غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

الصغير واجدا له ففقده عند نطق أبيه بالشهادة ، مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر الأخبار ، لأنّ ظاهرها نطق الشارع بها بما أنّه شارع والّذي يناسبه إنّما هو الإنشاء.

وإن أراد بالأشياء الواقعيّة ملاكات الأحكام والمصالح والمفاسد وأنّه لا بدّ من مصلحة في اعتبار هذا طاهرا وهذا نجسا ، فهذا مسلّم ، ولكن لا يخرجهما عن كونهما اعتبارين كبقيّة الأحكام.

وبالجملة ، كونهما أمرين واقعيّين خلاف ظواهر الأخبار ، مع أنّه لا معنى لها في ظرف الشكّ كما في قوله : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (١) فإنّها لو قصد بها الإخبار لزم الكذب في كثير من موارد الشكّ حيث يكون نجسا في الواقع.

ودعوى : كونه دليلا تنزيليّا فهو يخبر بتنزيل المشكوك منزلة الطاهر نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الطواف في البيت صلاة» (٢) و «الفقّاع خمر استصغره الناس» (٣).

مدفوعة باقتضائها صحّة الوضوء في الماء المشكوك طهارته ونجاسته وإن انكشف نجاسته ولا نظن أنّ الشيخ الأنصاري يلتزم بذلك ، مع ظهور الأدلّة بخلافه كموثّقة عمّار : فيمن اغتسل أو غسل ثوبه بماء ثمّ انكشف أنّ فيه فأرة فأمره عليه‌السلام أن يغسلها ثانيا (٤).

وكيف كان ، فالظاهر أنّ الطهارة والنجاسة حكمان وضعيّان مستقلّان بالجعل.

ومنها : الصحّة والفساد ، وقد ذكر بعض أنّهما مجعولان ، وآخر أنّهما أمران واقعيّان ، وفصّل ثالث بين الأحكام التكليفيّة فليسا بمجعولين ، لأنّ الصحّة عبارة عن مطابقة المأتيّ به للمأمور به وهي أمر واقعي لا ربط له بالجعل ،

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

(٢) مستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ ، الباب ٣٨ من أبواب الطواف ، الحديث ٢.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢٩٢ ، الباب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث الأوّل.

(٤) الفقيه ١ : ٢٠ ، باب المياه وطهرها ونجاستها ، الحديث ٢٦.

٥٦١

وبين المعاملات فالصحّة فيها مجعولة ، لأنّها عبارة عن ترتيب الآثار وترتيب الآثار بيد الشارع فهما في المعاملات مجعولان.

وربّما فصّل بين الصحّة والفساد الواقعيّين فليسا بمجعولين مطلقا وبين الظاهريّين فهما مجعولان ، لأنّ الواقعيّين عبارة عمّا ينتزع من مطابقة المأتيّ به للمأمور به ، سواء العبادات والمعاملات ، فإنّ صحّة المعاملة أيضا عبارة عمّا ينتزع من انطباق ما جعله الشارع سببا للملكيّة على الموضوع الخارجي ، وهذا بخلاف الظاهريّين كما في قاعدة التجاوز والفراغ فإنّه جعل للصحّة ـ أي لتماميّة الأجزاء والشرائط ـ بعد تجاوز المحلّ أو بعد الفراغ. وهذا التفصيل هو اللائق بالقبول.

ومنها : الرخصة والعزيمة في موردهما كسقوط الأذان والإقامة في بعض الموارد ، ومعنى العزيمة فيهما سقوط أمر الأذان والإقامة بتمام مراتبه ، ومعنى كون سقوطهما رخصة سقوط أمرهما ببعض مراتبه وهي مرتبة شدّة الطلب ، وحينئذ فلا ربط لهما بالجعل وليسا من الأحكام الوضعيّة أصلا ، لأنّ كون الأذان حراما لأنّه تشريع أو ليس بحرام بل فيه استحباب أيّ ربط لهما بالحكم الوضعي؟ فافهم.

ومنها : الماهيّات المخترعة للشارع كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ ، وقد ذكرها الشهيد (١) بعنوان الماهيّات الجعليّة الظاهر في كونها مجعولة ، وقد تبعه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) فاختار كونها مجعولة ، فجعل المجعولات ثلاثة : الأحكام التكليفيّة ، والأحكام الوضعيّة ، والماهيّات المخترعة.

والظاهر أنّها غير مجعولة ، لأنّ لها مراحل ثلاث :

الاولى : في عالم التصوّر لهذه الماهيّة المركّبة ، وتصوّرها وإن كان يوجب وجودها في عالم الذهن إلّا أنّ هذا الوجود تكويني في كلّ متصوّر ، فإنّ تصوّر الجدار أيضا يوجب حصول صورته في عالم الذهن إلّا أنّ هذا ليس جعلا وإلّا لزم جعله.

__________________

(١) انظر القواعد والفوائد ١ : ١٥٨ ، القاعدة ٤٢ ، فائدة ٢.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ٧٤.

٥٦٢

الثانية : التصديق بفائدتها ، وهذا أيضا لا ربط له بالجعل.

الثالثة : الأمر بها ، وهذا أيضا ليس إلّا اعتبار كونها في ذمّة المكلّف ، وهو جعل للوجوب المتعلّق بها وليس جعلا لها أصلا. وبالجملة فالظاهر أنّها ليست بمجعولة أصلا ، فلا يجري الاستصحاب فيها أصلا إلّا أن يكون لها أثر.

ثمّ إنّه بقي شيء لا بأس بالتعرّض له ، وهو أنّه ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره أنّ الحكم الوضعي لا بدّ أن يكون مجعولا بنحو القضيّة الحقيقيّة ، وجعل مثل جعل الأمير عليه‌السلام لمالك الأشتر واليا على مصر خارجا عن مفهوم الحكم الوضعي وكذلك جعل الله نبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإمامة أميرالمؤمنين عليّ عليه‌السلام (١).

