من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

دور أكابر المجرمين

في تضليل الناس

هدى من الآيات :

البشر ميت ، ورسالة الله روح تبعث فيه الحياة ، وتعطيه نورا يتحرك به في الحياة الاجتماعية ، ولكن فريقا من أبناء البشر يرفضون هذه الحياة ، ويفضلون البقاء في الظلمات ، وذلك بسبب أنهم تعودّوا على سلوك معين ، وأنهم يستأنسون بذلك السلوك ويحبونه.

ومخالفة الرسالة قد تكون له عوامل فردية ، مثل عامل العادة ، وقد تكون له عوامل اجتماعية ومنظمة مثل : خطط السلطة الطاغوتية التي هي في واقعها تجمع يضم مجموعة من المجرمين ، ذات قيادة ماكرة ومخططة ، بيد أن خطط هذه القيادة تنعكس عليها ، ومن خططها تكبرها على الرسالة بسبب ادعائها أنها دون الرسول أولى بها ، وما دامت الرسالة لم تهبط عليها فانها سوف تكفر بها ، والله يقول : «اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ».

أما جزاء هؤلاء فهو الذّل والصغار والعذاب الشديد بسبب خططهم المضادة

١٨١

للرسالة.

ومن عوامل الكفر بالرسالة ضيق الصدر ، وقلة الاستيعاب ، وضعف الارادة ، وبالتالي الضيق والحرج.

والواقع ان ذلك يصيب قلب الفرد بسبب عدم الايمان ، ومن عوامل الايمان التذكر واستعادة الحقائق ، حيث يهتدي الإنسان بهما الى صراط الله الذي يوفر للبشر الاستقامة والسلامة ، والولاية الالهية (الدعم الالهي).

وانما يبلغ المؤمن هذه الاهداف بأعماله ، وليس بمجرد التذكر أو العلم والمعرفة.

بينات من الآيات :

أو من كان ميتا فأحييناه؟!

[١٢٢] كما ان البشر كان فاقدا للحركة والنمو ، وبالتالي الحياة ، حتى نفخ الله فيه روحا ، فأصبح بشرا سويا ، كذلك فهو فاقد للعلم والهدى حتى يحييه الله ، ويعطيه القدرة.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)

ان الله يحيي قلب البشر بالعقل والوحي ، وذلك لعله يستطيع أن يعرف ضره من نفعه ، ويعرف من يضره ومن ينفعه ، وكيف يتصرف مع الناس ، وينظم علاقته معهم.

بيد ان هناك من لا ينتفع بالحياة هذه ، فيبقى في ظلمات دون ان يخرج منها.

(كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)

١٨٢

اما السبب الذي يجعل الفرد يفضل الظلمات على النور فقد يكون العادة حيث يحب الفرد السلوك الذي كان ينتهجه حتى ولو كان شائنا.

(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

التنظيم الهرمي في جهاز الطغاة :

[١٢٣] العامل الثاني للكفر هو وجود ماكرين في المجتمع والمكر هو : التخطيط من أجل تضليل الناس بهدف وصول جماعة أو فرد لمصالحهم الشخصية ، وفي المجتمعات توجد دائما شبكة من المجرمين تجمعهم قيادة واحدة تعمل ضد مصلحة الامة. هذه الشبكة هي التي تشكل واقع السلطة الطاغوتية ، وهي تنشأ ، من فرد أو عدة أفراد زيّن الشيطان لهم ما كانوا يعملون من سيئات ، ثم نظمّوا أنفسهم في سلسلة هرمية على رأسها أكبر المجرمين.

(وَكَذلِكَ)

ربما الاشارة توحي بآخر الآية السابقة ، أو بها جميعا ، اي لان هنا جماعة تستحب العمى على الهدى ، فقد تشكلت منظمة في كل قرية للمجرمين.

(جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها)

وقيادة هذه المنظمة الماكرة انما هي لأكبرهم اجراما ، فالقيمة بينهم هي قيمة الاجرام ، والهدف لها هو المكر والتخطيط ضد الجماهير.

(وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ)

ان السلطة الطاغوتية حين تخطط ضد الجماهير ، فأمّا تثور ضدها الجماهير ، وتقضي عليها ، فيكون جزاؤها خزيا ، وعذابا أليما ، وإمّا تسترخي الجماهير ، فينزل

١٨٣

عليها وعلى السلطة عذاب الله فيدمرهم جميعا ، إذا فعاقبة المكر تعود على صاحبه إمّا وحده أو مع الآخرين.

