من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ

____________________

٧٠ [تبسل] : يقال أبسلته بجريرته أي أسلمته بها ، والمستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص ، وهذا بسل عليك أي حرام عليك ، ولتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرم والمرتهن بسل اي حرم الثواب ، والفرق بين الحرام والبسل أن الحرام عام فيما كان ممنوعا منه بالحكم والقهر ، والبسل هو الممنوع منه بالقهر.

١٠١

هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

____________________

٧١ [استهوته] : حملته على اتباع الهوى.

[حيران] : المتردد في امر لا يهتدي الى الخروج منه.

١٠٢

أسباب حيرة المبلسين

هدى من الآيات :

فيما مضى سبق القول في ان وجود الآيات في الكون وظهورها لا يكفي لهداية البشر ، إذ لا بد أن يكون جهاز الإدراك عنده سليما فمثلا لو اتخذ الفرد دينه لعبا ولهوا فكم تستطيع الآيات ان تكون نافعة له .. لا شيء ، هؤلاء هم الذين أبسلت أنفسهم ، بما كسبت من سيئات ، وحجبت الشهوات نور عقولهم ، فلا تنفعهم الموعظة بل يجب تركهم الى حين بلوغهم جزائهم عند الله. حيث يعذبون بشراب من حميم ، وعذاب أليم. جزاء ما طعموا من الشهوات الحرام ، وبما كفروا بالرسالة.

وقد يبلغ حال الواحد منهم وضعا مزريا حيث يتخذ من دون الله أربابا ـ هم أصحاب المال والزينة ـ ويترك هدى الله ، ويكون مثله كمن اخترق الصحراء مع أصحابه ، ولكنه ابتلي بالشياطين ، وفقد وعيه ، وأخذ يدور من دون فهم ويتبع الشياطين ويترك الصراط المستقيم ، والتسليم لله رب العالمين.

١٠٣

بينات من الآيات :

موقفنا منهم :

[٧٠] اننا كبشر نشعر بفطرتنا النقية. أن الطعام والجنس والراحة كلها وسائل للإبقاء على الحياة ، أما هدف الحياة فهو شيء آخر ، قد نختلف في تحديده تبعا لاختلاف ثقافتنا ، ولكننا نكاد لا نختلف في أصله ، بيد أن هناك من يتخذ دينه وهدفه الشهوات ، ويزعم أن اللذة هي الهدف الأساسي من الحياة ، أما الدين الحق فيتخذه لعبا يفسره كيف تشاء شهواته ، ولهوا يتسلى بطقوسه ، أو بالحديث حوله ، أما إذا جدّ الجدّ فأنه يتبرأ من الدين ، وموقف المؤمن من هؤلاء هو المقاطعة.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)

وإنما يهبط البشر الى هذا الحضيض بسبب تورطه في الشهوات ، وتعوده على اللذات والراحة والكسل ، حيث أبسلت نفسه.

والخلاص الوحيد من ظلمات الجهل والعادة هو التذكر المستمر الذي هو بمثابة حزمة نور ، تخرق حجاب العادة الى القلب.

(وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ)

أما إذا أبسلت النفس فأن الله سبحانه سوف يلعنها ، ولا يقبل منها شفيعا ، وليس لها ولي من دونه.

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها)

ان العدل لا يقبل من هذه النفس التي أبسلت ، وهذا هو مصير الذين أحاطت بهم ذنوبهم التي اكتسبوها.

١٠٤

(أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا)

مصيرهم في الدنيا ظلمات في قلوبهم ، أما في الآخرة ف :

(لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)

بآيات الله ، ويتخذونها لعبا ولهوا. إذ أنّ الذنوب سبب ظلمات القلب ، وهي سبب الكفر ، والكفر يؤدي الى النار.

[٧١] وهناك فئة ضالة قد اتخذت أربابا من دون الله ، والتزمت بطقوس لم ينزل الله بها سلطانا ، وربما تكون هذه الفئة هي امتداد نوعي للفئة الاولى ، إذ حين يكتسب الفرد السيئات ، ويحتجب عنه نور العقل تتحول فطرة التدين عند هذا الشخص الى الأرباب التي تعبد من دون الله ، فيزعم صاحبها أن تلك الأرباب هي تطبيق لفطرة الايمان التي يشعر بها ، وربما لذلك ذكر القرآن هذه الفئة بعد تلك الفئة قائلا :

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا)

لماذا يعبد البشر شيئا لا يضر ولا ينفع ما دام لا يمثل الحق ، ولماذا يتقيد به إذا ، ويخضع له؟!