ونحن نقول : إن كان كلامه هذا اصطلاح له قدس‌سره في الحكم الوضعي وأنّه يصطلح بالحكم الوضعي على خصوص هذا فلا مشاحّة في الاصطلاح ، وإن كان تحته ثمرة علميّة أو عمليّة فنحن لا نرى فرقا بين الحكم التكليفي والوضعي ، وكما يصحّ التكليفي أن يجعل بنحو القضيّة الحقيقيّة كذلك يكون بنحو القضيّة الشخصيّة ، والحكم الوضعي كذلك. فكما يمكنه أن يقول : «انظروا إلى رجل منكم روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا فاجعلوه قاضيا فإنّي قد جعلته قاضيا» (٢) كذلك له أن يجعل شخصا قاضيا ، وكلاهما مجعولان.

هذا تمام الكلام في الأحكام الوضعيّة. وقد تلخّص أنّ الأحكام الوضعيّة بأسرها مجعولة للشارع بعضها استقلالا وبعضها تبعا للحكم التكليفي. نعم ما كانت منتزعة من الحكم التكليفي كالشرطيّة والسببيّة تكون محكومة بالاستصحاب المتعلّق بالحكم التكليفي ، فإنّه يكون حاكما عليه ، وسيأتي الكلام فيها ان شاء الله.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ٧٥.

(٢) انظر الوسائل ١٨ : ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

٥٦٣

وقد فصّل الفاضل التوني بين الأحكام التكليفيّة والأسباب والشروط والموانع الخارجيّة كالدلوك مثلا وبين بقيّة الأحكام الوضعيّة كالزوجيّة والحريّة والرقيّة ، فحكم بعدم جريان الاستصحاب في الأوّل لإطلاق أدلّته فلا شكّ في أجزاء الوقت في الموقت ، وبعد الوقت لا معنى لجريان الاستصحاب ، وكذا لا شكّ في غير الموقّت حتّى يحتاج إلى الاستصحاب (١).

ولا يخفى ما في كلامه قدس‌سره فإنّ الأدلّة ليست كلّها لفظيّة ، واللفظيّة ليست كلّها مطلقة ، والموقّت ربّما يشكّ في انتهاء وقته مفهوما أو مصداقا ، وكلّ هذه المورد هي موارد لجريان الاستصحاب في الأحكام. على أنّه لو تمّ ما ذكره قدس‌سره لم يجر الاستصحاب في الموارد الّتي حكم فيها بالجريان كالملكيّة والزوجيّة ، فإنّ الملكيّة من آثار البيع ، والزوجيّة من آثار العقد فينظر إلى مفاد الدليل الدالّ على [أنّ] تأثير البيع الملكيّة ، أو العقد مثلا الزوجيّة ، فلا وجه لما ذكره قدس‌سره من التفصيل ، فتأمّل.

__________________

(١) انظر الوافية : ٢٠٢.

٥٦٤

تنبيهات

[التنبيه] الأوّل : الكلام في الاستصحاب الاستقبالي

قد ذكرنا أنّ كلّا من قاعدة المقتضي والمانع وقاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب مشتركة في كونها مشتملة على يقين وشكّ فنقول : إن كان المتيقّن والمشكوك أمرين أجنبيّين لا ربط لأحدهما بالآخر أصلا وإنّما يشتركان في كونهما جزء علة فقط فهي قاعدة المقتضي والمانع ، وإن كان متعلّق اليقين دقّة هو متعلّق الشكّ وإنّما زمان حصول اليقين مغاير لزمان حصول الشكّ فهو قاعدة اليقين المعبّر عنها بقاعدة الشكّ الساري ، وإن تغايرا دقّة واتّحدا خارجا بحيث إنّه هو الآن متيقّن شاكّ غير أنّ متعلّق يقينه يوم الجمعة ومتعلق شكه بقاء ذلك المتيقّن فهو الاستصحاب ، فالعبرة بوجود يقين بالحدوث وشكّ في البقاء فحينئذ لا يعتبر في المتيقّن أن يكون في الزمان السابق بل قد يكون حاليّا ، كما إذا رأى زيدا فهو متيقّن بحياته فإذا شكّ في أنّ زيدا الحيّ يبقى إلى سنة أم لا وكان لبقائه سنة أثر عملي يجري فيه الاستصحاب ، فإنّ اليقين بالحياة والشكّ في بقائها حاصل. وقد اصطلحنا على هذا الاستصحاب بالاستصحاب الاستقبالي.

لكنّ الّذي نقله الميرزا النائيني قدس‌سره عن صاحب الجواهر قدس‌سره أنّه منع عن جريان مثل هذا الاستصحاب (١) بدعوى أنّ أخبار الاستصحاب غير شاملة له لظهورها في كون اليقين والشكّ متعلّقين بزمان سابق وحال (*).

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٣١.

(*) أقول : يظهر من صاحب الجواهر قدس‌سره إجراء مثل هذا الاستصحاب فإنّه في المسألة المعروفة وهي شكّ المأموم في إدراك ركوع الإمام بعد أن منع جريان الاستصحاب لإثبات

٥٦٥

ولا يخفى عليك أنّها لا ظهور لها في ذلك لو لم يدع ظهورها في التعميم بقوله : «فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ» وكون مورد بعضها هو ذلك لا يقتضي الجمود عليه ، فإنّ المورد لا يخصّص الوارد ، فافهم وتأمّل.

وممّا رتّبنا على هذا المطلب من الثمرة هو جواز البدار في غير التيمّم من ذوي الأعذار إذا كان لا يعلم زوال عذره في أثناء الوقت ، فإنّه بناء على جريان استصحاب عجزه لا مانع من بداره ، وهذا بخلاف ما لو لم نبن على جريان مثل هذا الاستصحاب ، فإنّ الواجب عليه تحصيل الصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط في تمام الوقت ، وبالعجز حينئذ عنها في بعض الوقت لا يسوغ الإتيان بها ناقصة مع احتمال حصول القدرة في آخر الوقت كما لو علم بالزوال.

