من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)

____________________

٢٥ [أكنّة] : الاكنة جمع كنان ، وهو ما وقى شيئا وستره ، واستكن الرجل من الحر ، واكتن استتر.

[وقرا] : الوقر الثقل في الاذن ، والوقر ـ بكسر الواو ـ الحمل.

٢٦ [ينأون] : النأي البعد ، ومنه أخذ النوى وهو الحاجز حول البيت لئلا يدخله الماء.

٤١

حينما تكون القلوب في أكنّة

هدى من الآيات :

في سياق الآيات التي توضح عوامل الكفر النفسية ، يأتي هذا الدرس ليبيّن : أن مجرد الاستماع الى الحق لا يكفي للايمان به ، إذ ان المهم هو قلب الإنسان الذي لو لم يزكّ من عوامل الانحراف فان أذنه تثقل ، وعينه لا تبصر ، ولسانه لا يلهج الا بالجدل والبهتان ـ فمثلا ـ لا يفرق صاحب القلب المريض بين الرسالة الجديدة ، وبين الأساطير القديمة ، وهؤلاء لا يبتعدون عن الحق فقط ، بل وينهون الناس عنه وهم لا يعرفون قيمة الحق ، وأنه يساوي أنفسهم.

وفي يوم القيامة يدين هؤلاء أنفسهم على فعلتهم السابقة والتي تمثلت في الكفر بالحق بالرغم من وضوحه أمامهم ، ولو ردّوا الى الدنيا لعادوا الى كفرهم ، والسبب هو ان الكفر ليس نتيجة غموض في الحق ، أو عدم صحة آياته ، بل هو نابع من مرض في قلوبهم وما دام المرض موجودا فان التوبة الظاهرية لا تكفي.

٤٢

بينات من الآيات :

العوامل النفسية للكفر :

[٢٥] بالرغم من ان الإنسان يملك العقل والسمع والبصر ، وبالرغم من أن آيات الحق وعلاماته ودلائله واضحة للعقل ، فان ذلك لا يكفي في ايمان الشخص بالحقيقة ، إذ أن هناك إرادة حرة فوق العقل ، توجه العقل والاحساس ، وفي الطرف الآخر هناك النفس البشرية المليئة بالعواطف والعقد والأمراض. من حب الذات ، الى الاهتمام بالمجتمع ، الى الاسترسال مع التقاليد.

فاذا اختار البشر بإرادته الحرة جانب النفس وأهوائها وعقدها وتقاليدها وامراضها ، فانها سوف تلغي دور العقل عنده ، وتسد منافذ الاحساس لديه ، وتغلف قلبه بكثافة حتى لا يتسرب اليه نور الحقيقة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ)

إذ ان الاحساس وحده لا يكفي ، فقد تسمع آية ولكنك بحاجة الى قلب متفتح حتى تؤمن بها ، فمثلا انك بحاجة الى عدم الأيمان المسبق بكذب الآية ، والّا فانك لا ترى حاجة للتفكير فيها ، وبحاجة الى سكينة نفسية ، وهدوء داخلي يسمح لك بالتفكير في الآية ، وكل ذلك غير موجود عند الكافر.

بل قد يتسبب الكفر في أن يتبلد احساس الشخص أيضا ، فيشعر أنّ في اذنه وقر ، وفي عينيه ضعف ، إذ ما دام القلب مغلق عن فهم الحقيقة ، فانه لا يشعر بحاجة الى استخدام الاحساس.

(وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً)

أي ثقلا لا يمكنهم ان يسمعوا بوضوح.

٤٣

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)

ان القلب المغلق يجعل أحاسيسه في خدمة انغلاقه ، وأفكاره الميتة ، فالأذن تثقل عن سماع الحقيقة ، والعين تعمى عنها ، واللسان يجادل ويغالط فيها.

[٢٦] الحق هو ضمان حياة النفس ، وتحقيق الذات يتحول في عين هؤلاء الى بعبع ينهون الناس عنه ، ويبعدون عنه بأنفسهم ، وبذلك يخسرون ما به حياتهم وشخصيتهم واستمرار كيانهم.

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)

لا يشعرون أي خسارة كبري تلحقهم بابتعادهم عن الحق.

