من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

الحق ، ولكنه حين يتبع شهوته ، ويتبع ذاته ، والذات الطاغية كل هدفه ، ومقياسه في الحسن والقبح ، والخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، هو الأقرب الى نفع ذاته وتحقيق هدفه اللامقدس من وراء شهواته ، وتكون أصول دينه ثلاثة : الطعام والشراب والجنس ، وأحكام دينه هكذا. الحلال ما حل باليد ، والحرام ما حرم منه الإنسان ، ان مصير هذا الإنسان ، مصير الدول الطاغوتية في العالم التي تصنع لذاتها مقاييس خاصة بها ، وقوانين دولية ومحاكم ومجالس أمن .. إلخ. كلها بهدف دعم السلطات الطاغوتية على رقاب الجماهير المحرومة ، لذلك يحذر القرآن من مغبة الكفر بالآيات ويقول :

(وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

لا يلتمسون طريقهم لأنهم طغوا ، بل ان هؤلاء يفقدون شيئا فشيئا المقاييس لمنفعة ذواتهم ، فيخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين.

[١١١] ودليل كذبهم ونفاقهم : أنهم لو أنزلت عليهم أكثر الآيات إثارة لم يؤمنوا.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى)

بل أكثر من هذا لو أن الله حشر عليهم الأموات حتى يقابلونهم بالحقيقة الصريحة ، كما إذا حشر عليهم الطيور فآمنت بالرسالة مع ذلك ما آمنوا.

(وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)

فيهديهم هداية مفروضة عليهم.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)

١٦١

وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)

١٦٢

الإصغاء الى زخرف القول

هدى من الآيات :

الدنيا دار ابتلاء ، والهدف مما فيها من صراع ، هو فضح جوهر الأشخاص حتى يكون الثواب والعقاب وفق العمل لا وفق علم الباري سبحانه ، ولقد قيّض الله لكل رسول عدوا. ليكون قدوة لمن لا يؤمن بالآخرة. كما الرسول قدوة وامام للمؤمنين ، وأعداء الرسالات يوحي بعضهم الى البعض أقوالا مزخرفة يتبعون بها غرور أنفسهم ، وهذا الكلام يشبه الوحي الالهي في انه مقدس عند من لا يؤمن بالآخرة.

وهنا جعل القرآن الخط الفاصل بين المؤمن والكافر الايمان بالآخرة ، وهذا يعني ان غير المؤمنين بالآخرة لا يمكنهم الايمان باي شيء آخر من الحقائق.

ويأتي هذا الدرس ليبين جانبا من فلسفة الشرك عند أولئك الذين يرفضون الايمان بالله والرسالة. حتى ولو جاءتهم كل آية ممن ذكرهم القرآن الكريم في الدرس السابق.

١٦٣

بينات من الآيات :

المعارضة المنظمة :

[١١٢] لنعرف ان هناك معاندين لا ينفع معهم الجدل ، وأن موقف هؤلاء لا يعتمد على دليل مضاد فلا يبعث موقفهم في أنفسنا الوهن والشك ، فنقول : لعل حديثهم ينطوي على جانب من الصحة فنخرج ـ لا سمح الله ـ من الايمان ، لذلك جاء هذا الدرس وما مضى ليؤكد على أن الله سبحانه ليس فقط حرم هؤلاء من نعمة الهداية ، وسلبهم نعمة الفطرة النقية ، وانما أيضا نظم هؤلاء في قيادة مناهضة لامامة الرسول ، وجعلهم يقلدون أساليب الرسالة حتى ان بعضهم يوحي الى البعض الاخر.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ)

والسؤال : كيف جعل الله ذلك ، هل خلق أعداء ليكونوا مناهضين للرسالة؟

ربما الجواب السليم هو : ان هذه سنة من سنن الله في الحياة ، يذكرها القرآن هنا لنكون على بصيرة منها لئلا نفاجئ بها ، ولان كل السنن في الكون من صنع الله لذلك يعبر عنها القرآن دائما بمثل هذه التعبيرات.

