غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا بناء على ما ذكره صاحب الضوابط (١) فالموضوع هو واجد المعرفة بالحكم بالاستنباط ، يعني هو الّذي استنبط الحكم فلا مانع من أن يقلّد ذو الملكة قبل الاستنباط ؛ لأنّ الموضوع هو المستنبط بالفعل فيعرّف بتحصيل الحجّة على الحكم الشرعي.

وأمّا موضوع نفوذ الحكم فينبغي فيه الرجوع إلى الأدلّة السمعيّة وهي على ما في المقبولة لابن حنظلة رحمه‌الله (٢) يكون الموضوع لنفوذ الحكم هو الراوي لحديثهم الناظر في حلالهم وحرامهم العارف لأحكامهم ، فهذا هو الّذي جعله الإمام موضوعا للحكم ، فيلزم أن يكون مستنبطا بالفعل لجملة معتدّ بها من الأحكام بحيث يصدق «يعرف أحكامهم عليهم‌السلام» ويلزم أن يكون استنباطه من النظر في الحلال والحرام ورواية الحديث لا من مثل الرمل والجفر وأشباههما ، فهو حينئذ العارف بالأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.

وأمّا موضوع من يجوز تقليده ورجوع العوامّ إليه فهو أن يكون «من الفقهاء صائنا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه» (٣) أو يكون الموضوع أهل الذكر أو المتفقّهون أو العالم على اختلاف الآيات والروايات الّتي يستفاد منها جواز تقليد الغير له.

نعم ، لا بدّ أن يكون من الفقهاء أي العارفين بالفقه بالفعل فلا يكفي حينئذ وجود الملكة في جواز التقليد ، بل يلزم أن يكون عارفا بمقدار يصدق عليه الفقيه والعالم وأنّه من أهل الذكر وغير ذلك ، ويلزم أيضا أن تكون معرفته بالتفقّه وهو طلب الفقه لا بمثل الرمل والجفر وأشباههما ، فالموضوع أيضا هو العارف بالأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.

__________________

(١) انظر ضوابط الاصول : ٣٩٢.

(٢) الوسائل ١٨ : ٩٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٣) انظر الوسائل ١٨ : ٩٤ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

٨٠١

نعم ، لو كان معرفته بمثل الرمل والجفر لا يجوز تقليده وإن وجب عليه العمل لنفسه إن كان قاطعا ، لأنّه يلزم أن تكون المعرفة بأسبابها العرفيّة وهي طلب العلم والتفقّه والنفر إلى المحلّ الّذي يطلب فيه العلم.

وبناء على ما ذكرنا يرتفع النزاع بين الاصوليّين والأخباريّين في الاجتهاد وأنّه بدعة كما عن الأخباريّين (١) لأنّ لفظ الاجتهاد لا أثر له ، بل إنّما جعل عبارة اخرى عمّا ذكرنا من الموضوع لجواز التقليد المأخوذ في لسان الأخبار ، بل رجوع الجاهل إلى العالم أمر فطري قد جبلت عليه الفطر ، بل كان في زمن الأئمّة عليهم‌السلام ، فافهم.

بقي الكلام في أنّ المجتهد الّذي انسدّ عنده باب العلم بالأحكام هل يجوز تقليده في الأحكام أم لا؟ الظاهر العدم.

أمّا بناء على الحكومة فلأنّ حكومة العقل إنّما تعيّن كيفيّة العمل حيث ينسدّ باب العلم فليس فيه معرفة للحكم الشرعي ، فلا يصدق «عرف أحكامنا».

وأمّا بناء على تقرير المقدّمات بنحو الكشف فإنّما يكون الظنّ حجّة لخصوص من انسدّ عليه باب العلم وهو نفسه ، وأمّا غيره من العوامّ فلم ينسدّ عليهم باب العلم ، لأنّ من جملة المقدّمات هو عدم جواز التقليد وهذا للمقلد العاميّ جائز ، وإنّما لم يجز بالإضافة إلى المجتهد ، لأنّه ليس رجوع جاهل إلى عالم وإنّما هو رجوع عالم إلى من يعتقد جهله ، فافهم وتأمّل.

الكلام في التجزّي

قسّموا الاجتهاد إلى : مطلق وهو المرسل الغير المقيّد بمسألة أو باب خاصّ بل يكون عامّا في جميع مسائل الفقه ، وتجزّي وهو الاجتهاد في بعض مسائل الفقه دون البعض الآخر ، وكان ينبغي التعبير عنه بالمقيّد في قبال المطلق ، لأنّ التعبير بالتجزّي ممّا يعطي كونه ذا أجزاء وليس كذلك.

__________________

(١) انظر الفوائد المدنيّة : ٢ ـ ٤ ، وهداية الأبرار : ١٨٠.

٨٠٢

وكيف كان ، فقد ذهب بعضهم إلى استحالته (١) وآخرون إلى إمكانه (٢) وآخرون إلى وجوبه ، ومنهم صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) فإنّه ذهب إلى أنّ المجتهد المطلق يلزم أن يكون قبل كونه مجتهدا مطلقا متجزّيا ، لاستحالة الطفرة كما برهن عليه في علم الكلام (٤).

وربّما حمل الكلام في عبارة من عبّر به على الإمكان العامّ في قبال الاستحالة فلا ينافي الوجوب حينئذ. والظاهر إمكانه بالمعنى الأخصّ ، لإمكان أن يكون الإنسان قادرا على استنباط بعض المسائل لسهولتها دون البعض الآخر لغموضها وتعارض أدلّتها ، وتكون ملكة استنباط بعضها حاصلة دون ملكة استنباط البعض الآخر فإنّ لكلّ حكم ملكة لاستنباطه غير الملكة الاخرى ، وليس واجبا لإمكان أن يكون قادرا على استنباط جميع المسائل دفعة واحدة بفيض إلهي وإن كان الغالب خلافه ، بل جميع الاستنباطات الخارجيّة كذلك ، وخصوصا إذا فسّر الاجتهاد بأنّه استنباط الأحكام لا الملكة فإنّها تدريجيّة الحصول فلا بدّ من ترتّبها.