وهذا التفصيل بين المتيمّم وغيره عكس التفصيل لصاحب العروة ، لأنّ في خصوص التيمّم أخبار تمنع عن البدار فتحكم على الاستصحاب بخلاف غيره من ذوي الأعذار ، والسيّد قدّم الأخبار المجوّزة للبدار في التيمّم (١) وحمل المانعة على الاستحباب.

ومقتضى القاعدة ما ذكرنا ، فإنّ الأخبار المانعة نصّ في صورة الرجاء لحصول الماء لتعليلها بقوله : «إن فاته الماء لم تفته الأرض» (٢) والأخبار المجوّزة (٣) دلالتهم على جواز البدار في صورة الرجاء بالإطلاق ، فبمقتضى حمل المطلق على المقيّد تخصّ الأخبار المجوّزة للبدار بصورة اليأس.

__________________

ـ الإدراك ، ذكر أنّه يجري الاستصحاب لبقاء الإمام راكعا فيترتّب عليه جواز دخول المأموم في الصلاة ، وهذا صريح في جريان هذا الاستصحاب ، فافهم. (الجواهري). راجع الجواهر ١٣ : ١٤٩.

(١) العروة الوثقى ١ : ٥٠٠ ، فصل في أحكام التيمّم ، المسألة ٣ ، وانظر المستمسك ٤ : ٤٤٢ ـ ٤٤٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٩٩٤ ، الباب ٢٢ من أبواب التيمّم ، الحديث ٤.

(٣) المصدر المتقدّم ، الباب ١٤ ، الأخبار.

٥٦٦

التنبيه الثاني : [في الشك التقديري]

يعتبر في جريان الاستصحاب فعليّة اليقين والشكّ كما في جميع القضايا الحقيقيّة ، فإنّ الحكم إنّما يكون فعليّا بفعليّة موضوعه ، فإذا قال مثلا : البول نجس ، فإنّما تكون النجاسة فعليّة بعد فرض فعليّة البول فينجس ملاقيه حينئذ.

وبالجملة ، كلّ حكم رتّب على موضوع إنّما يبلغ مرتبة الفعليّة بعد فعليّة موضوعه ، فالاستصحاب موضوعه اليقين والشكّ فإنّما يكون الحكم الاستصحابي فعليّا بعد فرض فعليّة اليقين والشكّ ، وهذا يقتضي عدم العبرة بالشكّ التقديري ، كما في الغفلة فإنّ الشكّ التقديري موجود فيها ، فإنّه لو التفت لشكّ ، فالشكّ متحقّق على تقدير لم يتحقّق فيؤول إلى كون الشكّ غير متحقّق فلا يجري الاستصحاب ، وهذا لا كلام فيه. وإنّما الكلام فيما فرّعه الشيخ الأنصاري على هذا الفرع وهو فرعان :

الأوّل : فيما لو تيقّن الحدث ثمّ غفل وصلّى ثمّ التفت بعد الصلاة وشكّ في أنّه تطهّر بعد حدثه اليقيني أم لا ، فبناء على جريان الاستصحاب لكفاية الشكّ التقديري حال الصلاة تكون الصلاة باطلة ، لأنّه محدث بمقتضى الاستصحاب وإلّا فالاستصحاب بعد الصلاة محكوم بقاعدة الفراغ فتكون الصلاة صحيحة ، لأنّ الشكّ الفعلي الحاصل بعد فراغه من الصلاة وإن كان متحقّقا إلّا أنّ الاستصحاب حينئذ محكوم بقاعدة الفراغ.

الثاني : الفرع بعينه إلّا أنّ المكلّف التفت فشكّ في الطهارة قبل الشروع في الصلاة ثمّ غفل فصلّى فقد حكم الشيخ ببطلان صلاته ، لأنّه بالتفاته إلى حدثه قبل الصلاة وشكّه صار محدثا بحكم الاستصحاب فتبطل صلاته للحدث.

نعم ، لو احتمل طهارته بعد التفاته جرت قاعدة الفراغ حينئذ (١).

__________________

(١) انظر الفرائد : ٣ : ٢٥.

٥٦٧

أقول : لا يخفى عليك ما في الفرع الأوّل ، فإنّ قاعدة الفراغ بناء على كونها أمارة كما هو الظاهر المستفاد من قوله : «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشكّ» (١) وقوله : «هو حين يصلّي أقرب إلى الواقع أو الحقّ» (٢) فلا تجري مع الغفلة كلّية قلنا بجريان الاستصحاب التقديري أم لا ، وبطلان الصلاة حينئذ للشكّ الفعلي فيجري استصحاب الحدث ، بل لو لم يجر الاستصحاب الفعلي فرضا أيضا كفى بقاعدة الاشتغال بعد عدم إحراز الفراغ من التكليف المعلوم.

وإن لم نقل بأماريتها وقلنا بأنّها أصل ، فكما تحكم قاعدة الفراغ على الاستصحاب بعد الفراغ كذلك تحكم على الاستصحاب في الأثناء أيضا لو قلنا بجريان الاستصحاب لكفاية الشكّ التقديري في جريانه ، فلا تبتني المسألة على الاكتفاء بالشكّ التقديري وعدمه ، بل حتّى لو قلنا بكفايته أيضا لا يجري لحكومة قاعدة الفراغ عليه ، فإنّ جميع موارد قاعدة الفراغ مسبوقة بالشكّ التقديري ، فلو منعنا عنها لم تجر قاعدة الفراغ إلّا في الموارد النادرة.

(ثمّ إنّه أشكل بعض المحقّقين (٣) في تعليقته على الكفاية في هذا المقام فزعم أنّ جريان الاستصحاب بعد الفراغ عند الشكّ الفعلي لا يترتّب عليه بطلان الصلاة ، لأنّ بطلانها إمّا لاقترانها بالحدث الواقعي ولم يعلم وإمّا لاقترانها بالحدث الظاهري ولم يعلم ، لأنّ الاستصحاب لا يجري حال الصلاة لفرض عدم الشكّ الفعلي ، وبعد الصلاة يجري الاستصحاب إلّا أنّ الصلاة لا تنقلب عمّا وقعت عليه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣٢ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٢) الوسائل ٥ : ٣٤٣ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣ مع اختلاف يسير.