ان الرسالة التي تنتشر دون مقاومة أعداء لا بد ان يتهم أصحابها أنفسهم ، لان هذه السنة لم تتحقق فيهم ، وان الرساليين الذين ينتظرون عملا سهلا وميسورا. انهم على خطأ ان شيطان الانس يتمثل في مجتمع الطاغوت ، وشيطان الجن يتمثل في أهواء الجبت والمنافقين وما أشبه.

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)

١٦٤

وحي الرسالة يتمثل في البصائر التي تساعد البشر على رؤية حقائق الحياة ، بينما وحي أعداء الرسالة وثقافاتهم الاسطورية (المقدسة عندهم) يتلخص في أقوال مزخرفة ذات أدب خاو مشبع بالكلمات المفخمة ، غير ذات المحتوى ، اما روح هذه الكلمات فيتمثل في الغرور ، ونفخ الانانية الباطلة ، ان هذا مقياس صادق لتمييز الثقافة الرسالية عن الجاهلية.

حيث ان الاولى تدعو الى تقديس الحق ، والتواضع له ، ونسيان الذات والأرض ، والدم واللغة ، والثروة وما أشبه من أجل احقاق الحق ، بينما الثانية تقدس كل شيء مادي غير الصدق والحق والخير وما أشبه.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)

فلا نتصور ان هناك ضرورة تدعو الى إسكات هؤلاء ، وتصفيتهم أو هدايتهم ، إذ لو شاء الله لفعل ذلك ، فهو قادر على ذلك وانما لم يفعل لحكمة بالغة.

الايمان بالآخرة ومسئولية الضلال :

[١١٣] ومن سنن الله في الحياة ان نعيق أئمة الضلال ، يستقطب الهمج الغثاء الذين يفقدون الايمان بالآخرة ، فيكون امتحانا لهم أيضا.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)

انما ركزّ القرآن على الايمان بالآخرة ، لان السبب في عدم الايمان بالله وهو مصدر كل معرفة وايمان ليس عدم وضوح الشواهد ، فالله أكبر شهادة من كل شيء ، وانما عدم الخوف من العاقبة ، وأساسا قصر النظر ، ومحدودية الرؤية بما في عاجل الدنيا ، بل عاجل اللحظة التي يعيشها الشخص من الدنيا.

١٦٥

(وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)

من الجرائم حتى يلاقوا جزاءهم العادل بعد عمل وعلم بذلك.

وانما قال ربنا : «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ» ولم يقل اسماع لان هذه الأفكار لمزخرفة تتناسب وخوائهم العقائدي فيتقبلونها بأفئدتهم.

١٦٦

أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)

____________________

١١٦ [يخرصون] : يكذبون.

١٦٧

اتباع الاكثرية الضالة

هدى من الآيات :

بعد ان ذكر القرآن الحكيم الوحي الشيطاني في الدرس السابق ذكّرت هذه الآيات بالوحي الالهي الذي لا يجوز اتخاذ غيره لأنه كتاب مفصل فيه تفصيل كل شيء ، فلا نحتاج الى غيره وهو لا ريب فيه بالنسبة للمؤمنين. ففيه الثقة كلها ، ثم انه يمثل الحق والعدالة ، بالاضافة الى كل ذلك فهو كتاب دائم ، لا يتغيّر وفق تطورات الزمان والمكان ، لان الذي وضعه هو الله الذي وضع سنن الحياة ، وهو السميع العليم وعلمه جديد قديم.

وفي مقابل رسالة الله لا نجد سوى تخرصات الناس التي لا نجد فيها الا الظنون والخيالات الفارغة التي لا يقدرون هم أنفسهم من اليقين بها والايمان بصحتها.

والله سبحانه اعلم باتجاهات الناس الضالين منهم والمهتدين لان السبيل هو سبيل الله ، والمقياس في الضلالة أو الهدى هو الله الحق ، فهو اعلم بذلك الحق ، وأولى بأن نسأله سبحانه في هدايتنا الى السبيل الأقوم المؤدي اليه سبحانه.

١٦٨

ان البشر يبحث عادة عن الحق ولكنه يضل عنه ، ولان الناس يختلفون في الحق ، ولا يمكن ان يجعل كلام بعضهم مقياسا وميزانا لمعرفة وتمييز الحق عن الباطل ، إذا فلنعد الى الله رب الناس ، ومن اليه منتهى طريق الحق ليهدينا الى الحق.