نعم ، ما ذكره الآخوند من أنّه واجب لاستحالة الطفرة غير تامّ ، فإنّ الطفرة إنّما هي في الأجزاء المترتّبة ولا ترتيب هنا ، إذ يجوز أن يجتهد في المسائل العقليّة قبل النقليّة لكثرة ممارسته لها دونها ويمكن العكس فليس من قبيل الطفرة ، فافهم.

__________________

(١) منهم صاحب المعالم في المعالم : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، وكاشف الغطاء في كشف الغطاء ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٢ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٣٩٤.

(٢) منهم العلّامة في تهذيب الوصول : ٢٨٣ ، ومبادئ الوصول : ٢٤٣ ، والشهيد في الذكرى ١ : ٤٣.

(٣) انظر الكفاية : ٥٣٣.

(٤) انظر كشف المراد : ١٤٨.

٨٠٣

ثمّ إنّه لا ينبغي الريب في حجّية هذا الاجتهاد بالإضافة إلى هذا المتجزّئ ، فإنّه لا يجوز له التقليد في المسائل الّتي اجتهد فيها خصوصا إذا كان يرى خطأ المقلّد فيما يرتئيه ؛ فإنّ أدلّة التقليد قاصرة عن شموله وليس من رجوع الجاهل إلى العالم أصلا.

وأمّا جواز تقليده ونفوذ حكمه ، فلو كان الدليل للتقليد هو بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم لجاز بل لوجب تقليده ، فإنّ العقلاء يبنون على تقديم الطبيب المختصّ على الطبيب المطلق ، فالمختصّ بآلام العين مثلا يقدّمه المصاب بألم العين على الطبيب المطلق ، فكذا المقام فإنّ المتجزّي إذا فرض أعلم من المطلق في المسائل العقليّة مثلا لتعين تقليده.

ولكنّ الدليل ليس ذلك فقط بل الآيات والروايات وهي قد اعتبرت أن يكون ناظرا في حديثهم وحلالهم وحرامهم وأن يصدق عليه أنّه عارف بأحكامهم فلا بدّ أن يكون مستنبطا لمقدار يصدق عليه ذلك ، وذلك لا يكون إلّا باستنباط معظم الفقه أو القدرة على ذلك.

نعم ، لو كان المتجزّي بمرتبة يصدق عليه هذا العنوان ، كما إذا لم يجتهد في خصوص مسألة اجتماع الأمر والنهي واجتهد فيما عداها يجوز تقليده قطعا ، لصدق كونه عارفا بأحكامهم ، ولصدق كونه من أهل الذكر وكونه متفقّها وغير ذلك. وإذا جاز تقليده نفد حكمه لوحدة موضوعهما كما تقدّم.

في مبادئ الاجتهاد

يتوقّف الاجتهاد على مبادئ :

منها : العلم باللغة ، فإنّ غير العالم باللغة العربيّة لا يستطيع استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة ، لأنّها عربيّة ، نعم يستطيع استنباط المسائل العقليّة لكنّها لا تجدي شيئا مثل استحالة اجتماع الأمر والنهي فإنّها موقوفة على العلم بالأمر أو النهي وهو أيضا موقوف على اللغة أيضا.

٨٠٤

ومنها : الصرف ، بأن يعرف مباني الأفعال مثل الماضي منه والمضارع والمجرّد والمزيد وغيرها ، إلّا أن يكون عربيّا يستطيع بذوقه معرفة ذلك كلّه.

ومنها : أن يعرف النحو بمقدار يميّز بين الفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر ، لتوقّف المعنى المتحصّل من الجملة عليه أيضا.

ومنها : أن يعرف الرجال ، أمّا بناء على اعتبار التزكية بعدلين في صحّة الخبر فواضح ، وأمّا بناء على كفاية الخبر الموثّق والمشهور الّذي عمل به الأكثر فلوجود مسائل لم يتعرّض لها المتقدّمون فلا بدّ من معرفة رواة حديثها ، فلا بدّ من معرفة الرجال في الجملة.

ومنها : أن يعرف المباني الاصوليّة بالاجتهاد لا بالتقليد ، مثل كون الأمر للوجوب أم لا ، وكون النهي للتحريم أم لا ، وكون الجملة الشرطيّة لها مفهوم أم لا ، وكون العموم حجّة إذا خصّ في الباقي أم لا ، وغير ذلك من مباحث الألفاظ ، وكون الظواهر حجّة أم لا ، وكون الخبر الواحد حجّة أم لا ، وكون الشهرة أو الإجماع المنقول أو الاستقراء أو الأولويّة حجّة أم لا ، وغير ذلك من بحث الحجج ، وكون المورد إذا خلا من الأدلّة فهل يرجع إلى البراءة أو الاستصحاب أو التخيير أو الاحتياط؟ كلّ ذلك بالدليل الاجتهادي الاستنباطي لا تقليدا.

والعمدة من هذه المقدّمات والمبادئ هو علم الاصول ، فإنّه ليس حكم من الأحكام إلّا ويتوقّف على مسألة اصوليّة أو أكثر. وتدوين المسائل الاصوليّة في كتب مستقلّة ليس بدعة في الدين كما ذكره بعض الأخباريّين (١) فإنّه لا فرق بين أن يدوّن مقدّمة في الكتاب الفقهي وبين أن يدوّن مستقلّا.

هذا تمام الكلام في المبادئ الّتي يتوقّف الاجتهاد عليها في هذه الأزمان.

ويقع الكلام الآن في مسألة التخطئة والتصويب ، ونحن وإن أشبعنا الكلام فيها سابقا نشير إليها.

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ٢ ـ ٤ ، وهداية الأبرار : ١٨٠.

