غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

المقدّمة الثانية : أنّ الشيخ الأنصاري ذكر في بعض كلماته في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي أنّ الحكم الواقعي مجعول للشيء مطلقا والظاهري مجعول للشيء بقيد الشكّ (١).

وأورد عليه الآخوند قدس‌سره بلزوم التناقض في فرض الشكّ (٢) إذ الحكم الواقعي موضوع للشيء مطلقا فهو شامل لصورة الشكّ فيجتمع كلا الحكمين فيها.

وقد ذكرنا في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي أنّ الحكم ليس إلّا عبارة عن الاعتبار وأن ليس بين الاعتبارين لشيء واحد تناقض إلّا أن يكون التناقض في ناحية المبدأ وهي المصالح والمفاسد أو ناحية المنتهى وهي ناحية الامتثال وبلوغ كلا التكليفين مرتبة الفعليّة.

وقد ذكرنا أنّ الحكم الظاهري ليس تابعا لمصلحة في المتعلّق بل لمصلحة في الجعل نفسه بخلاف الحكم الواقعي ، فالحكم الظاهري والواقعي في ناحية المبدأ لا تضادّ بينهما وكذا في ناحية الامتثال ؛ لأنّ الحكم الظاهري إنّما يصل إلى مرتبة الفعليّة في صورة الشكّ في الحكم الواقعي. فلا يعقل اجتماعهما في مقام الامتثال أصلا ، إذ كون الحكم الواقعي واصلا لا يبقي مجالا للحكم الظاهري إذ حينئذ يرتفع موضوعه.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين عرفت أنّ شمول أدلّة الاصول لأحد أطراف العلم الإجمالي مشروط بترك الآخر عند التحليل يؤدّي إلى الترخيص في الخمر المحرّم مع بقاء حرمته ؛ وذلك لأنّه يؤدّي إلى الترخيص في شرب الماء عند ترك الخمر ، كما يؤدّي إلى الترخيص في شرب الخمر على تقدير ترك الماء مع بقاء حرمة الخمر ، ومثل هذا الترخيص قبيح من المولى ، لوصول كلا الحكمين في المقام ، لأنّا نعلم

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ١١.

(٢) انظر درر الفوائد : ٦٩.

٣٤١

بحرمة الخمر الموجود بين هذين الإناءين ونعلم بحلّيته عند ترك الإناء الثاني مع بقاء حرمته ، فكلا الحكمين واصلان فلا يقاسا بالحكم الظاهري والواقعي فإنّ أحدهما غير واصل بخلاف المقام.

ويمكن تقرير وجه آخر لعدم جريان أدلّة الاصول في أحد الأطراف عند ترك البقيّة بأن يقال : إنّ الخمر الموجود بين هذين الإناءين محرّم مطلقا فحرمته المطلقة هي المعلومة بالعلم الإجمالي ، وجريان الاصول لو قيل بشمول أدلّتها للمقام يقتضي إباحة كلّ منهما وهو مناف للمعلوم الإجمالي ، وحلّية أحدهما عند ترك الآخر لا تقتضيه أدلّة الاصول أصلا.

فقد ظهر أنّ جريان الاصول في بعض الأطراف كجريان الاصول في جميع الأطراف ممتنع ، فوجوب الموافقة القطعيّة كحرمة المخالفة القطعيّة ثابتة. فما نسب إلى المحقّق القمّي قدس‌سره من جريان الاصول في بعض الأطراف فتكفي الموافقة الاحتماليّة (١) ممّا لا يساعد عليه الدليل.

__________________

(١) انظر قوانين الاصول ٢ : ٢٥.

٣٤٢

تنبيهات العلم الإجمالي

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّ الموافقة القطعيّة واجبة سواء حرمت المخالفة القطعيّة أم لم تحرم ، كما إذا علم بحرمة الجلوس في أحد غرفتين في وقت خاصّ ، فهنا المخالفة القطعيّة ليست بمحرّمة لعدم إمكانها ، ولكنّ الموافقة القطعيّة واجبة فيها فيجب عليه تركهما. كما أنّه إذا لم يمكن الموافقة القطعيّة تحرم المخالفة القطعيّة ، كما إذا علم بوجوب الجلوس في أحد غرفتين في وقت معيّن ، فهنا لا يمكن الجمع بينهما قطعا فلا تجب الموافقة القطعيّة ، ولكن تحرم المخالفة القطعيّة فليس له أن يتركهما معا ويجلس في مكان آخر في ذلك الوقت المعيّن.

فما ذكره الميرزا قدس‌سره من أنّه إذا لم تجب الموافقة القطعيّة لم تحرم المخالفة القطعيّة ورتّب عليه عدم وجوب الاجتناب في أطراف الشبهة الغير المحصورة (١) لم يساعد عليه البرهان.

التنبيه الثاني : قد عرفت ممّا قدّمنا أنّ تعارض الاصول وتساقطها هي الّتي توجب تنجيز العلم الإجمالي ، فلو لم تجر الاصول في بعض الأطراف لمانع من الموانع فحينئذ يبقى الطرف الآخر لا معارض له فيجري فيه. فمن ذلك ما إذا اضطرّ إلى أحد الأطراف أو خرج أحد الأطراف عن محلّ الابتلاء أو قام هناك دليل شرعي على تعيين النجس أو الحرام ، كما إذا قامت البيّنة على نجاسة الإناء المعيّن فلا مانع من جريان أصالة الطهارة أو الإباحة في الثاني إذ لا معارض له ، وكذا لو وقع قطرة دم في الإناءين المشتبهين أوّلا أو إناء ثالث غيرهما فلا مانع من إجراء الأصل في الإناء

__________________

(١) انظر قوانين الاصول ٢ : ٣٧.

٣٤٣

الثالث ، لأنّ الإناءين محكومان بوجوب الاجتناب من الأوّل ، فوقوع قطرة الدم لا تحدث فيهما أثرا أصلا ، فلا مانع حينئذ من جريان الأصل في الثالث لعدم جريانه فيهما حتّى يعارضانه.

