غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

كما في العروة في الصور الثلاث (١) إذ لا مانع من جريانه في أطراف العلم الإجمالي إذا لم تكن ثمّة مخالفة عمليّة ، فافهم وتأمّل.

هذا تمام الكلام في الصور الأربعة الاول الّتي يكون فيها كلا الحادثين مجهولي التاريخ ، وأمّا صور ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ دون الآخر.

فأمّا الصورة الاولى وهي ما لو كان الأثر مترتبا على مفاد «كان» التامّة فالكلام فيها عين الكلام المتقدّم في مجهولي التاريخ من أنّه لو احتمل التقارن فيجري استصحاب عدم سبق زيد وعدم سبق عمرو إن لم يحتمل التقارن ، فإن كان هناك أثر لكلّ منهما سقطا بالمعارضة وإلّا فيجري الاستصحاب فيما فيه الأثر ولا يجري في الثاني لعدم الأثر له.

وأمّا الصورتان الثانية والثالثة وهما ما لو كان الأثر مترتّبا على مفاد «كان» الناقصة أو «ليس» الناقصة فالكلام فيهما هو الكلام المتقدّم أيضا ، إذ في الثانية منهما يجري الاستصحاب بناء على جريانه في الأعدام الأزليّة ، وبناء على ما ذكره الآخوند هنا من عدم تحقّق الوجود بنحو الاتّصاف حتّى يستصحب يجري هنا أيضا (٢).

وفي الثالثة لا يجري الاستصحاب لإثبات العدم النعتي أي العدم الّذي هو صفة لموضوع الحكم ، بل يجري استصحاب عدم الاتّصاف لنفي آثار الاتّصاف بذلك العدم لعدم تحقّقه قبل تحقّق المتّصف.

وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما لو كان الأثر مترتّبا على مفاد «ليس» التامّة فعلى مذاق الآخوند قدس‌سره يفرق الحال عنه في مجهول التاريخ ، لأنّه لا يجري الاستصحاب في المجهول تاريخهما لاعتباره اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وهنا بالنسبة إلى المعلوم فزمان الشكّ متّصل بزمان اليقين فيجري فيه الاستصحاب إن كان له أثر ولا يجري في الثاني.

__________________

(١) العروة الوثقى ، فصل في طريق ثبوت الطهارة (المسألة ٢).

(٢) كفاية الاصول : ٤٨٠.

٦٤١

وأنت بعد اطّلاعك على ما ذكرنا تعرف جريان الاستصحاب فيهما معا ، وكون أحدهما معلوم التاريخ إنّما يمنع جريان الاستصحاب في عمود الزمان ولا يمنع جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ بالنسبة إلى الحادث الآخر ، فنقول : نشكّ في تحقّق الإسلام مثلا عند موت المورث فيجري استصحاب عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث ، وإن كان الإسلام معلوم التاريخ إلّا أنّ كون حدوثه قبل الموت أو بعده مجهول ، والشكّ في تحقّق الإسلام حال الموت موجود بالوجدان فيستصحب العدم.

ومن هنا ظهر ما في منع الميرزا النائيني قدس‌سره من جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ (١) استنادا إلى أنّ الاستصحاب عبارة عن جرّ المتيقّن في عمود الزمان ، وإذا علم تاريخه لا شكّ حتّى يجرّ ، فإنّه وإن لم يتحقق الشكّ في عمود الزمان إلّا أنّ الاستصحاب ليس إلّا جرّ المتيقّن إلى زمان الموت لا في عمود الزمان وهو مشكوك فيه فيجري الاستصحاب فيه.

وبالجملة ، لا فرق بين أن يكون الحادثان مجهولي التاريخ أو يكون أحدهما مجهول التاريخ والآخر معلوم التاريخ ، لأنّ الاستصحاب في عمود الزمان وإن كان ممتنعا في معلوم التاريخ إلّا أنّه بعنوان أنّه عند حدوث الآخر موجود أم لا مشكوك فيجري فيه الاستصحاب ، لما ذكرنا من أنّ عدم الجريان بعنوان لا ينافي الجريان بعنوان آخر.

بقي الكلام في أنّه هل يلحق بالموضوعات المركّبة الماء المسبوق بالقلّة المعلوم حدوث كرّيته وملاقاته للنجاسة المشكوك تقدّم أحدهما على الآخر؟ فإنّه على تقدير تقدّم الكرّية لا تؤثّر الملاقاة النجاسة ، وعلى تقدير تقدّم الملاقاة يتنجّس لمصادفتها قلّة الماء ، أم أنّه لا يلحق بالموضوعات المركّبة بل هو أمر بسيط؟

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٦٢.

٦٤٢

(وصوره ثلاثة ، لأنّه إمّا أن يعلم تاريخ الملاقاة ويجهل تاريخ الكرّية أو بالعكس أو يجهل تاريخهما ، وقد صار هذا الفرع بتمام صوره محطّا للأنظار فبين مفت (١) بالطهارة في تمام الصور ، لجريان الاستصحابين في الحادثين بعدم كلّ في زمن حدوث الآخر فتتساقط ويرجع إلى أصالة الطهارة كما هو الصحيح ، وبين مفصّل بين الصور (٢) ، وبين مفت بالنجاسة في تمام الصور كالميرزا النائيني قدس‌سره (٣) فقد) (٤) ذكر الميرزا قدس‌سره أنّ الموضوع لعدم النجاسة هو الكرّية السابقة على الملاقاة بدعوى استفادته من قوله : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (٥) وإنّه لا يمكن استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية ، أمّا إذا علم تاريخ الملاقاة فلما ذكره من عدم إمكان جرّ المتيقّن في عمود الزمان فتجري أصالة عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة فيحكم بالنجاسة.

وقد ذكرنا أنّه لا يعتبر جرّه في عمود الزمان ، بل يعتبر أن يكون الشكّ متحقّقا بالإضافة إلى تحقّقه زمن الحادث الآخر وأنّه كان حال حدوثه أم لا يكن ، وأمّا إذا لم يعلم تاريخ الملاقاة وعلم تاريخ الكرّية فلزعمه أنّ الحكم بالعاصميّة مرتّب على الملاقاة حال الكثرة ، فاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية يكون مثبتا لكون الملاقاة حال الكرّية.