٨٠٥

في التخطئة والتصويب

أمّا في المسائل العقليّة فلا خلاف في أنّ المتخالفين إذا اختلفا في أصالة الوجود أو الماهيّة أو اختلفا في كون العلم من مقولة الكيف أو الإضافة أو في غيرها من المسائل العقليّة أحدهما مخطئ قطعا وقد يخطئ الثاني وقد يصيب ، وإنّما الكلام في الشرعيّات فذهبت الأشاعرة إلى التصويب وأنّ كلّا من المتخالفين مصيب لحكم الله الواقعي ، وذهبت الإماميّة والمعتزلة إلى التخطئة ، غير أنّ المعتزلة ذهبت إلى أنّ الحكم الواقعي يمحى إذا قامت الأمارة على خلافه ، والإماميّة بانون على بقائه ، وقد استندوا في بقاء الحكم الواقعي وإن قامت الأمارة على الخلاف إلى الإجماع والأخبار المدّعى تواترها في أنّ لله أحكاما يشترك فيها العالم والجاهل والملتفت والغافل ، ونحن في غنية عن الإجماع والأخبار ، فإنّ أدلّة الأحكام الأوليّة كافية في ذلك ، فإنّ أدلّة كون الخمر نجسا بإطلاقه شامل لما إذا قامت أمارة على خلافه ، وليس في أدلّة الأمارات ما يستشعر منه انقلاب حكمه إذا قامت الأمارة على خلافه حتّى نقول بسببيّة المعتزلة أصلا.

نعم ، بيننا وبين صاحب الكفاية كلام في أنّ الأحكام الواقعيّة إنشائيّة وقيام الأمارة إذا أصابها يوصلها إلى مرتبة الفعليّة ، وإن أخطأها يوجب تحقّق المانع عن فعليّتها كما يلوح من كلمات صاحب الكفاية (١) ، أو إنّها فعليّة وقيام الأمارة يوجب وصولها وعدم قيام الأمارة يوجب عدم الوصول.

(وأمّا الأحكام الظاهريّة ففي مرتبة جعلها لا بدّ من القول بالتخطئة ، فإذا ذهب بعض إلى حجيّة الاستصحاب على الإطلاق كالآخوند ، وآخر إلى عدم حجّيته مطلقا ، وآخر إلى التفصيل بين الشبهة الحكميّة الكليّة فليس حجّة ، وبين الشبهة الموضوعيّة فهو حجّة ، لا بدّ من كون اثنين منهم على خطأ فهذا شكّ في مرتبة جعل الحكم الظاهري.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١٩ ـ ٣٢١.

٨٠٦

وأمّا في مرتبة المجعول فلا يعقل الخطأ بل لا بدّ من كون كلّ من المتخالفين مصيبا ، مثلا إذا اختلف المجتهدان في حرمة وطي الحائض بعد انقطاع دمها وقبل الغسل فأجرى أحدهما استصحاب الحرمة ، لزعمه جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة ، فهو بحكم الشارع عالم بها لكونه على يقين منها سابقا وهو شاكّ فيها فعلا ، وأمّا الثاني من المجتهدين فلا يرى حجّية الاستصحاب في الشبهة الحكميّة فيرجع إلى البراءة ، لأنّه لا يعلم الحكم فيرفع التحريم برفع ما لا يعلمون ، فكلّ منهما مصيب في مرحلة الظاهر إلّا أنّ الموضوع عند أحدهما غير الموضوع عند الآخر) (١).

وهنا كلام في أنّ المجتهد إذا أدّى نظره إلى حكم ثمّ بعد مدّة تغيّر نظره فبالنسبة إلى ما يلحق من الأحكام ليس له ترتيب آثار الاجتهاد السابق ، مثلا إذا أدّى نظره إلى جواز التذكية بغير الحديد ثمّ أدّى نظره إلى عدمه فهل يجوز له أن يأكل منها بعد تبدّل نظره؟ كلّا ثمّ كلّا ، فإنّ عمله الآن يلزم أن يستند إلى حجّة شرعيّة ، وليس اجتهاده السابق مع تغيّره الآن حجّة فعليّة ، وأمّا بالنسبة إلى أعماله السابقة ممّا لا أثر فعلا له كما إذا أكل من هذا اللحم سابقا فلا ينبغي الكلام فيه.

وأمّا ما كان له أثر فعلا كما إذا أدّى اجتهاده إلى عدم وجوب السورة في الصلاة فتركها ثمّ أدّى نظره إلى وجوبها والوقت باق أو خارج فهل يجب عليه الإعادة أو القضاء أم لا؟ أمّا المشهور فهو عدم الوجوب بدعوى قيام الإجماع على عدم الإعادة أو القضاء ، والظاهر أنّ هذا الإجماع المدّعى لا أثر له أصلا فما كان من الصلاة كما في المثال لا يعاد لقوله عليه‌السلام : «لا تعاد إلّا من خمسة» (٢). بناء على شموله للجهل بالحكم وعدم اختصاصه بخصوص الناسي كما هو الحقّ ، وأمّا غير الصلاة أو الصلاة إذا كان الخلل في أحد الخمسة فمقتضى القاعدة وجوب الإعادة أو القضاء إلّا أنّ يدلّ دليل على العدم.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) الوسائل ١ : ٢٦٠ ، الباب ٣ من أبواب الوضوء الحديث ٨.

٨٠٧

قد اختلف كلام الأصحاب في مسألة تبدّل رأي المجتهد أو موت المجتهد وتقليد المقلّد غيره ممّن يرى بطلان الأعمال المأتيّ بها على طبق فتوى المجتهد السابق ، فذهب بعضهم إلى الإجزاء مطلقا ، وبعضهم إلى عدم الإجزاء مطلقا ، وفصّل بعضهم بين أن يكون العلم الوجداني قائما على بطلان العمل السابق فلا إجزاء أو العلم التعبّدي فيكون مجزئا.

