غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

لا تجري أدلة البراءة ، لأنها وإن لم تقدر على الموافقة القطعية إلّا أنها قادرة على المخالفة القطعية ، إذ تستطيع أن تأتي بالصلاة لا بقصد القربة فتكون مخالفة قطعا ، لأنها إن كانت طاهرة فقد خالفت ، لأنّ المطلوب منها الصلاة بقصد القربة ، وإن كانت حائضا فقد خالفت أيضا ، لأنها أتت بالمحرّم فالعلم الإجمالي يكون منجزا بالنسبة إلى ما يمكن وهو المخالفة القطعية فيحرم ، ولا تجري حينئذ أدلة البراءة بالنسبة إليه أيضا ، إذ العلم بحرمة المخالفة القطعية حاصل وكذا البيان تام.

نعم ، الموافقة القطعيّة حيث إنّها غير ممكنة فيتنزّل إلى الموافقة الاحتماليّة ، وليعلم أنّ الموافقة الاحتماليّة بالنسبة إلى فعل الصلاة إنّما يكون إذا أتت بها رجاء الأمر بها لا بقصد الأمر الجزمي ، فإنّ قصد الأمر الجزمي بها قطعا تشريع محرّم فلا يكون الموافقة الاحتماليّة حاصلة به قطعا ، بل المخالفة القطعيّة حينئذ حاصلة به إذ التشريع إسناد ما لم يعلم أنّه من الله إليه ، فافهم وتأمّل.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره من أمثلة دوران الأمر بين المحذورين حيث يكونان تعبّديين أو أحدهما ما إذا تردّد شيء بين كونه شرطا للصلاة أو مانعا لها ، مثل ما لو تردّد المكلّف بين وجوب القصر عليه فالسلام على الركعتين شرط لها والقيام للركعتين الاخريين أيضا مانع لها وبين وجوب الإتمام عليه فالسلام مانع وكذا القيام للركعتين الاخريين أيضا شرط فنفى قدس‌سره البعد عن الحكم بالتخيير (١).

والظاهر أنّ ما ذكره من دوران الأمر بين شرطيّة شيء ومانعيّته للصلاة مختلف ، ففي مثل ما لو كان المكلّف مشغولا بصوم واجب معيّن وتردّد الارتماس مثلا بين كونه شرطا لصحّة صومه لكونه جنبا وبين كونه مانعا ؛ لأنّ الارتماس مبطل له ففي مثله يتمّ ما ذكره قدس‌سره لأنّ الموافقة القطعيّة كالمخالفة القطعيّة لا تمكن ، فلا بدّ من الحكم

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ١٧٨ ـ ١٩٠.

٣٢١

حينئذ بالتخيير لتحصيل الموافقة الاحتماليّة ، ولكنّه لا يتمّ في مثل المثال الذي ذكرناه في مسألة القصر والإتمام والحكم فيه أجنبي عن الحكم بالتخيير ، إذ الأمر بالصلاة إنّما توجّه نحو الطبيعة المشكوك تقيّدها بالسلام على الركعتين أو بالسلام على أربع ، فالموافقة القطعيّة حينئذ فيها ممكنة بإتيان فردين من الطبيعة بأحدهما يسلّم على الركعتين وبالثاني يسلّم على الأربع. فالعلم الإجمالي حينئذ منجّز ، لإمكان الموافقة القطعيّة بفردين ، فلا ننتهي إلى التخيير ، إذ هو فرع عدم إمكان الموافقة القطعيّة.

وربّما يتوهّم أنّه من جهة حرمة القطع للعمل ، وليس كذلك :

أمّا أوّلا : فلأنّ حرمة قطع العمل لا دليل لها إلّا الإجماع ، والقدر المتيقّن منه حرمة قطع العمل الذي لو أتى المكلّف به لكان مجزيا ، وليس المقام منه لما ذكرنا من وجوب الموافقة القطعيّة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ احتمال القطع موجود لو سلّم ولو ترك التسليم ، فحرمة القطع على تقدير شمولها للمقام احتمالها موجود على كلا التقديرين. ولو فرض ضيق الوقت إلّا عن صلاة واحدة فهنا يتخيّر في تطبيق ما يأتي به في الوقت على أحد الفردين ويأتي بالفرد الآخر بعد خروج الوقت قضاء ، (وإن كان التأمّل يقتضي عدم وجوب القضاء ؛ لعدم كونه طرفا للعلم الإجمالي ؛ لأنّ أطرافه الصلاة قصرا أو تماما في الوقت ، ومع الإتيان بأحدهما لا يحرز موضوع القضاء وهو الفوت ، إذ من الممكن أن يكون الواجب هو خصوص ما أتى به.

وكذا لا يتمّ ما ذكره الشيخ قدس‌سره (١) فيما لو تردّد الجهر في القراءة بين كونه شرطا أو مانعا ، لإمكان قراءتين يجهر بإحداهما ويخفت بالثانية وينوي الجزئيّة بما هو الجزء واقعا.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٤٠٠.

٣٢٢

وكذا لا يتمّ أيضا فيما لو كان مشغولا بالنهوض للقيام وشكّ في أنّه سجد سجدتين أم قد ترك إحداهما ، فحينئذ حيث إنّه يمكن أن يكون شكّه بعد تجاوز المحلّ فيكون عوده لها مبطلا ، ويمكن أن لا يكون هذا النهوض محقّقا للتجاوز فيكون الرجوع واجبا إلّا أنّه يمكن أن يرفع يده عن هذه الصلاة ويعيد صلاة اخرى سالمة عن ذلك ، واحتمال حرمة القطع قد تقدّم الكلام فيه) (١).

هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين المحذورين في واقعة واحدة.

[في دوران الأمر بين المحذورين عند تعدّد الواقعة]

أمّا إذا دار الأمر بين المحذورين في واقعتين ، فتارة يكون الدوران دفعيّا ويكون منشؤه تعدّد موضوع التكليف ، واخرى يكون في الأفراد التدريجيّة.