ولا يخفى عليك أنّ عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية كافية في إثبات طهارته ، فإنّ عدم ملاقاة الماء القليل للنجس كاف في طهارته لانتفاء جزء الموضوع

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٤٨٠.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ١٥٨ ـ ١٦٣.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ١٥٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث الأوّل.

٦٤٣

المركّب للحكم بالنجاسة ولا يحتاج إلى إحراز كون الملاقاة بعد الكرّية ، وأمّا استصحاب عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة ، فإن جهل تاريخه جرى وأثبت النجاسة ، وإن علم تاريخه لا يجري.

وقد عرفت جريان الاستصحاب وإن علم تاريخه لما قدّمناه نحن من عدم العبرة بجريانه في عمود الزمان ، وقد ذكر أيضا أنّه مع الجهل بتاريخهما لا بدّ من جريان استصحاب عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة والحكم بالنجاسة. (واستصحاب عدم الملاقاة إلى زمن الكرّية لا يجري لعدم الأثر له ، إذ الأثر مترتّب على الكرّية السابقة والأصل لا يثبتها إلّا بنحو الأصل المثبت) (١).

وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الموضوع مركّب لا بسيط وأنّ الاستصحاب بالنسبة إلى كلّ من الحادثين جار وإن علم تاريخه ، فإن كان لعدم كلّ منهما أثر تعارضا وتساقطا وإلّا فيجري خصوص ما فيه الأثر ويترتّب عليه أثره إذ لا معارض له (*).

بقي الكلام في أنّه بعد فرض تعارض الاستصحابين في خصوص الماء هل يمكن الرجوع إلى أصالة الطهارة أم لا يمكن؟

ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى عدم جواز الرجوع إليها (٢) ومن ثمّ حكم بالنجاسة فيما إذا كان أحد الاستصحابين مثبتا والثاني معلوم التاريخ فلا يجري فيه

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(*) هذا ما ذكره سابقا ، وقد ذكر في دورته اللاحقة سنة (١٣٨٠ ه‍) أنّ الموضوع للنجاسة مركّب من ملاقاة النجس وكون الماء قليلا ، وهذا الموضوع متحقّق بعضه بالوجدان وهو الملاقاة وبعضه الآخر بالأصل وهو القلّة ولا يعارضه أصالة عدم الملاقاة حال القلّة ، لأنّ موضوع الطهارة هو عدم ملاقاة النجس الماء القليل ، وهذا الأصل وهو عدم الملاقاة حال القلّة لا يثبت موضوع الطهارة إلّا بالأصل المثبت إذ ليس هو موضوع الأثر ، وحينئذ فيحكم بالنجاسة في الفرض المذكور.

(٢) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٦٢ ـ ١٦٣.

٦٤٤

الاستصحاب ، وقد احتجّ بأنّ تعليق الحكم الترخيصي المستثنى من حكم إلزامي على أمر وجودي لا يفهم العرف منه دورانه مدار واقع الأمر الترخيصي ، بل يرونه دائرا مدار إحرازه ، ونظّر لذلك نظائر ، منها : ما إذا قال المولى لعبده : لا تدع أحدا يدخل داري إلّا أصدقائي ، فلو شكّ في كون زيد صديقا لمولاه أم لا لا يدخله اعتمادا على أصالة البراءة ، بل يفهم العرف ونفس العبد أنّ ما يحرز كونه صديقا هو المأذون في إدخاله. وكذا إذا قال : لا تعط مالي إلّا لفقير ، فلو شكّ في شخص أنّه فقير أم لا لا يعطي اعتمادا على البراءة بل يفهم اعتبار الإحراز في ترتيب الحكم الترخيصي ، فلا يحكم في المقام بقاعدة الطهارة ، لأنّها موقوفة على إحراز الأمر الوجودي وهو الكرّية بل يحكم بالنجاسة.

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره غير تامّ ، فإنّ الحكم إنّما يثبت لموضوعه الواقعي فإنّه إذا فرض أنّ الشارع حكم بأنّ الكرّ لا ينفعل بالملاقاة والقليل ينفعل بها فالكرّ الواقعي لا ينفعل والقليل الواقعي ينفعل ولا مدخليّة للإحراز فيهما بشيء.

وأمّا ما ذكره من الأمثلة فعدم ادخال غير الصديق المعلوم صداقته أو عدم إعطاء غير معلوم الفقر إنّما هو لوجود أصل موضوعي ينفي الصداقة وهي أصالة عدمها ، فإنّ الصداقة أمر حادث ، وكذا أصالة عدم كونه فقيرا تجري خصوصا بناء على الاستصحاب في الأعدام الأزليّة كما بنينا عليه.

ولو فرض عدم جريان الأصل الموضوعي أيضا ، عندنا أصل حكمي وهو أصالة حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، ولا يمكن إحراز جواز التصرّف إلّا بعد إحراز المدخل والمعطي وأنّهما ممّا رخّص في إدخالها وإعطائها ، وإلّا فأصالة حرمة التصرّف في مال الغير محكّمة في إعطاء من لم يعلم كونه صديقا أو فقيرا ، هذا كلّه في الموضوعات المركّبة.

وأمّا الموضوعات البسيطة الّتي نعلم بتحقّقها في الخارج وتحقّق ضدّها أيضا ولكنّا نشكّ في أنّ أيّهما المتقدّم وأيّهما المتأخّر ، ليكون الزمان بعده حينئذ

٦٤٥

محكوما بالاخير ، مثلا إذا علمنا بفسق زيد في زمان وعدالته في زمان آخر ثمّ شككنا في أنّ الفسق هو المتقدّم ليكون العدالة متأخّرة فتستصحب عند الشكّ في زوالها أو الفسق متأخّر ليستصحب عند الشكّ في زواله أيضا.

أمّا إذا كانا معا مجهولي التاريخ فحكمهما حكم الموضوعات المركّبة ، فبناء على مذاق الآخوند قدس‌سره لا يجري الاستصحاب فيهما ، لعدم إحراز اتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ.

