غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

__________________

ـ وهو أن يقال لكلّ من الإناءين : هذا محتمل النجاسة وذاك محتمل النجاسة ـ مفقود ، إذ المعيّن مقطوع النجاسة فلا يكون محتملها ، فيكون العلم الإجمالي منحلّا بفرد نجس قطعا وجدانا ، وآخر محتمل النجاسة مشكوك بدوا مجرى للبراءة.

نعم ، لو كانت النجاسة المعلومة إجمالا ذات أثر أكثر من أثر الاولى ـ كأن تكون الاولى المعلومة تفصيلا نجاسة دمية والثانية بوليّة ـ لم ينحلّ العلم الإجمالي حينئذ قطعا ، فافهم.

الثانية : أن يحدث العلم الإجمالي أولا ثمّ يحدث علم تفصيلي بنجاسة اليميني معينا فقد حدث العلم التفصيلي بعد تنجيز العلم الإجمالي وتأثيره فلا ينحل العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي يوم الخميس بنجاسة أحد الإناءين قد حقّق له علما بتكليف إلزامي ، وعلمه التفصيلي يوم الجمعة بنجاسة اليميني معينا لا يقتضي أن يخرج الطرف الشمالي عن كونه من أطراف العلم الإجمالي ؛ لأنّه يوم الجمعة وإن لم يبق علم بتكليف لاحتمال تحقق النجاسة أولا في اليميني فلا تكليف باجتناب الشمالي حينئذ ؛ لأنّ النجاسة التفصيلية قد وقعت على محلّها الإجمالية إلّا أن الاحتمال الثاني لا رافع له وهو احتمال أنّ النجاسة الأولية قد وقعت في الشمالي والشك إنّما هو في مسقط التكليف بعد القطع بتوجهه بالعلم الإجمالي الأول ، وليس ارتفاع العلم الإجمالي الآن رافعا لأثر التكليف المنجز سابقا وإلّا فمعناه الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي وعدم وجوب الموافقة القطعية للتكليف ، وحينئذ فيسري هذا الكلام في كل امتثال ، مثلا من علم بأن تكليفه القصر أو التمام فإذا صلّى قصرا فليس حينئذ علمه الإجمالي باقيا فهل يمكن أن يقال إنّه ينفى التمام بالأصل؟ كلا لا يمكن أن يتفوه بمثل ذلك فقيه ، وليس إلّا لأنّ تلك الحالة التي كانت قبل العلم التفصيلي وهي حالة العلم الإجمالي المحضة قد نجزت التكليف ؛ ولهذا يمكن أن يشار إلى ذلك الوقت فيقال إما اجتناب الإناء اليساري ذلك الوقت لازم أو اليميني فعلا ، والعمدة ما ذكرنا من أنّه يشك في سقوط التكليف بعد إحراز توجهه وفي مثله لا مجال للبراءة أصلا.

٢٦١

وتقريبه أن يقال : إنّ معنى الانحلال هو أنّ العلم الإجمالي المتركّب من قضيّة منفصلة مانعة الخلوّ وهي قولنا مثلا : إمّا هذا واجب أو ذاك ، وهكذا حتّى يأتي على جميع محتملات الوجوب ، وكذا في المحرّمات هو امتياز الواجب فيه من غير الواجب بمعنى انقلاب تلك القضيّة المنفصلة إلى قضيّة متيقّنة واخرى مشكوكة. والعلم الإجمالي كما تقدّمت الإشارة إليه يتصوّر على أنحاء ، فإنّه تارة يكون منشؤه تأسيس الشريعة فإنّ الشريعة لا يمكن أن تكون خالية من أحكام تخصّها وأطرافه كلّ محتمل التكليف ، واخرى يكون منشؤه القطع بإصابة جملة من هذه الطرق

__________________

ـ الثالثة : أن يحدث العلم التفصيلي بعد العلم الإجمالي إلّا أنّ العلم الإجمالي كان بنجاسة أحد الإناءين وطهارة الآخر ، والعلم التفصيلي قام بأن النجس المعلوم بالإجمال هو هذا وهذا العلم التفصيلي يحل العلم الإجمالي بمعنى أنّه يعلم تفصيلا بأنّ اليميني نجس وأنّ الشمالي طاهر ، وهذا لا كلام فيه إنّما الكلام في :

الصورة الرابعة : وهي أن يحصل علم إجمالي يوم الخميس بنجاسة أحد الإناءين ويحتمل نجاستهما معا إلّا أنّ المعلوم لنا هو نجاسة أحدهما ويحصل العلم التفصيلي في أنّ اليميني نجس قطعا بنجاسة مقارنة للعلم الإجمالي الأوّل من غير أن يبين أنّه هو النجس المعلوم أولا أم غيره فهل يلحق بالصورة الأولى فينحل تنجيز العلم الإجمالي أم بالثانية فلا يقتضي الانحلال؟ الظاهر هو الانحلال ؛ لأنّ التنجيز من صفات العلم الإجمالي فهو دائر مداره حدوثا وبقاء ، وحيث لا وجود للعلم الإجمالي في المقام ؛ لأنّه الآن يحتمل أن يكون النجس المعلوم إجمالا هو الإناء اليميني فلم يبق العلم الإجمالي بعد حدوث العلم التفصيلي ، فيكون الطرف اليساري مشكوكا بدوا من أوّل الأمر فالتنجيز موقوف على علم تفصيلي متأخر بنجاسة متأخّرة لا مقارنة ، إذ لو كانت مقارنة لم ينجّز العلم الإجمالي لكون الطرف الثاني مشكوكا بدوا من أوّل الأمر فافهم.

وبالجملة ، كما أنّ العلم التفصيلي إذا زال بسبب الشكّ الساري زال تنجيزه من ناحية كونه علما فالعلم الإجمالي كذلك في المقام فإنّه زال بقاء فارتفع تنجيزه بارتفاعه ، فافهم.

٢٦٢

المجعولة للواقع وأطرافه جميع الأمارات ، وثالثة يكون القطع بكون الأخبار مثلا فيها مصيبة للواقع وليست كاذبة بأسرها وأطرافه خصوص الأخبار ، ولا ريب أنّ ما وفت به الأخبار من التكاليف أكثر من المعلوم بالإجمال فضلا عن جميع الأمارات إلّا أنّ هذا الانحلال تعبّدي لا وجداني.