وكذا لو كان أصل تنزيلي يعيّن أحد الأطراف كما إذا علم بخلل في صلاة الصبح المنقضي وقتها أو الظهر الباقي وقتها فقاعدة الفراغ لا تجري للمعارضة ، إلّا أنّ أصالة عدم وجوب القضاء تجري ، كما تجري قاعدة الاشتغال بالإضافة إلى صاحبة الوقت فيأتي بها ، ولا تنافي بين الأصلين النافي والمثبت ، لعدم التكاذب. وكذا لو كان أصلا محضا كقاعدة الطهارة مثلا.

وبالجملة ، المناط كون احتمال التكليف مقرونا بالمؤمّن ، فلو قامت البيّنة على تعيين النجس الواقعي أو الأصل المحرز أو المحض أو غيرها من الأدلّة الشرعيّة لا مانع حينئذ من إجراء أصالة البراءة أو الطهارة في الطرف الثاني لعدم معارضته ، فافهم.

ثمّ إنّ تعارض الاصول وتساقطها الّذي هو معنى تنجيز العلم الإجمالي ، لأنّ احتمال التكليف حينئذ لا مؤمّن له أصلا كما يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي حدوثا يعتبر فيه بقاء ، إلّا أنّه إذا لم يكن حدوثا يعبّر بعدم حصول العلم الإجمالي وإذا كان حدوثا وانعدم بقاء يعبّر بانحلال العلم الإجمالي كما ينحلّ التراب بالماء ، وحينئذ فلو علم بأنّ أحد الإناءين المشتبهين كان بعينه عند تعلّق العلم الإجمالي نجسا بحيث إنّ العلم الإجمالي والتردّد لم يكن بمحلّه ، فهنا لا مانع من جريان الأصل في الطرف الثاني إذ لا يعارضه الأصل في الطرف الآخر. ويكون نظير الشكّ الساري في المعلوم التفصيلي ، كما إذا علم بوقوع قطرة من البول في إناء بخصوصه ثمّ شكّ في أنّ القطرة كانت من البول أم من غيره ، ولا ريب حينئذ في جريان قاعدة الطهارة في الإناء ، لأنّ هذا الشكّ سرى إلى المعلوم النجاسة وأخرجه عن كونه معلوم النجاسة إلى كونه مشكوكها فكذا مقامنا ، لأنّ علمه بنجاسة الإناء الخزفي بخصوصه قبل حدوث العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما لوقوع قطرة البول في أحدهما الغير

٣٤٤

المعيّن مانع عن توجّه التكليف بوقوع القطرة ، إذ من المحتمل وقوع القطرة في الإناء الخزفي فلا يحدث تكليفا آخر ، فيكون الإناء الآخر محكوما بالطهارة لأصالتها من غير أن يكون لها معارض من الطرف الآخر.

وهذا بخلاف ما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ثمّ أتى بالظهر فإنّ شكّه في وجوب الجمعة مع احتمال التكليف المنجّز لعدم المؤمّن يحتمّ عليه الإتيان به ، لأنّ الشكّ في مرحلة الامتثال بعد العلم بالتكليف.

ونظيره في عدم جريان الأصل ما إذا علم بوقوع قطرة من البول في أحد الإناءين ثمّ وقعت قطرة اخرى في أحدهما معيّنا ، فإنّه بعد تعارض الاصول وتساقطها وتنجيز احتمال التكليف بالنسبة إلى الطرفين لا يكون النجاسة القطعيّة الأخيرة رافعة للعلم الإجمالي الأوّلي ، بل هو على حاله ، فلا يجري الأصل في الطرف الثاني ، إذ بعد سقوطه فيه لا يعود أصلا. بخلاف الصورة السابقة ، فإنّ المفروض تخيّل السقوط فيه ، ولكنّه هنا سقوط واقعي إذ لم يرتفع العلم الإجمالي الأوّلي.

إذا عرفت هذا فلو قامت البيّنة أو الأصل التنزيلي أو الأصل المحض على أنّ هذا الإناء بخصوصه كان نجسا قبل وقوع القطرة البوليّة في أحد الإناءين لم يكن مانع عن جريان الأصل حينئذ في الطرف الثاني ، مثال قيام الأصل التنزيلي ما لو علم إجمالا يوم الجمعة بوقوع قطرة من البول في أحد الإناءين الأحمر أو الأصفر ثمّ علمت يوم السبت أنّ الإناء الأحمر مثلا أصابته نجاسة يوم الخميس وشككت في طروّ الطهارة عليه ، فاستصحاب النجاسة فيه إلى الجمعة توجب حكم الشارع فيه بوجوب الاجتناب يوم الجمعة ، فلا يكون العلم الإجمالي علما بتوجّه تكليف على كلّ تقدير ، لأنّه على تقدير وقوع النجاسة يعني قطرة البول في المستصحب نجاسته لا يكون له أثر فأصالة الطهارة في الأحمر لا تجري ، فلا يكون جريانها في الأصفر معارضا أصلا فتجري في الأصفر.

ومثل هذا الكلام بعينه يجري فيما إذا كان الأصل أصلا عقليّا كقاعدة الاشتغال العقلي فإنّها أيضا توجب انحلال العلم الإجمالي ، مثاله ما لو علم يوم الجمعة

٣٤٥

بوقوع قطرة من البول في الإناء الأصفر أو الأحمر ثمّ علم يوم السبت أنّ الإناء الأحمر والإناء الأبيض الّذي هو الثالث قد وقعت فيهما يوم الخميس قطرة بول ، فأصالة الاشتغال العقلي الّذي منشؤه العلم الإجمالي الأوّلي المنكشف الآن أوجبت لزوم الاجتناب عن الأحمر والأبيض ، فينقلب العلم الإجمالي الأخير إلى متيقّن لزوم الاجتناب وهو الأحمر ، إذ من المحتمل وقوع قطرة بول يوم الجمعة فيه فلا يكون حينئذ علم بحدوث تكليف من العلم ، فأصالة الطهارة في الإناء الأصفر لا معارض لها أصلا فتجري. ولهذه الصورة وهي صورة تأخّر انكشاف المنكشف المتقدّم زمانه وإن تأخّر زمان انكشافه ثمرة مهمّة يأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