(٣) لم نعثر عليه.

٥٦٨

وبتقريب آخر : أنّ اقتران الصلاة بالمانع يوجب بطلانها إلّا أنّ المانعيّة تنتزع من الأمر الناشئ من الاستصحاب المتأخّر عن الصلاة ، نعم لو كانت المانعيّة من الاعتبارات كالملكيّة والزوجيّة أمكن اعتبارها في الزمان المتقدّم كما في الفضولي ، ولكنّها منتزعة من الأمر الاستصحابي فلا تتقدّم عليه.

هذا ملخّص ما أفاده قدس‌سره ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ الاستصحاب لا يحكم بحدوث المانع كي تنقلب الصلاة من الصحّة الى الفساد وإنّما يحكم ببقاء المانع ، فالصلاة حين صدورها لم يكن المانع محرزا فيها وبالاستصحاب أحرز المانع فيها حينها ، والاستصحاب لا يحقّق المانعيّة وإنّما يحقّق نفس المانع ، فظهر أنّ الاستصحاب يقتضي بطلان الصلاة) (١).

وأمّا الفرع الثاني فهو أيضا كالأوّل بناء على الأماريّة ، وأمّا بناء على أنّها أصل فأيضا لا تبنى على ما ذكر من عدم صحّة الصلاة للاستصحاب ، وذلك لأنّ الاستصحاب إنّما يجري مع فعليّة اليقين والشكّ أيضا ، وإنّما يستمرّ الحكم به حيث يستمرّا ، وهنا إنّما لا يجري الاستصحاب من جهة أنّه بغفلته لا شكّ فعلي له فلا يجري الاستصحاب حال الصلاة لفرض الغفلة الّتي يرتفع معها الشكّ الفعلي ، وإنّما يحكم بفساد الصلاة لعدم جريان قاعدة الفراغ فيه ، لأنّها ظاهرة في الشكّ الحادث بعد الفراغ ، وهذا الشكّ وإن كان حادثا بعد الفراغ دقة إلّا أنّه هو الشكّ الأوّلي الحاصل قبل الشروع فيها عرفا فلا تكون قاعدة الفراغ حينئذ جارية ، فلا بدّ من إعادة تلك الصلاة. هذا كلّه إن قلنا بجريان قاعدة الفراغ في فرض الغفلة ، وإلّا فالأمر أظهر حينئذ.

وبالجملة ، المعيار في هذين الفرعين ليس ما ذكره من ابتنائها على كفاية الشكّ التقديري ، بل الأوّل مبنيّ على أماريّة قاعدة الفراغ أو كونها أصلا ، والثاني مبنيّ على أنّ قاعدة الفراغ هل تشمل الشكّ المتقدّم على العمل أم لا؟ فافهم.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٦٩

التنبيه الثالث : [في ما لو ثبت المستصحب بأمارة أو أصل]

إذا كان الحكم المستصحب ثابتا بالعلم الوجداني فلا كلام في جريان الاستصحاب حينئذ ، وإنّما الكلام فيما إذا كان ثابتا بأصل أو أمارة ، فإن قلنا بأنّ الأصل والأمارة يوجبان جعل حكم ظاهري ، فلا إشكال في جريان استصحاب ذلك الحكم الظاهري إن لم يكن ثبوته بعنوان قيام الأمارة عليه المنفيّ بقاء ، وكذا إن قلنا : إنّ معنى جعل الحجّية جعل الإحراز وجعل ما ليس بعلم علما ـ كما هو الظاهر ـ فإنّ الحكم حينئذ يكون معلوما بالتعبّد. وإن لم نقل بالسببيّة وجعل الحكم وقلنا بجعل المنجزيّة والمعذريّة فكيف يستصحب الحكم؟ وأيّ حكم ثبت بالأمارة حتّى يستصحب؟ وعدم جريان الاستصحاب فيه يوجب الهرج والمرج في الشريعة المقدّسة. وقد أجاب الآخوند عن هذا الإشكال بأنّ مؤدّى الاستصحاب المستفاد من أدلّته هو أنّ ما ثبت يدوم ، وحينئذ فتنجيز الحكم بالطهارة مثلا بقاعدة الطهارة قد ثبت فيدوم بمقتضى أدلّة الاستصحاب حينئذ (١).

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّه خلاف ظواهر الأدلّة ، فإنّ : «لا تنقض اليقين بالشكّ» اعتبر اليقين والشكّ والنقض ، وهو ظاهر في بقاء اليقين خصوصا مع قوله : «اليقين لا يدفع بالشكّ».

(نعم ، إن أراد الآخوند أنّ المراد من قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» لا تنقض المنجّز أيّا كان بالشكّ ، وذكر اليقين لكونه أظهر أفراد المنجّز تمّ قوله ثبوتا ، إلّا أنّه لا يتمّ إثباتا لكونه خلاف ظاهر الأخبار من غير قرينة. وأين هذا من قوله : ما ثبت يدوم؟) (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦٠ ـ ٤٦١.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٧٠

وأمّا ثانيا : فإن اريد بها الإخبار عن الملازمة الواقعيّة فلا ريب أنّه كذب وجداني إذ لا ملازمة بين ثبوت شيء وبقائه واقعا ، مع أنّ دليل ثبوت الشيء يكون دالّا على بقائه لا الاستصحاب ، وإن اريد جعل الملازمة ظاهرا وتعبّدا فهو باطل أيضا ، لأنّه يقتضي عدم جريان البراءة في المشكوك المقرون بالعلم الإجمالي الّذي قد انحلّ بقيام بيّنة على تعيين النجس ، مثلا إذا علم نجاسة أحد الإناءين فقد تنجّز وجوب اجتنابهما معا ، فإذا قام دليل على تعيين النجس منهما كالبيّنة فما ذكره يقتضي عدم جريان أصالة الطهارة وأصالة البراءة من حرمة شربه ، لأنّ التنجيز ثبت فيدوم ، وهذا باطل في الشبهة الموضوعيّة إجماعا ، وفي الشبهة الحكميّة التحريميّة أيضا على مذاق الاصوليّين. نعم هو صحيح على مذاق المحدّثين من اجتناب المشكوك حرمته بدوا ، وحينئذ فلا بدّ لنا من ذكر وجه جريان الاستصحاب في الأحكام الثابتة بالاصول والأمارات.

