في كتب العلّامة قدس‌سره لا نعمل بها ، لأنّها مرسلة عن زرارة ولم يذكر رجال سندها ، فكيف ولم توجد في كلامه قدس‌سره حسب التفحّص.

فلم يبق إلّا طائفتان من الأخبار إحداهما المخيّرة مطلقا ، والثانية المرجّحة ، والروايات المرجّحة بعضها مشتملة على مرجّح واحد وبعضها على اثنين وبعضها على أكثر ، وأجمع الروايات المرجّحة المقبولة لعمر بن حنظلة (٣) ، ومرفوعة زرارة (٤) ، مع أنّ بينهما اختلافا في تقديم الشهرة على صفات الراوي وتأخيره عنها ،

__________________

(١) شرح الوافية : ٥٠٠.

(٢) غوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩.

(٣) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٤) غوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩ ، رواه في المستدرك : ج ٣ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ نقلا عنه والحدائق ١ : ١٣ عنه أيضا.

٧٧٦

ففي المقبولة تأخّر ترجيح الشهرة ، وفي المرفوعة تقدّم على ذكر صفات الراوي والترجيح للاولى دون الثانية ، لأنّ الأصحاب هجروها لما تقدّم. ولا يتوهّم أنّ ذهاب المشهور إلى تقديم الشهرة لا جابر لها لتصريحهم بعدم اعتبارها.

فأجمع الروايات من حيث الترجيح هي المقبولة ، لكنّ الكلام في أنّ الترجيح لازم أم لا ، بل الحكم هو التخيير ابتداء والترجيح أفضل كما نسبناه إلى صاحب الكفاية (١) استنادا إلى إطلاق روايات التخيير ، وقد استشهد لذلك بامور :

الأوّل : الاختلاف الكثير في أخبار الترجيح وقد ذكرنا أنّ غير المقبولة مطروح لمقبوليّتها وعدم مقبوليّته ، مضافا إلى قيام إجماع الإماميّة إلى عدم التخيير ابتداء حتّى الكليني ، فإنّ ظاهر عبارته التخيير بعد فقد ثلاث مرجّحات ذكرها قدس‌سره (٢).

الثاني : أنّ جملة من المرجّحات مرجّحات بين الحجّة واللاحجّة ، وهي ما خالف كتاب الله وما وافق العامّة ، فإنّ الأوّل ليس بحجّة مع قطع النظر عن المعارضة ، لما ورد من أنّ «ما خالف قول ربّنا لم نقله ، وزخرف وباطل» (٣) وغيرها (٤).

وأمّا الثاني فكذلك ، ضرورة أنّه مع صدور المخالف يقطع أو يطمئنّ بصدور المخالف ، فيكون الموافق إمّا غير صادر أو صادر للتقيّة.

ولا يخفى ما فيه أيضا ، فإنّ صريح الروايات بعد أن رجّح فيها الخبرين بجملة من المرجّحات الظاهر في وجدانهما لشرائط الحجّية رجّح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة. وما ورد من أنّه «زخرف باطل» إنّما هو غير هذه المخالفة ، وهي في مقام

__________________

(١) انظر الكفاية : ٥٠٦.

(٢) انظر الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

(٣) الوسائل ١٨ : ٧٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ و ١٤ و ١٥ ، والمحاسن : ١ : ٣٤٧ ، الحديث ١٢٧ و ١٢٨ و ١٢٩.

(٤) انظر المصادر المتقدمة.

٧٧٧

حجّية الخبر الواحد مع قطع النظر عن وجود المعارض وعدمه فالمخالفة فيه بمعنى المباينة ، وهذا بخلاف الموافقة والمخالفة هنا في باب المرجّحات ، فإنّ المراد منها الموافقة والمخالفة بالعموم والخصوص ، للقطع بصدور المخصّص والمقيّد لعموم الكتاب أو إطلاقه منهم عليهم‌السلام.

فإذا ورد مثلا : «نهى النبي عن بيع الغرر» (١) وورد أيضا : «لا بأس ببيع الغرر» (٢) فتتقدّم الثانية لموافقتها ، لعموم (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٣) مثلا ، فافهم.

وأمّا ما ذكره في موافق العامّة ومخالفها فغريب جدّا من مثله ، إذ الموافق للعامّة من أين يقطع أو يطمئنّ بعدم صدوره أو ظهوره؟ أليس من المحتمل قويّا كون الموافق هو الصادر والمخالف غير صادر.

وبالجملة ، فما ذكره هنا واضح الضعف ، فافهم وتأمّل.

الثالث من الوجوه الّتي ذكرها الآخوند قدس‌سره (٤) إطلاق روايات التخيير الابتدائي وأنّ كون هذه الروايات مقيّدة لها يقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو قبيح ، مضافا إلى أنّ التقييد يوجب عدم المورد لروايات التخيير أو قلّته بنحو تقبح انتهاء التقييد إليه.

والجواب أنّ ما ذكره أوّلا ـ من لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة وقبحه ـ فهذا وارد في جميع المقيّدات المنفصلة وليس خاصّا في خصوص المقام ، والجواب عنه في الجميع واحد ، وهو أنّ تأخير البيان وإن كان قبيحا إلّا أنّه ليس نظير الظلم

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ٤٦ ، الحديث ١٦٨ ، وفتح الباري ٤ : ٣٥٧.