فقد ظهر أنّ الميزان في تنجيز العلم الإجمالي وعدمه تعارض الاصول في أطرافه وتساقطها وعدم تساقطها. ولا تقاس الأمثلة المذكورة بما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة فصلّى الظهر. فلا يقال : إنّ العلم الإجمالي انحلّ ، لأنّ العلم الإجمالي بعد إتيان الظهر لم يتغيّر ولم ينقلب في ظرف حصوله إلى الشكّ البدوي بخلاف الصور المتقدّمة ، ولذا يجب إتيان الجمعة ثانيا حينئذ ، لأنّه من آثار العلم الإجمالي الّذي لم ينقلب أصلا. فافهم الفرق بين المقامين ، وإنّ المقام الأوّل ينكشف عدم تنجيز العلم الإجمالي من أوّل الأمر وإنّما انكشافه الآن ، بخلاف المقام الثاني فإنّه لا ينكشف منه عدم التنجيز من أوّل الأمر (*).

__________________

(*) كتب المقرّر قدس‌سره في أوراق مفردة تكملة لمبحث إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي مشيرا إلى موضعه هنا ، وهذا نصّه :

لا يخفى أنّ الاصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي تكون على أنحاء :

أحدها : أن لا يكون الطرفان محلا إلّا لجريان أصل واحد من سنخ واحد كما لو علم بنجاسة أحد الثوبين فإنّه ليس في المقام إلّا أصالة الطهارة فتتعارض في الطرفين وبعد تساقطهما ينجز الاحتمال لعدم المؤمّن في كلّ من الطرفين.

٣٤٦

__________________

ـ الثاني : أن يكون الطرفان محلا لأصول متعددة طولية كما لو علم بوقوع نجاسة في أحد الإناءين فإنّ استصحاب الطهارة يجري أولا ثمّ أصالة الطهارة تجري ثانيا ثمّ أصالة الحل تجري ثالثا وبعد التعارض والتساقط في كلّ من الطرفين ينجز الاحتمال حينئذ لفقد المؤمّن وهذان النحوان واضحان.

الثالث : أن يكون الأصلان الجاريان في الطرفين من سنخين كما إذا علم إجمالا بأنّ أحد الإناءين بول أو الثاني متنجس فأصالة الطهارة في الأول يعارضها استصحاب الطهارة في المتنجس فلا يمكن جريانهما معا للزوم الترخيص في المعصية القطعية ، ولا جريان أحدهما لكونه ترجيحا من غير مرجح فيتساقطان ويرجع في المتنجس إلى أصالة الطهارة لعدم المعارض حينئذ ، هذا كلّه إذا كانت الاصول بأسرها مثلا مشتركة في المؤدى ، وأما إذا كان مؤدى بعضها مغايرا لمؤدى الآخر فمؤدى أحدها مثلا يقتضي الصحة ومؤدّى الثاني يقتضي البطلان كما لو علم بأنّه إما زاد ركوعا في صلاة المغرب أو نقص ركوعا في العشاء فقاعدة الفراغ فيهما متعارضة متساقطة فتصل النوبة إلى الاستصحاب إلّا أنّه يقتضي صحة المغرب بأصالة عدم الزيادة وبطلان العشاء بأصالة عدم إتيان الركوع ، ومثال الأصلين المختلفين مثل ما لو علم أنّه إما لم يصل صلاة الصبح أو صلّى صلاة المغرب فاسدة فقاعدة الحيلولة بالنسبة إلى صلاة الصبح تعارضها قاعدة الفراغ بالنسبة إلى صلاة المغرب فيتساقطان إلّا أنّه يشكّ في وجوب قضاء صلاة الصبح للشك في صدق عنوان الفوت الذي هو موضوع القضاء إلّا أنّ صلاة المغرب أصالة الاشتغال بها في الوقت تجري من غير معارض ، ففي مثل هذه الموارد لا مانع من جريان الأصلين لعدم لزوم الترخيص في المعصية.

الرابع : أن يختص بعض الأطراف بأصل لا معارض له بعد سقوط المعارض منه بالمعارضة كما لو علم إجمالا نجاسة الثوب أو الإناء المملوء ماء فأصالة الطهارة فيهما ساقطة من جهة المعارضة إلّا أنّ أصالة الحل في الماء لا مانع من جريانها لعدم المعارضة فيجوز شربه حينئذ ولا يعارضه في جهة الثوب أصالة الحل للبسه لجوازه في غير الصلاة بلا كلام ـ فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره ـ انظر فوائد الاصول ٤ : ٢٥ ـ من تعارض جميع الاصول وتساقطها دفعة واحدة وإن اختلفت كما في المقام مما لا يمكن المساعدة عليه.

٣٤٧

التنبيه الثالث : أنّ أطراف العلم الإجمالي لو كانت متباينة في الأثر ـ كما لو علم إجمالا بأنّه إمّا حلف على قراءة سورة التوحيد يوم الخميس أو على قراءة سورة القدر يوم الجمعة ـ لزم ترتيب كلا الأثرين لتساقط الاصول فيكون احتمال التكليف منجّزا لعدم المؤمّن.

أمّا لو كانت ذات أثر واحد مترتّب على كلا الطرفين ولأحد الطرفين أثر آخر يترتّب عليه بخصوصه فهل يكون تساقط الاصول موجبا لترتّب جميع الآثار لجميع الأطراف أم لا؟ مثلا لو علم بوقوع قطرة من بول إمّا في إناء الماء المطلق وإمّا في إناء الماء المضاف ، فعلى تقدير وقوعها في المضاف لا تحدث أثرا غير حرمة شربه ، وعلى تقدير وقوعها في الماء المطلق فلها أثران : أحدهما حرمة شربه فحرمة الشرب مشترك بين الطرفين ، والآخر حرمة الوضوء به. فله حينئذ لو وقع في المطلق أثران ، ولو وقع في المضاف أثر واحد.

ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى جريان الأثر المشترك حسب وعدم جريان الأثر الآخر فيجوز الوضوء به (١).

ولم يعلم وجه لما ذهب إليه قدس‌سره بعد فرض تساقط الاصول في كلا الطرفين ، فإنّ أصالة الطهارة إذا سقطت في كلّ منهما لا يجوز الوضوء به أيضا ، إذ لا يجري الأصل في إحراز طهارته حتّى يجوز الوضوء به ولا يكون الاحتمال منجّزا ، بل الاحتمال منجّز لعدم المؤمّن من احتمال النجاسة.

نعم ، لو كان العلم الإجمالي متعلّقا بسبب الحكم وكان الحكم معلوما بالتفصيل مثل ما لو علم بكون ذمّته مشغولة إمّا لزيد بدرهم لأنّه اقترضه منه ، وإمّا لزيد

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٢٩.

٣٤٨

بدرهمين لأنّه كسر إناءه الّذي تكون قيمته درهمين ، فأصل شغل الذمّة معلوم تفصيلا والعلم الإجمالي تعلّق بسببه ، فهنا يكون نظير دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، فيكون الأقلّ معلوما والأكثر مشكوكا بدوا فأصالة البراءة تكون مؤمّنا ، وكذا لو كان الموضوع مختلفا كما لو علم إجمالا بكونه مقروضا لزيد بدرهم أو لعمرو بدرهمين ، وهذا لا يجري حيث يكون الحكم المعلوم النجاسة والمعلوم إجمالا أسبابها أنّها بول حتّى تغسل مرّتين أو دم حتّى يغسل مرّة ، فإنّ استصحاب النجاسة يعيّن الأكثر (فيما يعتبر فيه الطهارة ، لأنّ أصالة البراءة من الغسلة الثانية لا تحرز طهارته ، فاستصحاب النجاسة جار ما لم يحكم عليه استصحاب آخر كاستصحاب العدم الأزلي إن قيل به. هذا كلّه في الواجبات الاستقلاليّة.

وأمّا الارتباطيّة ، كما إذا علم بأنّه نذر صوما إمّا في رجب فهو يوم واحد وإمّا في شعبان فهو مردّد بين اليوم الواحد واليومين ، وفيه ينفي اليوم الثاني من شعبان بالبراءة لدورانه بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فالأقلّ وجوبه معلوم وإن تردّد بين الضمنيّة والاستقلاليّة ، ويجب عليه أن يصوم يوما من رجب ويوما من شعبان لدورانه بين المتباينين بالإضافة إليهما.

نعم ، لو علم بأنّه ترك ظهر يوم الخميس لكن تردّد في كونه تماما أو قصرا لا بدّ له من الاحتياط بقضائها قصرا مرّة وتماما اخرى ليحرز الفراغ بعد إحراز التكليف ، وليس من التكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر بل هما متباينان ليس إلّا) (١) ، فافهم.

التنبيه الرابع : فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء وهو إنّما يكون حيث تكون الأطراف تدريجيّة فهل يكون العلم الإجمالي منجّزا لتعارض الاصول وتساقطها أم لا؟ وقبل الخوض في ذلك ينبغي أن يعلم أنّ محلّ كلامنا إنّما هو حيث لا يكون مورد العلم الإجمالي ذا أصل موجب للشغل ، وإلّا فلو كان هناك

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٤٩

أصل يوجب الاشتغال فلا نحتاج إلى تنجيز العلم الإجمالي أصلا ، مثلا لو علم إجمالا أنّه يبتلي بمعاملة ربويّة في معاملاته اليوميّة ولا يعرفها بعينها تكون الشبهة شبهة حكميّة ، لأنّه لا يعلم أحكام الربا ففي كلّ معاملة من معاملاته اليوميّة يحتمل أن تكون هي الربويّة ، فأصالة الفساد وأصالة عدم ترتّب الأثر وغيرها من الاصول تكفي في عدم ترتيب الآثار ، وكذا لا مؤمّن في الشبهة الحكميّة قبل الفحص والأخذ بطريق التقليد أو الاجتهاد فاحتمال الحرمة منجّز ، فيثبت الحرمة التكليفيّة أيضا ، قيل بتنجيز العلم الإجمالي أم لا.

ثمّ إنّ أطراف العلم الإجمالي التدريجيّة تارة يكون تأخير الطرف الثاني من أطراف العلم الإجمالي باختياره ، واخرى لا يكون باختياره ، بل هو قهري عليه.

فالأوّل مثل ما لو علم غصبيّة أحد الثوبين إجمالا فإنّه يتمكّن من لبسهما معا ولكنّه لبس أحدهما في هذا اليوم وترك الآخر لغد ، ففي مثل هذا العلم الإجمالي لا شكّ في تنجيزه لتعارض أصالتي الإباحة في كلّ من الثوبين بمثلها في الثوب الآخر فتتساقط ، فينجّز العلم الإجمالي الحرمة في كلا الطرفين.

والثاني وهو ما كان التأخير ليس باختياره بل لعدم إمكان جمعهما في الوجود ، مثل ما لو علم بغصبيّة إحدى الدارين فإنّه لا يمكنه السكنى في كليهما. وهذا القسم على قسمين :

فإنّه تارة يكون تأخير الطرف الآخر لخصوصيّة في الزمان المتأخّر أو في الزماني المتأخّر.

واخرى لا يكون كذلك بل يكون التأخير اقتراحيّا فلو كان اقتراحيّا كأن علم بغصبيّة إحدى الدارين فسكن إحداهما اليوم وأخّر سكن الاخرى لغد ، وفي مثل هذا أيضا لا بدّ من تنجيز العلم الإجمالي لتساقط أصالتي الحلّ بالتعارض ، فينجّز العلم الإجمالي ويؤثّر أثره.