فنقول : يقع الكلام في موردين : أحدهما في الاصول ، والثاني في الأمارات.

أمّا الكلام في الاصول : فالحقّ هو التفصيل بين الاصول المثبتة لحدوث الحكم واستمراره وبين الاصول المثبتة لحدوث الحكم فقط ، ففي الأوّل لا يجري الاستصحاب لعدم الشكّ بخلاف الثاني ، مثال الأوّل : أصالة الطهارة والحلّ والاستصحاب فإنّها تحدث الحكم بالطهارة وتحكم باستمراره إلى زمان العلم بعروض النجاسة والحرمة ، وفي الاستصحاب إلى زمن حدوث يقين آخر ، مثلا إذا شككنا في طهارة شيء ونجاسته كالصابون المجلوب من بلاد الكفر فبأصالة الطهارة يحكم بطهارته ، فلو شككنا بعد ذلك بعروض نجاسة خارجيّة عليه فنفس أصالة الطهارة تتكفّل أنّ حكمه الطهارة بمعنى أنّها تنجّز طهارته فيرتفع الشكّ في النجاسة ، فإذا ارتفع الشكّ في النجاسة فكيف يجري الاستصحاب.

ودعوى : أنّ الاستصحاب يحكم على أصالة الطهارة ، مسلّمة لكنّها حيث يجري الاستصحاب وتتمّ أركانه ، وهنا ليس تامّ الأركان لفقد الشكّ.

٥٧١

وهكذا إذا شككنا في طهارة شيء من جهة إصابة الدم له وقد كان طاهرا قبل ذلك فاستصحاب طهارته ينجّز لنا طهارته ، فإذا شككنا بعد ذلك في أنّه أصابه البول أم لا فنفس الاستصحاب الأوّلي أثبت طهارته إلى أن يعلم نجاسته ، والمفروض أنّه الآن لم يعلم نجاسته فهو بحكم الاستصحاب الأوّلي طاهر منجّز طهارته فيرتفع الشكّ حينئذ فلا يجري الاستصحاب.

(نعم ، لو قلنا : إنّ الأصل الجاري في المقام استصحاب عدم حدوث الاصابة لكونه حاكما على استصحاب الطهارة لكونه مسبّبا عنه ، فهو وإن جرى استصحاب عدم إصابة البول كاستصحاب عدم إصابة الدم إلّا أنّه ليس استصحابا لحكم ظاهري ، وإنّما هما شكّان في أمرين واقعيّين والأصل عدمهما) (١).

وأمّا إذا لم يكن الأصل مقتضيا للاستمرار فيجري الاستصحاب قطعا ، مثلا إذا كان عندنا شيء مشكوك الطهارة كالماء فبمقتضى أصالة الطهارة حكمنا بطهارته ، فإذا غسلنا به ثوبا نجسا فبمقتضى حكم الشارع بطهارته يطهر الثوب إلّا أنّا إذا شككنا بعد ذلك في إصابة البول لذلك الثوب وعدم إصابته يجري حينئذ الاستصحاب للحكم بطهارته وهذا واضح بحسب الظاهر.

فتلخّص أنّ الأصل إن كان مقتضيا للحدوث والاستمرار لا يجري الاستصحاب ، وإن كان مقتضيا للحدوث فقط يجري الاستصحاب حينئذ. هذا كلّه في الاصول مطلقا تنزيليّة كانت أم محضة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المتيقّن السابق هو الحكم بالطهارة الظاهريّة أو الحلّية الظاهريّة المجعولة فلا مانع من استصحابه.

وأمّا الأمارات كخبر الواحد وغيره فنقول : إن التزمنا بأنّ المجعول فيها هو المنجّزيّة والمعذريّة فالإشكال بحاله ، وأمّا إذا قلنا بأنّ المنجزيّة والمعذريّة من آثار الجعل العقليّة وإنّها غير قابلة للجعل فلا بدّ من أن نلتزم بأنّ المجعول

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٧٢

هو صفة الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات ، وحينئذ فلمّا كان قبح العقاب بلا بيان من الأحكام العقليّة الغير القابلة للتخصيص كما هو شأن جميع الأحكام العقليّة ، لأنّ العقل لا يحكم إلّا مع إحراز الملاك لحكمه ، فلا بدّ من أن يكون المجعول بيانيّتها وطريقيّتها إلى الواقع وجعلها يقينا تعبّدا حتّى يرتّب على مخالفتها العقاب ويكون العقاب عقابا ببيان فيكون يقينا بحسب التعبّد الشرعي.

فتكون أفراد اليقين أفرادا وجدانيّة وأفرادا تعبّديّة وتكون الأمارات يقينا بحسب التنزيل الشرعي كما في : «الطواف بالبيت صلاة» وغيره من التنزيلات الشرعيّة ، وإذا ثبت كون هذا يقينا تعبّدا فإذا لا بدّ من ترتيب آثاره نفسه ، فإن كان اليقين موضوعا لحكم من الأحكام ثبت ذلك الحكم له ، لأنّه من أفراده تعبّدا وقد كان اليقين موضوعا لعدم نقضه بالشكّ فتكون الأمارة محرّمة النقض بالشكّ ، كما أنّه إذا كان لمتعلّق اليقين وهو المتيقّن حكم واقعي يثبت ذلك الحكم الواقعي لمتعلّق الأمارة أيضا ، لأنّه متيقّن بحكم الشارع.