وما هي المنفعة من وراء ذلك؟! انه ليس الارادة في مسيرة البشر ، ومسخ لطبيعته الحرة الكريمة.

(وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ)

وهداية الله تتمثل :

أولا : في الهداية الفطرية.

١٠٥

ثانيا : في هداية الرسل.

وكثيرا من النّاس ينحرفون بعد الهداية الفطرية ، أما بعد الهداية الرسالية فان الانحراف ضلالة كبري يشبهها القرآن الحكيم بالذي يسير في الصحراء ، ثم يضل السبيل بسبب تضليل الشياطين له ، حيث يدلّونه على الطرق المنحرفة ، وفي هذا الوقت يجد الرجل من يدعوه الى الهدى ، متمثلا في أصحابه الذين يدعونه الى السبيل القويم الذي يسيرون فيه ، فانه لو لم يقبل نصيحة أصحابه فسوف لا تكون لديه أية حجة في البقاء في الضلالة ، إذ أن أصحابه قد أتموا عليه الحجة ووفروا له فرصة الخلاص من استهواء الشياطين.

(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا)

هذا الرجل يشبه الإنسان في تيه الحياة ، وقد أحاطت به شياطين الشهوات ، وأضلوه عن سواء السبيل ، وحجبوا فطرته النقية بركام من الخرافات الباطلة ، ثم جاءه هدى الله مساعدا لفطرته ، موضحا له سبيل الهداية.

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى)

وعلينا ان نتبع سبيل الله ، ونسلم له الذي أسلمت له السموات والأرض.

(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)

الصلاة معراج المؤمن :

[٧٢] ولكي نتبعه ، ونخضع له ونسلم ، فعلينا ان نقيم الصلاة نصليها بخضوع وخشوع ، ونديم عليها مع العمل بضروراتها ، في حياتنا الاجتماعية ، ومن ضروراتها

١٠٦

التقوى إذ ان الصلاة معراج المؤمن وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ومن شروط إقامتها الانتهاء فعلا عن الفحشاء والمنكر ، كما أن الخوف من الآخرة حين يحشر الفرد الى ربه واحدة من فوائد الصلاة المهمة.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

ارادة الله بين الكاف والنون :

[٧٣] والله الذي يجب التسليم له ، هو الذي يمثل الحق ، والحق يعني ان هناك واقعيات قائمة خارج الفكر ، وأنها تدار بأنظمة ثابتة ، وأن على الإنسان أن يسعى من أجل توفيق نفسه ، وتطبيق أعماله على أساس الحق ، ولكن دون أن يزعم أن هذه الانظمة هي آلهة ، فيعبدها كما يعبد الغرب اليوم أنظمة الحياة القائمة .. كلا .. عليه أن يعرف : أن فوق الحق إرادة الله التي تخلق ما تشاء بكلمة واحده هي (كن) فليعبد الله الذي له ملك الحياة الآن ومستقبلا ، وهو الذي يجازي الناس على أعمالهم ، وهو العالم بالغيب (المستقبل والماضي) والعالم بالشهادة ، فعلمه بالحقائق القائمة ، علم شامل ماذا كانت سابقا ، وماذا تكون عليه مستقبلا.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ)

لأنه بقوله هذا خلق الأشياء ، وأجرى فيها الأنظمة ، وبقوله تطمئن الحياة ، وتستمر وفق الأنظمة.

(وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)

فمن أولى به معبودا نسلم له الأمور.؟

١٠٧

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)

____________________

٧٦ [أفل] : غاب.

[بازغا] : البزوغ الطلوع ، يقال بزغت الشمس إذا طلعت.

١٠٨

الشك المنهجي طريق الى اليقين

هدى من الآيات :

كيف يتدرج الإنسان في مراحل الايمان؟

يبدأ الإنسان رحلته الايمانية ابتداء من نقطة الشك ، وعدم الثقة المطلقة بما يتخيله هذا أو ذاك من أفكار أو أهواء.