نعم إنّ بين هذا المقام والمقام المتقدّم فرقا فإنّه في المتقدّم زمان اليقين بعدم كلّ من الحادثين معلوم وزمان الشكّ لم يعلم اتّصاله بزمان اليقين المعلوم وهو يوم الجمعة حسب المثال المتقدّم ، إلّا أنّه في المقام زمان الشكّ معلوم وهو من الآن فما قبله من الآنات إلّا أنّ زمان اليقين مجهول.

ونحن نقول : إنّ أدلّة الاستصحاب إن اعتبر فيها معلوميّة زمان اليقين تفصيلا كان الحقّ مع الآخوند ، ولكنّها لم يعتبر فيها أكثر من اليقين ولو إجمالا ، والشكّ الفعلي واليقين الإجمالي الفعلي كالشكّ الفعلي متحقّقان بالنسبة إلى كلّ من العدالة والفسق فيجري الاستصحاب فيهما ، فإن كان لهما أثر فيتساقطان ، وإن كان لأحدهما أثر دون الآخر فيجري الاستصحاب فيما فيه الأثر دون الثاني ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في نفسه فلا يجري فيه أيضا ، وكذا لا فرق بين كون أحدهما معلوم التاريخ أو يكونان معا مجهولي التاريخ.

نعم ذهب إلى عدم جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ الشيخ ووجهه بحسب الظاهر أنّه من القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلّي ، فإنّ الظاهر أنّه لا يرى حجّيته ، وقد مثّلنا له بما إذا كان جنبا فاغتسل ثمّ رأى في ثوبه منيّا يحتمل كونه من الجنابة الاولى وكونه من الجنابة الحادثة. فقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى استصحاب الطهارة دون استصحاب الجنابة فيه.

٦٤٦

ولا يخفى ما فيه ، فإنّا نشير إلى حصول الطهارة فنقول : الطهارة متحقّقة ونشكّ في ارتفاعها ، وكذا إلى الحدث بعينه.

ثمّ لا يخفى أنّ ما نسبناه إلى الشيخ الأنصاري إنّما اعتمدنا في نسبته إليه على ذكر الميرزا ونسبته إليه في التقريرات (١) ولم نعثر لا في الرسائل ولا في كتاب الطهارة له قدس‌سره ما يدلّ على صدق هذه النسبة ، بل ظاهر كلامه في طهارته جريان الاستصحاب في كلا الحادثين حتّى في المجهول تاريخه.

وبناء على ما اخترناه من الجريان حتّى في مجهول التاريخ لا مانع من جريان الاستصحاب فيهما أيضا فيجري ويتعارض الاستصحابان ويتساقطان لتحقّق اليقين والشكّ الفعليّين فيهما معا ، والعلم بالتاريخ في أحدهما لا ينافي الشكّ في بقائه.

ثمّ إنّه بعد تعارض الاستصحابين وتساقطهما يرجع إلى ما تقتضيه الاصول العمليّة ، فقد تقتضي الاشتغال كما إذا كانت الحالتان الطهارة والحدث وأراد الصلاة فإنّ قاعدة الاشتغال تحتّم عليه الوضوء ، لأنّه لو صلّى حينئذ لا يقطع بالفراغ ، وقد تقتضي البراءة كما في تعارض الجنابة والغسل بالنسبة إلى دخول المسجدين أو مكثه في المساجد.

وربّما نسب إلى العلّامة الحلّي قدس‌سره القول بالأخذ بنفس الحالة السابقة على حدوث هذين الحادثين (٢) كما نسب إلى المحقّق قدس‌سره الأخذ بضدّ الحالة السابقة (٣) لأنّ حالته لو كانت الطهارة فيحتمل وقوع الطهارة الثانية عقيب الطهارة الاولى ثمّ وقع الحدث بعدهما فيؤخذ بضدّ الحالة السابقة لذلك ، أي لانتقاض الحالة السابقة قطعا والشكّ في عودها.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٥٨.

(٢) انظر التذكرة ١ : ٢١١ ، والقواعد ١ : ٢٠٥ ، والمختلف ١ : ٣٠٨.

(٣) انظر المعتبر ١ : ١٧١.

٦٤٧

وممّا ذكرنا ظهر جوابه ، فإنّا نشير إلى تلك الطهارة أيضا ونقول عند تحقّقها : تحقّقت الطهارة فتستصحب للشكّ في ارتفاعها فيتعارضان ويتساقطان.

ومن جملة فروع المسألة : مسألة من كان عنده اناءان أحدهما نجس والآخر طاهر فإنّ في الخبر «أنّه يهريقهما ويتيمّم» (١) وقد وجّهه الآخوند قدس‌سره في باب اجتماع الأمر والنهي (٢) بأنّ المتوضّئ مثلا عند ملاقاة الماء الثاني القليل لبدنه كما هو مورد الرواية يقطع بنجاسة بدنه إمّا لنجاسة الماء الأوّل أو الثاني ، إذ المفروض أنّ الغسالة لم تنفصل ، فعلى تقدير كون الثاني طاهرا أيضا لا ينفع ، لأنّ الآن الأوّل وهو آن الملاقاة قبل انفصال ماء الغسالة هو يقطع بالنجاسة ثمّ بعد الانفصال يشكّ في طهارة البدن فيستصحب نجاسته وإن قطع بحصول الطهارة الحدثيّة إلّا أنّه ابتلى بالخبثيّة.

أقول : ولا يخفى أنّ المقام من صغريات مقامنا ، فإنّ على البدن طرأت نجاسة وطهارة ونشكّ في المتقدّم والمتأخّر فيستصحبان ويتعارضان ويتساقطان ويرجع إلى طهارة البدن بأصالة الطهارة بعد سقوط استصحابها بالمعارضة. ويمكن أن يوجّه النصّ بأنّ الوضوء لمّا كان أمرا تدريجيّا فعند ابتدائه بالوضوء بالماء الثاني فغسل وجهه يقطع بنجاسة وجهه أو يده اليسرى ، إذ لو كان الأوّل هو النجس فاليسرى نجسة ، وإن كان الثاني نجسا فوجهه نجس ، فمن هنا حكم الإمام بأنّه يهريقهما ويتيمّم. ولا فرق حينئذ بين انفصال الغسالة وعدمها وبين كونه قليلا أو كثيرا ، فافهم وتأمّل.