وبالجملة ، فبجعل صفة الطريقيّة والمحرزيّة والوسطيّة في الإثبات يكون إلغاء لاحتمال الخلاف الموجود مع قيام الأمارة ، وهو عبارة عن التنزيل الّذي ذكرناه فيترتّب على المنزّل الأحكام الّذي اخذ المنزّل عليه موضوعا لها والأحكام الواقعيّة الّتي اخذ المنزّل عليه طريقا لها.

ودعوى : لزوم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي ، واضح الضعف ، لأنّ الجعل إنّما جعله يقينا بحسب التعبّد الشرعي فتترتّب عليه آثار اليقين أيّ شيء كانت تلك الآثار ، فافهم وتأمّل.

(هذا كلّه بناء على حجّية الأمارات من باب الطريقيّة ، أمّا بناء على حجّيتها من باب السببيّة فقد ذكر صاحب الكفاية في تعليقة له عليها جريان الاستصحاب حينئذ لفعليّة الحكم حينئذ (١).

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣١٠ ، في الهامش.

٥٧٣

والظاهر التفصيل فإنّ قيام الأمارة إن كان موجبا ومحقّقا لملاك في ذات الفعل الّتي قامت الأمارة على وجوبه مثلا صحّ حينئذ ما ذكره ، أمّا إذا كانت المصلحة في الجري العملي على طبق الأمارة من غير أن يحدث مصلحة في الفعل بل هو على ما هو عليه فلا ريب في أنّ حيثيّة قيام الأمارة حيثيّة تقيديّة ولا أمارة على غير الحدوث فلا مصلحة في الجري على غير الحدوث ، فلا يجري حينئذ الاستصحاب ، فافهم) (١).

التنبيه الرابع : [في استصحاب الكلّي]

الاستصحاب قد يكون استصحابا شخصيّا ، كما إذا كان زيد قائما فشككنا في استمراره قائما وفي قعوده فيستصحب قيامه ، وقد يكون الاستصحاب استصحابا لأمر كلّي كما إذا لم يكن الأثر أثرا للخصوصيّة الفرديّة بل يكون الأثر أثرا للجامع بين الفردين بل الأفراد. ومن هنا يتّضح أنّه لا يتفاوت الاستصحاب الكلّي وجريانه بين القول بوجود الكلّي الطبيعي والقول بعدم وجوده وإنّما الموجود أفراده ، لأنّا وإن قلنا بعدم وجوده إلّا أنّ الأفراد موجودة قطعا ، والمفروض أنّ استصحاب الكلّي هو عبارة عن عدم لحاظ الخصوصيّة الفرديّة وإن وجدت خارجا.

وبعبارة اخرى أنّ المطلوب في باب الاستصحاب صدق النقض عرفا وهو متحقّق ، قلنا بوجود الكلّي الطبيعي أو لم نقل به ، لأنّ الاستصحاب ليس مبنيّا على الدقّة والفلسفة الحكميّة ، بل مبنيّ على وجود الكلّي الطبيعي عند أهل العرف ، ولا ريب أنّ أهل العرف يرون أنّ الإنسان موجود في الخارج وكذلك الحيوان وبقيّة الكلّيات الطبيعيّة ، وحينئذ فيتحقّق عند العرف مصداق : «لا تنقض اليقين بالشكّ».

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٧٤

(نعم ، بناء على مذاق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ـ من أنّ المجعول في استصحاب الحكم هو الحكم المماثل ، وفي استصحاب الموضوع حكم مماثل لحكمه الحادث ـ يشكل جريان استصحاب الكلّي كالرجحان مثلا ، لعدم الإهمال في الواقع ، فالحكم الواقعي إمّا مرخّص في تركه وهو الاستحباب أو غير مرخّص في تركه وهو الوجوب ولا جامع بين الترخيص وعدمه ، وكذا في الموضوع. ولكنّ الظاهر جريانه أيضا ، لأنّ الإهمال مستحيل في الحكم الواقعي ، لأنّ الحكم في الواقع متعيّن بأحد النحوين ، أمّا الحكم الظاهري فلا ، لأنّ المصلحة في جعله لا في المأمور به فالمصلحة في إنشائه وجعله وهو خفيف المئونة فلا مانع من جعل الحكم الظاهري الكلّي إذا كانت المصلحة قائمة به) (٢).

ثمّ إنّ أقسام استصحاب الكلّي أربعة :

الأوّل : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي المتيقّن سابقا من جهة الشكّ في بقاء الفرد وعدمه ، مثلا إذا شكّ في من كان محدثا بالحدث الأكبر في ارتفاع ذلك الحدث الأكبر وعدمه فهناك آثار تترتّب على خصوص بقاء الحدث الأكبر ، مثل حرمة المكث في المساجد فيستصحب الحدث الأكبر بخصوصه ويترتّب عليه أثره ، وهناك آثار لا تختصّ بالحدث الأكبر بل تترتّب على مطلق الحدث مثل حرمة مسّ كتابة المصحف ، فبالنسبة إلى هذا الأثر لا يستصحب خصوص الحدث الأكبر لعدم الخصوصيّة ، بل يستصحب كلّي الحدث وإن كان سبب الشكّ في الكلّي هو الشكّ في ذلك الفرد إلّا أنّه يستصحب نفس شخص الفرد المشكوك فيه للأحكام الخاصّة به ويستصحب الكلّي للحكم الّذي لا يخصّه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧٢.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٧٥

الثاني : أن يشك في الكلّي لدوران الفرد المتيقّن بين كونه من أفراده الباقية قطعا أو أفراده المنتفية قطعا ، مثل أن نعلم بإنسان قطعا في الدار الّتي لم يخرج منها غير زيد ، فنحن نشكّ في أنّ ذلك الإنسان الّذي كان فيها زيد فهو قطعا خارج أو غيره فهو قطعا باق ، لأنّه لم يخرج منها غير زيد ، وهذا وان عنون في كلام الشيخ قدس‌سره بالمردّد بين الفرد المقطوع خروجه والمقطوع بقاؤه (١). إلّا أنّه يشمل ما لو كان المردّد بين معلوم الخروج ومحتمل البقاء أيضا ، مثلا في نفس المثال إذا فرضنا أنّ زيدا خرج قطعا وغيره مشكوك الخروج فيتحقّق فيه مصداق نقض اليقين بالشكّ فهو ملحق بالقسم الثاني.