فالعلم الإجمالي تارة ينحلّ وجدانا نظير أن يعلم إجمالا نجاسة أحد الإناءين ، ثمّ يحصل له القطع بأنّ النجس الواقعي هو خصوص أحد الإناءين بخصوصه ، فهنا ينحلّ العلم الإجمالي إلى قضيّة متيقّنة واخرى مشكوكة بدوا ، وهو واضح.

وتارة يكون الانحلال انحلالا تعبّديا بمعنى كون الانحلال بواسطة الطرق المجعولة لنا شرعا ، مثل أن يعلم إجمالا بوجود ألف تكليف إلزامي في هذه الشريعة المقدّسة ثمّ يأمر الشارع باتّباع جملة من الأمارات في تعيين تلك الأحكام الشرعيّة ، أمّا بناء على ما هو الحقّ في جعل الأمارات من جعل الطريقيّة والمحرزيّة كما ذهب إليه الميرزا قدس‌سره (١) فواضح جدّا ، إذ أنّ الشارع قد جعل هذه الأمارات محرزة لتلك الأحكام الواقعيّة المجعولة المجهولة ، غاية الأمر أنّ هذا الانحلال انحلال تعبّدي لا وجداني ، فإذا علمنا بوجود ألف تكليف إلزامي ووفت الأمارات بألفي حكم إلزامي فلا شكّ في انحلال العلم الإجمالي وانقلاب القضيّة المنفصلة إلى حمليّة متيقّنة واخرى مشكوكة. وهذا بناء على جعل الإحراز والطريقيّة في غاية الوضوح ، إذ ينكشف فقدان العلم الإجمالي من أوّل الأمر ، وأنّه بمقتضى جعل الأمارات ليس لنا إلّا قضيّة حمليّة متيقّنة واخرى مشكوكة.

وأمّا بناء على جعل المنجّزية والمعذّرية ـ كما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره (٢) كما تنصّ عليه صريح عبارته ـ فربّما يقال بإعضال الإشكال ، وإنّ الدليل العقلي للأخباري

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٣٦.

(٢) كفاية الاصول : ٣٩٥.

٢٦٣

وهو العلم الإجمالي لا جواب له كما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) بتقريب : أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف نجّز في أوّل حدوثه جميع التكاليف على المكلّفين ، فقيام الأمارات على التكاليف لا يثبت التكاليف الواقعيّة ، إذ المفروض أنّها ليست محرزة للواقع فلا تكون موجبة لانحلال العلم الإجمالي بالواقع ، بل تكون منجّزا ثانيا بعد تنجيز العلم الإجمالي ، والمنجّز اللاحق لا يجدي بعد تنجيز العلم الإجمالي لجميع الأطراف ، نظير أن يعلم إجمالا بأنّ أحد الإناءين نجس لوقوع قطرة بول في أحدهما ثمّ تقع قطرة اخرى في الإناء الصغير مثلا ، فوقوع هذه القطرة الثانية لا ترفع تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الإناء الثاني ، إذ هو لا يرفع العلم الإجمالي ولا يوجب انحلاله أصلا فكذا المقام ، إذ بعد تنجيز العلم الإجمالي غاية مؤدّى الأمارة تنجيز مؤدّاها فهو من المنجّز بعد المنجّز ولا يوجب انحلال العلم الإجمالي أصلا.

وهكذا الكلام على القول بالموضوعيّة وجعل أحكام ظاهريّة على طبق مؤدّى هذه الأمارات ، فإنّ جعل الحكم الظاهري لا يرفع تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى أطرافه من الأحكام الواقعيّة.

والإنصاف (*) أنّ العلم الإجمالي منحلّ على كلّ واحد من هذه الأقوال.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

(*) كتب المقرّر قدس‌سره في أوراق مفردة ما يلي :

هذه الورقة تعليقة على قوله : «والإنصاف» ذكرها الأستاذ أيّده الله في الدورة المتأخرة عن دورة الكتابة المتنية ، فافهم :

ولكن الذي ترجح في النظر أخيرا أن يقال إنّه بناء على أنّ مفاد أدلة حجّية الأمارات جعل التنجيز والتقدير ـ كما اختاره الآخوند قدس‌سره في مبحث الظن ـ يفصل بين الشبهة الموضوعية والحكمية إذا كان قيام الأمارة على أحد الطرفين بعد الفحص وبين الشبهة الحكمية التي يكون قيام الأمارة على لزوم أحد الطرفين بعد الفحص فلا ينحلّ العلم الإجمالي في الأولين وينحل في الأخير.

٢٦٤

__________________

ـ بيان ذلك أنّه إذا علم بنجاسة أحد الإناءين إجمالا يوم الخميس ثمّ علم يوم الجمعة أنّ الإناء اليميني نجس بأمارة قامت على ذلك ، وفرضنا أنّ دليل حجّة الأمارة لا يفيد أكثر من أنّه لو كان النجس الواقعي هنا فأنت غير معذور في ارتكابه.

فهنا يتّجه ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من أنّه من قبيل المنجز بعد المنجز ؛ لأنّ العلم الإجمالي نجز بقيامه لزوم اجتناب كل من الإناءين ، ثمّ يوم الجمعة قامت الأمارة على نجاسة اليميني غير نافية نجاسة الشمالي كما هو الفرض ؛ ضرورة كونها قضية مانعة الخلو كما مرّ ، فقد تنجزت نجاسة اليميني بمنجزين ، أحدهما : العلم الإجمالي ، ثانيهما : قيام الأمارة ، ولكن الإناء الشمالي منجز بالعلم الإجمالي السابق الذي هو الآن محقّق بين نجاسة الشمالي وبين نجاسة اليميني ، بالإضافة إلى ما قبل قيام الأمارة ، فقد حرّم العلم الإجمالي أفراد الشرب الممكنة التحقق قبل قيام الأمارة في اليميني وأفراد الشرب في الإناء اليساري بأسرها ، وليس مفاد الأمارة أنّ اليميني هو النجس الواقعي وإلّا لانحل العلم الإجمالي وكان معنى جعل الحجّية جعل الطريقية ، وإنّما مفاد جعل الأمارة أنّه على تقدير كون مؤداها واقعيا يجب اجتنابه ، فمن الممكن حينئذ كون النجس الواقعي هو الإناء الشمالي ، ولا مؤمّن لفرض كون أصالة الطهارة ساقطة بالمعارضة بأصالة الطهارة في اليميني بالإضافة إلى سلسلة أفراد شربه القصيرة ، والعلم الإجمالي بالفعل موجود بين حرمة أفراد شرب اليميني قبل قيام الأمارة وهي السلسلة القصيرة وبين حرمة أفراد شرب الشمالي بسلسلته الطويلة المستمرة إلى الآن ، فلا نافي للنجاسة في الشمالي لسقوط الأصل بالمعارضة.