على شفير الهاوية :

[٢٧] وحين يمس المكذبون العذاب يدركون مدى الخسارة التي لحقتهم بترك الحق.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

حين يشتد المرض بابنك البكر ، ويشرف على الهلاك ، يعمل انئذ فكرك بسلامة بعيدا عن مؤثرات الخطأ فمثلا : آنئذ لا تفكر في أن الدكتور القريب من بيتك صديقك ، وأنك تستحي منه ، ولهذا تفضله ـ مثل سائر الأوقات ـ على غيره من الأطباء ، ولا تزعم أن طبيب الأسرة الذي تعودت عليه خير من غيره ، ولا تنظر الى أقوال الناس فتتبعهم بالرغم من علمك بأنهم لا يعقلون ، بل تبحث عن طبيب

٤٤

حاذق يخرج مريضك من دائرة الخطر حتى ولو كان عدوك ، فأنك تذهب اليه صاغرا ذلك لأنك آنئذ تبحث فقط وفقط عن الحقيقة. بعيدا عن أيّ اعتبار آخر.

[٢٨] وحين يشافي الله ابنك من المرض الخطير ، فان كل تلك الاعتبارات السخيفة تعود إليك. لماذا؟ لأنها راسخة في ذهنك ، وما استطعت أن تنظف نفسك من آثارها ، كذلك حال الكفار حين يقفون على النار يتمنون لو يعودون الى الدنيا ، فيصححون أخطاءهم ، ولكن هل يفعلون ذلك. كلا.

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ)

أي ظهرت لهم الحقائق التي أخفوها عن أنفسهم وعن الناس تعمدا.

(وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)

إذ أن نفوسهم مريضة ولا تزال تعاني من انغلاق ، فلا بد إذا من تطهيرها ، وفتح منافذها على نور الحقيقة.

٤٥

وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)

____________________

٣١ [بغتة] : كل شيء أتى فجأة فقد بغت.

[يا حسرتنا] : الحسرة شدة الندم.

[ما فرّطنا] : التفريط التقصير وأصله التقديم ، والإفراط التقديم في مجاوزة الحد ، والتفريط التقديم في العجز والتقصير.

[أوزارهم] : الوزر الثقل واشتقاقه من الوزر وهو الحبل الذي يعتصم به ، ومنه قيل وزر فهو موزور إذا فعل به ذلك ، وحيث أن الذنوب ثقلا تسمى أوزارا.

٤٦

حينما يقصر النظر

هدى من الآيات :

إن النظرة القاصرة التي تحصر حياة الإنسان بالدنيا. إنها مسئولة الى حدّ بعيد عن كفر الإنسان بالحق ، وفوق ذلك ان أمام عين البشر غشاوة من زينة وشهوات تمنعه عن الايمان بالآخرة ، ولكن ألا يتصور البشر أنه غدا حين يواجه الحق بكل عنفه وقدرته وهيمنته ، فما ذا يمكن ان يفعل حين يقف أمام الله ليرى النار اللاهبة؟! حينها يندم على تكذيبه في الدنيا للقاء ربه في الآخرة ، وحينها يجر آهات الحسرة على ماضية الذي خسره ، ويثقل ظهره بذنوبه.

بينات من الآيات :

[٢٩] دعنا نعقل الحقيقة قبل فوات الأوان. الحقيقة هي ان الدار الدنيا ليست سوى لعب ولهو وما الحياة الحقيقية الّا في الآخرة لمن اتقى ربه من هنا قال ربنا سبحانه :

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)

٤٧

وهذه كما سبق ـ وان قلنا ـ أصل الفساد الفكري عند الإنسان ..

كيف تستوعب الغيب؟

[٣٠] إذا قدمت إليك تفاحة ، فأردت أن تعرفها جيدا ، فلا بد أنك تقلبها من أطرافها ، وإذا فكرت في شراء بيت فانك تتفقد جميع جوانبه ، أما إذا أردت التعرف على حادثة اجتماعية أو ظاهرة طبيعية ، فان عليك أن تبحث عن مبتدئها ونهايتها ، عن أولها وآخرها ، فلرب حادثة أولها خير وعاقبتها شر ، ولرب ظاهرة تبدء نافعة وتنتهي ضارة مفسدة ، والعكس صحيح ، كذلك الحياة لا تعرف بنيانها ، ومرسى سفينتها ، وساعة قيامتها ، وكل حادثة أو ظاهرة تدخل ضمن اطار الحياة تقاس هي الاخرى بهذا الميزان. أي بنهاية الدنيا. ذلك ان مصير ركاب السفينة متعلق بمصير السفينة. كذلك سفينة الحياة تتعلق بها كل الحوادث التي تقع ضمنها.

