غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

ويقع الكلام الآن في الناحية الاولى من ناحيتي الجهة الاصوليّة وهي ما إذا كان الاشتباه في تطبيق المنهيّ عنه على الخارج ، كما لو قطع الإنسان بكون زيد في الدار فكذب فقال : ليس زيد في الدار ، ثمّ انكشف أنّه ليس فيها ، وأنّه ليس بكاذب بناء على أنّ الكذب مخالفة الواقع.

فالكلام في أنّ دليل تحريم الكذب هل يشمل مقطوع الكذبيّة وإن لم يكن كذبا واقعا فيكون محرّما أم لا؟ قد زعم الأوّل واستدلّ عليه بدليل مركّب من مقدّمات :

الاولى : أنّ التكاليف إنّما تتوجّه نحو المقدور ، إذ لا معنى للحثّ والزجر نحو غير المقدور ، ومن هنا كانت التكاليف الّتي لها متعلّقات في الخارج غير مقدورة يلزم أن يكون متعلّقاتها مفروضة الوجود في الخارج ويكون التكليف متعلّقا بتركها ، مثلا خمريّة الخمر مثلا ليس باختيار المكلّف ، بل هي أمر أجنبيّ عنه لا ربط لها بالتكليف ، والتكليف إنّما يتوجّه بعد فرض وجودها فينهى عن شربها مثلا ولا يمكن النهي عن خمريّة الخمر ، لعدم كونها تحت اختياره.

الثانية : أنّ المحرك للإنسان نحو الأشياء الخارجيّة هو علمه بها ، مثلا من علم بوجود الأسد يفرّ عن المكان الّذي يحتمل وجوده فيه ، ومن لم يعلم بوجود الأسد لا يفرّ أصلا. فالمحرّك للإنسان نحو أفعاله الاختياريّة إنّما هو علمه وقطعه ، فمن كان عطشانا وقطع بوجود الماء على يمينه يتحرّك على جهة اليمين لتحصيله وإن لم يكن واقعا ، ومن لم يقطع بوجود الماء لا يتحرّك بل يبقى حتّى يموت عطشا ولو كان الماء قريبا منه جدّا ، فالمحرّك للإنسان إنّما هو قطعه.

الثالثة : أنّ المكلّف إنّما يستطيع أن يحرّك العبد نحو اختيار الفعل لا نحو الفعل الاختياري ، وذلك بأن يحرّكه بما يكون محرّكا له وهو قطعه ، فالمولى يحرّك العبد نحو الاختيار بأن يوجد له مقدّماته وهو القطع بالواقع مثلا ، كما يحرّك نفس أعضائه

٢١

لو أراد فعلا مباشرته بنفسه فيفرض العبد كأعضائه فيوجد له أسباب التحريك بأن يحصل له القطع بالواقع لما علم من أنّه لا يتحرّك إلّا بعلمه وقطعه (١).

وإذا تمّت هذه المقدّمات الثلاث يلزم أن يكون نهي المولى وزجره عن تناول المقطوع بخمريّته ، لأنّه الّذي يتمكّن العبد من تركه ، والمصادفة للواقع وعدمها ليست باختيار المكلّف حتّى ينهى عنها.

وبالجملة ، العاصي والمتجرّي كلّ منهما يقدم على تناول ما قطع بخمريّته ، ومصادفة تناول العاصي للواقع ليست باختياريّة أصلا ، فالخمريّة لا يمكن أن تؤخذ في متعلّق التكليف بمقتضى المقدّمة الاولى من أنّها ليست باختياريّة ، والمحرّك لا يمكن أن يكون إلّا قطع العبد لا الواقع مع قطع النظر عن القطع بموجب المقدّمة الثانية ، والمولى لا يمكن أن يحرّك العبد إلّا بإيجاد محرّكاته وهو القطع. فينتج هذه المقدّمات أنّ النهي يلزم أن يتعلّق بمقطوع الخمريّة لا بالخمر الواقعي وإن اقتضى ظاهره ذلك ، وهو معنى شمول إطلاق الأدلّة للمقطوع ، فافهم وتأمّل.

والجواب عن هذا الدليل أنّ المقدّمة الاولى والمقدّمة الثانية وإن كان لا شبهة فيهما ، إلّا أن الكلام في المقدّمة الثالثة ، وهي أنّ تكاليف المولى إنّما تتوجّه نحو اختيار الفعل لا الفعل الاختياري ، فإنّ الظاهر بطلانها :

بالنقض أوّلا ، وذلك بالواجبات فإنّ التكاليف إذا كانت متوجّهة نحو اختيار الفعل فيلزم كونها في الواجبات كذلك أيضا ، فلو قطع بأنّ هذا اليوم من شهر رمضان وصامه يلزم أن يكون صومه صحيحا مجزيا وإن لم يكن ذلك اليوم من شهر رمضان ، لأنّ التكاليف متوجّهة إلى اختيار الفعل ، ولم يقل فقيه أو متفقّه (بالصحّة بل ولا) (٢) بإجزاء القطع المخالف للواقع قطعا.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٤.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٢

وبالحلّ ثانيا ، وذلك بأن يقال : إنّ التكاليف إنّما تصدر إذا كان فيها مصلحة ، والمصلحة إنّما تقوم بواقع الأشياء ، فالتكليف يلزم أن يكون بالامور الواقعيّة وحيث إنّ الامور الواقعيّة مجهولة للمكلّف ، وتكليف الجاهل قبيح لاعتبار القدرة في متعلّقات التكاليف الفعليّة أو في تنجّز التكاليف كما اخترناه اعتبر وصول التكاليف الواقعيّة إليه ليعرفها ، فالقطع إنّما اعتبر طريقا إليها وليس له موضوعيّة في الحكم ، فهو مكلّف بترك الفعل الاختياري لا بترك اختيار الفعل ، وحينئذ فالعاصي لم يترك الشرب الاختياري للخمر ، بل شربه ، ولكنّ المتجرّي لم يشرب الخمر أصلا. فكم ترى من الفرق بينهما فإنّهما معا مكلّفان بترك شرب الخمر الواقعي اختيارا لكنّ أحدهما شربه وهو العاصي والآخر تخيّل أنّه شربه ولم يشربه. وبالجملة ، فهما متغايران.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الإطلاقات لا يمكن شمولها للمقطوع الخمريّة ، لأنّها تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة المترتّبة على واقع الأشياء ، والقطع صفة للمكلّف لا يمكن أن تغيّر الواقع عمّا هو عليه ، إذ لو قطع بنفع هذا الشيء وكان ضارّا في الواقع لا ينقلب ضرره نفعا ، فظهر عدم شمول إطلاقات التكاليف للمقطوع أصلا ، فافهم.