الثالث : أن يكون الفرد المتيقّن قطعا مرتفعا وإنّما يشكّ في حدوث فرد مقارن لارتفاع ذلك الفرد وعدم حدوثه.

الرابع : أن يكون من جهة تردّد الفرد بين كونه هو السابق أم غيره مثلا إذا كان جنبا واغتسل ثمّ رأى بثوبه المختصّ به منيّا تردّد بين كونه هو من جنابته الّتي اغتسل منها أو من جنابة اخرى لاحقة لم يغتسل لها ، فيشكّ في أنّ الأثر الحاصل عند حدوث هذه الجنابة زال أم لا فيستصحب كلّي الجنابة وكلّي ذلك الأثر المتيقّن من غير تمييز. وهذا أيضا من أقسام استصحاب الكلّي ولم يذكره الشيخ الأنصاري ولا الآخوند قدس‌سره وهو وارد عليهم وسيأتي الفرق بينه وبين الثاني.

أمّا الأوّل : فلا كلام في جريان الاستصحاب فيه إلّا أنّه على ما فصّلناه سابقا من جريان الاستصحاب الكلّي للحكم الّذي لا يترتّب على خصوصيّة الفرد وقد مرّ.

وأمّا القسم الثاني فالمعروف بين المحقّقين حجّيته ويسمّى باستصحاب الكلّي وباستصحاب الفرد المردّد ، مثلا إذا خرج من الرجل المغتسل من الجنابة بعد أن أحدث بالأصغر بلل مردّد بين البول والمنيّ ، فهو معيّن واقعا لكنّه مردّد عند المكلّف ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩١ ـ ١٩٢.

٥٧٦

فبعد وضوئه يشكّ في ارتفاع الحدث وبقائه فيستصحب ، وتعبير السيّد اليزدي قدس‌سره في حاشيته على المكاسب (١) بالفرد المردّد يريد به المردّد عند المكلّف لا المردّد في الواقع ليشكل عليه بأنّ الفرد المردّد غير موجود واقعا فإنّ الأشياء الواقعيّة غير مردّدة بل معيّنة.

وكيف كان ، فالظاهر جريان الاستصحاب فيه لصدق أنّه كان على يقين من كلّي الحدث فشكّ ، فيصدق «لا تنقض اليقين بالشكّ» فيجري الاستصحاب.

(وربّما يقال بعدم الحاجة إلى استصحاب الكلّي بل يكفي استصحاب الفرد المردّد الّذي كنّا على يقين منه ونشكّ في ارتفاعه كما عن السيّد اليزدي في حاشيته على المكاسب (٢) ولكنّ الظاهر عدم إمكان استصحابه ، إذ الفرد المردّد بقيد كونه مردّدا بحيث يحتمل انطباقه على الفرد المرتفع قطعا فهذا لا يمكن إجراء استصحابه ، إذ على بعض المحتملات هو مرتفع قطعا ، وبدون قيد الترديد بمعنى استصحاب ذات الشيء الّذي كان سابقا بإلغاء خصوصيّاته المشخّصة هو استصحاب الكلّي ، إذ الكلّي إنّما يستصحب وجوده الّذي كان في ضمن فرد بإلغاء خصوصيّته الفرديّة ، والكلّي مع قطع النظر عن وجوده الخارجي في ضمن فرد لا حكم له) (٣).

وربّما أشكل عليه بإشكالين تعرّض لهما الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٤) :

أحدهما : أنّ الاستصحاب لا يجري ، لأنّ الحدث الأصغر ليس لنا شكّ في انتفائه فعلا إمّا لعدمه من الأوّل وإمّا لارتفاعه بالوضوء المفروض ، والأكبر لا يقين بحدوثه والأصل عدمه.

__________________

(١ و ٢) انظر حاشية المكاسب للسيّد ١ : ٧٣.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٤) فرائد الاصول ٣ : ١٩٢.

٥٧٧

وضعفه ظاهر ، لأنّ ما ذكر إنّما يقدح في جريان استصحاب الفرد المذكور ، أمّا الكلّي فلا. فآثار الفرد الخاصّ لا تترتّب ، أمّا الأثر المشترك بين الفردين فلا مانع من إجراء الاستصحاب للكلّي وترتيبه إذا أنا على شكّ من بقائه بعد اليقين بحدوثه.

الثاني : أنّ الشكّ إنّما نشأ من احتمال حدوث الجنابة مثلا ، وإلّا فلو لا احتمال حدوث الجنابة لم يكن شكّ في بقاء الحدث ، لفرض أنّه توضّأ فالحدث الأصغر ارتفع يقينا ، فإذا فرض جريان أصالة عدم حدوث الجنابة فلا يكون له شكّ حينئذ.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

الأوّل : أنّ منشأ الشكّ ليس الشكّ في حدوث الجنابة وإنّما المنشأ للشكّ الشكّ في صفة الحادث ، وأنّه الحدث الأصغر فقد ارتفع قطعا أو الأكبر فهو باق قطعا ، فليس منشأ الشكّ هو الشكّ في حدوث الجنابة حتّى تجري أصالة عدمها وإنّما هو الشكّ في صفة الحادث وليس له صفة متيقّنة حتّى يجري استصحابها.

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّه بناء على عدم جريان أصالة العدم في الأزليّات متين.