والآية هذه تفضح طبيعة السلطة الطاغوتية ، وتبين أنها ليست سوى تجمع للمجرمين ، وأن قوتها تكمن في خططها الماكرة ، وأن قيادتها متمثلة في المجرم الأكبر ، وأن الأمة لو عرفت هذه الطبيعة للسلطة الطاغوتية ، إذا لتخلصت منها ، إذ ان المجرم لو كشف مكره جرد منه سلاحه وسهل القضاء عليه.

[١٢٤] من مكر هذه الفئة السالفة الذكر أنها تتعالى عن الحق ، بعد أن تضع على نفسها هالة من القداسة الباطلة ، وتنشر بين البسطاء هذه الفكرة الرعناء : لو كانت الرسالة صحيحة ، إذا لم يكن ربنا يختار لها الا واحدا منا نحن الكبار ، ولم يكن يفضل علينا واحدا من عامة الناس.

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ)

ولكن الله يدحض حجتهم بقوله :

«اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ»

يجعلها في أيد نظيفة ، وجيوب طاهرة نقية ، وقلوب زكية ، ورجال مخلصين ، وليس في أيدي هذه الفئة التي سرقت أموال الناس ، وصنعت مجدها على أجسادهم ، ثم يهددهم الله بالقول.

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ)

بسبب تكبرهم.

(وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ)

١٨٤

الشروط المساعدة للايمان :

[١٢٥] بعد ان بينت الآيات عوامل الكفر الفردية والجماعية ، جاءت هذه الآية لتبين الشروط المساعدة للايمان ، وفوائده وأبرزها : شرح الصدر حيث ان الايمان بالله يعني تفضيل المستقبل على الحاضر ، وتفضيل الجماعة على الفرد ، وتفضيل الحق على الشهوة لان الحق خير عاقبة ، وأفضل أملا.

وهذه الصفات لا تعطى الّا لمن يتمتع ببعد الرؤية ، ورصانة الفكر ، وبالتالي سعة الصدر. بينما الكفر الكفر بعكس الأيمان تماما ، أن هو إلّا نتيجة ضيق الصدر ، وسبب له أيضا.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ)

يبدو أن الضيق هو الجزع ، ومحدودية الرؤية ، وعدم استيعاب الاحداث ، بينما الحرج هو التردد وعدم القدرة على اتخاذ رأي ما ، وبالتالي أن يرى الشخص نفسه عاجزة عن اي شيء ، والذي يصّعد في السماء يشعر بالضيق لأنه يجد نفسه مقطوعا عن أطرافه ، ويشعر بالحرج لأنه يخشى الوقوع.

ومن المعروف ان الصعود في السماء يسبب قلة الا وكسجين ، وبالتالي ضيق النفس ، وسوء الخلق وقد يكون التشبيه من هذا الباب.

(كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)

انهم يعيشون في حدود ساعتهم وموقعهم ، فلا يرون الاحداث القادمة ، أو الظواهر المتفاعلة فيما وراء موقعهم المحدود فتأتيهم المشاكل والصعوبات من حيث

١٨٥

لم يحتسبوا ، ولأنهم كانوا يكفرون بالحقائق الغيبية والتي هي وراء زمانهم ومكانهم ، فاذا بهم يواجهون بها دون ان يستعدوا لها.

منافع الايمان :

[١٢٦] كما سبق ان قلنا ان : العامل المساعد للايمان هو شرح الصدر ، أما منافع الايمان فهي اربعة أبرزها :

أ/ الاهتداء الى الصراط المستقيم الذي يؤدي بصاحبه الى الله سبحانه ، بما له من أسماء حسنى وأمثال عليا ، أي الى التحرر الكامل ، والعدالة الشاملة والفلاح.

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً)

ب / لا تنحرف به الأهواء العاجلة ، والشهوات المؤقتة ، ذات اليمين وذات الشمال ، لان المؤمن شرح الصدر ، لا تغرّه الظواهر الآنية والاحداث الزائلة ، فيبقى على خطه وخطته البعيدة المدى.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)

فيعرفون الحقائق ولا ينسونها ، اما الذين لا يذّكرون ، فإنهم لا ينتفعون بالآيات لأنهم لا يربطون بين الآيات وبين الحقائق التي تدل عليها.