ثمّ إنّه يقع الكلام الآن في الناحية الثانية من الجهة الاصوليّة وهي ترتّب المفسدة على الفعل المتجرّى به :

فإمّا أن يدّعى ترتّب المفسدة الواقعيّة المترتّبة على الفعل الواقعي المنهيّ عنه ، فبطلانه معلوم ، لما أشرنا إليه من أنّ المفاسد الواقعيّة إنّما تترتّب على الموضوعات الواقعيّة ، والقطع بالموضوعات الواقعيّة مع كونه مخالفا واقعا لا يوجب ترتّب حكم الواقع والمفسدة الواقعيّة عليه أصلا.

وإمّا أن يدّعى أنّ هذا الفعل الخارجي يكون ذا مفسدة لكشفه عن قبح سريرة العبد وخبث ذاته ، فمعلوم أنّ المنكشف قبيح لا الكاشف ، فيلزم أن تكون المفسدة والذمّ مترتّبان على المنكشف لا على الكاشف ، والكلام في الكاشف لا في المنكشف.

٢٣

وإمّا أن يدّعى أنّ صفة القطع من العناوين المحسّنة والمقبّحة نظير الضرب لليتيم تأديبا وظلما في اتّصاف الأوّل بالحسن والثاني بالقبح ، فكذلك القطع بالخمريّة من الصفات المقبّحة لشربه والمحسّنة لتركه وإن لم يكن خمرا بحسب الواقع.

وقد أورد الميرزا النائيني قدس‌سره عليه أنّ القطع لا يكوّن مصلحة بالفعل ولا مفسدة بالقطع والوجدان ، بمعنى أنّ الوجدان حاكم بعدم كون صفة القطع من الصفات المغيّرة لعنوان المحبوبيّة والمبغوضيّة ولا يكون المبغوض بسببها محبوبا وجدانا ؛ لأنّ انكشاف الشيء لا يزيد عليه شيئا وأيضا أنّ تخصيص الحرمة بالقطع المخالف للواقع فيقال مثلا : أيّها القاطع قطعا مخالفا للواقع اجتنب ، فلا مصداق له ولمطلق القطع يوجب جمع المثلين بنظر المكلّف (١).

والآخوند قدس‌سره ذكر في مقام الإيراد على أصل الدعوى بأنّ الصفات الّتي توجب تغيّر عناوين الأفعال هي الجهات الاختياريّة للمكلّف الّتي يمكن أن يحقّقها وأن لا يحقّقها ، والقطع وعدمه ليس منها ، لعدم كونها صفة اختياريّة له ، فلا يتحقّق له قصد إليها ، بل إنّما يقصد العقل بعنوانه الواقعي ، بل قد لا يلتفت القاطع إلى ذلك القطع الّذي عنده ، وإنّما الملتفت إليه هو المقطوع (٢).

والجواب عمّا ذكره الآخوند قدس‌سره هو أنّه ما معنى قولك : «إنّه لا يقصده إلّا بعنوانه الواقعي»؟

إن اريد من القصد الداعويّة أي لا يدعوه إليه إلّا عنوانه الواقعي ، فمعلوم أنّ المغيّرات لعناوين الأفعال لا يلزم أن تكون هي الداعية إليها ، فإنّ ضرب اليتيم الضرب المؤذي لا بداعي الإيذاء ، بل بداعي تجربة العصا قبيح قطعا مع عدم قصد الإيذاء.

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٢ : ٤١.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٢٩٩.

٢٤

وإن كان المراد من القصد الالتفات فلا معنى للترقّي حينئذ بقولك : «بل لا يلتفت إليه» ، إذ هو هو فلا مجال للترقّي.

مع أنّه غير مسلّم ، بل القطع ملتفت إليه قطعا وإلّا فلا يستطيع تصوّر المقطوع إلّا بعد تصوّر القطع إلّا أنّه ملتفت إلى قطعه إجمالا لا تفصيلا ، بل لو لم يكن الالتفات إلى قطعه لكونه طريقيّا كما ادّعى لم يمكن أخذ القطع بحكم موضوعا لحكم شرعا فيسقط القطع الموضوعي كليّة. فظهر أنّ ما ذكره الآخوند قدس‌سره غير وارد بحسب الظاهر.

ثمّ إنّ ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (من لزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع ، فقد اعترف هو بعدم المانع منه ، وأنّه يتأكّد الوجوب أو التحريم في كلّ مجمع لعنوانين بينهما العموم من وجه (١) كما في المقام ، ضرورة أنّ الخمر مثلا قد يكون مقطوعا به وقد لا يكون مقطوعا به ، كما أنّ القطع بالخمريّة قد يكون موافقا للواقع وقد لا يكون فبينهما عموم من وجه حتّى باعتراف القاطع نفسه ، وإن أنكر كون قطعه مخالفا للواقع.

وأمّا ما ذكره) (٢) من القطع بعدم تغيّر الأفعال الواقعيّة بواسطة القطع عن عناوينها الواقعيّة ، فلا يخفى أنّ المراد ليس تغيّر المصالح والمفاسد الواقعيّة ولا المحبوبيّة الواقعيّة والمبغوضيّة الواقعيّة بسبب القطع ، بل المراد اتّصافه بالحسن والقبح عقلا عند العقلاء ، واتّصافه بهما عقلا لا يكاد ينكر أصلا ، لأنّ إقدامه على هذا العمل الّذي قطع بكونه محبوبا للمولى جري على مقتضى العبوديّة وإيفاء المولى حقّه فهو جري على مقتضى العدل ، كما أنّ إقدامه على العمل المقطوع بكونه مبغوضا للمولى

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٢ : ٤٥.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٥

هتك للمولى وتمرّد عليه وطغيان وهتك له قطعا. وحينئذ فنفس العمل يكون مبغوضا للمولى ، لكونه هتكا له وتمرّدا عليه وطغيانا وظلما لمقام المولويّة ، ولا نعني بالحسن والقبح إلّا تحسين العقلاء الثواب في الجري الأوّل والعقاب في الجري الثاني.