وفصّل السيّد اليزدي في عروته في مسألة (٥٣) من مسائل التقليد بين العبادات والعقود والإيقاعات وبين المعاملات الأخر فحكم بالإجزاء في الاولى حتّى بالنسبة إلى الآثار اللاحقة ، فمن تيمّم بضربة واحدة ثمّ تبدّل نظره إلى الضربتين فله أن يصلي بعد تبدّل نظره بتيمّمه السابق ، وكذا العقد والإيقاع يرتّب عليهما آثار الصحّة حتّى الآثار اللاحقة ، وأمّا غير هذه الامور كالطهارة من الخبث فلا يرى الإجزاء فيها ، مثلا إذا كان نظره طهارة الغسالة وتبدّل نظره إلى نجاستها فلا بدّ أن يغسل ما أصابها.

ولا نعرف وجها صحيحا لهذا التفصيل إلّا أن يتمسّك بالإجماع ودونه خرط القتاد ، إذ لو فرض تحقّق الإجماع فليس تعبّديّا حتّى يكون كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام. وقد يستدلّ بالسيرة ودونها خرط القتاد إذ هي غير مسلّمة ، وكونها متّصلة بزمن المعصوم ليستفاد الإمضاء غير معلوم. وقد يستدلّ بالحرج ، وهو كما تقدّم غير مرّة شخصي لا نوعي فلا تتمّ الدعوى كلّية. وبالجملة ، فلم نجد لهذا التفصيل وجها صحيحا.

وأمّا التفصيل بين انكشاف الخلاف بالعلم الوجداني فلا إجزاء بل لا بدّ من الحكم ببطلان الأعمال المأتيّ بها على طبق الاجتهاد السابق ، وبين انكشاف الخلاف بالتعبّد فيجزئ ، فعمدة ما يقال في توجيهه ما نقله الميرزا قدس‌سره عن بعض القدماء (١)

__________________

(١) لم نقف عليه.

٨٠٨

أمّا في الأوّل فلانكشاف الخلاف وبطلان العمل السابق فلا بدّ من إعادته ، وأمّا الإجزاء في الثانية فلأنّ الحكم الظاهري الّذي عمل على طبقه لم ينكشف خطأه ، بل تبدّل موضوعه ، مثلا إذا كان قد عمل بعموم لعدم وجدان المفتي لمخصّصه مدّة عشرين سنة ثمّ وجد المخصّص بعد ذلك فحيث إنّ الحجّية قائمة بالحجّة الواصلة ولم يكن المخصّص واصلا والآن وصل فقد تبدّل الموضوع ، فالعمل السابق صحيح كالثاني الواجد لموضوعه المتبدّل ، فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح من غير مرجّح إذا الحكم متبدّل لتبدّل موضوعه.

وأنت خبير بعدم تماميّته ، لأنّ الاجتهاد السابق وإن كان حجّة حدوثا إلّا أنّه ليس بحجّة بقاء ، إذ أنّه فعلا بمقتضى الاجتهاد الفعلي محكوم ببطلان العمل السابق وفساده ، فهو تارك للعمل الصحيح بغير حجّة فعليّة. ومنه يعلم أنّ مقتضى القاعدة لزوم الإعادة أو القضاء للعمل السابق.

في التقليد وأحكامه

قد اختلفت كلمات القوم في حقيقة التقليد وماهيّته ، فقيل ـ كما في الكفاية ـ : هو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات وللالتزام به في الاعتقاديّات تعبّدا بلا مطالبة دليل على رأيه (١). وقيل : هو أخذ الرسالة للعمل وان لم يعلم بما فيها (٢). وقيل : هو الالتزام بتطبيق أعماله على فتاوى الغير (٣). وقيل : هو الاستناد في العمل إلى فتوى الغير (٤).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٣٩.

(٢) انظر الفصول : ٤١١.

(٣) راجع رسالة التقليد للشيخ الأنصاري : ١٣.

(٤) انظر المعالم : ٢٤٢.

٨٠٩

والظاهر صحّة الأخير ، لأنّ التقليد لغة هو وضع القلادة في العنق ومنه التقليد في الهدي ، وقد استعير لجعل عمل المكلّف على عنق الغير الّذي هو المجتهد ، فيعمل العاميّ العمل ، فإن كان صحيحا فهو وإلّا فتبعته على المجتهد الّذي قلّده في ذلك ، ويشعر به أيضا ما ورد من أنّ من أفتى بغير علم كان عليه وزر من عمل بفتياه (١). ويشعر به أيضا ما ورد من قصّة ربيعة الرأي حين سأله أحد عن مسألة فأجاب فقال : على رقبتك؟ فسكت ثمّ كرّر السؤال فأجاب ، فقال له : على رقبتك؟ فسكت ثمّ كرّر السؤال ، فأجاب فقال : على رقبتك؟ فسكت فقال له الإمام عليه‌السلام : على رقبته إن قال : لا أو قال : نعم (٢). وغيرها (٣).

وبالجملة ، فالمعنى المناسب لمعناه اللغوي أن يقال : إنّ التقليد هو الاستناد في العمل إلى رأي الغير تعبّدا ، والالتزام وأخذ الرسالة من مقدّماته. وما في الكفاية : من أنّه لو كان هو العمل للزم كون العمل غير مسبوق بالتقليد (٤) غريب جدّا إذ أيّ آية أو رواية دلّت على لزوم مسبوقيّة العمل بالتقليد ، نعم يلزم أن يكون العمل مستندا إلى حجّة وهو يتمّ بأن يكون به التقليد ، فافهم.

ثمّ إنّ الكلام يقع في جواز التقليد فنقول : إنّ جواز التقليد أمر ارتكازي إذ رجوع الجاهل إلى العالم أمر ارتكازي لجميع البشر ، فإنّ الإنسان إذا مرض يفزع إلى الطبيب وإن لم يكن متديّنا بدين أصلا وما هو إلّا لذلك الارتكاز ، مضافا إلى الروايات المتواترة ، مثل قوله : «فللعوامّ أن يقلّدوه» (٥). ومثل قول :

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٩ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٦١ ، الباب ٧ من أبواب آداب القاضي ، الحديث ٢ (مع تفاوت في العبارة).

(٣) راجع الهامش الأوّل ، الحديث ٣٣ و ٣٢ و ٣١.

