من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

ثورتهم. والعبودية للعلم تجعل العلم بلا هدف ، بل بهدف استغلال البشر ، وسحق القيم المعنوية عنده. كذلك القدرة إذا أصبحت معبودة بذاتها لا بصفتها اسما من أسماء الله الحسنى ، فان القدرة المنطلقة بلا حكمة تستهوي الناس وتجعلهم يطلبونها بشتى الوسائل ، حتى بفداء القيم.

ومن هنا تركز الادعية المأثورة على تذكر الأسماء الحسنى بأنها منسوبة الى الله وجاء في بعض الادعية : ـ

[اللهم اني أسألك باسمك يا الله يا رحمن ، يا رحيم ، يا كريم ، يا مقيم ، يا عظيم ، يا قديم ، يا عليم ، يا حليم ، يا حكيم ، لا اله إلّا أنت ، الغوث الغوث ، خلصنا من النار يا رب].(١)

٢ ـ [اللهم اني أسألك باسمك يا علي يا وفي ، يا غني ، يا ملي ، يا صفي يا رضي ، يا زكي يا أبدّي ، يا قوي يا وليّ].(٢)

٣ ـ [اللهم إني أسألك من بهائك بأبهاه وكلّ بهائك بهيّ ، اللهم إني أسألك ببهائك كله ، اللهم إني أسألك من علمك بأنفذه وكلّ علمك نافذ ، اللهم إني أسألك بعلمك كلّه].(٣)

٤ ـ [اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء ، وبقوتك التي قهرت بها كلّ شيء ، وخضع لها كلّ شيء ، وذلّ لها كلّ شيء ، وبجبروتك التي غلبت بها كلّ شيء ، وبوجهك الباقي بعد فناء كلّ شيء ، وبأسمائك التي ملأت أركان كلّ

__________________

(١) من دعاء الجوشن الكبير في مفاتيح الجنان.

(٢) من دعاء البهاء في مفاتيح الجنان.

(٣) دعاء كميل للإمام علي (ع)

٥٠١

شيء]. (١)

إنّ أسلوب الادعية يكرس قيمة الأسماء التي تذكر تارة بالعموم وتارة بالتحديد ، ولكن تبقى قيمة التوحيد فوق قيمة أسماء الله ، لان هذه الأسماء تتصل بالتالي بالله سبحانه.

موقف التصديق :

[١٨١] وحين يدعو المؤمن ربه بأسمائه الحسنى يجعل الحق مقياسا وقيمة ، لأنه بمعرفة الله سبحانه ومعرفة أسمائه الحسنى يستوعب البشر جوانب الحق.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)

والملاحظ في الآية أن الله سبحانه عبر عن أولئك الذين يحكمون بالحق ب (الأمة) باعتبارهم طائفة منتظمة تحت قيادة إمام ، ثم إنهم يهدون الناس الى الحق ، وهم بدورهم يأخذون بالحق ويجعلونه مقياسا لتطبيق العدالة في المجتمع.

موقف التكذيب :

[١٨٢] وفي مقابل هؤلاء جماعة يكذبون بآيات الله التي تهدي الى الحق ، وجزاء هؤلاء استدراجهم حتى يصلوا الى الدرك الأسفل من حيث لا يعلمون]

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)

والاستدراج هو : إعطاء الطرف الآخر فرصة التقدم حتى يقع في الفخ مفاجئة ، لذلك لا يجوز للبشر أن يستريح على المهلة التي يعطيها الله له ، أو على النعم التي

__________________

(١) دعاء السحر

٥٠٢

تترى عليه ، أو ما أشبه .. فان المهلة أو النعمة قد تكون مصيدة له ، وفخا سرعان ما يقع فيه.

[١٨٣] (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)

أيّ أعطيهم مهلة ، وذلك خطة لأخذهم أخذا لا يقدرون على الفرار منه ، لان خطة الله متكاملة ومحكمة.

٥٠٣

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)

____________________

١٨٤ [جنّة] : الجنة الجنون وأصله الستر.

١٨٧ [الساعة] : الساعة التي يموت فيها الخلق.

[أيّان] : متى وهو سؤال عن الزمان على وجه الظرف للفعل.