٣٥٠

(وهذان القسمان من الدفعيّين ، إذ التكليف فيهما دفعي وتأخير أحدهما عن الآخر إنّما هو باختيار المكلّف ، فترخيص الشارع فيهما محال ، لأنّه ترخيص في المعصية) (١).

وإن كان التأخير لخصوصيّة فهو على قسمين أيضا : إذ تارة يكون التأخير لوجود المانع الآن ، واخرى لعدم المقتضي الآن ، فالأوّل نظير المريض المحتاج لشرب الدواء المردّد بين كون دوائه شيئا يشرب الآن ليلا أو يشرب عند طلوع الشمس ، فإنّ المقتضي وهو المرض موجود لكنّ المانع كشغل المعدة هو الّذي أوجب التأخير.

ومثاله الواقعي الواقع في الشريعة هو أنّه يعلم بنذر متعلّق إمّا بصوم غد أو بصوم يوم الجمعة الآتي ، فإنّ الوجوب بالنذر قد تحقّق بناء على إمكان الواجب التعليقي ـ كما هو الحقّ ـ فالملاك وهو تحقّق المصلحة بالإتيان متحقّق إمّا للصوم غدا أو للصوم يوم الجمعة ، لكنّ الملاك متحقّق قطعا. ومثل هذا أيضا لا إشكال في تساقط الاصول في أطرافه ، لأنّ المصلحة الملزمة لا يسوّغ للمولى الترخيص في تركها ، فلا تجري الاصول لتعارضها فينجّز ويؤثّر أثره.

وإن كان التأخير لعدم المقتضي كالحائض التي تعلم بأنّها تحيض في الشهر ثلاثة أيّام ولاستمرار الدم بها لا تميّز أيامها ، فإنّ خطاب الحائض بترك الصلاة إنّما يحدث ملاكه عند حدوث حيضها ، وقد جزم الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) بإجراء الاصول لها في كلّ يوم يوم من أيام الشهر وترتّب أحكامها حتّى تنتهي إلى ما لا يمكن جريان استصحاب الطهارة فيه وهو الثلاثة الأيام الأخيرة من الشهر ، فعند ما تدخل أوّل ساعة من ساعات الأيام الثلاثة تعلم قطعا أنّها إمّا الآن حائض أو كانت حائضا ،

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٢٤٩.

٣٥١

فلا يجري حينئذ الاستصحاب لانقطاعه إمّا بأنّها حائض أو أنّ الحيض فصل بين اليقين السابق والشكّ اللاحق ، فحينئذ تجري أصالة البراءة من التكليف لكون الشكّ شكّا في تكليفها بترك دخول المسجد والصلاة ، بخلاف صورة النذر لوجود الملاك بناء على إمكان التعليق عنده قدس‌سره فلا ينافيه إلّا أنّها بعد إجراء البراءة فيما لا يمكن فيه إجراء الاستصحاب تقطع بمخالفة بعض الاصول للواقع ، ولا دليل على تقبيحه عقلا.

ومن هنا ذهب قدس‌سره إلى عدم تنجيز مثل هذا العلم الإجمالي وإجراء الاصول في أطرافه (١) وتبعه على ذلك صاحب الكفاية قدس‌سره بل إنّه ذهب إلى عدم التنجيز فيما كان عدم التكليف فيه لوجود المانع مع إحراز المقتضي كالمثال النذري بناء على استحالة التعليق فيه فجعل العبرة بفعليّة التكليف لا الملاك (٢).

وخالفهما الميرزا النائيني (٣) بتقريب أنّ العقل بقبح تفويت غرض المولى في ظرفه المتأخّر إذا اطّلع عليه العبد ، فلو اطّلع العبد تفصيلا على أنّ المولى يعطش بعد ساعة ولم يخاطبه بالماء لمانع فترك إحضار الماء أو تفويت الماء الموجود عنده يحقّق مذمّة العقلاء على عمله ، فلو علم إجمالا بغرض للمولى مردّد بين طرفين أحدهما فعلي والآخر بعد اسبوع مثلا ، فالعقل يقبّح للمكلّف تفويت ذلك الغرض ، وحينئذ فليس للمولى أيضا الترخيص في تفويته ، وحينئذ فالاصول تتعارض وتتساقط ويكون العلم الإجمالي منجّزا.

وما ذكره قدس‌سره قد قوّاه سيّدنا واستاذنا الخوئي ـ دامت إفاداته ـ بتقريب أنّ الترخيص في وطء الحائض مثلا أو في دخولها المسجد فعلا وفيما يأتي من الزمان ترخيص في المعصية فلا يجوز.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٢٥٠.

(٢) كفاية الاصول : ٤٠٨.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٦٨.

٣٥٢

التنبيه الخامس : في الشبهة الغير المحصورة ، ويقع الكلام تارة في معرفة الشبهة الغير المحصورة وتمييزها خارجا ، واخرى في أحكامها.

أمّا الكلام في مفهومها فنقول : ذكر بعضهم أنّ الشبهة الغير المحصورة ما لا يمكن عدّ أطرافها.

ولا يخفى عليك أنّ عدم إمكان عدّ الأطراف يختلف فالألف لا يمكن عدّه في ربع ساعة مثلا لكن يمكن عدّه في ساعة ، والمليون لا يمكن عدّه في يوم ولكن يمكن عدّه في أسبوع مثلا وهكذا ، فلم يعلم المراد من عدم إمكان العدّ.

كما أنّه ذكر بعضهم أنّ الشبهة الغير المحصورة ما لا يمكن عدّ أطرافها في زمن قليل (١).

ولا يخفى أيضا مشاركته لسابقه في الإجمال ، إذ لم يعيّن فيه الزمن القليل ولم يعلم المراد منه ، مضافا إلى عدّهم الشاة في قطيع الغنم محصورا والقرص في ضمن وعاء يحتوي على ألف قرص محصورا أيضا مع عدم إمكان عدّهما في الزمن القليل.

كما ذكر بعضهم أنّ الشبهة الغير المحصورة أن لا تكون محصورة عرفا.