أمّا إذا كان في الأفراد الدفعيّة كأن علم بحلف على فعل من فعلين المطالعة أو قراءة الشعر وعلم بحلف على ترك أحد هذين أيضا ، فربّما يقال حينئذ بالتخيير بين فعلهما معا أو تركهما معا أيضا ، لدوران كلّ من المطالعة وقراءة الشعر بين الوجوب والتحريم فيجوز فعلهما ؛ لأنّه عند فعل المطالعة المردّدة بين الوجوب والتحريم لم يعلم بالمخالفة ، وعند قراءة الشعر بخصوصه لم يعلم بالمخالفة من ناحية قراءة الشعر ، نعم بعدهما يعلم إجمالا أنّه فعل محرّما وكذا في صورة تركهما لكنّ العلم الإجمالي بعد العمل لا أثر له.

ولا يخفى عليك طريق بطلان هذا التقرير بأن يقال : إنّ عندنا علما إجماليّا بوجوب أحد الفعلين فمقتضى هذا العلم الإجمالي وجوب إتيانهما معا وهو معنى الموافقة القطعيّة وحرمة تركهما معا وهو معنى حرمة المخالفة القطعيّة ، كما أنّ عندنا علما إجماليّا بحرمة أحد الفعلين فمقتضى هذا العلم الإجمالي تركهما معا وهو معنى

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٢٣

وجوب الموافقة القطعيّة ، وحرمة إتيانهما معا وهو معنى حرمة المخالفة القطعيّة ، فالعلمان الإجماليّان لا يمكن أن يعملا مقتضاهما من حيث وجوب الموافقة القطعيّة ، لاستحالة الإتيان بكلا الفعلين وتركهما في آن واحد ، ولكن يمكن للعلم الإجمالي أن يعمل المقتضى الثاني وهو حرمة المخالفة القطعيّة فلا يفعلهما ولا يتركهما بأن يفعل أحدهما ويترك الآخر ، وحينئذ فيتخيّر فيما يريد فعله وفيما يريد تركه.

وليس له أن يفعلهما معا ؛ لأنّه مخالفة قطعيّة للحرام المحلوف على تركه ، كما ليس له تركهما معا ؛ لأنّه مخالفة قطعيّة للواجب المحلوف على فعله.

وأمّا إذا كان دوران الأمر بين المحذورين في واقعتين تدريجيّتين كأن علم بحلف على وطي امرأته في ليلة معيّنة وحلف على ترك وطئها في ليلة معيّنة أيضا غير الليلة التي حلف على وطئها فيها إلّا أنّ الليلة التي حلف فيها على الوطي اشتبهت بالليلة الّتي حلف فيها على ترك الوطي ، وقد ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى التخيير في كلّ ليلة من هاتين الليلتين المشتبهتين ؛ لأنّ كلّ ليلة واقعة ، تردّد حكمها بين وجوب الوطي وحرمته فقد تردّدت بين المحذورين فيجري فيها التخيير العقلي (١).

نعم ، لو اختار الوطي في الليلة الاولى والوطي في الليلة الثانية هنا بعد الوطي في الثانية يعلم بأنّه فعل محرّما ، ولا أثر للعلم المتأخّر حينئذ.

والظاهر ابتناء هذه المسألة على ما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى من أنّ العلم الإجمالي إذا كان متعلّقه امورا تدريجيّة الحصول فهل يكون منجّزا أم لا يكون منجّزا؟ وحيث اخترنا التنجيز هناك فالمسألة كالمسألة السابقة من كون العلم الإجمالي بوجوب الوطي في إحدى الليلتين مقتضيا للوطي في كلتيهما وهو معنى الموافقة القطعيّة ، وحرمة تركهما وهو معنى حرمة المخالفة القطعيّة ، والعلم الإجمالي بحرمة الوطي في إحدى الليلتين يقتضي ترك الوطي في كلتا الليلتين حرصا على

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٥٤.

٣٢٤

الموافقة القطعيّة. وحرمة الوطي في كلتا الليلتين خوفا من المخالفة القطعيّة ، فموافقة هذين العلمين القطعيّة غير ممكنة قطعا ، فلا أثر للعلم الإجمالي بالنسبة إليها ، إلّا أنّ ترك المخالفة القطعيّة بأن يأتي بما يحتمل الموافقة ممكن فينجّز العلم الإجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة فيترك الوطي في إحدى الليلتين ويطأ في الثانية. والعجب من الميرزا النائيني قدس‌سره أنّه مع اختيار تنجّز العلم الإجمالي في الواقعة التدريجيّة مع ذلك اختار التخيير هنا مع أنّها لا فرق بينها وبين سابقتها ذات الواقعة الدفعيّة.

ثمّ إنّا لو لم نقل بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجي يكون من مجاري أدلّة البراءة ؛ إذ كلّ من وجوب الفعل أو الترك غير معلوم ولا بيان يبعث إليه فتجري فيه أدلّة البراءة والعلم الإجمالي غير منجّز حسب الفرض ، وعلى كلّ فلا تنتهي النوبة إلى التخيير.

بقي هنا شيء وهو أنّه فيما إذا دار الأمر بين المحذورين في الواقعة المتعدّدة سواء كان تعدّدها من جهة تعدّد موضوعها الدفعي أو من جهة كون موضوعها تدريجيّا إذا احتمل أهميّة أحد الإلزامين فهل تتقدّم موافقته القطعيّة على الموافقة القطعيّة للآخر الغير المحتمل أهميّته أو لا تتقدّم؟

اختلفت كلمات الميرزا النائيني قدس‌سره ففي المقام اختار عدم التقديم (١) بتقريب أنّ الترجيح بأهميّة الملاك إنّما هو حيث يقع التزاحم في مقام الامتثال ولا تزاحم في مقام الامتثال ؛ لأنّ المحلوف على فعله غير المحلوف على تركه ، فليس شيئا واحدا حتّى يقع التزاحم. وفي ذيل الأقلّ والأكثر اختار تقديم الموافقة القطعيّة المحتمل الأهميّة على الموافقة الاحتماليّة للآخر الغير المحتمل أهميّته (٢) ، بتقريب أنّ التزاحم لا يعتبر فيه أن يكون تزاحما في مقام الامتثال فقط ، بل التزاحم في مقتضيات الأحكام

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٣ : ٤٥٠ ـ ٤٥١.

(٢) انظر فوائد الاصول ٣ : ٤٥٣ ـ ٤٥٥.