والشك يرفع عن بصيرة الفرد حجاب الأفكار المسبقة ، ويحرك فكره ويضيء عقله ، فيرى بذاته ما وراء السموات والأرض من علم وقدرة وحكمة ، وبذلك يهتدي بأذن الله الى الحق فيصبح موفقا.

العقل يهدي الفرد الى أنّ الإله لن يكون متغيرا ، وأنه فوق القوى ، وأن لا سلطان على سلطانه ، وحين يرى الفرد الكواكب والقمر والشمس كل يأفل عند ما يصل وقت أفوله يتيقن أن كل أولئك ليسوا بآلهة.

ومن خلال التطلع الى الظواهر الكونية والايمان بأنها لا تصلح أن تكون آلهة

١٠٩

عرف إبراهيم حقائق أخرى منها : أن الذي يهديك الى الله هو الله ذاته ، وأن ما لا يصلح أن يكون إلها لا يصلح أن يكون نصف اله ، وأن يشرك به شيئا ، ولذلك يجب رفض جميع الآلهة إلّا الله.

بينات من الآيات :

نعم للاحترام لا للعبودية :

[٧٤] من دون تضحية لا تبلغ الحقائق ، والعلم كأي مكسب آخر بحاجة الى جهد بل الى جهاد وتحد ، أن البشر معرض لأن تستعبده القوى الطاغوتية أو الطبيعية ، لذلك يبدأ البشر تحرره بالتحرر العقائدي ، وإبراهيم كأي شخص آخر في مجتمع الجاهلية قد عرّض لعبودية الطاغوت ، ولكنه رفضها وتحداها ، ان الطاغوت يصنع جوا فكريا في المجتمع ، يؤيده ويبرر اخطاءه ، وهذا الجو يضغط على الإنسان من خلال تعامله مع أقرب الناس اليه ، أي من والديه ومربيه الذين يغذونه بالأفكار الباطلة ، ويدّعون أنهم محترمون ، ولذلك فأن أفكارهم يجب أن تحترم هي الاخرى ، وإبراهيم كمثل أعلى للثوري الرسالي رفض هذه الأفكار ، وصرخ هاتفا الاحترام للوالد نعم. اما للعبودية فلا ..

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً)

لم يقل هذا الكلام الفضّ لأخيه الأصغر منه ، أو لرفيقه أو لزميله ، كلا .. لأن الضغط الذي كان يمارسه عليه المجتمع انما كان بسبب أبيه آزر.

وآزر لم يلد إبراهيم ، بل هو عمه الذي ربّاه ، فخاطبه إبراهيم بالأبوة ، وذكره القرآن ليذكّرنا بأن الايمان يبدأ من رفض الخضوع لاقوى سلطة اجتماعية على الفرد ، وهي سلطة المربي والكفيل ، ثم أعقب إبراهيم رفضه لأبيه برفضه لسلطة المجتمع الجاهلي وقال :

١١٠

(إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

ان الخوف من المجتمع لا يدعك تفهم الحقائق ، لأنك آنئذ لا تشكّك نفسك بتلك الأفكار الباطلة ، فتستمر عليها ، ولذلك تجد الناس عادة يؤمنون بأفكار مجتمعهم ، حتى قيل : بأن المجتمع صنم الفرد ، حتى أن بعضهم آمن بالحتمية الاجتماعية ، لذلك فعليك ان تتشبع بالثقة بذاتك حتى تتحدى الناس جميعا.

كيف نحصل على اليقين؟

[٧٥] حين تخلص إبراهيم من ضغط مجتمعة أراه الله ملكوت السموات والأرض المتمثلة في فهم تلك القوة التي تملكها وتدبرها.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)

اي ليخرج من الشك الي اليقين. ان الذي أوتي قدرة الشك قادر على أن يصل بأذن الله الى ذروة اليقين ، والشك لا يختص بالمجتمع ، أو بالمربي ، بل وأيضا بالأفكار السابقة والخاطئة التي يزعم الفرد انها صحيحة في بعض مراحل حياته ، كما نرى إبراهيم عليه السلام كانت له الشجاعة الكافية برفض أفكار مجتمعة السابقة كما نرى لاحقا.