ولا يخفى أنّ عدم الحصر العرفي لم يعلم ما هو ، مضافا إلى أنّها من الاصطلاحات الخاصّة ولا يمكن في مثلها تحكيم العرف ، خصوصا وليست في لسان دليل أو آية حتّى يرجع في تشخيصها إليه ، مضافا إلى أنّها لو كانت في لسان رواية أيضا لا يرجع إلى العرف ، لكون الحكم وهو التنجّز وعدمه عقليّا دائرا مدار المناط لا شرعيّا حتّى يرجع إلى العرف في فهم خطاب الشارع.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ الشبهة الغير المحصورة هي أن تبلغ الأطراف حدّا يكون احتمال التكليف في كلّ طرف بخصوصه احتمالا موهوما (٢).

__________________

(١) انظر نهاية الأفكار ٣ : ٣٢٨ ـ ٣٣٠ ، والفرائد ٢ : ٢٦٨ ـ ٢٧٣.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٢٧١.

٣٥٣

ولا يخفى أنّ الموهوميّة أيضا تختلف ، فإن الموهوميّة قد تتحقّق بالنسبة إلى واحد من العشرة إذ احتماله موهوم ، لأنّ الظنّ في كون النجس أحد التسعة الباقية ، وقد يتحقّق بالنسبة إلى الواحد من المائة أو الألف ، مضافا إلى أنّ الموهوميّة أيّ دليل دلّ على دوران الحكم مدارها مع أنّ الظنّ من الطرف الآخر بوجود النجس فيه ليس بحجّة؟

(وذكر بعضهم (١) أنّ المعيار في كون الشبهة غير محصورة هي أن تبلغ الأطراف حدّا أنّه لو أفرد فردا من الأطراف عن بقيّة الأطراف لكان يطمئنّ بعدم كونه هو الفرد المحرّم.

وهذا وإن كان ممكنا بحسب الصغرى إلّا أنّه غير ممكن بحسب الكبرى ، لأنّ الاطمئنان حجّة عقلائيّة وكلّ طرف لو افرد فهو مطمئنّ بعدم كون المعلوم هو ، فكلّ طرف يكون كذلك ، فهو كما لو قامت البيّنة في كلّ طرف من الأطراف أو أصل في أنّ إجراءه في الجميع يقتضي الترخيص في المعصية ، وفي البعض ترجيح من غير مرجّح ، والترخيص في المعصية في الحجّة العقليّة قبيح أيضا ، فافهم) (٢).

وذكر الميرزا قدس‌سره أنّ الشبهة الغير المحصورة أن تبلغ أطرافها حدّا يمتنع فيها المخالفة القطعيّة عادة (٣) ثمّ شرع في أحكامها ، وذكر من أحكامها أنّه إذا لم تحرم المخالفة القطعيّة لم تجب الموافقة القطعيّة.

ولا يخفى عليك ـ (مع اقتضاء كلامه الاختصاص بصورة الشبهة التحريميّة ، إذ هي الّتي يمتنع فيها المخالفة القطعيّة دون الوجوبيّة ، إذ يمكن ترك جميع أطراف الواجب فهو أخصّ من المدّعى) (٤) ـ ما في تحديده الشبهة الغير المحصورة من الإشكال :

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٣٠.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) فرائد الاصول ٤ : ١١٧ ـ ١١٨.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٥٤

أمّا أوّلا : فلاختلافها باختلاف الأشخاص ، فإنّ بعض الأشخاص يستطيع المخالفة القطعيّة في بعض الأمثلة دون بعض الأشخاص.

وأمّا ثانيا : فباختلافها بلحاظ المعلوم الإجمالي ، فإنّه قد لا تكون المخالفة القطعيّة ممكنة بلحاظ بعض المعلومات الإجماليّة ، وقد تكون ممكنة بلحاظ بعض المعلومات الأخر مع اتّحاد العدد في كليهما ، فليس المناط الكثرة في الأطراف فقط.

وأمّا ثالثا : فإن أريد من عدم إمكان المخالفة عدمها دفعيّا فأغلب صور الشبهة المحصورة تدخل في غير المحصورة ، وإن أريد عدم إمكان المخالفة ولو تدريجا فتخرج أغلب صور غير المحصورة حينئذ ، فإنّ من علم بوجود قصّاب في ضمن خمسمائة قصّاب يبيع الميتة يمكنه أن يخالف تدريجيّا بأن يشتري من كلّ قصّاب يوما من الأيام حتّى يأتي على الخمسمائة.

وبالجملة ، فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره مجمل لم يعلم منه معنى محصّل لا يرد عليه إشكال.

فتحصّل أنّا لم نعلم معنى محصّلا لغير المحصور ، ولا يهمّنا ذلك لعدم ورود هذا اللفظ في لسان دليل حتّى نبحث عن معناه ليكون الدليل خاصّا أو عامّا بحسب سعة موضوعه وضيقه. وحينئذ فلا يمكن التكلّم في حكم الشبهة الغير المحصورة لعدم إحرازها حتّى يتكلّم في حكمها ، ولكنّا نقول ـ بعون الله تعالى ـ : إنّ الشبهة مطلقا محصورة كانت أو غيرها :

إمّا لا يمكن موافقتها قطعا ولا مخالفتها قطعا ، وقد تقدّم الكلام فيها في دوران الأمر بين المحذورين.

إمّا يمكن الموافقة القطعيّة والمخالفة القطعيّة معا ، وقد تقدّم الكلام في أنّ مقتضى تنجيز العلم الإجمالي وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة.

وإمّا أن تمكن المخالفة القطعيّة ولا تمكن الموافقة القطعيّة ، كأن يعلم أنّه نذر في وقت خاصّ الجلوس في الحرم العلوي أو المسجد الهندي ، فهنا المخالفة القطعيّة ممكنة

٣٥٥

بأن لا يجلس في ذلك الوقت الخاصّ في كلّ منهما ، ولكنّ الموافقة الاحتماليّة ممكنة لكون الجلوس في أحدهما ممكنا ، ولا يمكن الموافقة قطعا لاستحالة أن يجلس الإنسان الواحد في مكانين متباينين دفعة ، وقد تقدّم فيه حرمة المخالفة القطعيّة وإن لم تجب الموافقة القطعيّة أيضا.