(٤) كفاية الاصول : ٥٣٩.

(٥) الوسائل ١٨ : ٩٤ ـ ٩٥ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

٨١٠

«اجلس وأفت الناس في الكوفة فإنّي أحب أن يرى في أصحابي مثلك» (١). ومثل مفهوم قوله : «من أفتى بغير علم كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» (٢). وغيرها (٣) ، ومثل إرجاع الأئمّة إلى آحاد أصحابهم (٤) ، وغيرها (٥).

فهذه كلّها تدلّ على جواز التقليد بل وجوبه التخييري حيث يتمكّن من الاحتياط ، وإلّا فالتعييني لأنّ عندنا واجبات قطعا يريدها الشارع ومحرّمات يريد تركها ، ومعرفة ذلك موقوفة على التقليد فيجب لذلك ، مضافا إلى دلالة آية النفر (٦). وغيرها (٧) ، وتقييدها بحصول العلم بعيد جدّا كما تقدّم.

فتلخّص ممّا ذكرنا جواز التقليد ويلزم جواز الأخذ بقوله ، إذ لا معنى للزوم التقليد وعدم جواز الأخذ إذ لا ثمرة له حينئذ.

وأمّا ما ورد من ذمّ التقليد (٨) فهو أجنبيّ عمّا نحن فيه :

أوّلا : لأنّه تقليد جهّال لجاهل.

__________________

(١) رجال ابن داود : ٩ ، نقلا عن النجاشي ولكنّ النجاشي قال (في مسجد المدينة) راجع رجال النجاشي : ١٠ ، أبان بن تغلب ، رقم ٧.

(٢) غوالي اللآلي ٤ : ٦٥ ، الحديث ٢٢.

(٣) راجع الوسائل ١٨ : ١٠ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٤) راجع الوسائل ١٨ : ٩٨ ـ ١١٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، مثل الحديث ١٥ و ٢٧ و ٣٣ وغيره.

(٥) راجع أخبار الباب ١١ من أبواب صفات القاضي في المصدر السابق.

(٦) التوبة : ١٢٢.

(٧) مثل آية الذكر ، الأنبياء : ٧.

(٨) مثل الآية الكريمة : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الزخرف : ٢٣ ، (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الإسراء : ٣٦.

٨١١

وثانيا : أنّه في اصول الدين ولا يجوز التقليد فيها لبساطة المقدار الواجب منها وسهولته بخلاف المسائل الفقهيّة ، فافهم وتأمّل.

وقياس الفقه على الاعتقاديّات في عدم جواز التقليد فيه قياس ومع الفارق أيضا ، فافهم.

في لزوم تقليد الأعلم وعدمه

ويقع الكلام تارة في حكم العامي إذ أراد التقليد ، واخرى في حكم المسألة بحسب الدليل للمجتهد.

أمّا الكلام في الاولى فنقول : إنّ المقلّد بعد علمه بحرمة العمل بالظنّ إذا أراد التقليد وكان هناك مجتهدان متفاوتان في الفضيلة فالأمر دائر عنده بين التعيين للأفضل أو التخيير بينه وبين المفضول ، فالقدر المتيقّن له هو حجّية قول الأفضل ، ضرورة أنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير يقضي بالتعيين فلا يجوز له إلّا العمل بفتوى الأفضل ، فإذا أفتى الأفضل بجواز الرجوع الى المفضول فحينئذ يجوز لهذا العامي تقليده في ذلك ، فلو أفتى المفضول بطهارة الغسالة مثلا مع كون فتوى الأفضل نجاستها فللعامي أن يبني على طهارتها عملا ، وقد أفتى السيّد اليزدي في عروته بعدم جواز ذلك (١) ولم يعلم وجهه علميّا عدا فرض كون العامي قد استقلّ عقله بلزوم تطبيق الفروع على طبق فتوى الأعلم بالنجاسة في الغسالة ، فحينئذ لا يجديه تجويز الأفضل له متابعة المفضول وهو وجه نادر التحقّق جدّا ، فتأمّل.

وأمّا الكلام في حكم المسألة من حيث الدليل فنقول :

تارة يعلم المقلّد أنّهما مختلفان بحيث تكون فتاوى المفضول مخالفة لفتاوى الأفضل وعلى خلاف الاحتياط أيضا ، كأن يفتي الأفضل بنجاسة الغسالة ويفتي

__________________

(١) انظر العروة الوثقى في التقليد مسألة ٤٦.

٨١٢

المفضول بطهارتها وفي مثل ذلك لا ريب في لزوم تقليد الأفضل ، إذ كلّما فرض دليلا لجواز التقليد لا يشمل كلا هذين الشخصين بالنسبة إلى هذه الفتيا ، إذ لا يعقل شمول دليل التعبّد لهما ، لاستحالة تعبّد الشارع بالمتناقضين. وحينئذ ففي مثل ذلك لا دليل إلّا السيرة العقلائيّة وهي بنفسها قاضية بالرجوع إلى الأعلم كما هو المشاهد كثيرا عندنا في مراجعات العقلاء من طرح قول المفضول مع معارضته لقول الأفضل ، فافهم.

واخرى لا يعلم أنّهما مختلفان في الفتوى بنحو تكون فتوى المفضول مخالفة للاحتياط والأقوى فيه جواز تقليد المفضول ، والدليل على ذلك السيرة العمليّة المستمرّة من زماننا إلى زمان الأئمّة من رجوع العقلاء في كلّ صناعة إلى اناس ليسوا أعلم الناس بذلك الفن ، مثلا من أراد البناء لا يترك جميع البنّائين ويذهب إلى خصوص زيد الّذي هو أمهرهم ، وكذلك من أراد الصياغة والحياكة.

وبالجملة ، فليس ديدن الناس على الرجوع إلى الأمهر ويتركون بقيّة الماهرين بل يرجعون إلى كلّ ماهر ، كان هناك أمهر منه أم لم يكن ، نعم في صورة مخالفة قول الماهر للأمهر يطرح قول الماهر ويرجع إلى الأمهر قطعا ، ويؤيده إطلاق الروايات والآيات ، وإنكار إطلاقها إنكار في الحقيقة للبديهيّات.