دار السلام :

[١٢٧] ج / وبعد الاستقامة ، وأيضا بسببها ، يستفيد المؤمنون السلامة والأمن في الدّنيا والآخرة.

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

١٨٦

لأن ما يهدد سلامة البشر ، هو التطرف في الشهوات. اما الاعتدال فانه طريق الأمن لان العدالة في المجتمع أفضل وسيلة للامن ، والاعتدال في الطعام والشراب هو الآخر طريق السلامة الصحية ، وهكذا ..

د / اما أهم فائدة للايمان ، فهي الانضواء تحت راية التوحيد والتنعم بعبادة الله وولايته.

(وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

وولاية الله هي التي توفر للبشر الاطمئنان الداخلي ، ومضاء العزيمة ، وسلامة النية ، وبالتالي الانتصار في الدنيا والفلاح في الآخرة.

١٨٧

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)

١٨٨

عاقبة تولّي الظالمين

هدى من الآيات :

تلك كانت فوائد الايمان كما ذكرت في الدرس السابق ، أما أضرار الكفر فأهمها هي : الولاية الباطلة فاذا كانت للمؤمنين ولاية الله فان الكفار أولياؤهم الجن حيث يحشرهم الله وإياهم ، ويحاسبهم ويجيبون انهم انما تولوا الجن طلبا للمتعة ، باعتبار المتعة ، هي الهدف العام للمشركين.

ولكن المتعة لا تبقى الّا لفترة محدودة تنتهي في الأجل المحتوم ، ثم يكون مصيره النار.

ولان الظالمين يعملون السيئات ، فإنّ الله يجعل بعضهم أولياء بعض ، ويسلط بعضهم على بعض لان هذه نتيجة أعمالهم في هذه الدنيا ، أما في الآخرة فبعد أن يسألهم ربهم عن سبب كفرهم ، وأنه هل كان هناك نقص في أسباب الهداية؟ فيجيبون : كلا .. بل جاءت رسل الله ومعهم الآيات الواضحة وبالتالي بعد أن يشهدهم على أنفسهم يأخذهم بأعمالهم ، ويبين القرآن السبب الحقيقي للكفر وهو :

١٨٩

غرور الحياة الدنيا.

من هنا يبعث الله في كل قرية من ينذرها ، حتى ينذرها ، حتى يهلك من يهلك عن بينة وحجة واضحة ، وانما ينقسم الناس درجات سواء في حقل الصلاح ، أو الفساد بأعمالهم وليس عبثا.

بينات من الآيات :

لماذا عبدوا الجنّ؟

[١٢٨] بعض الناس يعبدون الجن ويتخذونهم أولياء من دون الله. لماذا؟ وما هي حجتهم؟

أولا : حجة هؤلاء ان الجن يمتّون الى الله سبحانه بصلة قربى ، أو أنهم أقوياء ، بيد ان الجن خلق من خلق الله ، وسيحشرون يوم القيامة ، وسيحاسبون كما الانس لا فرق ، فعبادتهم واتخاذهم أولياء لا معنى له.

ثانيا : السبب في عبادة الجن أو في اتخاذ بعض الانس أولياء من قبل الآخرين هو فقدان الرؤية السليمة للحياة ، حيث يحسب البشر أنّ الهدف الأساس من الحياة هي المتعة ، ولكي يحقق رغباته في المزيد من التمتع يرتبط بالجن أو ببعض الانس ، وانما يتبع هواه وشهواته باسم اتباع الجن والانس ، اننا حين نتبع الحق لا نعبد الجن أو الانس ، انما نعبد الله ، والسبب : إننا آنئذ نقيد شهواتنا ، وننظمها وفق البرامج الالهية ، التي تهدينا إليها عقولنا ، ولأننا لا نهدف آنئذ التمتع كهدف أعلى لحياتنا ، بل نهدف تحقيق مسئوليتنا في الحياة وهي هدفنا.

من هنا نعرف : أن عبادة الجن ناتج من عدم الاستعداد لتحمل المسؤولية في الحياة.

١٩٠

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ)

يبدو ان معناه أنكم. اي الجن قد جذبتم كثيرا من أبناء الانس لعبادتكم ، فالتفوا حولكم ، ما السبب؟

ويجيب على هذا السؤال الانس الذين التفوا حول الجن. لأنهم هم المسؤولون عن عبادة الجن ، وليس الجن المعبودون :

(وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ)

أي إنما اتخذناهم أولياء لتحقيق رغباتنا باسم الجن ، والّا فان المعبود الحقيقي هو الهوى وليس الجن المساكين؟

(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا)

فانتهت المتعة والمهلة التي أمهلتنا إياها.

(قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ)

حيث انه قد يرحم بعض العباد ، وينهي فترة عذابهم في جهنم حسب حكمته البالغة.

(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

كيف يهدم الظلم بناء المجتمع؟

[١٢٩] ونستخلص من ذلك : أن أحد الأسباب التي تجعل الكفار بعضهم أولياء بعض هو ابتغاء المتعة ، والسبب الآخر هو الظلم ، حيث ان الظالم سيف الله ينتقم به وينتقم منه ، فاذا شاع الظلم في المجتمع وزالت قيم العدالة والحق ،

١٩١

واستطاع القوي ظلم الضعيف ، يصبح المجتمع خليطا من الظالم والمظلوم ، كل يظلم من تحته ، ويظلم من فوقه ، وهناك يقفز الى السلطة أكثر الناس ظلما ، والسبب هو الوضع الذي صنعه الناس بأعمالهم.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

أي بأعمالهم التي يكسبونها ، ولقد تكرر التعبير بالكسب للدلالة على العمل في القرآن ، ربما لان كل عمل يقوم به البشر يخلف أثرا ظاهرا أو خفيا عنده ، فكأنه يضيف ذلك الأثر الى سائر أجزاء ذاته.

حب الدنيا رأس كل خطيئة :

[١٣٠] تلك كانت عاقبة الظلم في الدنيا. ان بعض الظالمين يولّي بعضا. أما عاقبة الظلم في الآخرة فانه الهلاك بعد الادانة والتوبيخ.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)

ربما قصّ الآيات بمعنى بيانها واحدة بعد اخرى ، بطريقة تدخل القلب ، وأهم بند في الدعوة هو الإنذار بالعاقبة.

(قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا)

ولكن السؤال : لما ذا إذا لم يقبلوا بالآيات ، ولم يؤمنوا بربهم؟!

السبب هو تعلقهم الشديد بالدنيا. لان حب الدنيا رأس كل خطيئة.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)

١٩٢

فلم يكن كفرهم من دون وعي منهم ، بل بسبب اعتقاد راسخ بالفكرة المعاكسة لها.

ان تصور لقاء أي إنسان ربه ، وموقفه الضعيف امام هيبته البالغة ، يكفيه عقلا ورصانة وايمانا ، إذ أنّه يكبح شهوات الفرد موقتا ، ويثير فيه حبه لذاته ، وسعيه وراء تحقيق مستقبله.

لا نهلك القرى بظلم :

[١٣١] ودليل وعي الكفار للحقيقة ، وجحودهم بعد اليقين ، ان حكمة الله البالغة ورحمته الواسعة الدائمة تأبيان الظلم للعباد ، وأخذهم بجريمة ارتكبوها من دون وعي منهم ، بل بغفلة وعدم انتباه ، أو بسبب يقين مضاد.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ)

الله قوي مقتدر ، ولا يملك العباد دونه ملجأ ، فان كان يستخدم قوته وقدرته في إهلاك عباده دون ان يبلغ الدعوة الحقّة الى أعمق أعماقهم. أفلا يكون ظلما؟! ولماذا يظلم ربنا عباده وهو الذي خلقهم ، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه؟ إذا حين يهلكهم فهم يستحقون ، واستحقاقهم دليل واضح على علمهم بالحقيقة ، وكفرهم بها ، وشهادتهم على ذلك يوم القيامة ، دليل آخر على ذلك.

[١٣٢] وعدالة الله في الحياة ظاهرة المعالم ، ولكن من أبرز أدلة هذه العدالة هي : أن الله يعطي كل واحد من الناس قدرا من العلم والمال والجاه يتناسب مع مقدار عمله ، ومن هنا فانه سوف يثيب أو يعذّب عباده يوم القيامة بأعمالهم ، وبقدر تلك الأعمال أيضا.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)

١٩٣

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)

١٩٤

لمن عاقبة الدار؟

هدى من الآيات :

لله الأسماء الحسنى ، فهو الغني ذو الرحمة ، ولأنّه غني فهو قادر على ان يفني الخلق جميعا ، ثم يخلق مكانه ما يشاء.

وآية اخرى على غناه سبحانه : أنه جاء بهذا الخلق في مكان خلق آخر كان قبله.