والظاهر أنّ منشأ انكار الميرزا ذلك هو الخلط بين التحسين والتقبيح العقليين والمصالح والمفاسد الواقعيّة والمحبوبيّة والمبغوضيّة الذاتيّة ، فتأمّل تعرف أنّ ما ذكرناه من كون العبد بعمله هذا يكون في مقام الظلم لحقّ المولى أمر محال إلى الوجدان وإلى حكم العقلاء بحسن الذمّ لمثل مرتكب هذا العمل ، كما التزم الجميع بحسن العمل المنقاد به وإثابة المولى له زيادة على استحقاقه المدح ، لأنّه في مقام حفظ مراتب العبوديّة ، (إلّا أنّ الكلام في استلزام هذا القبح الفعلي للحرمة الشرعيّة بقاعدة الملازمة وعدم الاستلزام فنقول) (١) :

في الحسن والقبيح العقليّين

اختلف المتكلّمون في الحسن والقبح العقليّين فذهب جماعة إلى أنّهما يتبعان ذوات الأفعال ، فالحسن ذاتا لا يعقل أن يكون قبيحا أصلا وبالعكس ، وآخرون إلى أنّهما بالوجوه والاعتبارات ، وذهبت الأشاعرة إلى أنّ العقل لا يدرك حسنا ولا قبيحا ، بل يتبعان أمر المولى الحكيم ، فما أمر به المولى يكون حسنا وما نهى عنه يكون قبيحا ، فالحسن والقبح يتبعان أمره تعالى وليس لهما واقع أصلا (٢).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) انظر شرح تجريد العقائد (للقوشجي) : ٣٣٧ ، والفصول : ٤٣١ ، وأصول الفقه (للمظفر) ١ : ١٩٩ ، حيث نسب القول الأوّل إلى العدلية والمعتزلة والثاني إلى بعض المعتزلة وصاحب الفصول والثالث إلى الأشاعرة.

٢٦

ولا يخفى أنّ القول الأوّل وهو أنّهما تابعان لذوات الافعال الواقعيّة ، إن اريد منهما المصلحة والمفسدة والمحبوبيّة والمبغوضيّة فمسلّم ، إلّا أنّ الكلام في الحسن والقبح بمعنى عدّ العقلاء له حسنا وقبيحا وهذا لا يتبع ذات الفعل ، فإنّ القيام الواحد قد يكون حسنا إذا كان بقصد تعظيم المولى ويكون قبيحا إذا كان بقصد الاستهزاء بالمولى مع عدم خروجه عن ذاته وعدم تغيّرها قطعا ، وكذا ضرب اليتيم تأديبا وظلما ، وغيرهما من الأمثلة الّتي هي فوق حدّ الإحصاء.

كما أنّ القول الثالث ـ وهو قول الأشاعرة ـ كالأوّل باطل ، لأنّ الحسن والقبح وإدراك العقل لهما يكاد أن يكون من ضروريّات مدركات العقل وبديهيّاته مع قطع النظر عن الشارع ، بل ان قلنا به لم يمكن إثبات نبوّة نبيّ فإنّ ظهور المعجزة على يد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لا إدراك العقل لحسنها لم لا يجوز أن يكون هذا المدّعي لها كاذبا وأنّ المعجزة يظهرها الله على يد الكاذب لو لا قبح ذلك منه؟ ولم لا يجوز أن يدخل الله النار كلّ من أطاعه والجنّة كلّ من عصاه لو لا الحسن والقبح؟ غايته أنّه يقول : إنّه تعالى وعد المطيعين الجنة والعاصين النار ، فنقول : ما المانع من إخلافه وعده وكونه كاذبا لو لا الحسن والقبح العقليّين؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وبالجملة ، فالالتزام بما ذكره يؤدّي إلى لوازم باطلة تؤدّي إلى إضحاك الثكلى ، مثل كونه تعالى ظالما غير عادل ـ نعوذ بالله منها ـ وقد التزموا بها مع بداهة بطلانها ، والتزموا بالجبر وأشباهه تفريعا على هذه المقدّمة قبّحهم الله تعالى.

وإذا بطل القول الأوّل والثالث تعيّن الثاني للصحّة ، وهو كون الأفعال تابعة في تحسين العقلاء وتقبيحهم للوجوه والاعتبارات لا ذاتيّة لها ولا عارية عنها كما هو مؤدّى القولين الباطلين. وحينئذ فالعمل المتجرّى به يكون قبيحا لوجهه قطعا ، ضرورة أنّ التقبيح والتحسين من العقلاء إنّما هو على الأعمال الاختياريّة لهم وإلّا فلا يستحقّ المدح على صدور فعل منه قسرا أوجب إنجاء مؤمن أو يستحقّ الذمّ لصدور فعل قسرا منه أوجب قتل مؤمن. وحينئذ فالمتجرّي والعاصي بالنسبة

٢٧

إلى ما يقترفانه باختيارهما سواء قطعا ، وإنّما يختلفان بمصادفة الواقع في العاصي دون المتجرّي ، وهي أمر خارج عن اختيارهما ، وحينئذ فالذمّ والعقاب العقلائي بالنسبة إليهما على حدّ سواء.