[مرساها] : الارساء الإثبات ، ومرسيها مثبتها ، ورسا الشيء يرسو فهو رأس إذا ثبت.

[حفي] : الحفيّ المستقصي في السؤال ، واحفي فلان بفلان في المسألة إذا أكثر عليه وألحّ.

٥٠٤

عسى أن يكون قد اقترب الأجل

هدى من الآيات :

زود الله البشر بأدوات التفكر ليكتشف الحقيقة بنفسه ، وإذا لم يفعل فان ضلالته مؤكدة ، وعن طريق التفكير يبلغ البشر الى طبيعة الأشياء والظواهر ، فظاهرة الرسالة لو تفكر المرء فيها عرف انها حق ، وان الرسول ليس به جنون ، بل ان ما يرى في هذه الظاهرة من مظاهر الانتفاضة والتغيير فانما هو شهادة على واقع جديد سيأتي وراءه ، والرسالة إنذار واضح بوقوع ذلك الواقع.

وكذلك لو تفكر المرء في ملكوت السماوات والأرض وما فيهما من عظمة وفخامة ، ولو تفكر في خلق أي شيء مخلوق وما فيه من متانة ولطف ودقة وإتقان ، آنئذ يعرف أن هذا النظام المتكامل يعتمد على هيمنة قوة أعلى منه ، وأن هذا النظام يهدف أولا : إمتحان البشر ، وثانيا : أن المدبر له لو شاء ترك النظام يتهاوى وهذه اللحظة محتملة في أي وقت. وإذا تفكر البشر في الرسالة ، ثم تفكر في الخليقة لآمن بها ، وإذا تولى جحودا فلا شيء آخر يمكن أن يؤمن به بعقله ، كيف والهدى من الله

٥٠٥

وقد تولى عنه؟ ومن يضلله الله يمنع هداه عنه ، فان طغيانه واستكباره سيجعله قابعا في ضلالته الى الأبد.

وهم يسألون الرسول عن الساعة : متى ترسو عليها سفينة الكون؟

تلك الساعة الثقيل وقعها في السماوات والأرض ، إنها لا تأتي إلّا مفاجئة وعلمها عند الله ، وأكثر الناس لا يعلمون.

بينات من الآيات :

لا للتبرير :

[١٨٤] سبق الحديث في آية (١٧٣) على ان على البشر مسئولية المعرفة والتصميم ، وانه لا يمكنه تبرير فساده بالغفلة والتقليد ، وها هو القرآن يذكرنا مرة اخرى بمسؤولية التفكير الوسيلة الوحيدة لمقاومة الغفلة :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا)

ولأهمية التفكير وضرورته الفطرية يتساءل الله : لماذا لم يتفكروا؟

(ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)

إن الرسول يخبرهم عن أشياء جديدة غير مألوفة ولذلك فيمكن أن يكون هذا في نظرهم جنونا عارضا أو إنذارا مبينا ، وبالتفكير نعرف المتانة في الكلام ، والقوة في الدليل ، والسلامة في النية ، وشواهد الوجدان والعقل مما يدل جميعا على ان كلام الرسول ليس جنونا بل هو إنذار حق وواضح.

[١٨٥] ذلك الإنذار الذي يحذر من المصير الذي ينتهي اليه المجرمون ، يمكن أن

٥٠٦

نسمعه من الرسول ومن لسان الكون أيضا ، الذي ينطق بالنظام الدقيق والعظمة المتناهية.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

وما فيهما من عظمة تدل على قدرة الخالق وهيمنته ..

(وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ)

وما في كلّ شيء ينظر اليه الإنسان من خلق الله دلالة واضحة على دقة النظم ، وإتقان الخلق ، وحسن التدبير.

إن النظر في عظمة الكون ، وفي أيّ شيء مخلوق ، يهدينا الى الله الذي يهيمن على تدبير الكون ، والله في أيّ لحظة يمكن أن يسحب تدبيره عن الكون فيتهاوى ، وإنه لم يخلق الخلق عبثا وبلا هدف ، بل بحكمة بالغة هي : ابتلاء الإنسان ، واختبار تحمله لمسؤولية التفكر ، وارادة التصميم ..

(وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)

إذا تركوا هذا الحديث الذي هو إنذار مبين ، ويشهد عليه النظر في السماوات والأرض وفي أيّ مخلوق صغيرا أو كبير من خلق الله سبحانه ، هل هناك حديث أفضل منه يؤمنون به؟

[١٨٦] الذي لا يهتدي بهدى الله فان الدليل الوحيد له هو الضلالة الدائمة. لماذا؟

لان عدم ايمانه بهدى الله ناشئ من طغيانه على الله والحق ، وهذا الطغيان باق معه ويسبب له العمه والضلال.

٥٠٧

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

متى تقوم الساعة؟

[١٨٧] إذا كانت شواهد الكون تدل على أن النظام الذي يمسك السماوات والأرض سوف ينتهي في يوم ، وان سفينة الكون سوف ترسو في نهاية المطاف على شاطئ ، فان هذا السؤال سوف يطرح أيّان مرسى هذه الساعة؟ متى؟ وكيف؟ :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها)

ومتى تقف عند الشاطئ النهائي.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً)

يبدو لي : أن ساعة كلّ طائفة تنتهي في حين ، فما ذا ينفعها حين ينتهون؟ إن الحياة تستمر في غيرهم ، إن ساعة قوم لوط رست عند ما نزل العذاب عليهم في صورة زلزال عظيم ، وان ساعة فرعون وقومه قد حلت حينما أغرقوا في اليم ، وهذه الساعة تأتي مفاجئة ودون إنذار.

وربما يشير الى ذلك ضمير (كم) ، ذلك لان نهاية الكون لا تأتي الجميع ، بل فقط أولئك الذين يتواجدون آنئذ.

ويبقى السؤال : لما ذا يطرح الناس هذا السؤال على الرسول؟ أو ليسوا هم المسؤولون أولا وأخيرا عن أنفسهم؟ أو لا يهمهم أمر نهايتهم وبلوغ ساعتهم ، أو ان الرسول حفي بها .. مطلع عنها؟

(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها)

٥٠٨

يستقصي السؤال عنها ، ويطلع بجوانبها ، بينما هم المسؤولون وعليهم التقصي كما الرسول.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ)

فهو الذي يقرر متى ينتهي وقت الامتحان ، ويبلو واقع كلّ واحد منا ، فيقرر بمشيئته المطلقة ميعاد الجزاء ..

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

هذه الحقيقة الواضحة وهي : أن مصير البشر بيد الله العزيز الحكيم ، لا بيدهم أو بيد الرسول (صلّى الله عليه وآله).

٥٠٩

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلآ اَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونْ (١٩٢)

٥١٠

الإنسان : قصة البداية

هدى من الآيات :

لو تدبر الإنسان في كتاب الحياة لعرف الحقيقة ، كذلك لو تدبر في نفسه وما فيها من علائم النقص وآيات الخلقة.

من أنا؟ وكيف خلقت؟ وما أملك؟ ومن يملك أمري؟

إنني موجود لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلّا في حدود الحرية والامكانيات التي وفرها الله لي ، ولا أعلم الغيب بدليل اني أخسر كثيرا بسبب جهلي بالمستقبل وبالغائب عن نظري ، وكثيرا ما تحمل الحوادث السوء لي وانا استقبلها جهلا ، والإنسان بحاجة الى الرسول الذي ينذره بالمستقبل ويجعله يتحذره ، ويعرّفه كيف ينتفع بالمستقبل.

كيف خلقني الله؟

لقد غرز الله شهوة الجنس في والدي ، حيث خلقهما من نفس واحدة وجعل

٥١١

أحدهما يسكن الى الآخر ، ويتكامل وجوده النفسي والجسدي والمعيشي بالثاني ، وحين أتى الرجل زوجته حملت منه حملا سهلا لم تشعر بثقله حتّى انها كانت تقوم بأعمالها العادية ، حتى أثقلت بالحمل بعد فترة ، وهناك شعرا ـ هي وزوجها ـ بمسؤولية الطفل ودعوا الله أن يرزقهما صالحا غير فاسد ، وتعهدا بشكر الله ، ولكن حين رزقهما الله ولدا صالحا نسيا الله ونسبا ولادة الطفل الى بعض الشركاء ، دون أن يفكرا في أن الشركاء لا يملكون لهما نصرا ولا يمكن الانتصار لهما ، كما أنهم عباد مخلوقون ولا يقدرون على خلق شيء ، كما انهما نسيا تلك الحالة السابقة حيث توسلا عندئذ فقط بالله دون الشركاء!! لأنه في حالة الشعور بالخطر ينسى المرء الشركاء.