(إلّا أن يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي لا أثر له لو فرض أنّه توضّأ بالماء الأوّل وصلّى ثمّ غسل أعضاءه وتوضّأ ثانيا وأعاد الصلاة الاولى ، فإطلاق الأمر بالإهراق والتيمّم يكون تعبّديا ، إلّا أن يقال بأن يكفي في تنجيز العلم الإجمالي وجود أثر ولو بالإضافة إلى الصلوات اللاحقة ، فافهم) (٣).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٣ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

(٢) انظر الكفاية : ٢١٦.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٤٨

التنبيه الثاني عشر : [الكلام في استصحاب الصحة]

ذكر بعضهم (١) التمسّك باستصحاب الصحّة حيث يشكّ في عروض المانع حكما أو موضوعا ، فلو شكّ في كون الصلاة صحيحة مثلا أم لا من جهة عروض ما يشكّ في اعتبار عدمه في الصلاة وعدمه جرى استصحاب الصحّة ، وقد أشكل عليهم الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) بعدم إمكان التمسّك بالاستصحاب ، إذا الصحّة المستصحبة إن اريد بها صحّة جميع الصلاة فهي غير متيقّنة حتّى تستصحب ، وإن اريد بها صحّة تلك الأجزاء فالقطع بها غير نافع ، لأنّ تلك الأجزاء إذ انضمّت إليها بقيّة الأجزاء وانعدمت عنها الموانع صحيحة قطعا ، وإنّما الكلام في انعدام الموانع وعدمه. ثمّ أفاد قدس‌سره إمكان جريان استصحاب الصحّة بالنسبة إلى الشكّ في عروض القاطع ، وهو ما جعله الشارع قاطعا للهيئة الاتّصاليّة كالضحك والاستدبار وإن وقع في الفترات المتخلّلة بين أجزاء الصلاة ، لأنّ الهيئة الاتّصاليّة من الامور التدريجيّة الموجودة في الخارج.

ولا يخفى أوّلا : أنّ التعبير بالقاطع والمانع مجرّد اصطلاح ، وفي الحقيقة لا فرق بينهما.

وثانيا : أنّ هذا الّذي فرضته قاطعا هل اعتبر عدمه في الصلاة أم لا؟ فإن قال لم يعتبر عدمه فهذه مقالة ظاهرة البطلان. وإن اعتبر عدمه أيضا فهو مانع من هذه الجهة ، وإن كان قاطعا من جهة اخرى فلا يجري الاستصحاب أيضا.

وثالثا : أنّ استصحاب الهيئة الاتّصاليّة ان أردت الهيئة الاتّصاليّة للصلاة كلّها فهي غير متيقّنة ، وإن أردت الهيئة الاتّصاليّة بالنسبة إلى خصوص هذه الأجزاء

__________________

(١) كالشيخ وابن إدريس والمحقّق والعلّامة والشهيد الثاني ، انظر الخلاف ٣ : ١٥٠ ، مسألة ٢٣٨ ، والمبسوط ٢ : ١٤٧ ، والسرائر ١ : ٢٢٠ ، والمعتبر ١ : ٥٤ ، والتذكرة ١ : ٢٤ ، وتمهيد القواعد : ٢٧٣.

(٢) انظر الفرائد ٣ : ٢٥٥ ـ ٢٥٨.

٦٤٩

فالقطع بها لا يجدي فضلا عن الاستصحاب ، والتقريب ما تقدّم ، فالانصاف عدم الفرق بين كون الشكّ في القاطع أو في المانع في عدم جريان الاستصحاب حيث تكون الشبهة شبهة حكميّة.

نعم ، في الشبهة الموضوعيّة لا مانع من استصحاب الصحّة بمعنى استصحاب عدم عروض المانع أو القاطع ، فإنّه قبل الإتيان بما يشكّ فيه لم يكن آتيا بالمانع أو القاطع ، وأمّا في الشبهة الحكميّة فالمرجع هو البراءة أو الاحتياط على الكلام في الشكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وقد تقدّم.

التنبيه الثالث عشر : [الكلام في استصحاب الكتابي لشريعته]

بسم الله الرحمن الرحيم ، جريان الاستصحاب متوقّف على امور أربعة :

الأوّل : أن يكون له ـ أي للمكلّف ـ يقين بتحقّق ذلك الأمر أو بانعدامه.

الثاني : أن يكون له شكّ في البقاء بالنسبة إلى ذلك المتيقّن حدوثه.

الثالث : أن يكون له أثر يترتّب عليه في ظرف الشكّ ، فلو لم يترتّب عليه الأثر في ظرف الشكّ لاعتبار العلم موضوعا فيه لم يجر أصلا.

الرابع : أن يكون ذلك كلّه بعد الفراغ عن ثبوت حجّية الاستصحاب ، فلو لم يثبت حجّية الاستصحاب لم يجده وجود اليقين والشكّ. ولا فرق فيما يجري فيه الاستصحاب بين كون أثره عمليّا جوارحيّا أو جوانحيّا كالبناء والالتزام وغيرها.

نعم ، لا يجري الاستصحاب في اصول الدين ، لأنّه يعتبر فيها اليقين ، والاستصحاب لا يفيد إلّا الظنّ. ومن هنا ظهر أنّ تمسّك الكتابي بالاستصحاب لحجّية شريعته السابقة غير تامّ ، لأنّه إمّا أن يستدلّ بالاستصحاب ، لأن يقنع المسلم أنّه على حجّة في دينه ، أو يستدلّ بالاستصحاب لإلزام المسلم بشريعة موسى أو عيسى مثلا ، فإن كان استدلاله إقناعيّا فإمّا أن يستصحب نفس نبوّة موسى مثلا أو يستصحب أحكام شريعته.

٦٥٠

فإن استصحب النبوّة فالركن الأوّل وهو يقينه بالنبوّة وإن كان ثابتا إلّا أنّه إمّا أن يشكّ في بقائها أو لا يشكّ ، فإن لم يشكّ فلا يجري الاستصحاب لعدم تحقّق الشكّ ، وان شكّ فلا يجري الاستصحاب إلّا بعد الفحص ومعه يحصل له العلم بنبوّة محمّد ، لأنّ من جاهد فينا لنهدينّه سبلنا.