ثمّ إنّه بعد ما ظهر أنّ الفعل المتجرّى به قبيح عقلا فهل يحكم بحرمته شرعا أم لا؟ الظاهر الثاني ، وهو عدم حرمته شرعا. وحديث الملازمة ـ وهي كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ـ إنّما هي في غير صورة إدراك العقل الحسن والقبح ، بل في صورة إدراك العقل المصلحة والمفسدة الّتي هي في مرتبة علل الأحكام الشرعيّة لا الحسن والقبح ، فإنّه لا مجال لحكم الشرع حيث يكون المدرك هو الحسن والقبح العقليّين ، فإنّ هذه القاعدة فيها غير مسلّمة قطعا ، وإنّما المسلّم من قاعدة «كلّما حكم به العقل حكم به الشرع» هي صورة إدراك العقل لمصلحة الحكم ، وحيث إنّ المصلحة الواقعيّة لا تكاد ينفكّ عن حكم شرعي آمر بها يحكم الشرع حينئذ بالملازمة المذكورة لكنّ المقام مقام إدراك العقل في مرحلة الامتثال ، فإنّ العقل إنّما يدرك أنّ هذا العمل الّذي هو في مرحلة الامتثال قبيح. وحينئذ فلا ملازمة بين هذا الحكم العقلي والحكم الشرعي ، بل لا يمكن أن يحكم الشارع هنا ، لأنّه (لغو وذلك لأنّ الحكم الأوّلي إن كفى فلا حاجة إلى الثاني ، وإن لم يكف لم ينفع الثاني لعدم زيادته على الأوّل ، مضافا إلى أنّ الشارع) (١) إن حكم بحرمته :

فإمّا أن يحكم بحرمة خصوص ما قطع بحرمته قطعا مخالفا للواقع فيختصّ الحكم بالتحريم بخصوص المتجرّي دون العاصي ، لأنّ العاصي ليس قطعه مخالفا للواقع بل مصادف للواقع. وهذا مع كونه بعيدا في نفسه لاستلزامه تحريم التجرّي دون العصيان غير ممكن ، لأنّ القاطع إن علم أنّ قطعه مخالف للواقع فليس قاطعا حينئذ ، وإن لم يعلم أنّ قطعه مخالف للواقع فلا يتنجّز التحريم عليه ، بمعنى لا يكون الحكم

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٨

بالتحريم فعليّا في حقّه ، لأنّ القدرة شرط فعليّة التكليف ومن مبادئها الالتفات ، نظير عدم إمكان خطاب الناسي ، فافهم.

وإمّا أن يحكم بحرمة مقطوع الحرمة مطلقا ، صادف الواقع أم لم يصادفه. وهذا أيضا غير ممكن لاستلزامه التسلسل ، وذلك لأنّ الإتيان بمقطوع الحرمة يكون عصيانا للنهي عن ارتكاب مقطوع الخمريّة ، فالحاكم بقبح هذا العصيان إن كان العقل فهو المدّعى ، وإن كان الشرع فيلزم نهي آخر وإليه ينقل عين الكلام. (وهذا هو التسلسل الباطل في نفسه ، مضافا إلى استلزامه عدم اختلاف المعاصي صغرا وكبرا ، لأنّ الأمرين الغير المتناهيين لا يختلفان من حيث العدد والكيفيّة كما برهن عليه في محلّه) (١).

فقد ظهر أنّ التجرّي قبيح عقلا ، غير محكوم بالحرمة شرعا ، لكن لا يخفى أنّ نفي الحرمة الشرعيّة لا توجب نفي العقاب ، لأنّ العقاب إنّما يكون بحكم العقل والعقل لا يفرّق في العقاب بين العاصي والمتجرّي ، لأنّ كلّا منهما في مقام التعدّي على المولى وعدم توفيته حقوقه وظلمه وهتكه بمعنى عدم الجريان على قانون العبوديّة.

وبالجملة ، فالعاصي والمتجرّي يستحقّان العقاب على أعمالهما الاختياريّة وهي كونهما بصدد الطغيان ، ومصادفة الواقع وعدمها أمران خارجان عن أفعالهما الاختياريّة فلا معنى لتعليق العقاب عليها أصلا ، فافهم.

(نعم ، يمكن أن يفرّق بين العاصي والمتجرّي بأمرين :

أحدهما : مقدار العقاب الاخروي المعدّ لشارب الخمر مثلا متعمّدا ، كما ورد أنّه لا يشرب من الكوثر وإن تاب (٢) فمثل هذا لا يترتّب في حقّ المتجرّي لعدم شربه الخمر.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) لم نعثر عليه بعينه وإن ورد مضمونه في الوسائل ٢٥ : ٣٢٧ ، الباب ١٥ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث ١١ و ١٤.

٢٩

الثاني : الحدود الدنيويّة فإنّ الثمانين حدّ شارب الخمر لا المتجرّي) (١).

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا مجال لما قيل من أنّه بناء على العقاب للمتجرّي يلزم أن يعاقب العاصي بعقابين ، وذلك لأنّ العقاب إنّما هو على الامور الاختياريّة ، ومصادفة الواقع ليست منها ، فعقاب العاصي كعقاب المتجرّي لا أنّ له عقابين. كما أنّه لا مجال لما ذكره الميرزا النائيني (٢) من لزوم كون العقاب على القصد لعدم كون العقاب على القصد ، وإنّما هو على الأعمال الاختياريّة الصادرة من العبد في مقام الطغيان على المولى والسيّد.

(وقد ذكر الآخوند قدس‌سره في كفايته أنّ الفعل المتجرّى به ليس قبيحا وإن استحقّ العبد المتجرّي العقاب وذكر أنّ العقاب على عزمه واختياره ، ثمّ حيث بنى على أنّهما ليسا بالاختيار وإلّا لتسلسل أجاب بالالتزام بحسن العقاب عليهما وإن لم يكونا بالاختيار كما في العاصي فإنّ مصادفة المعصية للواقع ليس باختياره ثمّ انجرّ قدس‌سره إلى باب عظيم (٣).

ولا يخفى أنّ هذا الكلام مبنيّ على كون العزم والاختيار من الصفات لا من الأفعال وأنّ العقاب عليهما ، وهما باطلان فإنّ العزم والاختيار من أفعال الإنسان الاختياريّة بمعنى كون فعلها وتركها بيده ، مع أنّ العقاب ليس عليها وإنّما هو على الفعل الخارجي الّذي به هتك المولى والعزم بصرفه لا هتك فيه ، وإلّا لزم العقاب حينئذ عليه وإن لم يفعل خارجا) (٤).

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) انظر فوائد الاصول ٣ : ٤٦ ـ ٥٠.