[٧٦] حين يهيمن الظلام على الكون يبحث الفرد عن أي نور ، فيرى الكوكب فيزعم أنه اله لأنه أنقذه من ظلام دامس ، وهذه العقيدة العاجلة قد تكون نتيجة هيبة الظلام ، والخشية منه.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي)

وقد يكون هذا رمزا لحالة الشك ، التي تزعج البشر ، فيبحث عن مخلص له منه ،

١١١

فيتعجل بقبول أي ومضة نور تخلّصه من حالة الشك ، فاذا به يعتقد بأول فرضيه تطرء على ذهنه أو تبرق أمام عينه ، ولكن وجود الفرضيات الباطلة عند الفرد ليس عيبا ، انما العيب هو أن يستمر عليها بعد أن تثبت عنده أنها باطلة ، وإبراهيم عليه السلام كانت له هذه الشجاعة أن يكفر بأفكاره السابقة.

الفطرة هي الدليل :

ان الفرضيات الباطلة قد يكون بطلانها واضح بدرجة أن ردها لا يحتاج الى دليل ، بل يكفي أن تراجع فطرتك لتوضح لك بطلانها ، لذلك قال إبراهيم عليه السلام بعد أن افل الكوكب أني لا أحبه.

(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)

الحب هو الفطرة النقية قبل أن يصبح فكرة مستدلة متكاملة ، وحين تكون علاقة البشر بربه علاقة الحب ، حيث يحبّ البشر ربه بصورة طبيعية. ما دام ربه سبحانه قد أغذق عليه نعمة ظاهرة وباطنة فيكون عدم وجود هذا الحب بالنسبة الى الكوكب دليلا على أنه ليس بآلهة حتما! لان الله ينعم على البشر ليلا نهارا ، أما الكوكب فانه يأفل نهارا.

ومن المعلوم ان بعض الناس لا يزالون يعبدون النجوم ، ويزعمون انها ذات أثر فعال في مصير الإنسان ، وقد كان عمل إبراهيم ردا صارخا لمثل هؤلاء الذين كانوا موجودين آنئذ.

[٧٧] وانتظر إبراهيم على مضض من شكه ، وتوتر من قلبه ، ثم انتظر هذه المرة فترة أطول حتى بزغ القمر ، وأعجبه ذلك النور الهادىء الذي ينساب على الطبيعة بعفوية وسخاء. فقال : هذا ربي.

١١٢

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي)

وربما كان بزوغ القمر هو السبب في عدم رفضه للقمر ، وقد يكون تعلق إبراهيم ظاهرا بالقمر رمزا للفرضية الباطلة التي هي ليست إلّا مجرد ضغط حالة الشك ، وعذاب الفراغ الفكري.

(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)

بعد فشله الثاني في فهم الحقيقة قلّل إبراهيم (ع) من ثقته المطلقة بفكره ، وتوكل على الله ، ذلك أن هذه الثقة مفيدة في مرحلة الشك ، ورفض الأفكار التي يريد الآخرون فرضها عليه. أما بعدئذ فقد يكون لها مردود سلبي.

بك عرفتك :

اما كيف أدرك إبراهيم عليه السلام أن القوة التي يجب انتظار دعمها للإنسان وهو يبحث عن الحقيقة هي قوة الله ، وهذه قضية هامة؟

ان فطرة الإنسان تهديه الى وجود سنن ونظم في هذا الكون المهيب ، وأن الطبيعة تسير وفق نظام. الشمس والقمر والنجوم كلها تسير وفق خطة مرسومة. من الذي يهدي الشمس الى مسيرتها ، والقمر الى فلكه ، والنجوم الى مراسيها؟ انه الله. انه خالقها ، إذا فعلينا نحن أيضا ان نبحث عن الهدى هنالك عند الله ، لا سيما في موضوع الإله. إذ قد يكون (وهذا واقع فعلا) البشر عاجزا عن معرفة ربه ، ولكن ربه سبحانه ليس بعاجز عن تعريف ذاته له.

ومن جهة اخرى : حين تكرر تجربة الإنسان الفاشلة في الوصول الى الحقيقة ، تعتريه حالة اليأس ويقول : أنا أقل من أن أعرف الحقيقة ، فلما ذا البحث؟!

١١٣

وهذا اليأس هو أخطر عدو للبحث ، وهو وراء أكثر من نصف الجهل الموجود لدى الناس ، واليأس لا يزول الا بالتوكل على الله ، لذلك قال إبراهيم (ع) وهو يعاني من صدمة الفشل :

(لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)

[٧٨] إذا كان جمال القمر قد دفع إبراهيم (ع) الى اتخاذه إلها مؤقتا فأن كبر الشمس وضخامتها ، بالاضافة الى جمالها دفعه هذه المرة الى مثل ذلك.