بينات من الآيات :

من هو الرسول؟

[١٨٨] من الرسول؟ هل هو شخصية متميزة جسديا؟

كلا .. إنه فقط يتميز بالرسالة الموحى بها اليه ، وبالاتصال بينه وبين ربه ، فما لديه إنما هو من الله سبحانه وبه.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ)

فحين أصاب بالسوء كأي بشر آخر ، وحين لا استكثر الخير لعدم معرفتي بالمستقبل ، فاني بشر مثلهم. نعم أعلم الغيب في حدود تعليم الله لي ووحيه عليّ ، كما أني أملك النفع وادفع الضر في تلك الحدود أيضا.

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

٥١٢

أما الذين لا يؤمنون فان الوحي لا ينفعهم إذ الوحي انما ينفع من يريد ويصمم على تطبيقه وتنفيذ مناهجه ، وإذا كان الرسول لا يملك نفعا ولا ضرا ، فكيف بسائر الناس؟ ومعرفة الإنسان بنقاط ضعفه تجعله يعود الى واقعه ويعرف انه مربوب مخلوق.

قصة الخلق :

[١٨٩] الآن لا أملك شيئا إلّا بقدر ما ملكني الله ، أما في الماضي فقد كنت نتيجة غريزة جنسية خلقها الله في والديّ ، وربما الوالدين لم يستهدفا من وراء الزواج ولادتي ، بل ربما أرادا قضاء شهوة جامحة!

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)

فلذلك يحن الواحد منا الى الآخر ، ويعطف عليه ويأنس اليه ، ولذلك أيضا لا فوارق بين البشر ونظيره البشر ، وخصوصا لا فرق بين الذكر والأنثى فرقا حقيقيا ..

(وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها)

فالرجل خلق متكامل مع الأنثى لذلك لا يسكن إلّا إليها ، ومن مظاهر السكن ، إن كلّ شخص يشعر بنقص حتى يكتمل ، بالزواج ، وآنئذ يكون بإمكان الطرفين تكميل حياتهما معا ، فاذا وفر الذكر للحياة المتكاملة : القوة ، والعزيمة ، وخشونة التحدي ، فان الأنثى توفر لها الرحمة ، والعاطفة ، ونعومة الرفق ، وكلما هو ضروري للتعاون ..

(فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ)

أيّ مارست أعمالها العادية بسهولة ويسر ، دون ثقل عليها من قبل الجنين ، الذي يتكامل في رحمها بسرعة ، أو ليس ذلك يدل على إتقان الصنعة ، ولطف

٥١٣

التدبير ، من قبل الرب الحكيم العليم ..

(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

إن الشعور بالثقل لا يلازم أبدا الشعور بالصعوبة ، إذ المرأة السليمة لا تشعر بصعوبة بالغة بسبب الحمل إلّا قبيل الولادة ، ولكن هذا الشعور إنما هو بهدف إشعارها بالمسؤولية القادمة ، وذلك للاستعداد لها وتوفير وسائل الراحة والامان للضعيف الجديد ، وهكذا نرى كيف يتغيّر الوالدان ويشعران بمسؤولية بالغة تجاه الوليد ، وأول طلبهم هو : أن يكون خلاصة حياتهما وفلذة كبديهما سالما وصالحا ، جسديا وروحيا ، ولفرط الاحساس بالمسؤولية ينسيان الشركاء المزيفين ويتوجهان الى الله ربهما ، مثلما ينسى البشر كل الشركاء في أوقات العسر الشديد ، بل ويتعهدان بالشكر لله ، والقيام بواجبات الوليد الجديد مثل : التربية السليمة ، والارتفاع الى مستوى الأب والأم إذا آتاهما صالحا ..