(٣) انظر كفاية الاصول : ٢٩٨ ـ ٣٠٢.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٠

[تنبيهات التجرّي]

بقي هنا امور ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل : ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره بعد أن حكم بقبح الفعل المتجرّى به عقلا أنّه ليس محكوما شرعا بالحرمة ، لأنّ مقطوع الخمريّة بالنسبة إلى الخمر الواقعي وإن كان بينهما بحسب الأمر والواقع عموما من وجه ، إذ يجوز أن يؤخذ مقطوع الخمريّة موضوعا لحكم آخر فيجوز أن يكون حكم الخمريّة الحرمة وحكم مقطوع الخمريّة الحرمة أيضا ، نظير الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالموضوعات الّتي بينها عموما من وجه ، مثل ما لو ورد : أكرم هاشميّا وأكرم عالما ، فكذلك مقامنا يحكم الشارع بحرمة الخمر الواقعي وبحرمة مقطوع الخمريّة ثانيا ، فهو ممكن في نفسه إذ يعقل أن يكون خمر ليس بمقطوع الخمريّة ، وأن يكون مقطوع الخمريّة وليس خمرا واقعا ، وأن يجتمعا ، فجعل الحكمين وإن كان في نفس الأمر والواقع ممكنا إلّا أنّه بالنسبة إلى المكلّف غير ممكن بخصوص المقام ، إذ أنّ القاطع لا يرى أنّ قطعه مخالف للواقع فهو يرى الخمر الواقعي ويرى أنّه محكوم بحكمين أحدهما حكم الخمر الواقعي والثاني حكم مقطوع الخمريّة ، وهذا يؤدّي إلى أن يكون جعل الحكم بحرمة التجرّي مؤدّيا إلى اجتماع المثلين فأحال حكم الشارع بالحرمة في مقام التجرّي بأدائه إلى اجتماع المثلين (١).

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّه مختصّ بالقطع بالحكم ، وأمّا القطع بالموضوع فلا يؤدّي إلى اجتماع المثلين ، لأنّه قد يقطع بالخمر وحكم مقطوع الخمريّة ولا يعلم بحكم الخمر أصلا وقد يعلم حكم الخمر ويقطع بالخمر ولكنّه لا يعلم حكم مقطوع الخمريّة ، وحينئذ فلا يكون الجعل مؤدّيا إلى اجتماع المثلين بنظر المكلّف أصلا لعدم علمه بالحكم الثاني حتّى يتنجّز.

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٢ : ٤٥ ـ ٤٦.

٣١

وأمّا ثانيا : فلأنّه يجوز أن يكون المقام من قبيل العموم المطلق لا العموم من وجه ، وحينئذ فجعل حكمين أيضا ممكن كما في نذر الصلاة الواجبة الّتي قد اتّفق تقريبا على انعقاده والتزم فيه بتأكّد الطلب وحينئذ فمقامنا من هذا القبيل ، وحينئذ فيجوز أن يحرّم الشارع مقطوع الخمريّة ولا يلزم اجتماع المثلين ، بل يلتزم بالتأكّد كما التزم به في غير المقام كما ذكرنا. فظهر أنّ ما ذكره قدس‌سره لاستحالة جعل الحرمة شرعا للفعل المتجرّى به غير مرضيّ ، ولكن الوجه ما ذكرناه نحن من عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وعدم إمكان حكم الشرع بالنسبة إلى خصوص صورة التجرّي واستلزامه التسلسل بالنسبة إلى مطلق المقطوع ، فافهم.

الثاني من الامور : ربّما يستدلّ على حرمة التجرّي شرعا باتّفاق الأصحاب على عدم إعادة من سافر مغرّرا بنفسه فصلّى تماما وانكشف عدم التغرير بسفره (١) فيقال : إنّ التجرّي معصية فسفره تجرّي ، وحيث إنّ التجرّي محرّم لزمه الإتمام. كما أنّه قد يستدلّ على التحريم أيضا بمن خاف ظنّ ضيق الوقت فلم يصلّ ثمّ انكشف أنّه واسع وليس بضيّق فإنّ الإجماع قائم على أنّه آثم (٢) وليس إلّا لأنّه متجرّي وإلّا فلم يترك واجبا.

ولا يخفى عليك ما في الاستدلال بهذين ، فإنّ وجوب الإتمام في الأوّل ليس من جهة التجرّي وإنّما هو لوجود موضوعه وهو ظنّ الضرر ، فإنّ الموضوع لوجوب الإتمام كونه مغرّرا بنفسه ، والتغرير حاصل في المقام ، (وتفصيل ذلك أنّ الضرر المظنون إن كان هلاكا لنفسه أو هتكا لعرضه أو ذهاب مال مؤمن فإنّ احتمال الضرر موجب لتحريم السفر ، لكون السفر منافيا للحفظ الواجب عليه فهو معصية بنفسه ، وإن لم يكن كذلك يكون من صغريات التجرّي ولا إجماع حينئذ على الإتمام ،

__________________

(١) انظر الفرائد ١ : ٣٨.

(٢) انظر المنتهى ٤ : ١٠٧ ، وكشف اللثام ٣ : ١٠٩ ، ومفتاح الكرامة ٢ : ٦١.

٣٢

بل الأقوال فيه أربعة : كون العبرة بالمعصية الواقعيّة ، أو الاعتقاديّة ، أو إحداهما ، أو بهما معا ، كما هو الظاهر ، إذ المعصية المأخوذة في الأخبار لا تصدق إلّا على الواقع الواصل. وإن كان الضرر ذهاب مال ـ كما في الكمارك ـ فالقطع به لا يقتضي حرمة السفر فضلا عن الظنّ) (١).

والإثم في الثاني من جهة أنّ موضوعه خوف الفوات الحاصل مع قيام الظنّ على ضيق الوقت ، فلا ربط لهما بالتجرّي أصلا ، فافهم.

(وإن شئت فقل : إنّ احتمال الضيق يقتضي أيضا المبادرة ، لأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. ودعوى الإثم لو ترك وانكشف حينئذ سعة الوقت ممنوعة أشدّ المنع) (٢).