وإمّا أن تكون الموافقة القطعيّة ممكنة لكنّ المخالفة القطعيّة ليست بممكنة ، كما إذا علم أنّه نذر إمّا ترك الجلوس في مكان خاصّ كزاوية المسجد الشرقيّة أو ترك الجلوس في زاوية المسجد الغربيّة ، فهنا المخالفة القطعيّة غير ممكنة لاستحالة كون شخص واحد يجلس في مكانين متباينين في وقت خاصّ ، ولكنّه يمكن الموافقة القطعيّة بأن يترك الجلوس في كلّ منهما ، ولا ريب في تنجيز العلم الإجمالي ووجوب الموافقة القطعيّة وإن لم تحرم المخالفة القطعيّة لعدم إمكانها حتّى يزجر عنها.

ومن هنا ظهر أنّ وجوب الموافقة قطعا لا يدور مدار حرمة المخالفة القطعيّة فإنّ المقام من مقامات الانفكاك. نعم ، لو كانت حرمة المخالفة القطعيّة منفيّة لعدم المقتضي لها فالدوران حينئذ مسلّم.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ المناط في حرمة المخالفة القطعيّة هو العلم الإجمالي بالحرام ، فجريان الاصول في تمام الأطراف مؤدّ إلى الترخيص في المعصية وهو محال لقبحه ، وأنّ المناط في وجوب الموافقة القطعيّة هو احتمال العقاب الملازم لاحتمال الضرر بترك كلّ طرف من تلك الأطراف وأنّه لا ملازمة بين حرمة المخالفة ووجوب الموافقة لعدم وحدة الملاك وعدم تلازم الملاكين أيضا ، وظهر أنّ احتمال العقاب متى تحقّق فهو منجّز للتكاليف فلا بدّ فيه من المؤمّن ، ومع عدم المؤمّن لا محيص عن وجوب الموافقة ، وكون الشبهة غير محصورة لم يتحقّق كونه مؤمّنا فيبقى الاحتمال منجّزا.

نعم ، إذا كثرت الأطراف فالغالب خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء فيكون الخروج عن محلّ الابتلاء رافعا للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، فلا يكون الاحتمال حينئذ منجّزا لكونه شكّا في التكليف فتجري البراءة فتكون هي المؤمّنة

٣٥٦

حينئذ ، لكن إذا لم يخرج بعض الأطراف مع الكثرة عن محلّ الابتلاء لا يكون ثمّة مؤمّن لارتكاب محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب أصلا كما بيّنّا.

وما يقال : من قيام الإجماع على عدم تنجيز العلم الإجمالي حيث تكون الشبهة غير محصورة ، فلا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أوّلا : فليست هذه المسألة محرّرة في كلمات قدماء الأصحاب حتّى يتحقّق الإجماع ، وإنّما هي حادثة في ألسن المتأخّرين.

وأمّا ثانيا : فلو سلّم الإجماع فهو لا يكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام ، إذ لعلّ اتّفاقهم إمّا من جهة غلبة اتفاق خروج بعض أطرافها عن محلّ الابتلاء ، وإمّا من جهة ضعف احتمال التكليف حتّى كان موهوما ، وإمّا من جهة أنّها يمتنع فيها المخالفة القطعيّة عادة. فظهر أنّ الإجماع غير مسلّم وعلى تقديره فتقييدي.

وكذا ما يقال : من أنّ أدلّة العسر والحرج ورفعهما يكفي في عدم التنجيز ، فإنّ العسر والحرج يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان أوّلا.

ولا يرفع إلّا ما كان حرجيّا وهو مثلا تكرير محتمل الوجوب أربعين مرّة لا أربع مرّات أو مرّتين ومرادنا في التنجيز عدم حرمة ترك الواحد أيضا ثانيا.

مع أنّه لا يمكن للفقيه أن يحكم بعنوان محصورة أو غير محصورة لعدم كون الحكم لذلك العنوان. نعم ، لو كان الحرج علّة تشريع كما في طهارة الحديد فلا يضرّه التخلّف في بعض الموارد ، لأنّ الحكمة لا تدور مدار الحكم الفعلي.

وربّما استدلّ بعضهم (النائيني قدس‌سره) على عدم تنجيز العلم الإجمالي حيث تكون أطرافه غير محصورة برواية الجبن المعروفة الّتي يقول الإمام فيها : «من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في الأرض جميعا؟» (١). حيث دلّت بظاهرها على عدم تحريم الجبن بالعلم بجعل الميتة فيه في موضع واحد مع العلم أن لا خصوصيّة للجبن (٢).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٩ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٧٣.

٣٥٧

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ الرواية لا ينكر ظهورها في كون بعض أفراد الجبن خارجا عن محلّ الابتلاء لقوله : «حرم ما في الأرض جميعا».

بقي في المقام أمران :

أحدهما : لو قلنا بعدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة ففي مثل ما إذا كان المعلوم بالإجمال واحدا في ألف مثلا لا إشكال في عدم التنجيز ، لكن لو كان الأطراف مائة في ألف مثلا فهل يكون مثل هذا منجّزا أم لا يختلف الحال في ذلك؟

فإن قلنا : إنّ منشأ عدم التنجيز هو الوهم للتكليف كما قال به الشيخ الأنصاري قدس‌سره فالاحتمال هنا ليس وهما ، لكون احتمال مصادفته الحرام الواقعي احتمالا معتدّا به عند العقلاء.

وإن قلنا : إنّ المنشأ لعدم التنجيز امتناع المخالفة القطعيّة كما اعتمده الميرزا قدس‌سره فلا يكون المثال منجّزا ، لأنّ المخالفة القطعيّة إنّما تكون إذا ارتكب تسعمائة وواحدا فعندها تتحقّق المخالفة القطعيّة ، وارتكاب تسعمائة وواحد ممتنع عادة ، فلا يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزا لامتناع المخالفة القطعيّة.