ولو فرض عدم حصول العلم له ولو محالا لا يجديه الاستصحاب أيضا ، لأنّ النبوّة يعتبر فيها اليقين بنحو الموضوعيّة ، والاستصحاب لا يفيد اليقين ، إذ أقصى إفادته الظنّ الّذي لا يغني عن الحقّ شيئا ، مضافا إلى أنّ دليل الاستصحاب إن كان في الشريعة السابقة فالشك في بقائها يوجب الشكّ في حجّية الاستصحاب ، وإن كان في الشريعة اللاحقة فهو لا يعترف بها.

وإن أراد استصحاب أحكام الشريعة السابقة فإن لم يكن له شكّ فأركان الاستصحاب حينئذ غير تامّة ، وإن كان له شكّ فهو وإن لم يعتبر في الحكم اليقين إلّا أنّ الحكم المستصحب إنّما يستصحب بعد الفحص عن معارضه ، والفحص من الذمّي يستدعي اليقين بالنسخ ، مضافا إلى الإيراد الأخير السابق.

وإن أراد الاستصحاب لإلزام المسلم بشريعة موسى عليه‌السلام أو بنبوّته ، فإن أراد الإلزام بالنبوّة وفرضنا قيام دليل الاستصحاب في كلتا الشريعتين فالمسلم لا يقين له بنبوة موسى إلّا من طريق إخبار نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو مع قطع النظر عن إخباره لا يقين له بنبوّة موسى عليه‌السلام وهذا هو مراد الإمام الرضا عليه‌السلام في محاججته مع الجاثليق في مجلس المأمون حيث قال له : «إنّا على يقين من نبوّة عيسى الّذي أخبر بنبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١) ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري (٢) في المقام لا يخلو من ضعف واضح في مقام الإشكال على هذه الرواية.

__________________

(١) كتاب التوحيد للصدوق : ٤٢٠ و ٤٢١ ، والاحتجاج ٢ : ٤٠٤ و ٤٠٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٩ ـ ٢٦١.

٦٥١

وإن أراد استصحاب شريعته وأحكامه ومع فرض حصول اليقين فالمسلم لا شكّ له في نسخ شريعة عيسى عليه‌السلام ولو فرض الشكّ له فليس بمسلم حينئذ.

وإن أراد الكتابي استصحاب أحكام شريعته السابقة فهذا متين حيث لا يمنع منه مانع ، كما إذا علمنا إجمالا بنسخ جملة منها وكان الحكم المشكوك من غير ما علم نسخه فلا مانع حينئذ من جريان الاستصحاب فيه كما تقدّم.

ولا فرق في عدم جريان استصحاب النبوّة بين أن يكون منصبا إلهيّا أو يكون عبارة عمّا ذهب إليه الفلاسفة (١) من بلوغ النفس مرتبة كمال تطلع بسببها على اللوح المحفوظ ، إذ حتّى بناء على ما هو الحقّ من كونها منصبا إلهيّا فهو يعتبر اليقين فيه والعرفان وليس كسائر الأحكام يعتبر فيه الظنّ إذ النبوّة من اصول الدين. فما يظهر من عبارة الكفاية من جريان الاستصحاب في النبوّة (٢) بناء على ذلك لا يخفى ما فيه من الضعف. فعلم أنّ جريان الاستصحاب في إثبات النبوّة أو إثبات جميع أحكام الشريعة السابقة وهم في وهم ، فافهم وتأمّل.

التنبيه الرابع عشر : [دوران الأمر بين التمسك بعموم العام واستصحاب حكم المخصّص]

ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه عدم جريان الاصول العمليّة حيث يوجد الأصل اللفظي ، لأنّ الأصل اللفظي يرفع موضوع الأصل العملي وهو الشكّ ، إذ بجريان الأصل اللفظي يرتفع الشكّ قطعا ، ومن هنا كانت الاصول اللفظيّة حاكمة على الاصول العمليّة أو واردة على الكلام والنزاع في ذلك. والاستصحاب بما أنّه أصل عملي يحكم عليه الأصل اللفظي أو يرد عليه ، إنّما الكلام وقع في بعض الموارد

__________________

(١) انظر شرح المنظومة ، قسم الحكمة : ٢٧٢ (الحجرية).

(٢) كفاية الاصول : ٤٨٢.

٦٥٢

أنّه من موارد وجود الدليل اللفظي ليمتنع جريان الاستصحاب ، أو أنّه من موارد عدم وجود الدليل اللفظي ليجري الاستصحاب ، وذلك المورد هو ما لو ورد عامّ ثمّ خصّص في بعض الأفراد بالنسبة إلى بعض الأزمان قطعا ، فبعد انقضاء ذلك الزمان يتكلّم في أنّه بالنسبة إلى بقيّة الأزمان هل يتمسّك بالعموم أو باستصحاب حكم المخصّص ، فالكلام في أنّ المورد ممّا فيه دليل لفظي أم لا ، وليس المقام من تعارض الاستصحاب مع الأصل اللفظي كما ربّما يتوهّم.

وللشيخ الأنصاري قدس‌سره كلام في المقام ادّعى بعضهم إجماله واشتباه المراد منه ، وليس كذلك بل هو ظاهر في أنّ العموم إن كان مضافا إلى عمومه الأفرادي ذا عموم أزماني أفرادي بحيث إنّه كما ينحلّ إلى أحكام عديدة بحسب أفراده ، ينحل إلى أفراد عديدة بحسب أزمانه أيضا ، فالمورد من قبيل التمسّك بالعموم وليس من باب التمسّك بالاستصحاب ، لأنّ خروج فرد من العموم بسبب التخصيص لا يستدعي خروج بقيّة الأفراد ، بل لا يجري الاستصحاب حتّى لو لم يكن عموم أصلا ، لأنّه ليس من موارده.

وإن لم يكن العموم ذا عموم أزماني أفرادي ، بل عمومه أفرادي فقط ، وأمّا بحسب الزمان فهو حكم واحد لا ينحلّ إلى أفراد فهنا لا مجال للتمسّك بالعموم لانقطاعه بالمخصّص حسب الفرض ، وليس عندنا عموم آخر غير العموم المنقطع فيكون من موارد جريان الاستصحاب ، ولو لم يجر الاستصحاب لمانع خارجي لم يرجع إلى العموم لانقطاعه.