٣٢٥

مطلقا موجب للتقديم بالأهميّة وباحتمالها ، وحينئذ فالتكليف يستدعي الامتثال الواقعي وإحرازه لدى المكلّف ، فالتزاحم يقع في مقام الإحراز ، فيدور الأمر بين إحراز الامتثال بالنسبة لمحتمل الأهميّة وإن وقعت المخالفة القطعيّة للمهمّ وبين إحراز امتثال غير محتمل الأهميّة وإن خالف الأهمّ قطعا ، فيقدّم إحراز الموافقة القطعيّة للأهمّ لاقتضاء الأهميّة ذلك.

وبالجملة ، فالتزاحم بين مقتضيات التكليف هو الموجب لتقديم محتمل الأهميّة ، وقد وقع بين الإحرازين تزاحم فاقتضى التقديم باحتمال الأهميّة.

ولا يخفى عليك ما في تقريبه الأخير من التقديم باحتمال الأهميّة من التوالي الفاسدة ؛ وذلك أنّه لو كان ذلك كذلك للزم في هذا الفرض وأشباهه أنّه على تقدير تساويهما في الأهميّة التخيير في الموافقة القطعيّة لأيّ منهما وإن استلزم المخالفة القطعيّة للآخر ، مع أنّ هذا ممّا لا يلتزم هو قدس‌سره به ، بل ولا يلتزم به غيره أيضا من الاصوليّين أصلا ، لظهور كلماتهم في أنّ الموافقة القطعيّة واجبة عند تيسّرها والموافقة الاحتماليّة تجب عند تعذّرها. هذا هو الجواب النقضي.

وأمّا الحلّ فهو أن يقال : إنّ الحكم بالتقديم للأهمّ في باب التزاحم ليس من جهة ورود نصّ به وإنّما هو من جهة أنّ الأمر بالضدّين محال عقلا ، فإذا ورد أمر بهما من الشارع فلا بدّ من أن يرفع يده عن أحدهما ، فإذا أمكنه رفع يده عن المهمّ مع حفظ الأهمّ لا يعدوه ، فإذا كان هناك مقطوع الأهميّة يبقى أمره ؛ لاستحالة رفع اليد عنه مع إمكان بقائه. وأمّا محتمل الأهميّة فقد تقدّم لك كيفيّة تقديمه من تزاحم الإطلاقات وتساقطها.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ العقل هو الحاكم بلزوم الامتثال وبلزوم إحراز الامتثال ، والعقل لا يفرّق في لزوم هذين الأمرين بين الموارد المهمّة عند الشارع والموارد الغير المهمّة ، فيحكم العقل بلزوم إحراز الامتثال بالنسبة إلى كلّ تكليف من تكاليفه ، سواء كان في غاية الأهميّة كالصلاة أو في غاية الضعف كوجوب

٣٢٦

ردّ السلام مثلا ، فحكم العقل لا يكون أهمّ بالنسبة إلى ما كان أهمّ عند الشارع ، بل هو على حدّ سواء ، وحينئذ فالأهميّة إنّما هي بحكم الشارع ولا تزاحم بين حكمي الشارع أصلا ، إذ يمكنه أن يمتثلهما فلا مزاحمة في الامتثال. نعم ، لا يمكنه إحراز الامتثال أمّا أصل الامتثال فممكن ، فلا مزاحمة بين حكمي الشارع حتّى يرجّح بالأهميّة ، إذ متعلّق كلّ من الحكمين للشارع غير متعلّق الآخر ، والتزاحم إنّما هو في حكم العقل بلزوم إحراز الامتثال ، وليس في حكم العقل ما هو أقوى حتّى يقدّم.

والحكم الشرعي الناشئ من العلم بالحلف على وطي زوجته في ليلة خاصّة والحلف على ترك وطئها ليلة خاصّة فاشتبه عنده الليلتان يقتضي وجوب موافقة كلا العلمين وحرمة مخالفتهما ، وحيث إنّ وجوب الموافقة من كلّ منهما يعارضها وجوب موافقة الاخرى فلا تستطاع [و] تسقط ، ولكن حرمة المخالفة القطعيّة لا يعارضها شيء ؛ لأنّ ترك المخالفة القطعيّة ممكن بالوطي في إحدى الليلتين المشتبهتين والترك في الليلة الثانية ، فتجب الموافقة الاحتماليّة وهو معنى حرمة المخالفة القطعيّة.

هذا تمام الكلام في العلم الإجمالي بالواقعة المتعدّدة الّتي دار الحكم فيها بين المحذورين من جهة الاشتباه بين زمان البعث وزمان الزجر.

ويلحق بها ما إذا علم باتّحاد حكم موضوعين ولكنّه لا يعلم أنّ الحكم المتّحد بينهما هو الوجوب أو التحريم ، مثلا يعلم بيمينين صدرا منه لا يعلم أنّهما وقعا على وطي زوجته ليلة الخميس والجمعة ، بحيث الأوّل منهما على وطئها ليلة الخميس والثاني على وطئها ليلة الجمعة ، أو أنّهما وقعا على ترك وطئها ، الأوّل على الترك ليلة الخميس والثاني على الترك ليلة الجمعة ، فهو عالم باتّحاد متعلّقي اليمينين إلّا أنّه لا يعلم بأنّ المتعلّق في كلّ منهما هو الوطي أو المتعلّق في كلّ منهما تركه بحيث لا يحتمل الاختلاف أصلا ، وهذا المورد هو الّذي وقع الخلاف فيه بين الأعلام في كون التخيير فيه بدويّا أم استمراريّا بعد تسالمهم فيه على التخيير.

٣٢٧

فقد يقال بالتخيير الاستمراري نظرا إلى أنّ أمر الوطي ليلة الخميس دائر بين الوجوب والحرمة فيتخيّر لعدم إمكان الموافقة القطعيّة ولا الاحتماليّة ، وكذا يدور أمر الوطي ليلة الجمعة بين المحذورين فيتخيّر أيضا لعين ملاك التخيير في الأوّل.

نعم ، لو اختار في الاولى الوطي وفي الثانية ترك الوطي يحصل له العلم الإجمالي بعد ترك الوطي في الثانية بمخالفة التكليف الواقعي ولا أثر للعلم بالمخالفة بعد ذلك ، فالتخيير يكون استمراريّا ، لعدم ربط كلّ ليلة بالاخرى.