الثاني : أنّا لو قلنا بعدم تنجيز العلم الإجمالي حيث تكون أطرافه غير محصورة ، فهل يكون العلم كلا علم وترتّب أحكام الشكّ لو كان له حكم ، أم يكون الشكّ كلا شكّ والشبهة كلا شبهة فلا تترتّب حينئذ آثار الشكّ؟ مثلا لو كان المائع المضاف مشتبها بين ألف طرف مثلا فلا ينجّز مثل هذا العلم الإجمالي ، لأنّ أطرافه غير محصورة ، لكن هل يكون هذا العلم كلا علم ويبقى حكم الشكّ لأنّ الشكّ في كون المائع مطلقا أو مضافا كاف في عدم جواز الوضوء به ، أو يكون الشكّ أيضا كلا شكّ فيجوز الوضوء به؟ كلام بين الأعلام.

والّذي ينبغي أن يقال : إنّ مستند عدم تنجيز العلم الإجمالي حيث لا تكون أطرافه منحصرة مختلف.

٣٥٨

فإن كان ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ الأطراف إذا كثرت يكون احتمال المعلوم الإجمالي بالنسبة إلى كلّ طرف بخصوصه موهوما بحيث لا يعتني به العقلاء ويرتّبون آثار عدمه فلا بدّ من كون الشبهة والشكّ كلا شبهة ولا شكّ ، لأنّ وجود المضاف كعدمه حينئذ عند العقلاء فله أن يتوضّأ.

وإن كان المستند لعدم التنجيز ما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره من أنّ المخالفة القطعيّة ممتنعة عادة حيث تكثر الأطراف فلا تجب الموافقة القطعيّة لابتنائها عليها وتفرّعها عليها حينئذ ، فينبغي أن يكون العلم حينئذ كلا علم وتترتّب آثار الشكّ ، لأنّ الشكّ في كون الإناء مضافا موجود ولا أصل يحرز إطلاقه إذ لم يعلم حالته السابقة.

ومن هنا ظهر أنّ دعوى الميرزا قدس‌سره في الفقه أنّ وجود المضاف في ضمن الأطراف الغير المحصورة كتلفه (١) ليس بتامّ على مبناه في الاصول ، لأنّه على مبناه يكون ممنوعا من الوضوء عنه قطعا ، إذ الشكّ لا رافع له ولا أصل يحرز الإطلاق ، مضافا إلى أنّه لا معنى لكونه كتلفه أصلا ضرورة إحراز وجوده في ضمن المجموع وكون أطرافه كثيرة لا تقتضي كونه كعدمه.

التنبيه [السادس](٢) : فيما لو اضطرّ إلى بعض أطراف المعلوم إجمالا حرمته ، والاضطرار (*) تارة يكون إلى بعض معيّن ، واخرى إلى بعض غير معيّن.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٧٥.

(٢) في الأصل : الخامس.

(*) ورد في الهامش : والمراد بالاضطرار : الّذي يكون رافعا للعلم الإجمالي كلّية ، أما ما لم يكن كذلك كما إذا كان الاضطرار رافعا للحرمة فقط دون جواز الوضوء والغسل ، كما إذا كان المضطرّ إليه ماء في أحد الإناءين النجس أحدهما فلا كلام فيه ، للعلم الإجمالي بعد الاضطرار إليه بحرمة الثاني أو بعدم جواز الوضوء بما اضطرّ إليه.

٣٥٩

[الاضطرار إلى المعيّن]

فأمّا إذا كان الاضطرار إلى بعض معيّن وكان بعد تنجّز العلم الإجمالي فصوره ثلاثة : لأنّه إمّا أن يضطرّ إليه بعد النجاسة والعلم بها ، أو قبلهما أو بعد النجاسة وقبل العلم بها :

ـ فإن كان بعدهما مثل أن يعلم بنجاسة أحد الإناءين اللذين أحدهما خلّا والآخر حليبا ثمّ اضطرّ إلى شرب الثاني لرفع عطشه فلا إشكال في ارتفاع حرمته ، إلّا أنّ الكلام في أنّ الاضطرار إليه يجوّز ارتكاب الثاني أم لا ، وبعبارة اخرى هل الاضطرار إليه رافع لأثر العلم الإجمالي له بخصوصه أم يرفع أثره كلّية؟ ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى بقاء الثاني على حرمة الارتكاب (١) لأنّ الاضطرار إنّما أباح له ارتكاب المعيّن فيبقى الثاني على حكمه.

وذهب الآخوند قدس‌سره إلى ارتفاع أثر العلم الإجمالي كلّية بدعوى أنّ العلم الإجمالي كان محدّدا إلى وقت الاضطرار أمّا بعد الاضطرار فلا علم إجمالي فالاضطرار من حدود التكليف ، ثمّ نقض على نفسه قدس‌سره بالفقدان لبعض الأطراف وإتيان بعض أطراف المعلوم وجوبه إجمالا ، وأجاب بأنّ الفقدان ليس من حدود التكليف كالاضطرار (٢). ولكنّه في حاشية الكفاية (٣) عدل عمّا اختاره في متنها ، بتقريب أنّ العلم الإجمالي تعلّق بوجود الحرام في هذا إلى حين الاضطرار أم في ذاك مطلقا فيكون الاضطرار من حدود تكليف بعض الأطراف لا جميعها.

وما ذكره قدس‌سره في الحاشية وهامش الكفاية متين جدّا ، وما ذكره في المتن ضعيف بما ذكره في الحاشية ، مضافا إلى أنّ ما زعمه من كون الاضطرار من حدود

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٢٤٥.

(٢) كفاية الاصول : ٤١٠.

(٣) انظر حاشية الكفاية المطبوعة مع حاشية فرائد الاصول : ٣٢٣.

٣٦٠