بينات من الآيات :

أنزل عليكم الكتاب مفصلا :

[١١٤] العالم يموج بالنظريات ذات الاتجاهات المتناقضة ، والحياة تتزاحم فيها السبل المختلفة ، والإنسان يولد مرة واحدة ويختار سبيله ، والنظريات التي يعتقها يتحمل شخصيا مسئوليتها ، والناس لا يمكن ان يكونوا حكما على بعضهم لأنهم يختلفون مع بعضهم اختلافا واسعا ، انما علينا ان نتوسل الى قوة أعلى هي قوة الله لتكون مصدر الهامنا بالنظرة الصحيحة ، ومصدر هدايتنا الى السبيل الا قوم.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً)

والله تعالى لم يبخل بالهداية على عباده ، بل لم يكتف بالهداية المجملة ، وانما فصل الهداية تفصيلا.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً)

فيه علم كل شيء بحدوده المتغيرة ، وحسب مراحله الزمانية ، فالقرآن لا يكتفي ببيان قبح الظلم وانما أيضا يفصل الحديث في أنواع الظلم وتفاصيل العدالة.

والكتاب هذا لا ريب فيه فبامكان البشر أن يؤمن به ببساطة ، ودون تعقيد بشرط ان لا يكون معقدا ومعاندا.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ

١٦٩

الْمُمْتَرِينَ)

الذين يجادلون في الحق بغير هدف سوى الجدل ، لأنه لو لم يكن البشر ممتريا يستهدف المراء والجدل ، فانه سوف لا يشك في الكتاب.

الصدق والعدل وسيلة وهدف الرسالات :

[١١٥] تتميز كلمات الله ، وخلاصة وحيه الى البشرية بأنها تامة ، والتمام بمعنى وفائها بكل الحاجات البشرية ، وأنها صادقة تطابق الحق ، والحق هو ما في الكون من أنظمة وسنن ، وبما ان ربنا هو جاعل هذه الانظمة ومجريها ، فانه سبحانه هدي البشر إليها عبر كلماته بصدق ، وأنّ كلمات ربنا سبحانه عدالة ، حيث انها تعطي لكل فرد حقه ، ولكل طائفة وقوم وجيل حقه ، ذلك لان الله فوق الميول والشهوات ، وقادر وحكيم وعليم ، لذلك لا يوجد لديه سبحانه اي سبب للظلم ، من عجز وما أشبه.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)

المحتوية على رسالاته.

(صِدْقاً)

أي حقا.

(وَعَدْلاً)

الصدق هو وسيلة الرسالة والعدل هو هدفها.

(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

١٧٠

فبسمعه يحيط علما بكل صغيرة وكبيرة من حوادث الحياة ، وبعلمه الواسع يحيط بأصل الحياة وأولها وآخرها و.. و.. ، فعلمه جديد قديم. محيط بالجزئيات والكليات ، فهو إذا تام الكلمات صدقا وعدلا.

عند ما لا تتبع رسالتك!

[١١٦] الرسالة الالهية التامة قائمة على أساس الصدق والعدل ، الصدق في القول والعمل ، والعدل كهدف لهذا الصدق ، اما الثقافات الجاهلية ، فانها قائمة على أساس الظن والتخرص ، فما هو الظن؟

الظن : هو التصور النابع من الأهواء الذاتية والشهوات والضغوط ، أو هو ما تصنعه أنت في ذهنك. لا لكي تطبقه على الواقع الخارجي ، بل ليكون بديلا عنه ، مثلا : تصورات الشعراء عن الحياة ظنون. لأنها لا تهدف كشف الحياة كما هي ، بل تهدف تصويرها حسب مذاق الشاعر ، ولذلك قيل «الشعر أعذبه أكذبه» كذلك حين تتصور أن نظام الطاغوت يجب ان يبقى لا لشيء الا لأنه يحقق مصالحك الذاتية ، وقد تأتي بأدلة متشابهة لإثبات ذلك ، ولكنها جميعا تأتي لإثبات قصور مصدره حب الذات لا كشف الحقيقة.