الإنسان والنسيان :

[١٩٠] ولكن سرعان ما ينسيا هذه التعهدات حيث يعودان الى الشركاء ، وهي كلّ القوى المادية التي تضغط على البشر باتجاهات منحرفة ، مثل المجتمع الفاسد ورمزه السلطة ، ومثل الثقافة الفاسدة ورمزها الأحبار ، والرهبان ، والشعراء ، ومثل الاقتصاد الفاسد ورمزه أصحاب المال ، والرأسمالية.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

ولذلك لم يطبق ناهج الله في تربية الأولاد ، بل اتّبعا الشركاء ، فافسداه اجتماعيا حينما اخضعا ، للطاغوت ، وأفسداه ثقافيا حيث سلماه بيد أدعياء العلم والدين وهما يعرفان فسادهم ، وأفسداه اقتصاديا حيث ربطاه بعجلة الرأسمالية.

٥١٤

بينما كان الواجب عليهما تربيته على أساس سليم ، وفصله عن سلبيات الشركاء أنى كانوا ، وتحريره لله وجعله مرتبطا به وبرسالاته ، ذلك الرب الذي أعطاهما إياه وجعله صالحا غير فاسد ، ولكنهما هما اللذان أفسداه،وكما قال الرسول(صلّى الله عليه وآله) :

كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه) (١)

والله أعلى من الشركاء ، والحق الموصى من عنده سوف يجرف غثاء الشركاء وزبدهم ، ويحرر الناس من يد الفاسدين.

قابلية الانهزام والاستعمار :

[١٩١] والناس لا يفكرون ما هي قوة الطاغوت ، أو قوة الرأسمالية ، أو علماء السوء؟ إنهم ضعفاء لولا تسليم الناس لهم ، وخضوعهم لسيطرتهم الظالمة ، إن هؤلاء الشركاء لا يخلقون شيئا بل هم الذين يخلقون ، يخلقهم الله ، فيسرقون إمكانات الناس ، ويفرزهم الوضع الفاسد.

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)

إن الطاغوت مخلوق لله ، ولكنه في الوقت ذاته يستغل جهل الناس وغفلتهم ، واطماع طائفة منهم وصغر نفوسهم ، يستغلها في خلق قوة ضاربة له يتسلط بها على المستضعفين ، فكيف يخضع البشر لبشر مثله مخلوق غير خالق؟ خلقه الله وصنعه الوضع الفاسد؟

[١٩٢] أنهدف من وراء اتباع السلطان ، أو التسليم للوضع الفاسد ، الركون الى

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ / ٢٨١ / ح ٢٢

٥١٥

قوته ونصرته في الوقت الذي لا يملك الشركاء قوة ونصرا ، بل إذا تدبرنا جيدا عرفنا : أننا نحن الذين ننصر الطاغوت ونعطيه السيطرة علينا ، بسبب سكوتنا عليه وخضوعنا له ..

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً)

إن الطغاة والفاسدين المفسدين من جلاوزتهم يزعمون أبدا : أن وجودهم واستمرار سيطرتهم يضمن للمجتمع الأمن والازدهار ، بينما لا يضمن الطغيان إلا الخراب والدمار ، لأنه يكبت طاقات الناس ، ويضعف إرادتهم ، فلا هم قادرون على عمارة بلدهم لان طاقاتهم مكبوتة ، ولا هم قادرون على المحافظة على بلدهم لأنهم ضعفاء الارادة.

لقد ثبت عليما : أن أبرز الأسباب المباشرة للتخلف هو : الديكتاتورية كما ان جيوش البلاد التي يسودها الطاغوت لم تقدر على الدفاع بمثل الجيوش الحرة ، وربما كان من أبرز أسباب هزيمة النازية ديكتاتوريتها ، بل أن الطاغوت أضعف من الناس العاديين لأنه يعتمد على قوة الناس في الدفاع عن شخصه ، بحيث لو تركه الناس تهاوى وسقط ، لذلك قال ربنا سبحانه :

(وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)

فحتى أنفسهم لا يستطيعون الدفاع عنها ، فكيف نعتمد عليها؟

٥١٦

وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)