الثالث : أنّه ربّما يستدلّ على حرمة الفعل المتجرّى به شرعا بما دلّ على أنّ الناس يعاملون بنيّاتهم وأنّ لكلّ امرئ ما نوى ، بتقريب أنّها دالّة على حرمة نيّة المعصية ، فيعارضها ما دلّ على العفو عن نيّة السوء وأنّها لا تكتب ، فيجمع بينها بحمل الأخبار الدالّة على التحريم والعقاب على ما إذا شرع بعد نيّته بمقدّمات العمل المحرّم ، وحمل ما دلّ على العفو على ما إذا لم يشرع في مقدّمات العمل المحرّم ، فينتج الجمع حرمة ما اشتغل المكلّف بمقدّماته ، والمتجرّي المفروض أنّه اشتغل بالمقدّمات وأتى بذي المقدّمة أيضا فيكون محرّما (٣).

والجواب أوّلا : أنّ هذا الجمع جمع تبرّعي لا شاهد له فهو غير مقبول ، بل ينبغي الجمع بينها بحمل الاولى ـ وهي ما دلّت على العقاب ـ على ما إذا لم يرتدع من نفسه بل ارتدع بأمر خارجي قسرا عليه ، وحمل الثانية وهي ما دلّت على العفو على ما إذا ارتدع بنفسه. وشاهد هذا الجمع هو الخبر المرويّ عن النبيّ في الرجلين يقتتلان

__________________

(١ و ٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) انظر القواعد والفوائد ١ : ١٠٧ ، والفرائد ١ : ٤٨ ـ ٥٠.

٣٣

فيقتل أحدهما صاحبه ، القاتل والمقتول في النار ، قيل : هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لأنّه أراد قتل صاحبه (١). ومعلوم أنّ المقتول لم يرتدع من قبل نفسه ، بل ارتدع لأمر خارجي وهو قتله. وحينئذ فيخصّص ما دلّ على العفو بهذه الرواية ، فيختصّ العفو بمن ارتدع من قبل نفسه فيكون خبر العفو أخصّ فيقدّم على خبر العقاب لأخصيّة اللاحقة.

(ولكنّا راجعنا رواية القاتل والمقتول الّتي هي شاهد هذا الجمع وإذا هي في تحريم مقاتلة المسلم للمسلم وهما مقاتلان ، فهما عاصيان لا متجرّيان ، فإنّ إخافة المؤمن بالنظر الشرور حرام فضلا عن مقاتلته ، فلا شاهد للجمع بين الطائفتين المتعارضتين من الأخبار ، إلّا أنّ المهمّ إنّا لم نجد في الأخبار ما يدلّ على العفو عن نيّة السوء وإنّما الموجود أنّ نيّة السيّئة لا توجب كتابة نفس السيّئة ، بل فيها أنّه لو عمل نفس السيّئة لا تكتب حتّى تمضي تسع ساعات من غير توبة. فما دلّ على العقاب بنيّة السوء ليس له معارض ، إلّا أنّه لا يدلّ على حرمة نفس الفعل الخارجي المتجرّى به كما هو محلّ الكلام ، بل ولا على حرمة نفس النيّة ، إذ العقاب بحكم العقل وهو مسلّم ، وإنّما الكلام في التحريم) (٢).

وثانيا : لو سلّمنا الجمع بتلك الطريقة الاولى فيختصّ التحريم بمن شرع في مقدّمات الحرام إلّا أنّ المتجرّي لم يشرع في مقدّمات الحرام ، وإنّما شرع بمقدّمات المباح في الواقع وإن تخيّل أنّها مقدّمات حرام.

وثالثا : أنّ هذه الأخبار إنّما دلّت على العقاب فلا دلالة لها على التحريم الّذي نفيناه ، وإنّما يدلّ على العقاب وقد سلّمناه ، فلا مجال للإيراد علينا بهذه الأخبار. نعم من نفى العقاب تكون هذه الأخبار ردّا عليه ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ١١٣ ، الباب ٦٧ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث الأوّل ، مع تفاوت يسير.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٤

الثالث من الامور : أنّه ذكر صاحب الفصول قدس‌سره بعد أن اختار حرمة الفعل المتجرّى به وترتّب العقاب عليه جريان التجرّي مع الأحكام الخمسة ، وأنّه ربّما يكون محرّما حرمة شديدة إذا صادف الحرام الواقعي ، وقد تكون حرمته أخفّ إذا صادف ما تخيّله حراما مكروها ، وقد يكون مباحا فتكون حرمته أخفّ ، وقد يكون مستحبّا وواجبا فربّما تكون مصلحته بمرتبة توجب اضمحلال المفسدة الحاصلة من التجرّي كما إذا تخيّله عدوّا للمولى ومع ذلك تجرّى فلم يقتله وبعد ذلك انكشف أنّه نفس المولى مثلا (١).

ولا يخفى أنّ كلامه قدس‌سره مبنيّ على مقدّمات ثلاث :

الاولى : أنّ التجرّي يمكن انفكاك القبح عنه.

الثانية : أنّ المصادفة للواجب ترفعه.

الثالثة : أنّ العبد في صورة مصادفة العمل المتجرّى به للواقع يستحقّ عقابين :

أحدهما على تجرّيه ، الثاني على المفسدة الواقعيّة.

ولا يخفى عليك أنّ هذه المقدّمات الثلاث باطلة كلّها.

توضيح بطلان الاولى : أنّ التجرّي هو عبارة عن كون العبد في مقام الطغيان على المولى ، ولا يخفى أنّه حينئذ ظالم للمولى ، لعدم توفيته حقّه ، والظلم لا ينفكّ عن القبح عقلا في العمليّات ، كما لا ينفكّ اجتماع الضدّين عن الاستحالة عقلا في النظريّات. نعم المصلحة والمفسدة قد ينفكّان عن العمل لكن عنوان الظلم لا ينفكّ عن التجرّي ، فلا ينفكّ التجرّي حينئذ عن القبح أصلا.

ثمّ لو تنزلنا وسلّمنا إمكان انفكاك القبح عن التجرّي فإنّما يكون ذلك بامور اختياريّة للمتجرّي ، ومصادفة الواجب وعدمها لا يصلحان لذلك أصلا ، لأنّهما ليسا باختياره قطعا.