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ)

وكانت صدمة الفشل الهائلة والمتكررة حيث اختفت الشمس العملاقة وراء الأفق. هذه الصدمة نقلت إبراهيم من واد لواد آخر ، من وادي مجتمعة الى رحاب الحقيقة.

(فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)

فتجعلون الشمس وهي خلق مما خلق الله شريكة لرب العالمين ، بينما شريك الألوهية يجب أن يكون قادرا حرا مريدا ما يشاء ، والشمس مسخرة بأمر ربها ، لا تستطيع ان تخالف امر الله في الطلوع والغروب.

التسليم المطلق .. المرحلة الاخيرة :

[٧٩] ترك إبراهيم (ع) الخلق واستقبل بوجهه الخالق ، ترك الطبيعة الى مسخرها ومدبر أمرها ، وقال :

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ)

اي اتخذت الله طريقا ، ومرضاته هدفا.

١١٤

(لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)

خلقها وحدد مسارها ، ورسم حدودها ، وأظهر بذلك هيمنته التامة عليها.

وحين عبد إبراهيم ربه كفر بكل الشركاء ، ورفض الأنداد جميعا وكان : ـ

(حَنِيفاً)

مائلا عما اعتمده الناس متمردا على عاداتهم وتقاليدهم ، وسلّم أموره جميعا الى الله رافضا الانتماء الى المجتمع الكافر وقال : ـ

(وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

١١٥

وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)

١١٦

هكذا يتحدى الايمان الخالص

هدى من الآيات :

بعد المعاناة الشخصية ، وبعد الشك البريء الذي انتهى بإبراهيم عليه السّلام الى الاهتداء الى ربه بدء الصراع بينه وبين قومه حيث حذروه مغبة الكفر بالآلهة ، فردهم ببساطة : إن الخوف انما هو من الله ، لا من القوى المخلوقة له سبحانه. إذ أن تلك القوى تقع ضمن دائرة إذن الله وعلمه ، وأمرهم بأن يعودوا الى فطرتهم ليتذكروا الحقيقة ، وبيّن لهم أنّ حذرهم واحتياطهم من الآلهة لا معنى له. إذ لو لم ينزل الله حجة واضحة بالسماح بطاعة أحد ، فانه سيعاقب من يطيع غيره ، وعقابه أشد وأبقى مما يخافه الإنسان على نفسه من ضرر الآلهة ، إذا الحذر من الآلهة يقابل بحذر أكبر من الله لو قبلنا بها من دون اذنه.

وانما الأمن لمن أرضى ربه ولم يخلط ايمانه بشرك ، لأن هذا الشخص قد اهتدى الى الطريق السليم ، بيد أن فهم هذه الحقيقة ليس في وسع البشر. إنما الله سبحانه هو الذي يهدي إليها من يشاء ليرفع درجته ، وهو الذي لا يفعل ذلك الا حسب علمه

١١٧

بالفرد ، وحكمته البالغة بأنّه يصلح للهداية ويستحقها.

بينات من الآيات :

مسئولية الهداية :

[٨٠] بعد رحلة الايمان ، تبدء رحلة الرسالة. إذ فور ما يتنور قلبك بنور الايمان.

تجد نفسك أمام مسئولية هي تنوير قلوب الآخرين ، ولا يمكنك الا أن تفعل ذلك. إذ أن الدنيا صراع فلو لم تذهب الى الناس لهدايتهم جاءوا إليك لاضلالك ، وبالتالي سوف يبدأ الصراع ، من هنا قال ربنا عن إبراهيم (ع) بعد ان وحد الله ونزهه عن الشرك به.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ)

يبدو أنهم قالوا له :

أولا : اين الله؟ وكيف آمنت به؟ وبأي دليل؟ وبالتالي أخذوا يشككونه في ربه ، فأجابهم ببساطة :

أنتم لا تعرفون الله. أليس كذلك؟ أما انا فأعرف الله لأنه قد هداني إليه ، ومن لا يعرف لا يستطيع ان يحاج من يعرف ، لأنه هو الجاهل ، وهذا عالم ، وهو الضال ، وهذا المهتدي.