وأمّا الشبهة الحكمية التي تقوم الأمارة فيها بعد الفحص على كون أحد المعلومين واجبا مثلا إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، وفرض إمكان تحقّق وجوبهما معا لتكون مانعة الخلو وتفحص في مظان وجود الأمارات الدالة على تعيين الواجب وتشخيصه وهو كتاب الصلاة مثلا فلم نظفر بأمارة تدل على التعيين ، ثمّ بعد ذلك وجدنا في كتاب الحج أمارة تدلّ على وجوب الجمعة مثلا فهنا لا ينحل العلم الإجمالي السابق كالشبهة الموضوعية

٢٦٥

__________________

ـ ويكون قيام الأمارة من المنجز بعد المنجز كما قدمناه في الشبهة الموضوعية ، وأما الشبهة الحكمية قبل الفحص كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة مثلا ثمّ قامت أمارة على وجوب الجمعة مثلا قبل الفحص ولا تنفي وجوب الظهر لتكون القضية مانعة الخلو ، فهنا الأمارة بوجودها الواقعي توجب انحلال العلم الإجمالي ، ولما كان قيامها قبل الفحص فهو قبل جريان الاصول وتعارضها وتساقطها ، فهو نظير العلم التفصيلي المعين أحدهما المقارن للعلم بوجوب أحدهما في كونه مقتضيا لانحلال العلم الإجمالي ، لجريان الأصل وهو البراءة عن وجوب الآخر من غير معارض ؛ لأنّ الأصل لم يجر سابقا في الطرف الأول ليسقط الأصلان بالمعارضة ؛ لأنّ ذلك الزمان ليس زمان جريان الاصول ؛ لأنّه كان قبل الفحص ، ففي أول أزمنة جريان الاصول وهو ما بعد الفحص لم يكن معارض لجريان الأصل وهو البراءة عن وجوب الطرف الذي لم تقم الأمارة على وجوبه ، هكذا قرّره بعض الأساطين وبعض مشايخنا المحققين.

ونحن وإن اشتركنا معهم في النتيجة إلّا أنّا نخالفهم في الطريق ، فإنّا نزعم أنّ العلم الإجمالي ليس له أثر لا حدوثا ولا بقاء.

بيان ذلك أنّ العلم الإجمالي في المقام لم يكن منجزا أصلا لكون الفرض قبل الفحص فنفس الاحتمالين ـ يعني احتمال وجوب الظهر واحتمال وجوب الجمعة ـ بنفسهما منجزين للتكليف وليس للعلم الإجمالي حينئذ أثر أصلا ، وبعد قيام الأمارة على وجوب الجمعة فرضا تكون الظهر منجزة لا لكونها من أطراف العلم بل لكونها محتملة التكليف ولا مؤمّن ليرفع احتمال التكليف ؛ لأنّ الأصل لا يجري ، لفرض كونه قبل الفحص وعدم الوجدان وبعد الفحص لا يجري لعدم تحقّق موضوعه من عدم البيان ، فإنّ عدم البيان إنّما يحرز بعد الفحص وعدم الوجدان وبعد الفحص ووجدان أمارة تدل على وجوب الجمعة وعدم وجدان أمارة تدل على وجوب الظهر يتحقّق حينئذ مورد أصل البراءة من الظهر بلا معارض ويجب الجمعة حينئذ للأمارة ، فالعلم الإجمالي في المقام وجوده والعدم سواء لا أثر له أصلا ، وهذا النحو يسمى بالانحلال الحكمي بمعنى كونه في حكم الانحلال نظير ما لو علم إجمالا بأنّه إما ترك صلاة الصبح أو ترك صلاة الظهر

٢٦٦

أمّا على القول بجعل الطريقيّة والمحرزيّة فقد مرّ.

وأمّا على القول بجعل التنجيز والإعذار فبأن يقال : إنّ الأمارات تنجّز الأحكام الواقعيّة بوجودها الواقعي ، فإخبار زرارة بوجوب صلاة الظهر بوجوده الواقعي منجّز لوجوب صلاة الظهر لا بوجوده العلمي وهو واضح.

نعم ، لو كان بوجوده العلمي وبوصوله إلى المكلّف ينجّز كان ما ذكره قدس‌سره متوجّها ، ولكنّه ليس كذلك ، بل هو بوجوده الواقعي منجّز. فالأمارات عند حصول العلم الإجمالي كانت منجّزة ، فبوجودها لا ينجّز العلم الإجمالي ، لأنّه لا تبقى قضية منفصلة أصلا ، بل لا تحدث تلك القضيّة المنفصلة المانعة الخلوّ ، بل هو من بدء الأمر ينحاز إلى قضيّة متيقّنة واخرى مشكوكة ، إذ الأمارة بوجودها الواقعي توجب التنجيز والتعذير فعند حدوث العلم الإجمالي يحدث معه أطراف متيقّنة ويحدث معه أطراف أخر مشكوكة ، فلا يوجب التنجيز حينئذ إلى الأطراف المشكوكة من أوّل الأمر لا أنّه ينجّزها ثمّ بعد ذلك يحار في المخرج لها عن كونها من أطراف العلم الإجمالي المنجّز.

فالإنصاف أنّها خارجة من أوّل الأمر عن أطراف العلم الإجمالي المنجّز.

فظهر أنّ شبهة الأخباري وهي العلم الإجمالي مندفعة على جميع الأقوال في جعل الأمارات.

الثاني من تقريب الدليل العقلي على لزوم اجتناب محتمل التحريم ما ذكره بعضهم (١) : من أنّ الأصل في الأشياء الحظر ، بتقريب أنّ الأشياء كلّها ملك لله تبارك

__________________

ـ ووقت الظهر باق فإنّ الصبح تجري فيها البراءة من القضاء أو قاعدة الحيلولة ، وفي الظهر تجري قاعدة الشك في الوقت فيجب الإتيان بها فهذا أيضا بحكم الانحلال لعدم التعارض بين الاصول.

(١) انظر الفوائد المدنية : ٢٣٣ ـ ٢٣٥.