٥١٧

لماذا يدعون عبادا أمثالهم

هدى من الآيات :

إن الشركاء الذين يدعون من دون الله لا يرجى هدايتهم ، لأنهم فاسدو الضمير ، ولذلك يجب أن يتركوا ، ثم لا بدّ أن يتحرر الناس من عقدة الذل تجاه الشركاء (الطاغوت وأعوانه من علماء السوء والأغنياء والجنود) لا بدّ أن يعرفوا أنهم عباد كما هم ، لا فرق ، وأنهم لا يستجيبون للناس ، وأن أعضاءهم مشلولة ، وانهم ضعفاء ، دعهم يجتمعون فإنهم لا يفعلون شيئا.

بينما الله ولي الصالحين من عباده ، قد نزل الكتاب يهدي الناس ، فكم هو الفرق بين من لا يهتدي وبين من يهدي الجميع؟!

أما الذين يدعوهم الناس لا يقدرون على الانتصار لأنفسهم ، فكيف ينصرونهم ، وإن قلوبهم قد اسودت حتى انهم لا يسمعون دعوة الإصلاح ولا يبصرون ، بالرغم من استخدامهم لعيونهم ظاهرا.

٥١٨

بينات من الآيات :

آخر الدواء الكي :

[١٩٣] إن أئمة الضلال الذين ينازعون الله سبحانه رداء الحاكمية إنهم قد هبطوا الى الفساد الى الحضيض ، ولذلك فان علينا قتلهم وهذا هو العلاج الوحيد لهم ، وحين يزعم بعض من البسطاء ان الطغاة يمكن ان يهتدوا ، فان هذا الزعم تبرير لتكاسلهم وتقاعسهم عن التمرد عليهم ، ولذلك فان القرآن الحكيم قد قضى على هذا التبرير السخيف بقوله سبحانه :

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)

فلا يجب أن تدعوهم الى الهدى ، فاذا لم يستجيبوا تثورون ضدهم كما فعل موسى (عليه السلام) ، بل يمكن ان يسبب ذلك في فشل خطط الرساليين.

[١٩٤] إن أئمة الضلال هم في واقع أمرهم بشر مثل الآخرين بل هم أقل ، لان الناس العاديين يتقبلون الهدى ، بينما الطغاة لا يستجيبون للهدى.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

أيّ ان كنتم صادقين في نسبة العقل والقدرة الى هؤلاء الشركاء ، ويحتمل أن يكون المراد من الآية الأصنام الحجرية التي لا تعقل وكذلك الآية التالية.

[١٩٥] إن هؤلاء أضعف من الناس العاديين لأنهم لا يقدرون على الاستفادة من أعضائهم بسبب تعودهم على استثمار الآخرين ..

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ

٥١٩

آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ)

من الأصنام البشرية كالطغاة ، أو الأصنام الحجرية ..

(ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)

أي ثم اعملوا جميعا ضدي وضد خططي ولا تمهلوني ، وهذا تحد صارخ لها ، ليعرف الجميع أنها أضعف من المقاومة فيتركونها ، إن الناس يغترون بقوة الأصنام وبقدرتها على حمايتهم من مكاره الطبيعة ، ومن مشكلات الحياة ، فيلتجئون الى الطغاة أو الأصنام ، ولا يعرفون انهم أضعف منهم في المقاومة لولا الاعلام المزيف والإرهاب.

من هو وليّ الصالحين؟

[١٩٦] أما ولي الصالحين ، ومعبودهم ، وناصرهم ، ومن هو أولى بهم ، فهو الله الذي ينزل الكتاب وضمّنه رسالة مفصلة تبلور عقولهم ، وتربي أنفسهم ، وتوضح مناهج الحياة ، وتنذرهم وتبشرهم رهبة ورغبة ..

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)

ولأنه نزل الكتاب فمن عمل به وكان صالحا فقد فاز بولاية الله ، بهدايته وقيادته ونصرته.

[١٩٧] وأما غير الله من سائر الأولياء لا ينصرون أحدا ولا حتى أنفسهم ينصرونها ، بل هم بدورهم يحتاجون الى النصرة.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ)

ومن دون اذنه ..

٥٢٠