ثانيا : قالوا له : لماذا تشرك بالالهة هذه وهي قوية ، وقد تضربك ، انك تكفر بالقوى الاجتماعية التي يمثلها الطاغوت ، وبالقوى الثقافية التي تمثلها قيم المجتمع ، وكهنة المعابد ، وبالقوى الاقتصادية التي تمثلها الرأسمالية والاقطاع ، وآلهة البركة .. و.. و.. ، أفلا تخشى هذه القوى؟!

١١٨

فأجابهم إبراهيم عليه السّلام : كلا .. أنا لا أخاف كل أولئك ، لأن مشيئة الله هي الحاكمة عليها ، صحيح أن الطاغوت قد يؤذيني ، ولكن أذى الطاغوت انما هو ضمن دائرة ارادة الله واذنه ، فلو لم يرد شيئا لا يمكن ان يقع ، والله محيط علمه بالجبت والطاغوت ومن في فلكهما ، فهم أضعف من الله ، وأضاف إبراهيم قائلا : عودوا الى فطرتكم النقية وتذكروا ان الله أقوى من خلقه ، وأن علينا أن نخشاه ولا نخشى خلقه.

(قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)

[٨١] للآلهة رموز وان ما يخافه البشر هو القوى الطبيعية أو الاجتماعية التي ترمز إليها الآلهة ، والخضوع لهذه الآلهة انما هو رمز الخضوع لتلك القوى ، ولا يمكن أن يتحرر البشر من هذا الخوف الا بخوف أقوى ، وهو الخوف من رب القوى الموجودة في الكون ، لذلك حذّر إبراهيم قومه من غضب الله ، وقال :

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً)

وربما يتصور البعض منا أن الله رحيم بعباده ، إذا لا خوف منه ، أما الطبيعة فهي؟؟؟ فعلينا الخضوع لها لنتجنب ضررها ، هذه الفكرة هي التي دفعت بعض الناس لعبادة الشيطان حيث قالوا : ان الله رحيم بنا لأن طبيعته الخير ، أما الشيطان فان طبيعته الشر فعلينا عبادته.

ولكن إبراهيم بيّن ان الله لا يرضى بطاعة أحد من دون أن يأذن هو بذلك ، ولن يأذن والا فهو ينزل غضبه ولعنته على البشر ، وانه لو أرادت الآلهة أو الذين يطاعون من دون الله الفتك بالناس والتجأ الناس الى الله ـ رب الآلهة والناس ـ لتخلصوا

١١٩

من شرورهم ، إذا فالأمن الحقيقي لمن يخشى الله.

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

مضار الشرك :

[٨٢] وعاد إبراهيم وأضاف دليلا جديدا على ضرورة التوحيد الخالص وهو : ان الشرك ظلم ، بينما الخضوع لله هو العدل ، وأن للظلم ضررين :

الاول : الابتعاد عن الأمن.

الثاني : الابتعاد عن الهدى بينما المؤمن الموحد يملك الأمن والهدى.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)

دعنا نتصور : مجتمعا يسوده الطاغوت ، ويخشى الطبيعة ، ويقدم قرابينه لإله البحر وإله الحرب وإله الربيع ، كما كان يفعل أهل مصر ، ومجتمعا تسوده حكومة عادلة ، ويتحدى الطبيعة ويقهرها. أيهما سيكون المجتمع الآمن؟ هل الظلم الطاغوتي والخضوع للطبيعة يوفر الأمن ، أم العدالة والحضارة (قهر الطبيعة وتسخيرها)؟! ثم ان التحرر من خوف الطاغوت وخوف الطبيعة يجعلنا نفكر بحريتنا ، نبحث عن الحقيقة بكل أمان ، ولا نخشى من الحقيقة ، ولا تسودنا دعاية الطاغوت ، ومخاوف الطبيعة لنقتحم كلّ أسوار الطبيعة ، لنكتشفها ونسخرها ، وآنئذ نحصل على الهداية. ان بداية كل علم هو الشعور بالأمن. لذلك جاء الهدى بعد الأمن في الآية الكريمة.

[٨٣] لقد حاج إبراهيم قومه فانتصر عليهم ، والسؤال هو من آتاه هذه الحجة؟ انه الله ، إذ أن إبراهيم عليه السّلام كشخص يعيش ضمن حدود المجتمع ، وتقهره

١٢٠