٢٦٧

وتعالى ، ولا يجوز التصرّف في ملك الغير إلّا برخصة ، فقبل الشرع كانت محرّمة قطعا وبعد الشرع وإن وردت أخبار البراءة إلّا أنّ معارضتها بأخبار الاحتياط أوجب سقوط الجميع ، فنرجع إلى الأصل الأوّلي.

والجواب أنّ ما ذكر من أنّ الأصل الحظر ليس من المسلّمات ، بل هناك القول المشهور بأنّ الأصل الإباحة وأنّ هذه الملكيّة المذكورة ليست على سنخ هذه الملكيّات الّتي يقبح التصرّف من غير إذن من مالكها ، فكما يتمسّك الأخباري بأصالة الحظر يستطيع الاصولي أن يتمسّك بأصالة الإباحة.

وثانيا : أنّ الأصل الأوّلي وإن كان الحرمة إلّا أنّه حيث لا شرع ولا شريعة ولا يلزم مثله بعد الشرع ، لأنّه قبل الشرع لا يمكن التمسّك بقبح العقاب بلا بيان ، لعدم لياقة المورد للبيان لعدم الرسول وعدم الشريعة بحسب الفرض ، إلّا أنّه بعد الشرع يمكن جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يمكن الرجوع إلى الأصل الأوّلي في الأشياء.

وثالثا : أنّا سلّمنا إمكان جريان الأصل الأوّلي إلّا أنّ الأدلّة الّتي أقمناها على البراءة ـ من حديث الرفع والسعة وغيرها ـ تقطع الأصل ، فافهم.

[تنبيهات البراءة]

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّ موضوع أصل البراءة العقليّة قبح العقاب بلا بيان ، وموضوع أصل البراءة الشرعيّة عدم العلم. فلو كان في مورد البراءة أصل موضوعي فمعه لا يتحقّق عدم البيان وعدم العلم ، إذ الأصل الموضوعي بيان تعبّدا ، مثلا لو شكّ في جواز تناول هذا الماء وعدمه فاستصحاب نجاسته السابقة مانع عن جريان البراءة العقليّة لوجود البيان ، والشرعيّة ، لوجود العلم تعبّدا. وكذا لو شكّ في نجاسة هذا الشيء الّذي كان خمرا سابقا من جهة الشكّ في بقائه على الخمريّة أو تغيّره وانقلابه إلى

٢٦٨

الخلّية فالاستصحاب يعيّن الأوّل فلا تجري البراءة. وكذلك لو شكّ في جواز تصرّفه في كتاب زيد لأنّه راض بالتصرّف ، وعدم جواز التصرّف لعدم الرضا منه ، فالأصل هنا حرمة التصرّف في مال الغير حتّى يثبت الرضا وطيب النفس. وكذلك في كلّ مورد كان فيه أصل موضوعي مبيّن. والمراد من الأصل الموضوعي الأصل المخرج لموضوعه من عدم البيان وعدم العلم وإن كان جاريا في الحكم.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) من جملة تلك الاصول الموضوعيّة أصالة عدم التذكية فيما شكّ في قابليّته للتذكية ، أمّا المعلوم القابلية للتذكية فلا مانع من جريان أصالة الإباحة فيه أصلا (وإن أطلق الشهيد قدس‌سره (٢) دعوى أصالة الحرمة في اللحوم) (٣).

ولا بدّ في تحقيق المقام من بيان في موارد :

أحدها : ما إذا شكّ في الحلّية مع العلم بقابليّة الحيوان للتذكية ووقوعها ، ولكن الشكّ من جهة أمر خارجي.

وثانيها : ما لو كان قابلا لها وشكّ في رافع تلك القابليّة كالجلل والوطء.

وثالثها : ما لم تعلم القابليّة ولا عدمها للجهل بالحيوان وأنّه من أيّ الجنسين.

ورابعها : في الشبهات الحكميّة ، ويقع الكلام فيها في موارد أيضا.

أمّا الكلام في المورد الأوّل من موارد الشبهة الموضوعيّة وهي ما إذا علمت قابليّته للتذكية ووقوعها عليه ولكن شكّ في حلّية لحمه وعدمها ، مثل ما إذا علم أنّ المذبوح إمّا شاة أو أرنب ، فهما معا قابلان للتذكية قطعا ، وقد وقعت التذكية عليهما فطهارتهما معلومة ، ولكنّ الشكّ في حلّية لحمهما ، ولا إشكال هنا في جريان أصالة

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ١٠٩.

(٢) الروضة البهيّة ١ : ٦٦ ، وتمهيد القواعد : ٢٧٠.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٦٩

الحلّ لقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١) فإن أراد الشهيد قدس‌سره من أصالة الطهارة والحرمة في اللحوم ما يشمل هذا فغير مسلم ، إذ الحلّية هنا لا معارض لها أصلا وإن أمكن الفحص ، لأنّ الشبهة الموضوعيّة لا يجب فيها الفحص.

وربّما تمسّك بعضهم باستصحاب حرمة أكل لحمه حال حياته أو حرمة بلعه حال حياته توجيها لكلام الشهيد لو فرض شموله لهذا الفرد. ولا يخفى عدم جريان استصحاب حرمة أكله ، لأنّ حرمة الأكل كانت محمولة على لحمه بعنوان القطعة المبانة من الحيّ وأنّها ميتة وهي مرتفعة قطعا ، إذ الفرض تذكيته وطهارته. وكذا حرمة بلعه مع أنّه محلّ الكلام بين الأعلام ، وعلى تقدير التسليم فهي بعنوان بلع الحيوان الحيّ ، فالموضوع منتف.

وأمّا الكلام في المورد الثاني وهو ما لو كان الحيوان قابلا للتذكية وشكّ في رفع تلك القابليّة ، مثل ما لو شكّ في الشاة أنّها صارت جلّالة أم لا أو موطوءة للإنسان أم لا أو شربت لبن خنزيرة أم لا ، فهنا الشكّ في حدوث موانع القابليّة ، فهنا عندنا استصحاب موضوعي جار ينفي ذلك المانع وهو استصحاب عدم الجلل وعدم وطء الإنسان وعدم شرب لبن الخنزيرة ، فهذا الأصل الموضوعي يعيّن لنا قابليّته للتذكية ، والمفروض أنّ التذكية قد وقعت عليه فيكون موردا لأصالة الحلّ.