والظن يختلف عن العلم في أنه قائم بذاته ، بينما العلم قائم بالحقيقة ، مثلا : علمك ببزوغ القمر قائم على أساس وجوده ، فاذا أفل زال علمك ، أما إذا تصورت القمر على جدار بيتك ، فان هذا التصور قائم بذاته ، ومثله كلوحة جميلة تصور القمر. سواء كان هناك قمر أم لا.

والبشر قد يتبع الخرص والاحتمال ، وذلك حين لا يرى ضرورة لكشف لحقيقة ، فيفترض افتراضات حولها ، مثلما كان الناس يقولون عن السماء والنجوم لأشياء لا برهان لهم بها سوى الاحتمال.

١٧١

وأكثر البشر يتراوحون بين الظن والخرص ، لأنهم لا يملكون الهدى الرسالي ، ذلك لان الهدى كمال لا يبلغه الا من جاهد نفسه وزكاها.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)

[١١٧] وإذا كان أكثر البشر ضلالا ، لأنهم يتبعون الظن ، فكيف يمكن ان يميز الإنسان طريق الحق عن الضلال ، ان عليه ان يتوسل بالله لأنه الحق الذي يميّز الضلال عن الهدى.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

ولان منتهى السبيل ، هو الوصول الى الله سبحانه ، فهو دون غيره يهدي الناس الى السبيل ، ويحدد من يضل عنه أو يهتدي اليه.

١٧٢

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)

١٧٣

اتباع الهوى واكتساب المآثم

هدى من الآيات :

يضرب الله مثلا على بصائر الدرس السابق ، بان السبيل الى الحق هو السبيل الذي يؤدي الى الله ، والله سبحانه أعلم به ، وأن ما سواه ضلالة وظن وتخرص لذلك بيّن حكم الطعام الذي هو أبسط الضرورات ، ومع ذلك يحرم جماعة أنفسهم منه لبعض الظنون التي لم ينزل الله بها سلطانا ، فجاء أمر صريح بأكل ما ذكر اسم الله عليه ، ثم تساءل القرآن عن سبب الاحجام عن أكل ذلك بعد أن أعطانا الرب قائمة بالمحرمات التي تصبح هي الاخرى حلالا عند الضرورة ، ولكن مع ذلك فان البعض يضلون بسبب أهوائهم.

ان المحرّم هو الإثم الذي فصّله القرآن (ظاهره وباطنه) وكذلك الشرك بالله ، ومن مظاهره ان تذبح الذبيحة باسم الأصنام ، وأولياء الشياطين يجادلون أهل الحق في ذلك بوحي من الشياطين ، ويشككونهم في تحريم ما ذبح على النصب ، أو الذي لم يذكر اسم الله عليه ، وان طاعة الشياطين في حكم الشرك بالله العظيم.

١٧٤

بينات من الآيات :

قاعدة الاضطرار :

[١١٨] قد تميل النفس البشرية الى الانطلاق (كما في بداية انفجار الحضارات) فتحلل كل حرام ، ولا تتقيد بقيود الأخلاق والآداب ، وقد تنعكس فتميل نحو الانغلاق فتنكمش (كما في حالات التخلف) فتحرم كل شيء ، وتستقبح حتى الطيبات ، اما المؤمنون فإنهم يتبعون الحق في حالات الانطلاق والانغلاق معا ، دون الاتباع لأهوائهم ، ولطبيعة نفسياتهم في الظروف المختلفة ، والحالات الاجتماعية المتباينة.

والقرآن يربط بين الايمان بالله ، وبين أكل ما ذكر أسم الله عليه ، لكي يكون المؤمن ملتزما في تصرفاته ـ سلبا وإيجابا ـ بالمنهج السماوي.

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ)

اي تلك الآيات التي أشار إليها القرآن في الدرس السابق ، وإذا كنتم مؤمنين بان الله أعلم بسبيل الهدى عن الضلالة ، فاتبعوه فيما يأمركم به.