ولا يخفى عليك ضعف هذا الوجه ، ووجه ضعفه أنّ هذا العلم الإجمالي يتولّد منه علمان إجماليّان كلّ منهما بنحو المنفصلة المانعة الخلوّ :

أحدهما : أنّ الوطي إمّا ليلة الخميس واجب ، أو ليلة الجمعة حرام.

الثاني : أنّ ترك الوطي إمّا ليلة الخميس واجب ، أو ليلة الجمعة حرام. فهذان العلمان الإجماليّان لا يمكن موافقتهما القطعيّة ؛ لأنّه يستدعي الوطي ليلة الخميس وتركه ليلة الخميس والوطي ليلة الجمعة وتركه فيها ، فالموافقة القطعيّة لهما مستحيلة ، ولكنّ الموافقة الاحتمالية ممكنة ، وذلك بأن يختار الوطي في كليهما أو تركه في كليهما أيضا ، إذ لو وطئ في كليهما أو ترك يحتمل الموافقة لكليهما فالموافقة الاحتماليّة ممكنة ، وحينئذ فلا تجوز المخالفة القطعيّة فلا بدّ من كون التخيير بدويّا.

هذا تمام الكلام في الشكّ في التكليف.

٣٢٨

الكلام في الشكّ في المكلّف به

والكلام فيه يقع في مقامين :

الأوّل : لو دار الأمر بين المتباينين. الثاني : لو دار بين الأقلّ والأكثر.

ويقع الكلام الآن في الأوّل ، وبعد الفراغ منه ـ إن شاء الله وتحقيقه وقد كنّا بيّنا الشكّ في التكليف وجريان البراءة فيه ـ يقع الكلام في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر وأنّه من قبيل الشكّ في التكليف حتّى تجري فيه البراءة أو الشكّ في المكلّف به حتّى تجري فيه قاعدة الشغل.

فنقول : ذكر الآخوند قدس‌سره أن لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي من حيث انكشاف الواقع بهما ، وأنّ التكليف المعلوم إن كان فعليّا من جميع الجهات فلا محيص عن امتثاله شرعا ووجوب موافقته القطعيّة وحرمة مخالفته القطعيّة ، وإن لم يكن فعليّا من جميع الجهات لا مانع حينئذ من جعل الاصول الشرعيّة في أطرافه ؛ لأنّه ما لم يصل إلى مرتبة البعث والزجر لا مانع من جعل الاصول حينئذ ، وبهذا وفّق في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي أيضا.

وبالجملة ، فلا فرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي أنفسهما وإنّما الفرق في المتعلّق ، فإنّ متعلّق العلم التفصيلي لا بدّ أن يكون فعليّا ، ومتعلّق العلم الإجمالي يمكن أن لا يكون فعليّا فتجعل الاصول في أطرافه (١).

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٤٠٧.

٣٢٩

ولا يخفى عليك ما في كلامه قدس‌سره وذلك أنّ العلم لا يعقل أن يكون له مدخليّة في فعليّة التكليف ؛ وذلك لأنّ فعليّة التكليف إنّما تدور مدار موضوعها ، والموضوع بالنسبة إلى الحكم من قبيل العلّة والمعلول ، فلا يمكن وجود الموضوع مع عدم فعليّة الحكم. وإن زعم أنّ العلم أحد أجزاء الموضوع ، فمع تصريحه باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم [نقول] إنّ كلامنا إنّما هو في العلم الطريقي لا الموضوعي ، مضافا إلى إمكان أخذ العلم التفصيلي في موضوع الحكم أيضا ، فلا معنى لجعل متعلّق العلم التفصيلي فعليّا من جميع الجهات.

ثمّ إنّ الكلام يقع في تنجيز العلم الإجمالي وعدمه ، وقبل الخوض في ذلك لا بأس بتقديم مقدّمة هي :

أنّ احتمال التكليف لا ينفكّ عن احتمال العقاب ، وهذا هو معنى تنجيز احتمال التكليف ، ففي الشبهة البدويّة مطلقا أو الموضوعيّة بخصوصها تجري أدلّة البراءة الشرعيّة والعقليّة ، فيكون مؤمّنا للمكلّف عن ترك محتمل الوجوب أو فعل محتمل التحريم.

في جريان الأدلة الشرعية في أطراف العلم الإجمالي وعدمه

وإنّما الكلام أنّه إن كان احتمال التكليف في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي فهل تجري أدلّة البراءة الشرعيّة أو العقليّة في أطراف المعلوم بالإجمال كلّها فهو معنى عدم تنجيز العلم الإجمالي وجواز المخالفة القطعيّة ، أو تجري في بعض الأطراف دون بعض وهو معنى حرمة المخالفة القطعيّة وإن لم تجب الموافقة القطعيّة ، أو لا تجري الاصول في الأطراف لا كلّا ولا بعضا وهو معنى تنجيز العلم الإجمالي ووجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة؟

ولا يخفى أنّه لا فرق بين أن يكون العلم الإجمالي في مقام ثبوت أصل الحكم كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة أو في مقام الامتثال كما إذا أتى بواجبين

٣٣٠

ثمّ علم إجمالا بخلل في أحد الواجبين لا فرق بينهما أصلا. فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من كون محلّ الكلام هو الوجه الأوّل (١) ، لم يعلم وجهه فلا يمكن المساعدة عليه.

بل كما يجري الكلام في مقام الجعل فيقع الكلام في جريان حديث الرفع وقاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدم جريانهما ، كذلك يقع الكلام فيما لو أتى بواجبين ثمّ علم إجمالا بخلل في أحدهما فهل تجري قاعدة الفراغ في كليهما أو لا تجري في كليهما أو تجري في أحدهما دون الآخر؟ فيقع الكلام في جريان الأدلّة الشرعيّة وعدمها (*) فنقول :

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٠٩.