وأمّا الصورة الثالثة وهي ما لو شكّ في القابليّة من جهة الشكّ في نوع الحيوان وأنّه شاة أو كلب وقد ذبحت ، فإن بنينا على أنّ هناك عموما دالّا على أنّ كلّ حيوان قابل للتذكية إلّا ما خرج بالدليل ، وبنينا أيضا على جريان أصالة العدم في الأعدام الأزليّة حتّى في العناوين الذاتيّة يحلّ ، لأنّ العموم دالّ على قبوله للتذكية ، وبضميمة استصحاب عدم اتّصافه بالعنوان الوجودي الخارج من عموم القابليّة وهو عنوان

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

٢٧٠

الكلبيّة ، فإنّ هذا العنوان قبل وجود هذا الحيوان لم يكن موجودا قطعا فبعد وجود الحيوانيّة يشكّ في وجوده فاستصحاب العدم الأزلي ينفيه ، فيكون الموضوع مركّبا من جزءين : الحيوانيّة وهو موجود وجدانا ، وعدم الكلبيّة وهو محرز بالأصل. والظاهر وجود العموم وهي صحيحة الحلبي (١) الدالّة على طهارة كلّ حيوان ذي جلد. وقد استدلّ بها صاحب الجواهر قدس‌سره (٢) الطاهر على طهارة جلود الحيوان إلّا ما خرج بالدليل ، وقد ذكرنا أيضا جريان استصحاب العدم الأزلي.

وإن لم نقل بالعموم أو لم نقل بجريان أصالة العدم الأزلي مطلقا أو في خصوص العناوين الذاتيّة كما في المقام ، فإن قلنا ـ كما عليه المشهور ـ من أنّ التذكية أمر بسيط يحقّقه هذا الأمر الوجودي الحسّي من فري الأوداج وبقيّة الشرائط فلا إشكال حينئذ في عدم حلّيته للاستصحاب ، أي لاستصحاب عدم وجود ذلك الأمر البسيط الوجوديّ. وإن قلنا بأنّ الذبح هو التذكية وأنّها أمر مركّب منه ومن بقيّة الشرائط فلا يمكن حينئذ إجراء الاستصحاب للقطع بحصوله ، فحينئذ تجري أصالة الحلّ في الشبهات الموضوعيّة فيكون حلالا وطاهرا بأصالة الطهارة. وقد استظهر الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) المعنى الثاني للتذكية من الآية المباركة (٤) وبقيّة الأدلّة ، والظاهر هو ما عليه المشهور.

وهناك صورة رابعة من صور الشبهة الموضوعيّة وهي صورة ما إذا شكّ في الحيوان من حيث وقوع التذكية عليه وعدمه بعد إحراز قابليّته لوقوع التذكية ، فإن كان هناك أمارة لوقوع التذكية عليها كيد المسلمين وسوقهم فهو ، وإلّا يكن هناك

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٥٤ ، الباب ٤ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٢.

(٢) جواهر الكلام ٨ : ١٠٥.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣٣٨.

(٤) المائدة : ٣.

٢٧١

أمارة للتذكية ـ كهذه الجلود الّتي هي محلّ ابتلائنا المجلوبة من بلاد الكفر مع القطع بأنّ الجالب لها لا يخطر في ذهنه ملاحظة أنّ ذابحها مسلم أو غيره ـ فاستصحاب عدم التذكية حينئذ محكّم قطعا ولا قاطع له ، لكن بهذا الاستصحاب يحرم أكل لحمه قطعا ، لأنّ المستثنى من حرمة أكل اللحم خصوص المذكّى بصريح الآية (١) فغير المذكّى حرام الأكل قطعا. وكذا يحرم لبسه في الصلاة بمعنى بطلان الصلاة في مثل هذه الجلود ، لأنّ غير المذكّى قد اخذ في لسان الأخبار مانعا عن صحّة الصلاة ، إلّا أنّ الكلام في نجاسة مثل هذه الجلود فإنّ النجاسة قد حملت في لسان الأدلّة على الميتة ، لكنّ الكلام في أنّ الميتة أمر وجودي أو أمر عدمي.

وبعبارة اخرى ، هل الميتة عبارة عمّا استند موته إلى غير السبب الشرعي ، أو عبارة عمّا لم يستند موته إلى السبب الشرعي؟ الظاهر الأوّل ، فهو حينئذ أمر وجودي فلا يثبت باستصحاب عدم التذكية إلّا على القول بالأصل المثبت.

وبعبارة اخرى ، أنّ استصحاب عدم التذكية لا يجري لمعارضته باستصحاب عدم الموت فيتعارضان ، ولو جرى لكان بالنسبة إلى الحكم بالنجاسة مثبتا.

وبالجملة ، فما ذكره النراقي (٢) : من معارضة استصحاب عدم التذكية باستصحاب عدم الموت فيتساقطان فيرجع إلى أصالة الطهارة لسلامته عن المعارض قويّ جدّا ، إلّا أن يقال بأنّ النجاسة من أحكام ما لم يذكّ كما ذهب إليه شيخنا الحاج آغا رضا الهمداني قدس‌سره (٣) مستندا إلى مفهوم ذيل مكاتبة الصيقل : «فإنّ كان ما تعمله وحشيّا ذكيّا فلا بأس» (٤) زاعما أنّ مفهومه : فإن كان ما تعمله ليس ذكيّا ففيه البأس ، وحيث إنّ الكلام في الجلود فالبأس عبارة عن النجاسة.

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) مستند الشيعة ١ : ٣٥١ ، المناهج : ٣٣٣ ، ذيل ٢٣٤.

(٣) كتاب الطهارة من مصباح الفقيه : ٦٥٣ ، السطر ٥ ، ط. الحجرية.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠٥١ ، الباب ٣٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

٢٧٢

ولا يخفى عليك أنّ هذا الذيل لا مفهوم له ، لأنّ ظاهر كلام الإمام عليه‌السلام جعل الذكيّ قبال الميتة لا تأسيس حكم كلّي جديد ، فقد جعل الإمام عليه‌السلام الذكيّ في مقابل الميتة المذكورة في كلام السائل ، كما يرشد إليه ذكر الوحشيّة أيضا مع عدم الخصوصيّة فيها ، فافهم وتأمّل.

(وهناك قسم خامس وهو ما شكّ في حلّيّته وحرمته من جهة الشكّ في القابليّة وعدمها والوقوع وعدمه بحيث يقترن الشكّان معا فيه ، فهل يجري فيه أصالة عدم التذكية أم لا؟ الظاهر جريانها وترتّب حكم غير المذكّى عليها.