والقرآن الحكيم يدعنا أبدا نتصور نهاية الحياة لنعرف بدقة أكثر ذات الحياة ، وما بها من احداث ، وبالتالي ليكون لدينا مقياس نستطيع أن نحكم بسببه على الاحداث حكما سليما.

والسؤال : لماذا يستخدم القرآن أسلوب التصوير في هذا الجانب؟.

الجواب : لأنّنا من الناحية العلمية قد نكون مقتنعين بالغيب وبالعاقبة أو حتى بالقيامة ولكن ثقل الشهود وحضور الأحداث والظواهر التي نعايشها الآن تمنعنا عن التوجه الى الآخرة ، وهنا نحتاج إلى قوة التصور لنعبر فوق جسره إلى شاطئ الغيب ، هناك حيث لا يثقل أحاسيسنا حضوره الفعلي ، لذلك تجد القرآن يقول هنا :

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)

٤٨

انك حين تقف فوق تلّ مشرفا على رابية ، يمتد بصرك إلى ابعاد الرابية وأطرافها ، وتصبح وكأن الرابية ورقة في يدك.

وفي يوم القيامة حين نشهد آيات ربنا ، هنا جهنم تلتهب نارا وعذابا ، وهنالك الجنة تنبسط بنعيمها وجمالها ، وهنا الميزان الحق ، وهناك الكتاب الذي أحصى كل شيء. آنئذ نقف على ربنا ، وتكرهنا القضايا الساخنة على الايمان به ، ويستشهدنا الله على نفسه تعالى : (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟! قالُوا : بَلى وَرَبِّنا. قالَ : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ). إنه الحق الذي سوف نضطر الى الايمان به يوما ما ، فلما ذا لا نؤمن به الآن حتى ينفعنا ايماننا ، لماذا نكفر به ، لنذوق العذاب إذا؟

شيء من الواقع :

[٣١] ان التكذيب بالمعاد يشوش على البشر رؤية الحقائق في الدنيا ، ويدفعه الى التكذيب بالحقائق جميعا ، ويكون مثله كمن يكذب بالموت ويرى أنه لن يموت ، فهو يكذب بآثار مرض السرطان ، يتورم جسمه فيقول : كلا انه لا يدل على الموت المرتقب ،. يتألم جسمه ويحرقه ، ولكنه يصر قائلا : ليس ذاك دليلا على الانتهاء ، فيؤكد له الدكتور وسائر العقلاء ذلك ، ولكنه يصرّ مستكبرا على قوله. ذلك لأنه لم ينظم زاوية فكره وفق الموت الحق ، فاختلطت عليه الحقائق جميعا. كذلك الذي لا يؤمن بلقاء الله يكفر بكل شيء حتى يخسر نفسه نهائيا.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ)

وزر التكذيب بالآخرة ، ووزر الأعمال السيئة التي ارتكبوها بهذا السبب (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ).

٤٩

وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)

____________________

٣٥ [نفقا] : النفق سرب في الأرض له مخلص الى مكان آخر ، وأصله الخروج ، ومنه المنافق لخروجه من الايمان الى الكفر.

[سلّما] : السلّم الدرج وهو مأخوذ من السلامة.

٥٠

كيف تحدى الرسل

اعراض الجاحدين؟

هدى من الآيات :

لكي يبقى المؤمن جبلا أشما يتحدى الصعاب ، لا بد أن يعرف حقيقة الدنيا التي ما هي سوى لعب ولهو ، أما دار الاقامة الدائمة فهي الآخرة ، ومن ذلك أن قلب الرسول يجب ألّا يتأثر بسبب كفر المشركين الذي يجحدون بآيات الله حين يكذبون به ، وهدفهم ليس الرسول بقدر ما هو الحق والايمان ، وكما يكذب الظالمون اليوم بالرسول فأن رسل الله السابقين قد كذّبوا أيضا ، ولكنهم صبروا حتى آتاهم نصر الله.

وهل هناك حيلة أخرى للرسول في الأمر. هل يسلك نفقا في الأرض ، أو يصعد بسلّم الى السماء ليأتيهم بآية ، ولو فعل ذلك فهل ينفعهم؟! علما بأن الله لا يريد أن يجبرهم على الهدى ، ولو شاء لفعل ذلك بقدرته التامة.