(*) ذكر المقرّر قدس‌سره في أوراق ملحوقة بيانا آخر عن جريان الأصول والأمارات في أطراف العلم الإجمالي محدّدا هذا الموضع لإيراده ، وهذا نصّه :

فيقع الكلام تارة في إمكان جعل الأدلة في أطراف العلم الإجمالي واخرى في وقوعه فنقول المتصور في المانع الثبوتي أمران :

أحدهما : الترخيص في المعصية فيما لو علم إجمالا بحرام مردّد بين إناءين أو واجب مردّد بين فعلين ، فإجراء أصالة الإباحة أو البراءة فيهما من قبل الشارع المقدس ترخيص في المعصية وهو قبيح بنفسه وإن لم يفعل المكلف مقتضاها ، فإن الترخيص في المعصية قبيح من المولى. ولا يخفى أنّ هذا المحذور إنّما يكون حيث يكون المعلوم بالإجمال تكليفا إما بالفعل أو الترك أمّا لو لم يكن تكليفا فلا.

الثاني : المناقضة وهو إنّما يتم حيث تكون الأدلة الجارية في الأطراف من الأمارات التي تكون لوازمها حجة كالبينة ، فإنّه لو علم نجاسة أحد الإناءين فقامت بينة على طهارة أحدهما بخصوصه فإنّ لازمها نجاسة الثاني من جهة العلم الإجمالي بالنجاسة ، فلو قامت بينة أخرى على طهارة الثاني بخصوصه دلّت على نجاسة الأول بالملازمة ، فلازم جعل حجية البينة لأطراف العلم الإجمالي المناقضة ، وهذا المحذور لا يخص التكليف الإلزامي ، بل يجري حتى في غيرها. وأمّا لو كانت الأدلة هي الأصول المحضة فلا مناقضة ؛ لأنّها ليست كالأمارات المذكورة ناظرة إلى الواقع ، وإنّما هي لبيان الوظيفة العملية ، فلو علم بوجوب أحد

٣٣١

الكلام تارة يقع في جريان الأدلّة في جميع الأطراف وعدمه ، واخرى في جريانه في بعضها وعدمه.

أمّا الكلام في الأوّل فيقع في مقامين ، أحدهما : في إمكان جعلها بنحو تشمل أطراف العلم الإجمالي. وثانيهما : في وقوع التعبّد وعدمه إلّا الكلام في إمكان التعبّد.

فنقول : الأدلّة الشرعيّة تارة تكون أمارات واخرى تكون اصولا تنزيليّة ، واخرى اصولا غير تنزيليّة.

__________________

ـ الفعلين وإباحة الثاني فقاعدة الاشتغال المحتم عليه إتيانهما معا لا تنافي العلم بإباحة أحدهما ؛ لأنّ قاعدة الشغل إنما تبيّن الوظيفة العملية وليست ناظرة إلى الواقع أصلا ، وإنّما الكلام في الأصول التنزيلية نظير الاستصحاب فظاهر الشيخ الأنصاري ـ انظر الفرائد ٢ : ٢٠٠ ـ عدم الجريان لمنافاة صدر الدليل لذيله في : لا تنقض اليقين بالشك ، وتبعه النائيني ـ أجود التقريرات ٣ : ٨٩ ـ ولكن بمانع ثبوتي وهو استحالة جعل الأصول في ظرف يعلم بمخالفة بعضها للواقع ؛ لأنّها إنما جعلت لإدراك الواقع فكيف يتعبد بها في ظرف نعلم بمخالفتها للواقع. وقد ذهب الآخوند قدس‌سره ـ كفاية الاصول : ٢٧٢ ، الأمر السابع في القطع ـ إلى إمكان جعلها وهو الظاهر ، وما ذكره النائيني مدفوع نقضا وحلّا.

أمّا النقض فبما لو صلّى المسبوق بالحدث ثمّ بعد الفراغ التفت واحتمل أنّه تطهّر بعد ذلك فيجري قاعدة الفراغ لتصحيح صلاته ويتوضّأ للصلاة الآتية مع علمه إجمالا إمّا بكون صلاته السابقة فاسدة أو باستغنائه عن الطهارة للصلاة الثانية ، فهنا يعلم إجمالا إمّا بفساد الاستصحاب ، وإما بفساد قاعدة الفراغ مع أنّ كلّا منهما أصلا تنزيليا.

وأمّا الحل فهو أنّه لما كانت الأصول التنزيلية مشاركة للأصول الغير التنزيلية في عدم حجيتها في إثبات لوازم المجعول لم يكن تناقض حينئذ في جعل الأصول في الأطراف ، فإنّها في الحقيقة لبيان الوظيفة العملية.

نعم ، التناقض يتحقق بالنسبة إلى خصوص الأمارات التي تكون لوازمها حجة ، فافهم.

٣٣٢

فإن كانت الأمارات هي الجارية في أطراف العلم الإجمالي ، كأن علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين قطعا وإن لم يعلم الخصوصيّة ثمّ قامت بيّنة على طهارة أحدهما بخصوصه وقامت بيّنة اخرى على طهارة الثاني بخصوصه فالبيّنتان لا يمكن جريانهما ؛ وذلك لأنّ البيّنة الاولى الّتي دلّت على طهارة الإناء الأوّل بالمطابقة دلّت على نجاسة الثاني بالالتزام ، والبيّنة الثانية الّتي دلّت على طهارة الإناء الثاني دلّت على نجاسة الأوّل بالالتزام ، ولوازم الأمارات حجّة وإن لم يلتفت إليها أصلا ، ومن ثمّ اخذ بلوازمها في الأقارير ونحوها. وحينئذ فلا يمكن الأخذ بكلتا الأمارتين لأدائهما إلى المناقضة ؛ لأنّ الأخذ بالاولى يقتضي عدم الأخذ بالثانية ، والأخذ بالثانية يقتضي عدم الأخذ بالاولى ، فالأخذ بهما غير ممكن.