وما عن بعض الأساطين (١) من عدم جريان أصالة عدم التذكية ، لعدم أثر لها لكونها مسبوقة بالشكّ في القابليّة ، فالذبح وعدمه لا أثر له حينئذ.

لا يخفى ما فيه ، ضرورة أنّ أثر التذكية مفقود إلّا أنّ أثر عدم التذكية لا مانع من ترتّبه ، لأنّا نقطع حينئذ بحرمته إمّا لأنّه كلب لم يذبح أو شاة لم تذبح ، فتأمّل) (٢).

هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعيّة بأقسامها.

وأمّا الكلام في الشكّ في حلّية حيوان من جهة الشبهة الحكميّة ، والشكّ في الحكم يكون على الصور الأربع أيضا :

أحدها : أن يكون الشكّ في الحلّية بعد إحراز القابليّة للتذكية ووقوعها وإنّما كان الشكّ في كونه من الشارع حاكما بحلّيته أم لا ، وهذا لا إشكال في حلّيته لقاعدة الحلّ الثابتة بحديث الرفع واستصحاب الحرمة حال الحياة لا يجدي ، لأنّها كانت محمولة على القطعة المبانة من الحيّ ، وعلى بلع الحيوان حيّا ، والموضوع غير باق قطعا.

الثاني من الصور : ما إذا كان الشكّ في حكمه من جهة الشكّ في عروض الجلل مثلا بعد إحراز القابليّة الذاتيّة للتذكية واحتملنا ارتفاع القابليّة للذكاة به ،

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٢٠٢.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٧٣

فهنا لا مانع من إثبات بقاء القابليّة بالاستصحاب فيثمر وقوع التذكية على القابل فيكون أحد جزأي المذكّى ثابتا بالأصل وهو القابليّة ، والآخر بالوجدان وهو وقوع التذكية عليه. (ولو نوقش في جريان الاستصحاب الحكمي فيمكن التمسّك بإطلاق ما دلّ على قابليّة الغنم مثلا للتذكية ، ولو لم يكن لها إطلاق فبأصالة عدم اعتبار الشارع الجلل مانعا عن التذكية) (١).

الثالث من الصور : ما لو شكّ في الحكم من جهة الشكّ في القابليّة ذاتا ، كما لو تولّد حيوان من حيوانين : أحدهما قابل للتذكية والآخر غير قابل لها وباينهما في الاسم بحيث كان شيئا ثالثا غير تينك الحقيقتين ، فإن كان عندنا عموم دالّ على قابليّة كلّ حيوان للتذكية إلّا ما خرج بالدليل فهو مثبت لقابليّته ، إذ ليس من أفراد الخارج قطعا فهو قابل للتذكية فيكون حلالا. وأمّا إذا لم يكن عندنا دليل دالّ على قابليّة كلّ حيوان للتذكية فتصل النوبة إلى المباني ، فإن بنينا على أنّ التذكية أمر وجودي مسبّب عن هذه الأشياء الخاصّة من فري الأوداج مع بقيّة الشرائط فالأصل عدم تحقّق التذكية وهو محكّم ، وإن بنينا على أنّ التذكية هي نفس هذه الحركات الخاصّة كما استظهره الميرزا قدس‌سره فلا مجال لأصالة عدم تحقّق التذكية لوجودها قطعا حسب الفرض.

الرابع من الصور : إذا شكّ في حكمه من جهة الشكّ في وقوع التذكية عليه وعدمها بعد إحراز قابليّته مثل أن يعلم أنّه شاة لكن شكّ في أنّ ما ذبحت به شيء يحقّق الذكاة خارجا أم لا ، كما إذا فري أوداجه بزجاجة ، واحتملنا اعتبار الحديد في تحقّق التذكية ، فهنا على الظاهر أنّ أصالة عدم تحقّق التذكية مسلّم حتّى من مثل الميرزا النائيني قدس‌سره لأنّ الذبح وإن كان نفس هذه الحركات إلّا أنّها بعد إحراز شروطها الّتي يحتمل كونه بالحديد منها ولم يتحقّق الفري بالحديد ،

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٧٤

فأصالة عدم تحقّق التذكية حينئذ مسلّم ، (ومرجعه إلى أصالة عدم جعل الشارع التذكية بهذا الفري ، إذ هو مسبوق بالعدم فيستصحب.

وأصالة عدم اعتبار الحديديّة في الذكاة لا يثبت الذكاة في المقام إلّا بنحو الأصل المثبت. وأصالة البراءة وإن جرت في مقام الشكّ بين الأقل والأكثر عن الأكثر إلّا أنّه في غير موارد كون الشبهة مفهوميّة كما في المقام ، إذ الشبهة في مفهوم التذكية) (١) ، إلّا أنّ الكلام كلّ الكلام أنّ أصالة عدم تحقّق التذكية هل يثبت النجاسة أم لا يثبت إلّا الحرمة فقط (*)؟ وقد تقدّم الكلام في ذلك وأنّ الحرمة حينئذ مسلّمة ، لأنّ الحلّ

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(*) كتب المقرّر في ورقة ملحقة توضيحا عن التذكية واللحم المشتبه محدّدا هذا الموضع له ، ونصّه ما يلي :

لا يخفى أنّ قابلية الحيوان للتذكية وعدم قابليته لها لم يرد في الأخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام فلا ينبغي التعرض له في التقسيم ، بل الموجود في أخبارهم أنّ الحيوان على نوعين : أحدهما ما يقع عليه الذكاة كالغنم ، وآخر مما لا تقع عليه الذكاة نظير الكلب والخنزير. وحينئذ فالشبهة في حرمة اللحم وحليته لا تخرج عن هذه الأقسام الآتية :

القسم الأول : أن يعلم أنّه مما حكم الشارع بأنّه يقع التذكية عليه ونعلم نحن بوقوعها عليه ولكن نشك أنّه من الغنم حتى يكون حلال اللحم أو من الأسد حتى يحرم لحمه.

فهنا إن كانت الشبهة حكمية كما في الحيوان المتولد من أحدهما فلا ريب في حليته بحديث الرفع.

وإن كانت الشبهة موضوعية كما في الحيوان الذي ذبحناه في ظلمة الليل ولم نعلم أنّه شاة أو ذئب فلا ريب في حليته لحديث الرفع ولخصوص : كلما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

القسم الثاني : ما شك في حليته وحرمته للشك في تحقق تذكيته خارجا وانتفائها مع العلم بأنّه لو ذكي حل لحمه قطعا.