__________________

(١) انظر الفصول : ٤٣٢.

٣٥

ومنه يظهر الجواب عن الثالثة فإنّ المتجرّي والعاصي سواء في كونهما في مقام الظلم والهتك للمولى والخروج عن حدوده ، فاستحقاقهما للعقاب سواء. وأمّا مقدار العقاب فأمره بيد المولى (مع أنّ في صورة مصادفة قطعه للواقع لا تجرّي وإنّما هو عصيان ، وعلى تقدير تحقّق التجرّي لا مقتضي للتداخل) (١).

في القطع الطريقي والموضوعي بأقسامه

وفيه مباحث : الأوّل في الطريقي ، والكلام في أنّه يمكن أن يؤخذ القطع الطريقي في موضوع حكم نفسه أو مثله أو ضدّه ، والمهمّ في هذا المبحث هو إبطال شبهة الأخباريّين حيث زعموا أنّه لا يجوز التعويل على القطع الغير الحاصل من الكتاب والسنّة ، فإنّهم زعموا أنّ الشارع منع عن اتّباع القطع الّذي لا يحصل من الكتاب والسنّة.

وقد دفعوا شبهتهم بأنّ القطع لا يمكن أن ينهى عنه الشارع بعد أن بيّنّا أنّ طريقيّته ذاتيّة له وأنّ حجيّته من اللوازم الذاتيّة الّتي لا ينفكّ عنه ، واستدلّوا على عدم إمكان أن ينهى عنه الشارع بأنّ القاطع إن نهاه الشارع عن العمل بقطعه فنهيه يؤدّي إلى اجتماع الضدّين في الواقع إن كان القطع مصيبا ، وفي نظر القاطع إن كان مخطئا وكلاهما محال ، (لأنّ الحكم الّذي ليس قابلا للبعث والزجر فجعله لغو) (٢). كما أنّه لا يمكن أن يؤخذ في موضوع حكم نفسه فيقال : أيّها القاطع بالوجوب يجب عليك الواجب الّذي قطعت بوجوبه لأدائه إلى الدور ، وحينئذ فلا يمكن للشارع أن ينهى عن كلّ قطع من أيّ طريق كان لاستحالة ذلك كما بيّناه ، ولا يمكنه أن يجعل الوجوب على القاطع بالوجوب. هذا كلّه بالنسبة إلى عمل القاطع نفسه ، وأمّا بالنسبة إلى عمل غيره كالمقلّد فيمكن أن يدّعى ذلك.

__________________

(١ و ٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(١ و ٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٦

لكنّ الميرزا قدس‌سره أنكر الاستحالة وادّعى الإمكان إلّا أنّه أنكر الوقوع ، بل سلّمه في خصوص القطع الحاصل من القياس فقط (١) ، لدلالة خبر أبان (٢) على المنع عن اتّباع القطع الّذي يحصل من القياس إمّا بنحو الشرطيّة أو بنحو المانعيّة وأنكر الدليل على المنع عن غيره ، فافهم وتأمّل.

فيقع الكلام أوّلا في ثبوت نسبة هذا الكلام إلى الأخباريّين كلّية أو بنحو الموجبة الجزئيّة فنقول : ظاهر كلام المحدّث الاسترآبادي هو النهي عن اتّباع الظنّ الغير الحاصل من الكتاب والسنّة (٣) وكذا ظاهر كلام جملة من الأخباريّين ذلك (٤) ولكن ظاهر كلام من قسّم القطع إلى الضروري والنظري وأنّ الضروري يتّبع على كلّ حال وأنّ النظري إنّما يتّبع إذا كان طريق القطع خصوص الكتاب والسنّة هو النهي عن اتّباع القطع الغير الحاصل من الكتاب والسنّة ، فثبت موجبة جزئيّة أنّ من الأخباريّين من يقول بأنّ القطع الغير الحاصل من الكتاب والسنّة لا يجوز العمل على طبقه (٥).

ذهب الميرزا النائيني (٦) إلى أنّ النهي عن القطع الغير الحاصل من الكتاب والسنّة أمر ممكن إلّا أنّا نطالب الأخباريّين بالدليل المانع ، وقد ذكر قدس‌سره في وجه الإمكان أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد كما مرّ ذكره تقابل العدم والملكة ، فالإطلاق عدم التقييد ممّا من شأنه وقابليّته التقييد ، والتقييد عدم الإطلاق ممّا من شأنه الإطلاق ، فإذا استحال أحدهما استحال الثاني. وحينئذ فخطاب المولى وقوله : «يجب الصلاة

__________________

(١) فوائد الاصول ٢ : ١٣ ـ ١٤.

(٢) الوسائل ١٩ : ٢٦٨ ، الباب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث الأوّل.

(٣) انظر الفوائد المدنية : ١٢٨ ـ ١٣١.

(٤) انظر شرح التهذيب للجزائري : ٤٧ (مخطوط) ، والدرر النجفية : ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٥) راجع الهامش ١.

(٦) انظر فوائد الاصول ٢ : ١٢ ـ ١٤.

٣٧

على القاطع بوجوب الصلاة» إذا استحال ؛ لأنّ تعليق الوجوب على القاطع يوجب أن يتحقّق القاطع في الخارج حتّى يتوجّه إليه الوجوب ، والقاطع بالوجوب يرى الواقع فيعمل على طبقه من دون جعل الوجوب عليه ، فجعل الوجوب عليه يوجب اجتماع المثلين بحسب نظر القاطع وإن لم يوجبه بحسب الواقع أو في الواقع ، فإذا استحال تعليق الوجوب وتقييده بخصوص العالم استحال إطلاقه للعالم والجاهل أيضا ، لما ذكرناه من أنّ استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق.