وأمّا إن كانت الأدلّة الشرعيّة الجارية في الأطراف : الاصول فهي سواء كانت تنزيليّة أو غير تنزيليّة ليست لوازمها حجّة ، فلا يكون المحذور المذكور في جريان الأمارات واردا فيها ، إلّا أنّ هناك محذورا آخر في شمول أدلّة جعل الاصول لمقام أطراف العلم الإجمالي ، وذلك أنّ شمول أدلّة الاصول لجريانها في الأطراف تقتضي الترخيص في المعصية ، وكما أنّ الترخيص في فعل المحرّم التفصيلي بدون النسخ قبيح فكذا الترخيص في فعل المحرّم المعلوم بالعلم الإجمالي ، إذ لا فرق بينهما إلّا فقدان التمييز في العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ حرمة النجس مثلا محمولة على النجس بنحو يكون هو تمام الموضوع فلا يكون العلم فيها جزءا للموضوع كما هو مفروض الكلام ؛ إذ الكلام في العلم الطريقي فالنجس حرام بمقتضى الدليل الدالّ على تحريم النجس ، فلو شمل دليل جعل الاصول لمورد أطراف العلم الإجمالي للزم جواز الترخيص في فعل المعصية ، إذ هذا الطرف بخصوصه غير معلوم النجاسة فتجري أصالة الطهارة فيه ، والطرف الثاني كذلك فتجري أيضا فيه أصالة الطهارة ، فمقتضى جريانهما جواز أن يفعل العبد المعصية ، والترخيص في المعصية من المولى

٣٣٣

قبيح ، فيكون هذا الدليل العقلي مقيّدا لدليل جعل الاصول بغير أطراف العلم الإجمالي لو فرض شمول دليل الرفع له بحسب ظهوره لوجود المانع الثبوتي العقلي عن الشمول.

وبعد هذا المانع الثبوتي الّذي ذكرناه لا حاجة إلى ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) في رسائله من أنّ أدلّة الاستصحاب وهي : «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين مثله» تقتضي عدم جريان الاستصحاب في الطرفين ؛ لأنّ العلم الإجمالي يقين وليس شكّا حتّى يستصحب ؛ لأنّه إثباتي لا تصل النوبة إليه مع وجود المانع الثبوتي ، بل يمكن الاستدلال على عدم جريان الاصول ولو لم يكن هذا الدليل موجودا في أخبار الاستصحاب.

وأمّا جريان الأدلّة في بعض الأطراف لا جميعها وهو معنى حرمة المخالفة القطعيّة فقط بدون وجوب الموافقة القطعيّة بأن يكون العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة ، فما ذكرناه في تحريم المخالفة القطعيّة من المناقضة والترخيص في المعصية القطعيّة وإن كان لا يجري ؛ لأنّه حكم ظاهري وترخيص في المخالفة الاحتماليّة والترخيص في المخالفة الاحتماليّة ممكن للشارع عقلا ، بل واقع فيما إذا كان أحد الإناءين المشتبهين مسبوقا بالنجاسة في حالته السابقة وعلم بوقوع قطرة بول في أحدهما فهنا بالاستصحاب في النجس السابق بقيت أصالة الطهارة بلا معارض في الآخر ، وهل معناه إلّا الترخيص في تناول الثاني وإن كان محتمل النجاسة وجدانا؟ بل ارتكاب محتمل المعصية وارد كثيرا كما في الشبهة البدويّة بواسطة المؤمّن ، بل في العلم التفصيلي يجوز ارتكاب محتمل المخالفة نظير من صلّى ظهرا وعصرا وشكّ بعدهما في كونهما كانا بطهارة أم لا ، فقاعدة الفراغ ترخّص في المخالفة الاحتماليّة ، فلا مانع عقلا من جريان الاصول في بعض

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٤١٠.

٣٣٤

الأطراف (*) ، إلّا أنّ الكلام في المقام الثاني وهو الإثبات وأنّ دليل جعل الاصول والأمارات شامل أم لا؟ فنقول :

__________________

(*) ورد هذا التتميم في أوراق مفردة بقلم المقرّر قدس‌سره مشيرا إلى موضعه هنا :

ثمّ إنه قد ذكر الآخوند قدس‌سره ـ كفاية الاصول : ٣٥٩ ـ مانعا من إجراء الاصول في بعض الأطراف وملخصه : أنّه لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في ناحية العلم ، وإنما الفرق بينهما في أنّ المعلوم بالتفصيل فعلي من تمام الجهات فلا يكون رتبة الحكم الظاهري فيه محفوظة ، بخلاف العلم الإجمالي فإنّ رتبة الحكم الظاهري فيه محفوظة من جهة تحقق الشكّ من جهة فقد التمييز ، وحينئذ فإن كان المعلوم الإجمالي فعليا من تمام الجهات استحال جعل الحكم الظاهري في أطرافه لأدائه إلى التناقض. وإن لم يكن فعليا من تمام الجهات جاز جعل الحكم الظاهري في أطرافه.

ولا يخفى أنّ ما ذكره من كونه فعليا من بعض الجهات دون بعضها الآخر لم نفهم له معنى إذ الكلام في العلم الطريقي لا الموضوعي حتى يقال ربما يكون التمييز جزءا للموضوع فبانتفائه ينتفي ، وإذا لم يكن الكلام إلّا في العلم الطريقي فالحكم إن تحقق موضوعه صار فعليا وإن لم يتحقق موضوعه لا يصير فعليا فكونه فعليا من تمام الجهات أو من بعضها دون بعض مما لم نفهم له معنى صحيحا ، وما ذكره من أداء جعل الاصول في تمام الأطراف إلى التناقض وفي بعضها دون بعض إلى احتمال التناقض وهو كالقطع به مستحيل فمبني على كون الحكم الظاهري بنفسه وذاته مضاد للحكم الواقعي ، وحينئذ فما ذكره صحيح.

أمّا لو قلنا بعدم التنافي بينهما أصلا بحسب ذاتهما وإنما التنافي بينهما إما بحسب مباديهما من حيث المصلحة والمفسدة أو بحسب مثالهما من العجز عن امتثالهما كما جمعنا بين الحكم الظاهري والواقعي به ومرّ مفصلا بيانه فلا يكون حينئذ مناقضة أصلا.

وقد ذكر بعض تلامذته ـ لم نعثر عليه ـ محذورا آخر في إجراء الاصول في بعض الأطراف ملخّصه : أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي بالجامع (بالنكرة خ ل) في أنّ الصورة الحاصلة منه في الذهن تقتضي وصول التكليف إلى المكلّف إذ هي مرآة لما في الخارج ، وإنما

٣٣٥

__________________

ـ الفرق بينهما أنّ الجامع النكرة التي توجه التكليف نحوها في التفصيلي معلوم انطباقه على كلّ فرد فرد من أفراده ، وأمّا في العلم الإجمالي فانطباق ذلك الجامع على أحد الفردين معلوم أيضا قطعا ، وإنّما تمييز ما ينطبق عليه مجهول عند المكلف ، فالتكليف واصل فيه كما هو واصل في العلم التفصيلي فمعلوم النجاسة مثلا واحد بين هذين الإناءين معلوم عند الله مجهول عندنا ، وكما أنّ في العلم التفصيلي يستحيل جعل الأصل على الخلاف لكونه ترخيصا في المعصية كذلك المقام ، غاية الأمر أنّه ترخيص في المعصية المحتملة لا القطعية فلا يجوز جعل الأصل فيه.