(ودعوى : أنّ المقام من موارد الشبهة المصداقيّة لصورة الاختلاف في الرأي الّذي قد فرض قصور دليل التقليد عن شموله ، يدفعها أصالة عدم الاختلاف في الرأي فيحقّق هذا الأصل الموضوع بنفي غيره) (١).

وقد استدلّوا على لزوم تقليد الأعلم في خصوص الأخير أو فيه وفي سابقه بوجوه :

أحدها : قوله في مقبولة ابن حنظلة : «الحكم ما حكم به أفقههما» الخ.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

٨١٣

وفيه أوّلا : أنّها في الحكم ، والكلام في التقليد ، وقياس أحدهما على الآخر قياس مع وجود الفارق إذ لا معنى للتخيير في القضاء.

وثانيا : أنّه لم يقل : الحكم ما حكم به أفقه المسلمين كافّة ، وإنّما قال : أفقههما ، وهو بإطلاقه شامل لما إذا كان هناك أعلم منهما معا.

وثالثا : أنّها ذكرت الترجيح بالأورعيّة والأصدقيّة ولا ترجيح بهما (في الفتوى إجماعا. هذا كلّه مع ضعف سند الرواية وإن سمّيت مقبولة ، فإنّ عمر بن حنظلة لم يثبت توثيقه وأيضا فإنّها في خصوص صورة العلم بتخالفهما وقد ذكرنا لزوم تقليد الأعلم حينئذ) (١).

ومنها : قوله عليه‌السلام : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك» (٢). وفيه بعض الكلام المتقدّم في المقبولة.

ومنها : أنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع. وفيه إنكار الصغرى والكبرى ، فإنّ كون فتواه أقرب إلى الواقع ممنوعة ، إذ المفضول إذا كانت فتواه مطابقة لفتوى الميّت الّذي هو أفضل من الجميع تكون أقرب إلى الواقع. وأمّا الكبرى فإنّ الأقربيّة إلى الواقع ليست معيارا في جواز التقليد ، إذ لا دليل عليها.

بقي هنا شيء هو أنّ في صورة العلم الإجمالي أو التفصيلي بالمخالفة لا بدّ من الفحص عن الأعلم للزوم تقليده والعمل على فتواه فيجب الفحص من باب المقدّمة ، بخلاف الصورة الثانية فلا يجب الفحص ، وفي الاولى أيضا لو علمنا بأنّ أحدهما أعلم ولم نشخّصه بخصوصه لا بدّ من الاحتياط بين الفتويين إن أمكن وإلّا فالتخيير ، ولو لم يعلم أعلميّة أحدهما بأن احتملت المساواة بينهما وأعلميّة كلّ منهما من الآخر ، فإن ظنّ أنّ زيدا أعلم قالوا يتعين عليه تقليد من ظنّ أعلميّته ، وإن لم يظنّ بل احتمل يتعيّن تقليد محتمل الأعلميّة ، وإن لم يحتمل يتخيّر.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٢) نهج البلاغة : ٤٣٤ ، الرسالة ٥٣.

٨١٤

وفي جميع ذلك نظر ؛ إذ أيّ دليل دلّ على حجّية هذا الظنّ؟ وأيّ دليل دلّ على حجّية هذا الاحتمال؟ وأيّ دليل دلّ على التخيير في صورة عدم الظنّ والاحتمال؟ ومقتضى القاعدة هو لزوم الاحتياط في الصور الثلاثة إلّا أن يقوم إجماع على ذلك وهو ما ذكروه ، وإلّا فالقاعدة تقضي بلزوم الاحتياط ، لأنّه يحتمل أعلميّة أحدهما ولم يشخّصه ، إذ الظنّ والاحتمال ليس بحجّة حتّى يشخّصه ، فهو من دوران الحكم بين الحجّة واللاحجّة فلا بدّ من الاحتياط إن أمكن.

وإن لم يمكن الاحتياط كما إذا اختلفا في الوجوب والحرمة أو كان موجبا للعسر والحرج تمّ ما قالوه من الرجوع إلى الظنّ أو الاحتمال وإلّا فالتخيير ، ولا يقاس المقام بصورة إمكان الاحتياط إذ لا علم بجعل الحجّة حينئذ في حقّه لإمكان الاحتياط ، بخلاف صورة تعذّره فإنّه لا بدّ فيها من مراعاة الظنّ ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الحجّية لانحصار الحجّة في حقّه بفتوى أحدهما ، فافهم.

في جواز تقليد الميّت وعدمه

المعروف بين الأصحاب على ما نسب إليهم عدم جواز تقليد الميّت مطلقا (١) وذهب بعضهم إلى جوازه مطلقا وهم المحدّثون (٢) (ووافقهم المحقّق القمّي في جامع الشتات (٣).

والظاهر أنّ هذه المخالفة لا تخلّ بدعوى الاصوليّين الإجماع على عدم الجواز ابتداء ، لأنّ مبنى الميرزا القمّي انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعيّة ،

__________________

(١) انظر مفاتيح الاصول ٦١٨ ـ ٦٢٤ ، ورسائل المحقّق الكركي ٣ : ١٧٦ ، والمسالك ٣ : ١٠٩ ، ورسائل الشهيد الثاني ١ : ٤٤ ، والمعالم : ٢٤٧.

(٢) الفوائد المدنيّة : ١٤٩ ، ومفاتيح الشرائع ٢ : ٥٢ وانظر مطارح الأنظار ٢ : ٥٦٤.

(٣) جامع الشتات ٤ : ٤٦٩ ، كتاب النكاح.