ولكن برحمته التامة لا يفعل ذلك فهو ذو رحمة ، بيد أنه إذا لم يفعل ذلك الآن فليس ذلك دليلا على انه لن يفعل ذلك أبدا ، إذ سيأتي يوم ينتهي أجل البشر فتأتيه عاقبته دون أن يستطيع مقاومتها.

والبشر تؤمّن له الحرية لفترة معينة وذلك دليل رحمة الله به ، ولكنه سوف يسلب منه هذه الحرية بعد انقضاء اجله ، وذلك بسبب غنى ربه عنه ، ولا يسلب الله رحمته الا بسبب ظلمه لذاته.

١٩٥

بينات من الآيات :

الغني ذو الرحمة :

[١٣٣] لربنا سبحانه أحسن الأسماء ، وأعلى المثل ، وأسماء الله منتشرة في الكون في آياته التي لا تحصى ، ومعرفة أسماء الله ومظاهرها وتجلياتها في الحياة تعطينا بصيرة ورؤية واضحة ، وتهدينا الى السبيل الأقوم.

والقرآن الحكيم يذكر هذه الأسماء ، بعد أو قبل أن يذكر الآيات التي تدل عليها ، والبصائر المستلهمة منها ، والسلوك المعين التي تستوجبها.

والواقع ان هذا المنهج القرآني يعطي البصائر والرؤى الحياتية ركيزة عقلية ، كما يعطي الأفكار أبعادا واقعية ، ونتائج سلوكية ، وبالتالي يجمع هذا المنهج بين العقل والواقع والسلوك مما تتكامل به الشخصية البشرية.

وهنا يذكرنا القرآن باسمي (الغنى والرحمة).

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ)

وعند البشر لا يجتمع الغنى والرحمة عادة لأن الغنى عند الإنسان مصدره الغير ، فيخشى البشر من فقدانه فيبخل به ، بينما غنى الله مصدره القدرة المطلقة على الخلق ، كما أن رحمته محدودة بحكمته لا تدعها تنفلت عن اطار العدالة.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ)

وهذا دليل على غناه ورحمته معا ، فلو لا قدرته ، وبالتالي غناه عنكم لما كان قادرا على تعويضكم وتبديلكم ، ولولا رحمته لفعل ذلك أول ما ظلمتم أنفسكم ، وهذا دليل قدرته ، وأيضا ان رحمة ربنا محدودة باطار حكمته ، انه فعل ذلك حين كان من قبلكم

١٩٦

آخرون فذهب بهم وأتى بكم.

(كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)

وعند ما يتذكر البشر بهذه الحقيقة يرزق الرصانة في التفكير ، والواقعية في الرؤية ، والاستقامة في السلوك ، أما رصانة الفكر فلأنه يعلم ان القدرة المهيمنة على هذا الكون الرحيب غنية عنه لكنها رحيمة به ، فعليه الا تستبد به الخفة والتكبر والغرور ، واما واقعية الرؤية فعليه الا ينظر الى حقائق الحياة على انها ثابتة أبدا ، اما استقامة السلوك فلأنه يتمتع بالخوف والأمل ، الخوف من استبدال الله له بالآخرين ، والأمل في رحمته ، وبين الخوف والأمل يستقيم سلوك البشر.

التسليم أو العاقبة :

[١٣٤] وما دام البشر عاجزا عن توقيف مسيرة الزمن ، أو منع العاقبة السوءى التي ينذر بها ، وما دام عاجزا عن سلب قدرة الطرف الثاني واعجازه ، فعليه ان يسلم للحقيقة ولا يتكبر عنها.

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)

[١٣٥] وينذر الله الظالمين حين يقول : ان للحرية الممنوحة لكم وللقدرات المخولة لكم حدودا تقف عندها.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ)

اي بقدر قوتكم ومكنتكم.

(إِنِّي عامِلٌ)

فهناك خطان من العمل ينتهيان عند العاقبة.

١٩٧

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ)

اي من سيسكن بالتالي في دار السعادة.

ولكن مجرد التفكر في العاقبة يهدي البشر الى الحقيقة. إذ معلوم لمن تكون العاقبة.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)

١٩٨

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ

____________________

١٣٦ [ذرأ] : الذرء الخلق على وجه الاختراع ، وأصله الظهور ومنه ملح ذراني لظهور بياضه ، والذرأة ظهور الشيب.

١٣٨ [حجر] : الحجر الحرام.

١٩٩

عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)

٢٠٠