وفيه أن كون المعلوم الإجمالي مجهولا عندنا معلوم في الواقع غير مسلّم ، إذ لو فرض إنه علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين وكان في الواقع كلا الإناءين نجسا فلا تعين في الواقع لمعلومه أصلا ، إذ لا يمكن تعيينه لعدم تعيّنه في نفسه حتّى يكون قابلا للتعيين ، فالعلم الإجمالي يؤول إلى أنّه لو كان هذا الإناء طاهرا كان الآخر نجسا ولو كان ذاك طاهرا كان هذا نجسا ، أمّا لو كان هذا نجسا فلا يلزم أن يكون الثاني طاهرا لإمكان نجاسة كليهما.

ويوضح المطلب أنّه لو علم بنجاسة إناء في أطراف غير محصورة ثمّ إنّ بعض أطرافه كان عنده فاطلع على نجاسته فهل يستطيع القول بأنّ معلومي الإجمالي هو هذا؟ كلّا ثمّ كلّا ، ثمّ إنّا لو سلمنا أنّ المعلوم بالإجمال معين واقعا إلّا أنّه لا مانع من اتصاف شيء واحد بالعلم والشك بعنوانين ، فيكون الشيء بعنوان كونه خمرا نجسا في الواقع وبعنوان كونه مجهولا طاهرا في الظاهر كما هو مطرد في جميع الشبهات البدوية ، ففي مقامنا كونه معلوما في الواقع ومعينا لا يمنع من اتصافه بكونه مشكوكا في الظاهر فيجعل الأصل ظاهرا فأين المناقضة المدعاة؟ فافهم.

فالإنصاف أنّ العلم الإجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية علة تامة للتحريم إلّا أنّه بالنسبة إلى الموافقة القطعية ليس علّة ، نعم نفس احتمال التكليف منجز لعدم اقترانه بالمؤمّن ، للزوم دفع الضرر المحتمل عقلا ، فيقع الكلام في أدلة الاصول وإنها تشمل بعض الأطراف أم لا بحسب جعلنا فإذا ثبت دلالتها على ذلك إثباتا يقترن بعض الأطراف بالمؤمّن حينئذ فيجوز ارتكاب بعض الأطراف حينئذ لوجود المؤمّن وهو شمول أدلة الاصول له.

٣٣٦

أمّا أدلّة البراءة العقليّة وهي قبح العقاب بلا بيان فلا ريب في عدم شمولها للمقام وأشباهه ، إذ المفروض تماميّة البيان من قبل المولى وانطباقه على صغراه لكن اشتبه المصداق الخارجي مع إمكان تركهما معا ، فلو ارتكب أحدهما فصادف كونه النجس مثلا كان مستحقّا للعقاب قطعا.

وأمّا أدلّة البراءة الشرعيّة مثل حديث الرفع فجريانه في خصوص أحد الأطراف بعينه مع عدم خصوصيّة له ترجيح من غير مرجّح ، وجريانه في أحدهما لا بعينه ممتنع للاستغناء عنه ، إذ لو كان الإناءان أحدهما نجس والآخر طاهر فجريان أصالة الطهارة في أحدهما لا بعينه لا يجدي شيئا ، للعلم به من أوّل الأمر قبل جريان الأصل ، وفيما لو علم نجاسة أحد الإناءين واحتمل أيضا نجاسة الثاني فجريان أصل الطهارة فيه أيضا لا يجدي من الناحية المقصودة ، إذ حينئذ يكون كما لو علم نجاسة أحدهما ، وطهارة الآخر لا يجدي بالنسبة إلى ارتكابه لعدم تشخّصه فافهم. مضافا إلى أنّ أدلّة الاصول إنّما تجري في الفرد المشكوك وأحدهما لا بعينه ليس فردا من الأفراد المشكوكة حتّى يجري فيه حديث الرفع أو غيره. والظاهر أنّ هذا هو مراد الشيخ الأنصاري بقوله ما مضمونه : وأحدهما ليس فردا في قبالهما حتّى يجري فيه الأصل (١).

فتلخّص أنّ جريان الأصل في كليهما غير ممكن ثبوتا عقلا لقبح الترخيص في المعصية القطعيّة ، وفي أحدهما بخصوصه غير ممكن إثباتا لقبح الترجيح من غير مرجّح ، وفي أحدهما المفهومي غير ممكن إثباتا أيضا ؛ لأنّه ليس فردا في قبالهما حتّى تجري فيه الاصول.

بقي هنا شيء آخر يحتمل في المقام ، وهو أن يجري الأصل في أحدهما تخييرا ، وهو يتصوّر بثلاث صور :

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٢٠٤.

٣٣٧

أحدها : أن يكون التخيير شرعيّا كالتخيير بين الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّحات ، ولا يلزم من استعمال أدلّة الاصول في التعيين والتخيير استعمال في معنيين ، إذ دليل الأصل يتبع موضوعه وهذا مفقود بالوجدان لعدم التخيير الشرعي في أدلّة الاصول.

الثاني : أن يكون التخيير عقليّا كالتخيير بين المتزاحمين كالغريقين في آن واحد فالعقل يخيّر مع فرض عدم المرجّح ، وهذا أيضا مفقود في المقام ؛ لأنّ حكم العقل بالتخيير هناك لعدم القدرة على إتيان كلا المتعلّقين وكلّ وجوب لا بدّ معه من قدرة ، ففقد القدرة كاشف عن فقد الوجوب عن أحدهما ، بخلافه في المقام لإمكان تركهما معا ، فلا معنى للتخيير العقلي في جريان الأصل لإمكان أن لا يجريان معا أصلا.