٢٧٥

محمول على المذكّى لقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(١) وكذلك المانع من الصلاة غير المذكّى ولكنّ النجاسة محمولة على عنوان الميتة ، والميتة هل هي ما استند موته إلى غير السبب الشرعي أو ما لم يستند موته إلى السبب الشرعي؟ فعلى الأوّل لا يثبت النجاسة أصالة عدم التذكية إلّا بالأصل المثبت ، بخلافه على الثاني فإنّه أمر عدمي هو مدلول أصالة عدم التذكية فيثبت به ، فافهم.

وعلى الأوّل فلا مانع من إجراء أصالة الطهارة وأصالة عدم التذكية فيكون طاهرا محرّما عملا بكلا الأصلين ، والتفكيك بين آثار الاصول فوق حدّ الإحصاء. والعلم الإجمالي ببطلان أحد الأصلين لا يضرّ أيضا ، كما لو توضّأ بمائع مردّد بين البول والماء فيحكم بطهارة بدنه وبقاء حدثه مع العلم الإجمالي بعدم جريان أحد الأصلين واقعا.

__________________

ـ فإن كانت الشبهة حكمية كما إذا ذبح بمدية من ذهب واحتملنا اعتبار الحديد في تذكيته فلا ريب في إجراء أصالة عدم تحقق التذكية ومرجعه إلى عدم جعل الشارع هذا الذبح تذكية ، وإن كانت الشبهة موضوعية كما إذا ذبحناه بمدية اشتبهت علينا أنّها ذهب أو حديد وكنا قد اعتبرنا الحديد في التذكية فهنا أيضا يرجع إلى أصالة عدم تحقّق التذكية خارجا بهذا الذبح الخاص.

القسم الثالث : ما إذا شك فيه من جهة الشك في أنّه من القسم الذي حكم الشارع عليه بأنّه تقع عليه الذكاة أو من القسم الذي حكم بأنّه لا تقع عليه الذكاة.

فإن كانت الشبهة حكمية كما في الغراب مثلا فلا ريب في إجراء أصالة عدم تحقّق التذكية إن لم يكن لنا عموم يدل على وقوع التذكية على كل حيوان ، وإن كان هناك عموم حلّ لحمه شرعا. وإن كانت الشبهة موضوعية كما في ما لو ذبح ليلا وتردّد بين القسمين فتجرى أصالة عدم تحقّق التذكية خارجا لكن هذا الأصل إنّما يجدي في رفع آثار التذكية ولا يجدي في ترتيب آثار الميتة عليه ؛ لأنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت كونه ميتة إلّا بالأصل المثبت ، فافهم.

(١) المائدة : ٣.

٢٧٦

التنبيه الثاني : لا ريب في حسن الاحتياط وحصول المقصود ممّا يحتاط فيه حيث يكون أمرا توصّليّا كما في غسل الثوب ، فإنّ من شكّ في إصابة النجاسة لثوبه لا ريب في حصول المقصود لو غسله ، بل يكون غسله له نحو انقياد يثاب عليه. كما لا ريب في حسنه في العبادة حيث يشكّ في وجوبها وعدم وجوبها بعد إحراز مطلق الرجحان فيأتي بها احتياطا ، كما لو شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وعدم وجوبه فيأتي به ، لأنّه أحرز رجحانه قطعا.

نعم ، يفوته ـ على ما زعمه السيّد الاستاذ السيّد أبو القاسم الخوئي (١) مدّ في عمره ـ قصد الوجه وهو غير معتبر مطلقا ، أو حيث لا يمكن تحصيله كما في المقام ، فإنّ القائل بوجوبه إنّما يقول بوجوبه حيث يمكن ولا يقول بوجوبه مطلقا. والظاهر أنّه لا يفوته قصد الوجه فإنّه يستطيع إتيانه بوجهه الواقعي ، نعم يفوته التمييز ، وحكمه حكم قصد الوجه في عدم الاعتبار ، وعلى تقدير الاعتبار فحيث يمكن.

وأمّا لو شكّ في أصل رجحان العمل وعباديّته بأن شكّ في توجّه الأمر إليه وعدمه فهنا يتوجّه الإشكال المعروف أنّه لو أتى به بدون قصد الأمر لا يكون عبادة لتقوّمها به ، وإن أتى به بقصد الأمر فيكون تشريعا محرّما ، لأنّ التشريع إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين ، والمفروض أنّا لم نعلم أنّ هذا من الدين فإتيانه بقصد الأمر يكون إدخالا له في الدين.

ولا يقال : إنّ حكم العقل بالاحتياط أو إدراك العقل حسن الاحتياط يستدعي حكم الشارع على طبقه لقاعدة الملازمة بين حكميهما ، لأنّ الكلام بعد في إمكان الاحتياط ، وهذا الكلام إنّما يأتي لو تحقّق إمكان الاحتياط.

والظاهر إمكان الاحتياط في المقام بإتيان هذا العمل المشكوك عباديّته برجاء الأمر ورجاء كونه مطلوبا ، وهذا يتمّ على جميع الأقوال في عباديّة العبادة وهي قول

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٥٣.

٢٧٧

الآخوند (١) بأنّ اعتبار القربة إنّما هو من جهة عدم حصول الغرض منها بدونه ، وإلّا فالأمر متعلّق بذات العبادة كتعلّقه بذات الأمر التوصّلي غير أنّ الأمر التوصّلي يسقط بإتيان متعلّقه ، والأمر العبادي يسقط بحصول الغرض لا بصرف الإتيان. فحصول الغرض لا يكون إلّا بقصد الأمر ، أو قلنا بمقالة الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من أنّ العبادة ما كانت مفتقرة إلى أمر ثان يكون متمّما للأمر الأوّل ينتج نتيجة التقييد بقصد القربة ، أو قلنا بمقالتنا من إمكان عباديّة الشيء واعتبار القربة فيه بالأمر الأوّل كما مرّ تحقيقه في التعبّدي والتوصّلي ، وذلك لأنّ هذا الإشكال لا مدفع له لو اعتبرنا الجزم بالنيّة القربيّة ، وما دلّ على اعتبار النيّة القربيّة هو أحد ما ذكرنا ، وإذ ليس فيها ما يدلّ على اعتبار الجزم بالنيّة فيجوز الاحتياط وإن كان يفوت الجزم بالنيّة ، إذ لا دليل على اعتباره. ولو قيل باعتباره فإنّما يقال باعتباره حيث يمكن لا في مثل المقام ، فافهم.