٨١٥

وهو فاسد إذ باب العلم منفتح بحجّية الظواهر مطلقا حتّى لمن لم يقصد إفهامه ، وخبر الثقة حجّة وافية بمعظم الأحكام. ولو سلّم الانسداد فخصوصيّة هذا الظنّ لا معيّن له. ومبنى الأخباريّين الرجوع إلى الميّت بما أنّه راو للحديث ولا يعتبر فيه الحياة ، فهم يمنعون من جواز التقليد كلّية) (١).

وفصّل بعض الأصحاب الأخر بين الابتداء فالمنع والاستمرار فالجواز (٢).

والكلام يقع في موردين :

الأوّل : أن لا يعلم اختلاف بين الميّت والحيّ الموجود في الفتوى.

الثاني : أن يعلم الاختلاف بينهما.

أمّا الكلام في الأوّل فنقول : استدلّ القائلون بجواز تقليد الميّت مطلقا بالاستصحاب ، فإنّ الحجّية الّتي كانت ثابتة لقوله حال حياته ـ بأيّ معنى فسّرت الحجّية من جعل التنجيز والإعذار أو جعل الوسطية في الإثبات والطريقيّة ـ فهي ثابتة لقوله حال حياته قطعا ونشكّ في ارتفاعها بالموت.

أمّا كونها متيقّنة فلا ريب فيه.

وما يقال : من أنّها لم يعلم حجّيتها بالنسبة إلينا ، إذ المعلوم كونها حجّة بالنسبة إلى أهل زمانه ، فاسد إذ لا مدخليّة لأهل زمانه في ذلك ، إذ لو كنّا نحن موجودين في ذلك الزمان لكان حجّة في حقّنا قطعا ولا خصوصيّة لهؤلاء أصلا.

مضافا إلى عدم ورود هذه الشبهة في التقليد الاستمراري بل وبعض أفراد الابتدائي ، وهو المدرك للزمانين ولم يقلّده ، فإنّ هؤلاء قد كان حجّة في حقّهم قطعا.

وأمّا كونها مشكوكة فلا ريب فيه أيضا ، إذ المفروض الشكّ في جواز تقليده وعدمه.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) مثل السيّد في العروة في التقليد المسألة ٢٢ وغيره من المعاصرين.

٨١٦

وما يقال : من أنّ الشكّ منفيّ فإنّ الموضوع هو الإنسان برأيه ، وبالموت ينعدم عرفا وإن بقي واقعا بنحو أكمل ، لبقاء النفس الناطقة ، ومع انعدام الموضوع عرفا لا مجال لجريان الاستصحاب ، ولذا لا يجوز تقليد من عدل عن رأيه السابق في رأيه السابق ، ولا يجوز تقليد من اعتراه داء النسيان أو الجنون أو الهرم أو ذهبت ملكة اجتهاده.

فاسد فإنّ الموضوع هو الإنسان برأيه ـ كما ذكر ـ وهو موجود عرفا وحقيقة ، إذ المراد وجوده زمان حياته فإنّ الكلام في أنّ الحجّية الثابتة له حال الحياة مشروطة بالحياة أم غير مشروطة بها فيكون الموضوع : من كان ذا رأي حال حياته على الثاني وعدم جواز تقليده في الرأي الّذي عدل عنه ، بل عدم جواز عمله نفسه به إنّما هو لأنّ حجّية رأيه إنّما هي مع عدم انكشاف الخلاف.

وأمّا الجنون والهرم والنسيان فمضافا إلى قيام الإجماع على عدم جواز التقليد لهم المنفيّ هنا أنّ بينها وبين المقام فرقا ، فإنّ النسيان والجنون والهرم المؤدّي إلى النسيان معدود عرفا نقصا في الإنسان فلا يليق لمنصب الإفتاء والتقليد ، وهذا بخلاف الموت فإنّه شرف ورفعة له لانتقاله إلى عالم التجرّد الرفيع.

وبالجملة ، فأركان الاستصحاب تامّة لا يرد عليها ما ذكر في الكفاية (١) وغيرها (٢) وإنّما يرد عليه أمران :

أحدهما : ما ذكرنا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية ، لأنّ الحجّية المجعولة لم يعلم مقدار جعلها من أوّل الأمر فيكون الاستصحاب معارضا ، (مع أنّا لو قلنا بحجّية الاستصحاب في الأحكام الكلّية فالحجّية المستصحبة في المقام إن كانت الحجّية الفعليّة فمعلوم أنّها لم تكن متيقّنة ، والحجّية الثانية وإن كانت ثابتة

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٥٤٧.

(٢) انظر رسالة (التقليد) للشيخ الأنصاري : ٤٠.

٨١٧

بمعنى أنّا لو كنّا موجودين حال حياته لكانت حجّة في حقّنا إلّا أنّ الحجّية الثانية مردّدة بين الأقلّ والأكثر بحسب الجعل ، والقدر المتيقّن من جعلها هو حال الحياة ، فبعد الموت الاستصحاب يقتضي عدم جعلها مع أنّ فتاوى الأموات متخالفة ومتعارضة ، ودليل الحجّية لا يشمل المتعارضين أصلا) (١).

الثاني : أنّ الاستصحاب لا يجري مع وجود الدليل اللفظي وهو موجود في المقام إمّا على الجواز وإمّا على عدم الجواز :

بيان ذلك أنّ مثل قوله عليه‌السلام : «أمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه» (٢). ومثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٣) بناء على دلالتها على التقليد كما قيل ، ومثل قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)(٤) الآية ، وغيرها من أدلّة التقليد تدلّ بإطلاقها على حجّية قول المفتي وإن مات ، فإنّ قوله (فَسْئَلُوا) الخ لم يقيّد حجّية الرجوع إليه والعمل برأيه بكونه حيّا ، بل هي مطلقة لما إذا عمل بعد سؤاله ثمّ مات ، فيجوز العمل بقوله حينئذ أيضا بإطلاقات هذه الأدلّة ، وإنكار إطلاقها مجازفة.