وأمّا بناء على جريانها كما حقّقناه فلا يتمّ ، لأنّ الأصل عدم اتّصاف الحادث بكونه جنابة ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، وحينئذ فلا يجري القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، وقد رتّبنا من ثمرات جريان الأصل في الأعدام الأزليّة الاكتفاء بمرّة واحدة في غسل المردّد بين كونه متنجّسا بالبول فلا بدّ فيه من الغسل مرّتين ، أو بما متنجّس بالدم فيكفي فيه المرّة ، بتقريب أنّ أصالة عدم كون المتنجّس متنجّسا بالبول تجري فتحرز بأنّه ليس بمتنجّس بالبول فيبقى تحت إطلاقات الغسل. وهو من جملة وجوه ما حكم به السيّد كاظم اليزدي قدس‌سره في العروة فيما إذا شكّ في كون ما ولغ الكلب فيه إناء حتّى يحتاج إلى التعفير أم لا حتّى لا يحتاج إليه فقد حكم في العروة بعدم لزوم التعفير (١).

__________________

(١) انظر العروة الوثقى ١ : ١١٢ ، فصل في المطهّرات ، المسألة ١٠.

٥٧٨

الثاني : أنّ أصالة عدم حدوث الجنابة معارض بأصالة عدم حدوث الحدث الأصغر. وهذا الجواب صحيح حيث يكون لكلّ من الفردين اللذين يتردّد الكلّي بينهما أثر شرعي كما في مثال تردّده بين كونه حدثا أكبر أو أصغر ، فإنّ الحدث الأكبر له حكم بخصوصه وهو حرمة قراءة العزائم ، والأصغر كذلك وهو وجوب الوضوء للصلاة ، ولكليهما أيضا أثر يشتركان فيه وهو حرمة المسّ لخطّ المصحف ، ولكنّا في غنية عن الاستصحاب حينئذ للعلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين المتباينين ومقتضاه لزوم الأخير.

ولا يجدي الجواب حيث لا يكون الأثر أثرا مشتركا كما إذا نذر الإنسان أنّه متى وجد إنسانا في بيته يقرأ سورة قرآن مثلا فهنا إذا شككنا في أنّ الّذي كان في الدار زيد فهو خارج قطعا أو عمرو فهو باق قطعا أو محتمل البقاء ، فهنا لا معنى للتعارض لعدم الأثر الشرعي لكلّ من الفردين بخصوصه ، فأصالة عدم كون الداخل فيها زيدا لا أثر له إلّا أنّ أصالة عدم كون الداخل عمروا له أثر قطعا ، لأنّه بهذا الأصل ينتفي الأثر المترتّب على الكلّي ، لأنّه على الفرض إمّا زيد في الدار أو عمرو ، فإذا قطعنا بخروج زيد فبأصالة عدم كون الداخل فيها عمروا ينتفي الأثر المترتّب على الكلّي ، ولكنّ أصالة عدم كون الداخل زيدا لا يترتّب عليه أثر فعلا.

الثالث من الوجوه الّتي ذكرت في دفع هذا الإيراد أن يقال : إنّ أصالة عدم دخول عمرو مثلا وإن كان رافعا للشكّ إلّا أنّه لا يجدي ، بيان ذلك أن يقال : إنّ الشكّ في البقاء في المقام وإن استند إلى الشكّ في حدوث الفرد الطويل وعدمه إلّا أنّه ليس كلّ أصل سببي يمنع جريان الأصل المسبّبي ، بل إنّ الأصل السببي إن كان من أحكامه الشرعيّة وآثاره الشرعيّة رفع الشكّ في المسبّب يكون مانعا من جريان الأصل في المسبّب ، نظير الماء المسبوق بالطهارة المغسول به الثوب النجس ، فإنّ من أحكام إجراء استصحاب الطهارة في الماء أنّه لو غسل به النجس صار طاهرا ،

٥٧٩

وقد غسل الثوب النجس بماء وجدانا وكون الماء طاهرا بمقتضى الأصل فلا يبقى مجال لاستصحاب نجاسة الثوب. أمّا لو كان رفع الشكّ من اللوازم العقليّة فلا.

وفي المقام من هذا القبيل ، فإنّ أصالة عدم حدوث الفرد الطويل يعني أصالة عدم دخول عمرو لا يترتّب عليه رفع الشكّ إلّا باللازم العقلي ، فلا يمنع من جريان الاستصحاب في المسبّب أيضا لو فرض جريان الأصل في السبب لوجود أثره.

وهذا الجواب هو الجواب الصحيح لهذه الشبهة وهو الّذي ينبغي أن يكون مراد الآخوند في ثالث أجوبته في كفايته ، والأوّل منها هو ما ذكرناه أوّلا ، وأمّا ثانيها وهو أنّ بقاء القدر المشترك بعين بقاء الخاصّ لم يظهر لنا حقيقة مراده منه (١) فإنّ كون الفرد عين الكلّي أكثر وضوحا في جريان الإشكال من دعوى الملازمة ، إذ المستشكل لم يدّع أنّ وجود الكلّي مسبّب عن وجود الفرد ليدفع بالعينيّة ، بل ادّعى أنّ الشكّ في وجود الكلّي مسبّب عن الشكّ في وجود الفرد ، ولا يفرق في سببيّة الشكّ بين التلازم والعينيّة.

وبالجملة ، فالصحيح ما ذكره في ثالث الأجوبة إلّا أنّه يختصّ بما لا يكون البقاء أو الارتفاع من الآثار الشرعيّة فيجري فيه القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، أمّا إذا كان البقاء أو الارتفاع من الآثار الشرعيّة فلا يجري الاستصحاب ، كما إذا دار أمر المتنجّس بين كونه متنجّسا بالبول ليطهر بغسلتين أو بغيره ليكتفى فيه بالمرّة ، فإنّ أصالة عدم كون النجاسة بولا ولو أزلا تحقّق طهارته بالغسل مرّة.

ثمّ إنّ كلامنا كلّه إنّما حيث يكون منشأ الشكّ حدوث الفرد القصير أو الطويل من أوّل الأمر كما مثّلنا في المتطهّر إذا خرج منه بلل مشتبه بين البول والمني ، أمّا لو كان الشكّ فيه ناشئا من احتمال حدوث فرد آخر أطول فلا ، مثلا المحدث بالأصغر إذا خرج منه بلل مشتبه بين البول والمنيّ فهنا لو توضّأ بعد ذلك لا يجري استصحاب

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٤٦٢.

٥٨٠