[١١٩] يتساءل القرآن عما يدعو البشر الى الامتناع عن أكل غير المحرمات.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)

اي انه بالرغم من حرمة بعض الطعام الا أنه حلال لمن يسبب تركه له ضررا كبيرا عليه فهو مضطر اليه ، فكيف بالطعام الحلال الذي لا يجوز تركه لمجرد أهواء ونفسيات ضيقة

١٧٥

ومن الناس من يتبع أهواءه دون هدى الله ، ودون علمه ، فيحرم على نفسه الطيبات ، لا لأن الله حرمها ، ولا لأنه يعلم بضررها.

(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)

الذين يتجاوزون حدود أحكام الله ـ زيادة أو نقصانا ـ فهم لا يتبعون منهج الله ، بينما المنهج القويم السالك بالبشرية الى الله ، هو منهج الله سبحانه لأنه خالق البشرية ، فالمعيار هو ما عند الله ، لا ما عند البشرية من أهواء.

الإثم بين الظاهر والباطن :

[١٢٠] وكما لا يجوز التوقع وترك الطيبات احتياطا وحذرا. كذلك لا يجوز الاسترسال وتناول الرطب واليابس معا دون فرق ، كما تفعله الجماعات البشرية في ظروف قوتهم وبطشهم (وحضارتهم) كلا .. هناك حدود يجب على البشر أن يقف عندها ، هي حدود الإثم الذي فصله الله سبحانه.

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ)

والإثم حرام لا لأنه يتشكل بهذه الصورة أو بتلك أو لان اسمه (إثم) أو لأن الناس يتبرءون منه ، بل لأنه خبيث واثم في جوهره ، ولذلك لا فرق بين ظاهره وباطنه ، علنه وسره ، سواء كان باسم الإثم ، أو وضع له اسم أخر مثل الأسماء القانونية التي توضع اليوم للاحتكار أو الربا أو الغش ، أو مثل الشرائع الدولية التي تسمح للدول الكبرى استغلال ثروات الشعوب تحت أسماء مشروعة ، مثل الانتداب ، وتدوير الثروات النفطية ، والأمن الصناعي وما أشبه ... ان الإثم إثم مهما غيّرنا اسمه أو وضعنا له شريعة أو قانونا.

والإثم يولّد الدمار ، سواء سميناه كذلك أم لا.

١٧٦

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ)

من الإثم في عاجل الدنيا وأجل الآخرة.

[١٢١] والإثم هو ما يشرعه الله لا ما يوحيه الشيطان. مثلا : لا يجوز أكل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها حين تذبح لأنها فسق ، يدل على حالة الانفصال بين الإنسان ومبادئه ، أو الزعم بأن الدين محصور في المسجد. أما الحياة سواء منها ما يرتبط بالأكل والشرب ، أو الزواج والطلاق ، أو السياسة والاقتصاد ، فانها منفصلة عن الدين. ان كل ذلك فسق وشرك بالله ، وذلك يعني أن هناك إلهان ووليان وقائدان للبشر ، أحدهما للمسجد والثاني للسوق.

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)

والشياطين يجادلون في الحق ، ويحاولون تمييع الواجبات وأن يقولوا : ما هو الفرق بين الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها وبين الاخرى؟ دون ان يضعوا القضية في اطارها العام ، ليعرفوا : ان ذلك مرتبط بكل سلوك البشر. ان يكون سلوكا توحيديا فيقول :

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) أو سلوكا شركيا فيقول : ان صلاتي ونسكي لله ومحياي ومماتي لنفسي.

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)

أولا : لان طاعة غير الله في حكم الشرك بالله.

__________________

(١). ١٦٢ / الانعام.

١٧٧

ثانيا : لان منهج الشياطين هو منهج الشرك ، والفصل بين الدين والدنيا ، بين الدين والسياسة ، بين الجامع والجامعة ، بين المسجد والسوق وهكذا.

١٧٨

أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ

____________________

١٢٤ [صغار] : الصغار الذي ينبه المرء الى نفسه.

١٧٩

عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)

____________________

١٢٥ [حرجا] : الحرج أضيق الضيق ، وحرج فلان إذا هاب ان يتقدم على الأمر.

١٨٠