هذا ملخّص ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) وقد أشكل الآخوند على إطلاق كلامه قدس‌سره نفيا وإثباتا ، وذلك أنّه قدس‌سره زعم أنّ النظر إلى أنّ للعامّ عموما أزمانيّا لا يكفى في الحكم بالعموم ، وملخّص ما ذكره الآخوند (٢) : أنّ العامّ إن كان عمومه الزماني

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ٢٧٣ ـ ٢٧٨.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

٦٥٣

استمراريّا لا أفراديّا فإن كان الخاصّ أيضا قد اخذ فيه الزمان ظرفا فهنا لا مجال للتمسّك بالعموم الأفرادي بحسب الزمان لعدم العموم الأفرادي بحسب الفرض ، ولا بدّ من التمسّك بالاستصحاب لعدم كون المورد من موارد العموم لعدم منافاة الخاصّ للتمسّك بالاستصحاب.

وإن اخذ الزمان في الخاصّ قيدا موضوعيّا فلا يتمسّك بالعموم لما عرفت ، ولا بالاستصحاب ، لأنّه إسراء حكم موضوع اخذ فيه الزمان الأوّل إلى موضوع ثان اخذ فيه الزمان الثاني فلا يجري الاستصحاب أيضا ، بل لا بدّ من الرجوع إلى بقيّة الاصول فإطلاق الشيخ [بالنسبة إلى] التمسّك بالاستصحاب في المقام في غير محلّه.

وإن كان للعامّ عموم أزماني أفرادي بحيث ينحلّ إلى أحكام عديدة بحسب تعدّد الأزمان ، فإن كان دليل الخاصّ قد اخذ فيه الزمان قيدا فلا بدّ من التمسّك بالعموم بعد زمان الخاصّ ، لأنّ الخاصّ لا يشمل ما بعد الزمان المأخوذ فيه بنحو الموضوعيّة وذلك الزمان من أفراد العموم بحسب الفرض.

وإن كان دليل الخاصّ قد اخذ فيه الزمان ظرفا فالمرجع العموم أيضا بعد زمان الخاصّ ، اقتصارا في تخصيص العموم على القدر المتيقّن ، لكن لو امتنع جريان العموم لابتلائه بعموم آخر معارض له مثلا لجرى الاستصحاب فيه أيضا لعدم نفي الخاصّ له ، بخلاف ما اخذ فيه الزمان بنحو الموضوعيّة.

ومن هنا أيضا يعلم أنّ إطلاق كلام الشيخ [بالنسبة إلى] عدم جريان الاستصحاب حتّى لو ابتلي العموم بمعارض وكان الزمان في المخصّص ظرفا في غير محلّه ، فافهم وتأمّل (*).

__________________

(*) أقول : الظاهر جواز التمسّك بعموم العامّ حتّى لو كان العموم استمراريا بحسب الزمان ولم يكن مفرّدا ، لأنّه يكون الحكم من أوّل الأمر متّجها لما عدا ذلك الجزء من الزمان ، فليس هنا حكم مستمرّ من أوّل الأمر حتّى يكون انقطاعه متحقّقا ليقال إنّ عوده يحتاج إلى دليل ـ وليس ، بل إنّ الحكم من أوّل الأمر مختصّ بما عدا ذلك الجزء من الزمان ، فمثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وإن لم يكن عمومها الأزماني مفرّدا بل كان حكما واحدا ومستمرّا إلّا أنّه إذا خرج أوّل أزمنة العلم بالغبن أو بالعيب مثلا ولم يفسخ وشكّ في جواز الفسخ بعد ذلك يتمسّك حينئذ بعموم الآية ، لأنّ الحكم من أوّل الأمر إنّما كان بلزوم ما عدا ذلك الزمان نظير التخصيص الأفرادي ، فافهم. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

٦٥٤

ولا يخفى أنّ ما ذكره الآخوند قدس‌سره متين بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، وأمّا على ما ذكرنا من وقوع التعارض فيما بعد الزمان الخارج يقينا ، فإنّ استصحاب عدم جعل الخيار فيه أصلا يعارض استصحاب الخيار حيث يجري ابتداء أو بعد ابتلاء العموم بمعارض كما في الصورة الأخيرة.

وقد استثنى الآخوند قدس‌سره من عدم جواز التمسّك بالعموم في الفرض الأوّل ، وهو ما لو كان عموم العامّ استمراريّا وكان الخاص قد اخذ فيه الزمان ظرفا لا قيدا ، استثنى ما لو كان الخاصّ غير قاطع لحكمه ـ أي لحكم العامّ ـ كما إذا كان الخاصّ مخصّصا للعامّ من أوّل الأمر ، كما في خيار المجلس. فلو فرض أنّ دليل العموم وهو (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كان عمومه الأزماني استمراريّا وكان دليل خيار المجلس لم يؤخذ فيه الزمان قيدا ، فلو شكّ في بقاء خيار المجلس مثلا لأمر ما فيتمسّك فيه ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) والسرّ في هذه التفرقة أنّه لو لم يتمسّك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لزم التخصيص الأفرادي ، إذ المفروض أنّ هذا العقد من أوّل أمره لم يكن يجب الوفاء به ، فإذا كان بحسب الاستصحاب أيضا لا يجب الوفاء به إلى آخر الزمان يلزم تخصيص أفرادي ، ونحن إنّما منعنا عن التمسّك بعموم أزماني لفرض عدمه ، أمّا العموم الأفرادي فموجود قطعا ، وكلّما شكّ في التخصيص الأفرادي أصالة عدم التخصيص تكون جارية ، وهذا بخلاف مثل خيار الغبن الذي يتحقّق بظهور الغبن بعد البيع فإنّ عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) تشمل العقد من أوّل الأمر

٦٥٥

بحسب الحكم الاستمراري ، فإذا انقطع بدليل المخصّص فعوده يحتاج إلى دليل وليس ، فيتمسّك حينئذ بالاستصحاب ، إذ لا عموم أزماني حسب الفرض.