وحينئذ فلا بدّ من كون الأدلّة الدالّة على وجوب الواجبات مهملة بالإضافة إلى العالم بها والجاهل ، فإذا كانت مهملة فإن كانت المصلحة قائمة بصدور الفعل من كلّ مكلّف علم به أم لم يعلم لا بدّ من بيان لذلك يسمّى بمتمّم الجعل كما وردت الأخبار الّتي ادّعى الشيخ الأنصاري قدس‌سره تواترها على اشتراك العالم والجاهل بالأحكام (١) وحينئذ فهذا الدليل يكون متمّما للجعل الأولي ومبيّنا أنّ موضوعه عامّ للعالم والجاهل (٢) ، وإن كانت المصلحة قائمة بإتيان هذا الواجب من خصوص العالم به دون الجاهل يلزم أن يأتي متمّم الجعل ويبيّن ذلك كما ورد بالنسبة إلى الجاهل بالقصر فأتمّ (٣) وأنّه ليس بمخاطب بالقصر كما هو مضمون ما ورد أنّه إن قرئت له الآية وفسّرت (٤).

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١١٣.

(٢) وقد أنكر الميرزا النائيني قدس‌سره وجود هذه الأخبار والظاهر أنّها متواترة معنى كما ذكره الشيخ الأنصاري فإنّ ما دلّ على الاحتياط دليل على اشتراك الحكم الواقعي ، وكذا ما دلّ على أنّ المخطئ في اجتهاده معذور ومأجور وما دلّ على وجوب السؤال والتعلّم والتعليم إلى غير ذلك من مضامين الأخبار. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

(٣) الوسائل ٥ : ٥٣٠ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٣ و ٤.

(٤) المصدر السابق : الحديث ٤.

٣٨

وحينئذ فإذا جاز أن يبيّن بمتمّم الجعل عموم الحكم أو تخصيصه جاز أن يبيّن بمتمّم الجعل أيضا مانعيّة القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة عن العمل به ، وليس هذا منعا عن حجّية القطع ، بل عن العمل على طبق المقطوع به. فالمنع عن العمل على طبق القطع الغير الحاصل من الكتاب والسنّة ممكن ، إلّا أنّ الكلام في أنّه واقع أم لا ، الظاهر عدم وقوعه لعدم الدليل المانع عن غير الحاصل من القياس كما تقتضيه رواية أبان. أمّا غير القطع الحاصل من القياس فلا دليل على المنع عنه أصلا.

ولا يخفى عليك ما في قوله : «إنّ استحالة التقييد تستدعي استحالة الإطلاق ، لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة» (فإنّ ذلك في مقام الإثبات والدلالة ، وأمّا في مقام الثبوت فتقابلهما تقابل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، فاستحالة أحدهما تستدعي ضرورية الثاني ، والكلام فيه لا في مقام الإثبات ، فإذا استحال الجعل لخصوص العالم كان الجعل للعموم حينئذ ضروريّا) (١). ومع أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد وإن كان تقابل العدم والملكة إلّا أنّ تقابل العدم والملكة ليس دائما إذا استحال أحد الأمرين استحال الثاني ، وذلك لأنّ الملكة تارة تعتبر بالنسبة إلى نفس الشخص فاستحالة أحد المتقابلين توجب استحالة الآخر ، مثلا لو قسنا البصر أو العمى بالنسبة إلى خصوص هذا الجدار فاستحالته موجبة لاستحالة الثاني المقابل له ، وقد يكتفى في هذا التقابل بوجود الملكة في النوع لا في الشخص ، مثلا يقال للعقرب : أعمى ، فاستحالة البصر في حقّه لا يوجب استحالة العمى ، لأنّ الملكة موجودة في نوع الحيوان ، وقد مثّلنا فيما تقدّم باستحالة الجهل على الله تعالى فهل توجب استحالة العلم؟ نعوذ بالله من ذلك ، مع أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة قطعا ، وكما في جهل الممكن بذاته تعالى فاستحالة العلم بذاته تعالى هل توجب استحالة الجهل؟ كلّا ، وما ذلك إلّا لأنّ نوع الموجود المدرك في الأوّل قابل للجهل

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٩

فلذا يوصف «الله» تعالى بالعلم باعتبار ملكة الجهل بالنوع ، وكذا جهل الممكن بذات الواجب باعتبار قابليّة النوع للعلم بالمدركات وإن لم تكن لها قابليّة بالنسبة إلى خصوص هذا المدرك.

إذا عرفت هذا عرفت أنّ باب الإطلاق والتقييد من هذا القبيل ، فاستحالة الإطلاق توجب ضرورة التقييد كما أنّ استحالة التقييد توجب ضرورة التقييد بالطرف المقابل أو ضرورة الإطلاق ، وحيث إنّ التقييد بالطرف المقابل مستحيل أيضا إذ لا يمكن أن يقال : «أيّها الجاهل بالوجوب للصلاة يجب عليك الصلاة» فيتعيّن أن يكون الإطلاق ضروريّا ، مضافا إلى أنّ الإهمال لا يمكن في الواقعيّات ، لأنّه يستحيل أن يكون نفس الحاكم جاهلا بموضوع حكمه. ولذا التزموا بأنّ الأحكام العقليّة لا يعقل فيها الإهمال ، لأنّ الحاكم هو العقل ولا يمكن أن لا يعلم موضوع حكمه (١).

وما ذكره الميرزا النائيني من استشهاده لمتمّم الجعل الّذي يبيّن أنّ الحكم يختصّ بخصوص العالم بمسألة الجهر والإخفات والإتمام في موضع القصر (٢) فهي أجنبيّة عمّا يدّعيه من تقييد الحكم المهمل ، بل هي إنّما تدلّ على أنّ ما أتى به مجزيا لا أنّه مكلّف بالجهر في صورة العلم بالحكم ، بل ظاهره الإجزاء وأنّه مخاطب بعمل غير هذا لكن هذا يجزي عن ذاك (بقرينة قول السائل في الرواية أجهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه أو أخفت فيما لا ينبغي الإخفات فيه (٣)؟ وفيه دلالة على شمول الحكم الواقعي له ، وقد أقرّه الإمام على معتقده ولم يردعه) (٤). ولذا يلتزمون ظاهرا باستحقاقه العقاب غاية ما هناك أنّه ليس عليه قضاء ولا إعادة ، فافهم.

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٢ : ١٤.

(٢) انظر فوائد الاصول ٢ : ١٣.

(٣) الوسائل ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة ، الحديث ١ و ٢.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٠