وبيان عدم دلالتها على اعتبار الجزم بالنيّة أمّا على ما اختاره الآخوند فواضح ، إذ أنّ إتيان العمل رجاء كونه مطلوبا للمولى من أظهر مصاديق الانقياد إلى أمر المولى ، لأنّ العبد مع أمنه من العقاب لو ترك يأتي به رجاء مطلوبيّته الواقعيّة الّتي لا عقاب في مخالفتها ، بل هذا من أرقى مراتب الامتثال. ولا يعتبر في العبادة إلّا إتيانها مضافة إلى الله ومتقرّبا بها إليه ، والإضافة إليه في المقام حاصلة قطعا ، بل هي من أظهر مصاديق الإضافة إليه تعالى فالغرض حينئذ مترتّب عليها وحاصل أيضا.

وأمّا على مبنى الميرزا (٣) من الأمر الثاني المتمّم للجعل فليس في جميع الأخبار والآيات الواردة في العبادات ما يدلّ على قصد الأمر الأوّل بالخصوص ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٠.

(٢ و ٣) أجود التقريرات ٣ : ٣٥٨.

٢٧٨

بل في الوضوء الرواية الّتي قدّمنا ذكرها وقد تضمّنت إتيانه بنيّة يريد بها ربّه وإتيانه رجاء الأمر من أظهر مصاديقها.

وأمّا على مبنانا من إمكان أخذ قصد الأمر في العبادة بالأمر الأوّلي فالّذي يكشف عن أخذه الإجماع على اعتبار كون العمل مضافا إلى الله تعالى أو هذه الرواية الّتي فيها مضمونا وليأت به نيّة يريد بها ربّه ، والإتيان بالعمل رجاء إتيان له بأصلح النيّات. فظهر أن الإتيان بالعمل المشكوك العباديّة احتياطا ممكن قطعا على جميع التقادير (*).

__________________

(*) جاء في هامش المخطوط ما يلي : خ ل عما ذكر في المتن من قوله : والظاهر ، في الصفحة السابقة إلى قوله : بقي هنا أمران : وبالجملة إن اعتبرنا الجزم بنيّة القربة فلا مجال للاحتياط في العبادة الّتي لم يحرز رجحانها ، وإن لم نعتبر الجزم بنيّة القربة فلا مانع عن الاحتياط في جميع أقسام العبادة بإتيانها رجاء مطلوبيّتها.

والظاهر عدم اعتبار الجزم بالقربة ، لأنّ اعتبار القربة في العبادة إمّا من جهة حكم العقل بها لعدم إحرازه حصول الغرض فيها إلّا بها ، ولا ريب أنّ الغرض يترتّب بمجرّد إضافة العمل إلى الله كما اعترف به القائل باعتبار القربة من جهة عدم إحراز الغرض بدونها وهو الآخوند قدس‌سره إذ قد صرّح بكفاية المحبوبيّة والملاك فيها. ولا ريب أنّ الإتيان بها رجاء مع أمن العقوبة في الترك إن لم يكن أقوى خلوصا من صورة وجود الأمر فلا أقلّ من المساواة.

وإمّا أن يكون الدليل على التقرّب في العبادة الأمر الثاني كما يختاره الميرزا النائيني قدس‌سره المنتج نتيجة التقييد فلا أمر ثاني في جميع ما اطّلعنا عليه من الأخبار.

فإن كان هو الإجماع فالقدر المتيقّن ممّا قام الإجماع على اعتباره هو مطلق الإضافة إن لم نقل بقيام مطلق الإضافة بقرينة فتياهم بإمكان الاحتياط في العبادة.

وإمّا أن يكون الدليل هو الأمر الأوّل كما اخترنا ، وقد ورد في الوضوء رواية تضمّنت إتيانه بنيّة يريد بها ربّه ـ لم نقف عليه ـ ولا ريب في تحقّق إرادة النيّة جليّا بالإتيان بها رجاء كما هو واضح ، فافهم.

٢٧٩

بقي هنا أمران يجب التنبيه عليهما :

أحدهما : أنّ أوامر الاحتياط هل هي إرشاديّة أو مولويّة فتفيد استحبابه؟

الثاني : أنّها على تقدير كونها مولويّة فهل تفيد استحبابه لذاته أم تفيد استحبابه مقصودا به الأمر الواقعي؟ فعلى الأوّل لو أتى به بقصد الاستحباب أجزأ ، وعلى الثاني الاستحباب إنّما تعلّق بإتيانه رجاء لإدراك الواقع فلا بدّ أن يأتي به بذلك الرجاء حتّى يتحقّق الاستحباب بمعنى أن يأتي به بقصد الأمر الواقعي.

أمّا الكلام في الأمر الأوّل فنقول : ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى كون بعض أوامر الاحتياط أوامر إرشاديّة ـ وهي ما كان المقصود بها المحافظة على الواقع ـ لوقوعها في سلسلة معلولات الحكم ، وما يحكم به العقل ويقع في سلسلة معلولات الحكم لا بدّ من كون الأمر الشرعي فيه إرشاديّا. نعم ، لو أدرك العقل شيئا في سلسلة علل الحكم كإدراكه حسن الإحسان وقبح العدوان فهنا لا بدّ أن يكون مولويّا فيحكم الشارع على طبقه بحكم مولوي ، ومثله بعض أوامر الاحتياط الدالّة على حسنه في نفسه لإثبات التورّع النفسي ، بخلاف ما كان في سلسلة المعلولات للحكم كمراتب الامتثال فإنّ الأوامر الاحتياطيّة باعتبار كونها في مرتبة امتثال الحكم كأوامر الإطاعة في لزوم حملها على الإرشاد.

نعم ، يمكن أن يكون الأمر بالاحتياط ليس من جهة الامتثال ، بل من جهة أنّ الآتي بشيء لاحتمال الأمر به فهو أولى أن يأتي بالمأمور به الواقعي المعلوم ، والتارك لشيء لاحتمال النهي فهو للمنهيّ عنه المعلوم أشدّ تركا كما ورد : «من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك» (٢) فيكون أوامر الاحتياط لمصلحة في نفس الاحتياط ، وهي القوّة النفسيّة المعبّر عنها بالتورّع

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٥٤.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢.

٢٨٠