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره له صورة صحّة لو فرض أنّ دليل العموم غير دليل الاستمرار ، كما إذا استفدنا العموم في الجملة من (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) واستفدنا الاستمرار من دليل آخر كالإجماع وشبهه ، إذ حينئذ يقال : بيع الغبن قد شمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قطعا وقد انقطع بظهور الغبن فعوده يحتاج إلى دليل فيتمسّك بالاستصحاب ، بخلاف خيار المجلس فإنّ (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لم تشمله من أوّل الأمر ، فلو لم تشمله بعد ذلك لزم التخصيص الأفرادي ، ولكن الدليل الّذي يستفاد منه العموم هو الّذي يستفاد منه أنّ العموم بنحو الاستمرار فإنّ (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كما أفادت العموم أفادت الاستمرار ، فإنّ الوفاء هو عبارة عن الكمال ومنه الدرهم الوافي ، والوفاء بالنذر بمعنى بلوغه مرتبة كماله ، وحينئذ فمعنى الوفاء بالعقد الاستمرار الزماني بمقتضاه ، وحينئذ فهذا الدليل الواحد قد خصّص في خيار المجلس في أوّل زمن من أزمانه ، فقد انقطع من أوّله فعوده يحتاج إلى دليل كالانقطاع في الوسط ، هذا مضافا إلى ما سيأتي إن شاء الله في توضيح ما ذكرناه هنا وإضافة امور آخر.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) في المقام كلاما وتفصيلا آخر زعم أنّه هو الّذي أراده الشيخ الأنصاري وإن قصرت عبارته في الفرائد عن أدائه (٢) إلّا أنّه يوضّحه كلامه في المكاسب فإنّه بعد أن نقل عن المحقّق الكركي دعوى اعتبار الفوريّة في خيار الغبن (٣) استنادا إلى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وأنّ التخصيص إنّما تحقّق بالنسبة

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٧١ ، وانظر فوائد الاصول ٤ : ٥٣٥ ، الأمر الرابع.

(٢) انظر الفرائد ٣ : ٢٧٥.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٣٨.

٦٥٦

إلى أوّل زمان اطّلاعه بالغبن فبعده لا يسوغ له الفسخ لأنّ عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الأزماني يشمله ، ردّ عليه الشيخ الأنصاري بما ذكرنا نحن من أنّه موقوف على ثبوت العموم الأزماني ل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ولم يثبت (١).

ولكنّ الميرزا قدس‌سره ذكر أمرا آخر وملخّصه : أنّ كلّ قضيّة لا بدّ فيها من حكم وموضوع ومتعلّق ، مثلا : لا تكذب ، فيها موضوع وهو الإنسان ، وحكم وهو الحرمة ، ومتعلّق للحكم وهو الكذب ، وكذا : لا تشرب الخمر ، غير أنّ الموضوع فيها مركّب من الإنسان والخمر ، وقد يتركّب الموضوع من أكثر فالزمان إن اخذ في الحكم فلا يمكن التمسّك بالعموم ، وإن اخذ في المتعلّق يمكن التمسّك بالعموم فلا يجري حينئذ الاستصحاب من دون فرق في المقامين بين كون الزمان ظرفا أو قيدا في العموم أو في المخصّص أو فيهما أو بالاختلاف.

توضيح مراده : أنّه تارة يؤخذ العموم الزماني في ناحية متعلّق الحكم وحينئذ فيرد الحكم على متعلّق عام ، واخرى يؤخذ العموم الزماني في ناحية نفس الحكم ولا ريب في توقّف أخذ العموم فيه على فرض وجوده. والفرق بين الصورتين من جهتين :

الاولى : أنّه إذا اخذ العموم الزماني في المتعلّق بأيّ نحو اخذ ، سواء كان بنحو الاستغراق أو بنحو المجموع قيدا كان أو ظرفا ، فالحكم يرد على المتعلّق العامّ ، وهذا بخلاف ما إذا اخذ العموم الزماني في ناحية الحكم فإنّ نفس دليل الحكم يستحيل أن يتكفّل ذلك ، بل لا بدّ أن يثبت الحكم أوّلا ولو فرضا ثمّ يؤخذ العموم فيه ، ضرورة أنّ ثبوت شيء لشيء فرع لثبوت المثبت له.

الثانية من جهتي الفرق : أنّه في الصورة الاولى قد يكون نفس دليل الحكم مبيّنا لاستمراره وقد يبيّنه دليل آخر ، وهذا بخلافه على الثاني ، فإنّ نفس دليل الحكم

__________________

(١) المكاسب ٥ : ٢٠٧.

٦٥٧

لا يعقل أن يتكفّل للعموم وأنّه استمراري أو لا ، إذ أنّ إثبات الاستمرار إنّما يكون بعد تحقّق الحكم وثبوته ، فلا بدّ من أن يكون دليل الاستمرار للعموم أو الاستغراقيّة مستفادا من دليل آخر غير دليل نفس الحكم إذ العموم إنّما يثبت بعد تحقّق الحكم ، فكيف يتكفّل به نفس دليل الحكم؟

ثمّ إنّ التخصيص كما يتناول العموم الاستغراقي أيضا يتناول العموم المجموعي ، فإنّ قوله : أكرم العشرة ، إذا استثنى منهم زيدا يكون تخصيصا قطعا ، وحينئذ فالتخصيص كما يتناول العموم الاستغراقي يتناول العموم المجموعي أيضا. وحينئذ فإذا كان الحكم واردا على المتعلّق العامّ ، سواء كان عمومه مجموعيّا أو استغراقيّا قيدا أو ظرفا لا يختلف الحال في ذلك في أنّه بعد زمن التخصيص يتمسّك بالعموم ، إذ خروج فرد من أفراد العموم الأزماني الطوليّة لا يستدعي خروج آخر ، فيبقى الآخر تحت عموم العامّ.

وهذا بخلاف الصورة الثانية وهي ما لو ورد العموم الأزماني على نفس الحكم ، فإنّ معناه أنّ الحكم لم يكن عامّا مستمرّا ، وحينئذ فثبوت هذا الحكم بعد زمن التخصيص غير معلوم (إذ الاستمرار إمّا أن يستفاد من دليل جعل الحكم ولا يمكن في المقام لفرضه مجملا من هذه الجهة ، وإمّا أن يستفاد من دليل الاستمرار ، والمفروض أنّ دليل الاستمرار إنّما يدلّ على استمرار الحكم الثابت وثبوته من أوّل الأمر في هذا الزمان مجهول) (١). فلا يمكن التمسّك فيه بالعموم لعدم العموم في الحكم ، فيتمسّك حينئذ بالاستصحاب بحيث لو لا الاستصحاب لما جرى العموم أيضا إذ لم يعلم الاستمرار.