بينات من الآيات :

واقع الحياة وحقيقة الآخرة :

[٣٢] هل نستطيع ان نحدد هدفا معقولا للحياة الدنيا لو لم نجعلها مقدمة

٥١

للآخرة ، وعموما هل نستطيع ان نخطط لهذه الحياة التي تنتهي في أية لحظة ، وربما دون تحذير مسبق ، وتتفاعل فيها عوامل ومؤثرات غير محدودة؟

ان كانت الحياة الدنيا تمهيدا للآخرة ، ودورة تدريبية لتكامل البشر ، لاعداده لدخول الجنة خالدا فيها ، فان كل ما فيها سوف يصبح معقولا وحكيما ، وتكون الآخرة لا الدنيا هي الدار الدائمة للاقامة ، ولكنها لا تكون الا لمن اتقى في الدنيا.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)

اللعب هو العمل بوعي وهدف ، ولكن دون هدف حكيم ، اما اللهو فانه من دون وعي أو هدف.

(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

العقل يحكم بان الدنيا ليست بدار الاقامة ، وأنها ليست هدفا نهائيا للبشرية.

لماذا الحزن؟

[٣٣] إذا كانت الدنيا قاعة امتحانات يتخرج منها المتقون بنجاح ، ويستلمون شهادة الايمان ، وبطاقة دخول الجنة ، فعلينا ألّا نحزن على الظالمين الذي يعادون الرسول ، وقبل الرسول يعادون الحق ، ويجحدون بآيات الله ، وبالتالي يظلمون أنفسهم فلما ذا نحزن عليهم؟!

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)

من التكذيب بك وبرسالتك ، ولكن مهلا.

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)

٥٢

مع علم مسبق بأنه حق ، فالحزن عليهم لماذا؟!

[٣٤] وللرسول في الرسل السابقين أسوة حسنه ، فكم قد كذّبوا وكم أوذوا ، ولكنهم صبروا حتى جاءهم نصر الله ، وتلك هي سنة الله لا تبديل لها ، وتلك هي كلمته التي لا تبديل فيها وها هي أنباء الرسل تذكّر للرسول في القرآن ليتخذ منها عبرا كافية.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ)

ومنها هذه الكلمة أن صاحب الرسالة حين يتعرض للصعاب ويصبر ، فأن الله ينصره بالتالي.

(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)

[٣٥] وماذا يمكن ان يفعله الرسول ما دام الظالمون يجحدون بآيات الله بعد اليقين بصدقها ظلما لأنفسهم ، فهل يسلك طريق ٣ في الأرض خارقا للعادة ، أو يصعد الى السماء بسلّم ، ثم يأتيهم بآية ، أو ليست الآيات الهابطة كافية لهم لو كانوا يريدون الايمان بالله وبرسالاته؟!

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ)

وكان ذلك عظيما في عينك.

(فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ)

اي تفتش عن طريق تحت الأرض أو فوق السماء من أجل الحصول على آية خارقة لكي يؤمنوا بها ، فأن استطعت أن تفعل ذلك فافعل ، فهل فيها فائدة؟

٥٣

نعم هناك سبيل واحد لهداية هؤلاء ، وهو أن يجبرهم ربهم على الهدى ، ولكن هل يفعل ربنا ذلك؟ كلا .. لأنه لو شاء لفعل ذلك بأهل الأرض جميعا ..

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ)

الذين يريدون تحقيق شيء معين بالرغم من سنن الله وحكمته ، وأنظمة الكون التي جعلها الله ، ان عليك ان تتحرك في حدود هذه السنن القائمة ، والانظمة السائدة في الكون.

٥٤

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)

٥٥

هكذا استجاب من سمع ،

وضل الصم البكم

هدى من الآيات :

حين يعطب جهاز الاستقبال ، فان كثافة الأمواج لا تزيده الا عطبا ، وحين يموت قلب الإنسان فان المزيد من الدلائل لا تنفع صاحبها. انك ترى الكفار يطالبون بالمزيد من الآيات ، والمشكلة ليست في قدرة الله على أن ينزل المزيد منها ، ولكن المشكلة في فائدة الآيات للذين تعطل عندهم جهاز الفهم ، ان نظرة واحدة الى الحياة وما فيها من دابة ، أو طائر في السماء لا فرق تكفينا دليلا على عظمة الخالق ، حيث أنها جميعا تسير وفق نظام اجتماعي معين ، وتنتهي الى الله ، ولكن هل تكفي هذه الآيات العظيمة لأولئك الذين فقدوا القدرة على التعبير لأنهم فقدوا السماع والتفاعل مع الحياة الحقيقية؟! انهم صم بكم يعيشون في ظلمات الجهل والجهالة ، لان الله سلب منهم نعمة العلم والهداية (بعد ان رفضوا الانتفاع بهما) فتاهوا في صحراء الضلالة ، أما الصالحون فقد هداهم الله الى الصراط المستقيم الذي يسير بهم الى أهدافهم السامية من أقرب الطرق.