الثالث : حكم العقلاء بالتخيير في جريان الأصل بالنسبة إلى كلّ منهما عند ترك الآخر ، بتقريب أنّ جريانهما معا في المقام مستحيل للمانع الثبوتي ، فيدور الأمر بين سقوط كلّ منهما أو سقوط إطلاق كلّ منهما بأن نقيّده في صورة ترك الآخر ، وبهذا يرتفع المحذور ، والضرورات تقدّر بقدرها فلا يسقط إلّا إطلاقهما ، نظير ما إذا ورد «أكرم العلماء» الموجب لانحلال التكليف إلى تكاليف متعدّدة بتعدّد العلماء الموجب للمثوبات المتعدّدة على إكرامهم والعقوبات المتعدّدة على ترك إكرامهم ، والثواب على إكرام بعض والعقاب على ترك إكرام البعض الآخر عند التبعيض ، وظاهر هذا الوجوب هو الوجوب التعييني.

فلو ورد خبر يدلّ على عدم وجوب إكرام زيد العالم وعمرو العالم معا فيدور الأمر بين ارتفاع الوجوب عن هذين الفردين فيكون تخصيصا وبين ارتفاع ظهورهما في الإطلاق بأن نقيّد وجوب كلّ منهما بترك الآخر ، وهذا أولى لارتفاع المحذور به والضرورة تقدّر بقدرها.

ونظير ذلك ما لو دار أمر المكلّف بين الصلاة قائما بلا ركوع أو جالسا بالركوع فقد حكم الفقهاء في مثلها بالتخيير ، لكون أدلّة القيام والركوع لا يمكن جريانهما

٣٣٨

في مورد الكلام لعدم القدرة على كليهما معا ، فلا بدّ من تقييد وجوب كلّ منهما بصورة ترك الآخر ، وحينئذ فيتخيّر فيما يفعل من الواجبين وما يتركه ، ومقامنا من هذا القبيل إذ يدور الأمر بين عدم شمول أدلّة الاصول للمقام كليّة للمانع الثبوتي ، وبين إجراء أدلّة الاصول في أحدهما عند ترك الآخر ، إذ به يرتفع المحذور الثبوتي وهو الترخيص في المعصية المعلومة ، وحيث إنّ الضرورة تقدّر بقدرها فلا بدّ من تقييد إطلاق أدلّة الاصول بما إذا لم يفعل الآخر بأن لم يشرب الإناء الثاني أصلا فهنا يجري الأصل في الإناء الأوّل. وهذه شبهة عويصة.

وقد أجاب الميرزا قدس‌سره بأنّ إطلاق أدلّة الاصول لكلا الفردين مستحيل ، فإذا كان الإطلاق مستحيلا فالتقييد أيضا مستحيل ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة (١).

وقد عرفت غير مرّة بأنّ التقابل بينهما في مرحلة الثبوت الّذي هو محلّ الكلام تقابل الإيجاب والسلب الّذي يكون انتفاء أحد الضدّين مقتضيا لثبوت ضدّه ، نعم هما في مرحلة الإثبات متقابلان تقابل العدم والملكة كما ذكره قدس‌سره. ثمّ لو سلّمنا كون التقابل في مرحلة الثبوت أيضا كان من تقابل العدم والملكة إلّا أنّ استحالة أحد المتقابلين بهذا التقابل لا يوجب استحالة الآخر بل يوجب ضروريّة الآخر ، ونظرنا لذلك بالجهل والعلم فإنّ استحالة الجهل في ذات الله تعالى توجب ضروريّة العلم ، وكذلك الفقر والغنى فإنّ استحالة الغنى في العبد تستدعي ضروريّة الفقر ، فهذان مع كون تقابلهما تقابل عدم وملكة إلّا أنّ استحالة أحدهما لا تستدعي إلّا ضرورية الآخر ، واستحالة الفقر في ذاته تعالى تستدعي ضروريّة الآخر وهو الغنى فيه تعالى.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٢١.

٣٣٩

فالتحقيق في الجواب عن هذه العويصة أن يقال : إنّ المحذور من شمول أدلّة الاصول لطرفي العلم الإجمالي أو أطرافه إن كان هو الترخيص في الجمع كان تقييد جريان الأصل في كلّ منهما بحال ترك الآخر رافعا لذلك المحذور ، نظير ما مثّلنا به من قوله : «أكرم العلماء» ثمّ علمنا أنّ إكرام زيد العالم وعمرو العالم معا غير مراد ، فالمحذور هو طلب الجمع ، وهو بتقييد طلب إكرام أحدهما بترك إكرام الآخر مرتفع ، فلا بدّ حينئذ من التقييد إذ يرتفع به حينئذ طلب الجمع. ولكنّ المحذور في المقام ـ يعني في جريان أدلّة الاصول في أطراف العلم الإجمالي ـ ليس هو الترخيص في الجمع ليرتفع بالتقييد ، وإنّما المحذور هو الجمع في الترخيص ، وهو لا يرتفع بالتقييد.

بيان ذلك : أنّ شمول أدلّة الاصول للأطراف ولو بنحو التقييد لكلّ بترك الآخر ، فعند تركهما معا يتحقّق شمول أدلّة الاصول لكلّ منهما والترخيص فيهما معا ، والترخيص قبيح قطعا إذ هو ترخيص في المعصية القطعيّة.

وتوضيح ذلك : إنّما يتمّ برسم مقدّمتين :

الاولى : أنّ العلم الإجمالي إذا تعلّق بحكم ترخيصي كطهارة أحد الإناءين ، فلو كانا معا مسبوقين بالنجاسة لا مانع من جريان الاستصحاب في كلا الطرفين فيحكم الشارع بوجوب تركهما معا ونجاسة الملاقي لكلّ واحد منهما تحفّظا من حصول المفسدة من ارتكاب المحرّم المجهول ، ولا مانع من جريان الاستصحاب فيهما إذ لا مخالفة فيه لحكم إذ الطاهر لا يجب شربه ، نعم فيه إشكال أنّ أدلّة جعل الاصول لا تشمل صورة العلم فلا يقابل الأصل العلم ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم المعلوم بالعلم الإجمالي حكما إلزاميّا فالترخيص فيه غير ممكن ، لأدائه إلى ترك الواجب أو فعل الحرام بإذن المولى مع بقاء الواجب على وجوبه والمحرّم على حرمته.

٣٤٠