(٢) انظر فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٤ : ٣٥٧ ، وفيه : روى الطبري عن ابن سيرين بإسناد صحيح قال : لا أعلم ببيع الغرر بأسا.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

(٤) راجع الكفاية : ٥٠٣ ـ ٥٠٧.

٧٧٨

في عدم قابليّته للتخصيص ، فإنّه مثل الكذب الّذي هو واجد لمقتضي القبح ، غير أنّه قد يقترن ذلك المقتضي بالمانع فلا يؤثّر القبح ، كالصلح بين المتباغضين المعبّر عنه بإصلاح ذات البين ، فكذا تأخير البيان فإنّه لمصلحة ما وإلّا فلا يمكن جميع التقييدات بالمقيّدات المنفصلة كلّية ، وهذا لا يلتزم به أحد من فقهاء الإماميّة.

وما ذكره ثانيا : من بقاء القليل موردا له ففيه : أنّ كثيرا من الأحكام غير موجودة في الكتاب ولا معلوم فيه رأي العامّة ولا معروفة الراوي بالأعدليّة وغيرها من صفاته فلا يلزم حينئذ قلّة المورد كما ادّعى.

نعم ، لو تسرّينا إلى مطلق المرجّح ولم نقتصر على خصوص المنصوص كان لما ذكره وجه وجيه.

الرابع : أنّ مورد روايات الترجيح هو الخصومات فلا يسري إلى غيرها ، مضافا إلى ضعفها.

والجواب : أنّ المقبولة وإن كانت في مورد رفع الخصومة إلّا أنّها بصراحتها دالّة على الترجيح في الرواية من حيث إنّها رواية لا من حيث إنّها واردة في موارد الخصومة كما هو واضح لمن لاحظها ، هذا كلّه مضافا إلى أنّ كثيرا من الروايات قد ذكرت موافقة الكتاب والسنّة فقط ، وبعضها اشتملت على ذكر مخالف العامّة أيضا ، وبعضها اقتصرت عليه فقط من دون تعرّض لخصومة فيها أصلا.

نعم ، أجمع الروايات على ذكر المرجّحات هما المقبولة (١) والمرفوعة (٢) وتقدّم المقبولة على المرفوعة في مورد الخلاف لما تقدّم ، فافهم.

ثمّ إنّه بعد أن ثبت لزوم الترجيح وعدم الرجوع إلى التخيير فيقع الكلام في مرجّحات الرواية وعددها فنقول :

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) غوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩.

٧٧٩

في مرجّحات الرواية وعددها

قد ذكرنا أنّ أجمع الروايات لذكر المرجّحات هي المقبولة والمرفوعة فنقول : أمّا المقبولة فقد ذكرت أوّل شرائط الرواية «الشهرة» وما قدّمتها من الصفات إنّما هي مرجّحات للحكم والحاكم لا للرواية ، فالمقبولة قد صدرت مرجّحات الرواية بالشهرة.

وفي المرفوعة قد ذكرت بعد الشهرة مرجّحات الراوي من الأعدليّة والأوثقيّة.

ولا يخفى عليك أنّ المرفوعة مع ضعفها بما مرّ يزيدها وهنا أنّ الترجيح بصفات الراوي لم يكن معهودا قبل زمن العلّامة ، بل إنّ تقسيم الروايات إلى صحيح وموثّق وحسن وضعيف إنّما أسّسه العلّامة قدس‌سره (١) ولم يكن معروفا قبل ، ولذا لم يذكر الكليني في ديباجة الكافي الترجيح بغير ما في المقبولة أصلا (٢).

والاعتذار عنه بأنّه بان على صحّة جميع ما في الكافي (٣) لا يرفع الإيراد ، لأنّه لا يرى تساوي جميع الرواة لهذه الروايات المودعة فيه قطعا وإن اتّصفت بالصحّة ، فإنّ الصحّة إنّما يفتقر فيها إلى العدالة والكلام في الأعدليّة والأورعيّة.

كما أنّ الاعتذار بأنّ المتقدّمين على العلّامة لم يذكروا الترجيح بصفات الراوي لظهوره (٤) فاسد أيضا ، فإنّه ليس بأظهر من موافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، قد ذكرا مع وضوحهما ، مضافا إلى أنّ إطلاق المقبولة يلغي اعتبار الأعدليّة والأصدقيّة في الراوي ، فإنّ الأخذ بما حكم به أفقههما وأعدلهما وأصدقهما في الحديث شامل بإطلاقه لما إذا كان راوي روايته عادل ، وراوي رواية غير الأفقه والأعدل أفقه وأعدل وأصدق ، فافهم.

__________________

(١) انظر المنتهى ١ : ٩ ـ ١٠ ، والحدائق ١ : ١٤.

(٢) انظر الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

(٣) انظر الفوائد المدنية : ٥٠.

(٤) انظر الوسائل ٢٠ : ٩٦ ـ ١٠٤ ، الفائدة التاسعة.

٧٨٠