٥٦

بينات من الآيات :

عند ما يعطب جهاز الاستقبال :

[٣٦] لقد زود الله عباده جميعا بالفهم ، فالكل زوّد مثلا بالسمع ، ولكن البعض منهم فقط هو الذي يسمع. أي ينتفع بوسيلة السمع ، لأنه يريد ذلك ، وحين يسمع المرء نداء ربه الى الخير يستجيب لهذا النداء ، فيعمل بما يأمره الله ، أما حين يموت القلب وتسترخي الارادة ، ويتعطل جهاز السمع ، فأن الأمل مفقود في هداية الإنسان آنئذ. الا إذا شاء الله ذلك بمشيئته الخارقة لسنن الطبيعة ، ولكن هل يفعل ذلك ربنا في الدنيا. أم أن الله إنما يهدي الناس للحقائق بهذه الصورة في الآخرة حين يحشرهم جميعا ليحاسبهم. آنئذ لا تنفع الهداية شيئا.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)

[٣٧] ولا يزال الكفار يطالبون بالمزيد من الآيات ، والله قادر على أن يستجيب لطلبهم ، ولكن ما ذا ينفعهم ما داموا فاقدين لجهاز العلم؟!

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً)

كما أنزل الآيات السابقة ، بيد أنّ المشكلة ليست في قلة أو كثرة الآيات ، بل في العلم بها ، فلو كانت عين الفرد عمياء .. فهل تنفع إضاءة المزيد من المصابيح.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

[٣٨] والدليل على ان العبرة ليست في زيادة الآيات ، بل في العلم بها وادراك ما وراءها من حقائق .. الدليل الأحياء الذين لو أمعنت النظر في حياتها لرأيت أمة مثل البشر ، لهم نظامهم وعلاقاتهم وأهدافهم في الحياة ، ثم إنهم كما البشر يحشرون الى ربهم ، أفلا تكفي تلك الآيات العظيمة ، ولكن قليلا من الناس يفهمون هذه

٥٧

الآيات؟! لذلك يقول ربنا :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ)

اي ما من متحرك من الأحياء ، النملة وأصغر منها ، والفيل والحوت وأكبر منهما.

(وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)

اي كل طائر في السماء ، وإنما ذكرت كلمة يطير بجناحيه هنا للدلالة على التعميم ، كما ذكرت كلمة في الأرض هنا لنفس السبب.

(إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ)

الا أمم مثل سائر الأمم البشرية ، لها انظمتها وقوانينها ، وسيدها ومسودها.

(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)

ان الكتاب هو كتاب الله ، والله لا يبالغ ولا يتطرف في كلامه ، بل ان كلامه تعبير دقيق عن الحق دون زيادة أبدا ، لان الحق الذي خلقه الله ، ويعلم أبعاده أكبر بكثير من المقدار المناسب لفهم الإنسان ، على ان فهم الإنسان عظيم ، وان هذه الأمم تسير وفق نظام قدرة الله في الدنيا أما في الآخرة :

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) :

[٣٩] هذه آيات الله منتشرة في الكون ، فمن ينكرها ومن يكذب بها؟

انما يكذب بها من فقد تفاعله مع الحياة. فهو أصم وأبكم يعيش في ظلمات لا

٥٨

يرى شيئا.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ)

الظلمات هنا هي : الجهل والجهالة والشهوات ، وكل واحدة منها حجاب بين الإنسان وبين الحقيقة ، والله سبحانه هو الذي يزوّد الإنسان بنور الهداية ، ومستحيل أن يصل الإنسان الى الهداية من دون التوسل به.

(مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

٥٩

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)

____________________

٤٢ [البأساء والضراء] : البأساء من البأس والخوف ، والضراء من الضر ، وقد يكون البأساء من البؤس اي الفقر.

[يتضرعون] : التضرع التذلل.

٤٤ [مبلسون] : المبلس الشديد الحسرة ، وقيل المبلس المنقطع الحجة.

٦٠