مضافا إلى قيام السيرة العقلائيّة على ذلك أيضا ، فإنّ المريض إذا وصف له الطبيب الدواء النافع ثمّ إنّ الطبيب بعد دقيقة واحدة مات فهل يشكّ العقلاء في العمل بقوله؟ وكذا المقوّم والمهندس وغيرهم من أرباب الاجتهادات مع عدم الرادع عن هذه السيرة ، بل قد عرفت أنّ إطلاقات الأدلّة المذكورة شاملة لها.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(٢) الوسائل ١٨ : ٩٤ ـ ٩٥ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

(٣) الأنبياء : ٧.

(٤) التوبة : ١٢٢.

٨١٨

نعم ، هذه الأدلّة لا تشمل التقليد الابتدائي للميّت ، بل يمكن دعوى ظهورها في عدم جواز تقليده ابتداء فإنّ ظاهرها كونه حال السؤال من أهل الذكر ومن الفقهاء وصائنا وحافظا ومخالفا ، وكذا ظاهر غيرها من أدلة التقليد مثل قوله : «أفت الناس بالكوفة فإنّي احبّ أن يرى في أصحابي مثلك». ومثل غيره فإنّها ظاهرة في بقائه حيّا ، وكونه حيّا.

نعم ، لو كان في الروايات لفظ الرجوع إلى الفتيا لأمكن بإطلاقه شمول تقليد الميّت ابتداء وليس فليس ، وإنّما الموجود الرجوع إلى رجل نظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم عليهم‌السلام فإنّ ظاهر هذه الأدلّة حصر جواز التقليد في مثل هؤلاء ، فهي بمفهومها تدلّ على عدم جواز تقليد غير هؤلاء فتكون رادعة للسيرة العقلائيّة من العمل بقول الميّت ابتداء في واقعة ، فإنّ من مرض بمرض فوصف له حينئذ الطبيب دواء ثمّ مات الطبيب ، وابتلى شخص آخر بمثل ذلك المرض فذكر ذلك المريض ذلك الدواء للمريض الثاني لا يتوقّف في أخذه ، فإنّ ذلك لو سلّم إنّما يجدي لو لم يحصل ما يوجب الردع ، وقد وجد وهو ما ذكرنا من ظهورها في اعتبار فعليّة هذه الأوصاف وهي مفقودة في الميّت قطعا ، ولو نوقش في ذلك فالإجماعات الكثيرة المدّعاة على عدم جواز تقليده ابتداء تكون هي الرادعة ، والعمدة الأوّل.

ثمّ إنّ هذا كلّه فيما لم يعلم مخالفة الميّت للحيّ ، أمّا لو علم مخالفة الميّت للحيّ وكان الحيّ مخالفا له مخالفة على خلاف الاحتياط. فأمّا تقليده ابتداء فلا يجوز لما تقدّم ، وأمّا الاستمراري فبعد البناء على جواز البقاء على تقليد الميّت في نفسه مع قطع النظر عن المعارضة ، ففي المقام إمّا أن يكون الحيّ أعلم فيجب عليه الرجوع إليه لو كان ذاك حيّا أيضا ، والوجه فيه واضح ، إذ أدلّة التقليد لا تشمل المتعارضين والسيرة العقلائيّة تعيّن الرجوع إلى الأعلم. وإن كان الميّت أعلم فيجب البقاء على تقليده ، لما ذكر أيضا. وإن كان كلّ منهما محتمل الأعلميّة فالاحتياط بين الفتويين

٨١٩

أيضا إن لم يقم إجماع على عدم لزوم الاحتياط كما هو الظاهر وإلّا فالتخيير. وإن احرز التساوي فالحيّ هو المقدّم لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فافهم.

وخلاصة القول في جواز تقليد الميّت وعدمه مع العلم بالمخالفة بين الفتويين هو استقرار سيرة العقلاء على العمل بقول الميّت ابتداء واستدامة ، غير أنّ ظهور الآيات والروايات في اعتبار الصفات المذكورة من كونه ناظرا في حلالهم وحرامهم وعارفا بأحكامهم وكونه من أهل الذكر حال السؤال والاستفتاء فيخرج عن السيرة في التقليد الابتدائي لوجود الرادع لكنّه في التقليد الاستمراري لا رادع فيعمل بالسيرة لعدم الردع ، هذا بخلافه في الابتدائي لتحقّق الردع. ولو نوقش في إفادة هذه الأدلّة الردع فإنّ هناك رادعا آخر وهو الإجماع المدّعى ، وهو متحقّق لعدم نسبة الخلاف في المنع عن التقليد الابتدائي للميّت إلى أحد من المتقدّمين والمتأخّرين إلى زمان الشهيدين.

نعم ، أوّل من ذكر وجوب تقليد الميّت ابتداء المحدّث الأسترآبادي والكاشاني وصاحب القوانين من الاصوليّين ، ولكنّه لا خلاف فيمن تقدّمهم في عدم جواز تقليد الميّت مع أنّ كلام هذين المحدّثين محتمل لأن يكون التجويز في العمل بفتيا الميّت إنّما هو لزعمهم أنّ فتياه رواية ، ولا ريب في عدم اعتبار حياة الراوي في العمل بروايته ، لا أنّه تقليد ومع ذلك يجوز ، فلا يكون قولهم مخالفا في المسألة.

وممّا يؤيّد عدم جواز تقليد الميّت ابتداء أنّه لو جاز ذلك لوجب تقليد الأعلم من العلماء المتقدّمين والمتأخّرين ، ولا يبعد أن يكون هو الشهيد الأوّل قدس‌سره فيلزم كلّ من تأخّر عنه الرجوع إليه حتّى يظهر من هو أعلم منه فيعدل إليه. وهذا مقارب لمذهب العامّة في حصر العمل بمذاهبهم الأربعة وهو باطل قطعا فافهم.

بقي هنا امور :

أحدهما : أنّه هل يشترط في جواز البقاء على تقليد الميّت أن يكون العامّي عاملا بفتياه أم لا؟ ربّما يقال بالأوّل لأنّ التقليد هو العمل بفتيا الغير ، فإذا لم يعمل يكون تقليده للميّت ابتداء ، وهو باطل.

٨٢٠