ولا يمكن المساعدة على ما ذكره ، لعدم الفرق بين المقامين إذ ما ذكره من عدم إمكان أخذ العموم والاستمرار من نفس دليل الحكم إنّما يتمّ إذا كان في مقام الجعل ، فإنّ جعل الحكم باللزوم لا يمكن أن يتصوّر فيه أنّه مستمرّ أم لا ، إذ لا بدّ في الحكم

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٥٨

باستمراره من تحقّقه فرضا ثمّ يحكم باستمراره إمّا بدليل لفظي كما في قوله : «حلال محمد ...» (١) أو عملي كما في أصالة عدم النسخ مثلا ، ولكنّ الكلام ليس في نفس الجعل وإنّما هو في المجعول وهو اللزوم ، فإنّ الكلام في أنّ اللزوم مستمرّ عام لجميع الأزمان أم لا ، واللزوم هو المجعول ، والمجعول لا مانع من أن يجعل هكذا. ونظيره في ما تنشئه الزوجة في مقام التزويج ، فإنّها تنشئ الزوجيّة المستمرّة تارة والزوجيّة المنقطعة اخرى.

نعم ، أصل جعلها لا يكون مستمرّا أو منقطعا إلّا بعد وجوده وليس الكلام فيه أصلا ، فما ذكره الميرزا متين في مقام أصل الجعل بالنسبة إليه وليس هو من محلّ الكلام في شيء.

وثانيا : فإنّ اللزوم موجود في خيار الغبن من أوّل زمن الجعل والإنشاء من المتبايعين فهو موجود ، وحينئذ فدليل الاستمرار ـ وهو قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إذ الوفاء بالعقد آناً ما ممّا لا ينفكّ عنه المتبايعان ، فلا بدّ أن يراد استمرار الوفاء صونا لكلامه عن اللغويّة ـ يحكم باستمرار هذا اللزوم الموجود ، فقوله : إنّ الحكم بالاستمرار فرع وجود المحكوم ، مسلّم لكنّه حاصل في المقام أيضا.

وبالجملة ، ما ذكره قدس‌سره لا يمكن المساعدة عليه في نفسه فضلا عن جعله مفاد كلام الشيخ الأنصاري الّذي هو أجنبيّ عمّا هو ظاهر عبارته.

ثمّ إنّ الميرزا قدس‌سره بعد أن ذكر هذا التفصيل زعم أنّه مراد الشيخ الأنصاري وإن قصرت عبارته في الفرائد عن تأديته إلّا أنّ عبارته في المكاسب في خيار الغبن في مقام الردّ على المحقّق الثاني ظاهرة فيما ذكر ، ثمّ إنّ الميرزا ذكر بعد ذلك صورة الشكّ في كون العموم الزماني الاستمراري أو الاستغراقي من شئون المتعلّق أو من شئون نفس الحكم ، وبعد أن عرفت عدم الفرق بينهما فلا موقع لصورة الشكّ ، لاتّحاد الحكم لعدم خلوّه عنهما.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ ، الحديث ١٩ ، باب البدع والرأي والمقاييس.

٦٥٩

والحقّ في مثل ذلك ممّا احتمل كونه من موارد التمسّك بعموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص هو ما ذهب إليه المحقّق الثاني وهو التمسّك بالعموم ، والوجه فيما ذهب إليه قدس‌سره أنّ العموم الأزماني مجموعيا كان أم استغراقيّا قابل للتخصيص ، فإنّ قولك : أكرم مجموع العلماء إلّا زيدا ، صحيح وبه يستكشف أنّ الإرادة الجدّية متعلّقة بإكرام ما عدا زيد من أفراد العلماء ، والمصلحة الواحدة قائمة بإكرام المجموع من الباقي ، وفي مثله لو شكّ في أنّ عمرا أيضا خارج أم لا ، يتمسّك بأصالة العموم كما يتمسّك بها في العموم الاستغراقي الأزماني من غير فرق بينهما أصلا.

وحينئذ فقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سواء كان عمومها الأزماني استغراقيّا أو كان مجموعيّا للحصص المتكثّرة من الزمان قد خرج منه خصوص هذا الزمان ، فخروج فرد آخر منه محتاج إلى مخصّص وليس فليس ، فيتمسّك فيه بالعموم وبأصالته من غير فرق بين كون الحكم واردا على العموم أو كون العموم واردا على الحكم ، فلو شكّ في كون خيار الغبن فوريّا أو غير فوري ولا إطلاق في دليله كي يقتضي الثاني ، فحينئذ نقول : خروج أوّل زمان العلم بالغبن من عموم وجوب الوفاء معلوم ، فخروج فرد آخر من أفراد الزمان محتاج إلى دليل وليس ، فيتمسّك في الزمان الثاني بعموم لزوم الوفاء بالعقد وعدم تأثير الفسخ حينئذ.

بقي الكلام في أنّ عمومها الأزماني استغراقي أم مجموعي وأنّ وجوب الوفاء إرشادي أو مولوي؟

فنقول : إنّ الوفاء ـ كما قدّمنا الإشارة إليه ـ معناه إنهاء الشيء والالتزام بإنهائه وإكماله وبلوغه أقصى درجات الكمال ومنه الوفاء بالعهد وبالنذر واليمين ، وحينئذ فمعنى (أَوْفُوا) هو الإلزام بعدم النقض. ولو حملناه على المولويّة حرم النقض وإن كان في صورة الشكّ في جواز الفسخ وعدمه ولا قائل به ، فلا بدّ من أن يحمل على الإرشاد إلى أنّ العقد لازم لا يؤثّر فيه فسخ الفاسخ ، ومعنى الوفاء كما قرّرنا هو الإكمال (وليس له أفراد طوليّة ليكون العموم بالإضافة إليها استغراقيّا

٦٦٠