من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

اتباع الكتاب شرط التوحيد

هدى من الآيات :

هناك خطان في الحياة. خط الشرك والضلالة ، وخط التوحيد والهدى ، وفي الدرس السابق بين الله سبحانه جانبا من مفارقات هذين الخطين ، وما فيهما من آثار سلوكية ، وفي هذا الدرس يبين فكرة خط الرسالة عموما. فيقول : ان الله سبحانه أنزل الكتاب على موسى لكي يكون نعمة تامة للمحسنين ، ولكي يفصّل به شرائع الحياة تفصيلا ، ولكي يهدي الناس الى الحقائق مباشرة ، ولكي يوفر لهم الحياة الآمنة السعيدة ، وأخيرا لكي يربّي فيهم التطلع الانساني الأرفع الذي يتجاوز الدّنيا الى الآخرة.

وكذلك انزل الله مثل ذلك الكتاب عليكم ، فعليكم اتباعه ، وأن تتقوا الله باتباع مناهجه ظاهرا وباطنا حتى تتوفر لكم حياة سعيدة ، وهذا الكتاب فيه زيادة على كتاب موسى ، فهو مبارك.

وانما انزل الله الكتاب أيضا لكي يتم الله حجته عليكم ، فلا تقولوا يوم القيامة

٢٤١

تبريرا لكفركم : ان الله أنزل كتابه على اليهود والنصارى دوننا ، وأننا كنا غافلين عما يدرسون من الكتاب ، أو تقولوا : اننا سنكون أكثر التزاما بالرسالة لو أنزلت فينا ، فهذه رسالته بينة جاءتكم من ربكم. فيها خصائص الرسالات السماوية السابقة من الهدى والرحمة ، ولكن كم يكون ظلم المخالفين لأنفسهم عظيما ، وانحرافهم بعيدا لو تركوه.

بينات من الآيات :

أهداف رسالة موسى :

[١٥٤] أن لم تكن تلك الحقائق كافية لكم فهاكم حقيقة اخرى هي رسالة موسى ، كيف كانت؟

انها كانت رسالة تامة للمحسنين ، حيث فتح لهم مجال العمل الأكثر من أجل الله والانسانية ذلك لان في كل مجتمع نوعان من الرجال (محسنين وظالمين) والمحسن أنّى كان معترما ومقبولا اجتماعيا ، ولكنه بحاجة الى برامج لمضاعفة إحسانه ولتنظيمه ، وجعله أكثر فاعلية وأبعد أثرا ، تماما كالمجاهد الذي ينذر نفسه لله ولكنه بحاجة الى برامج ومناهج ليجعل عمله أكثر نفعا ، وأقرب الى النتيجة ، والله بعث برسالته التامة للمحسنين ، وهذا بذاته دليل على طبيعة الرسالة الحقة.

(آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)

اي رسالة تامة على من أحسن من الناس ، والمحسنين كما قلنا : هم فئة من الناس يتجاوزون ذواتهم الى الآخرين ، فلا يكتفون بأداء حقوق الناس بل يضيفون عليها شيئا من حقوقهم.

(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ)

٢٤٢

برامج الله ليست ذات بعد واحد يتصل مثلا بالفرد دون المجتمع ، أو الاقتصاد دون السياسة ، أو الماديات دون المعنويات ، أو الآن دون المستقبل ، أو هذه الطبقة دون تلك ، أو تهتم بالعواطف دون العقول ، وهكذا. ان دليل صدق رسالات السماء أنها تتحدث عن كل شيء ، ولكن بتكامل وتناسب وعدالة بين مختلف أبعاد الحياة البشرية.

(وَهُدىً)

والبرامج الالهية تنتهي بالهداية لأنها حقة وواقعية ، فلو طبقها البشر لوصل الى الجذور الاساسية لها ، والأصول العامة التي ابتنيت عليها ، وبالتالي الى الحقائق التي استهدفتها تلك البرامج.

ان البرامج الالهية تختلف في هذه النقطة عن البرامج البشرية وهي انك كلما طبقت البرامج التي وضعها البشر. كلما تعرفت على نقاط الضعف فيها بعكس البرامج السماوية التي يقول عنها ربنا :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١)

(وَرَحْمَةً)

وحين تطبق البرامج الالهية تتحقق اهدافك وتطلعاتك بعكس البرامج البشرية ، فلذلك فهي نقمة والبرامج السماوية رحمة.

ولكن الرسالات الالهية لا تكتفي بتنمية الجوانب المادية لحياة البشر ، بل وتنمي أيضا تطلعاته الأسمى من عالم المادة (عالم الدنيا الزائلة) الا وهي التي تلامس

__________________

(١) العنكبوت / ٦٩

٢٤٣

حدود الغيب والآخرة.

(لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ)

ان الهدف من الرسالات السماوية هو تحقيق رفاه البشرية الذي يفرغ الإنسان للآخرة.

أهداف رسالة الرسول :

[١٥٥] ولذات الاهداف انزل الله كتابه الأكمل والأخير على محمد (ص).

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ)

وبركته ونموه يتمثل في أنه أكمل من سائر الرسالات.

(فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

واجب البشرية امام القرآن اثنان : الاتباع والتسليم الظاهر ، والتسليم الباطن (التقوى) وإذا تحقق التسليم ظاهرا وباطنا تأهل البشر لرحمة الله.

إتمام الحجة :

[١٥٦] من مظاهر رحمة الله انه أتم حجته على عباده ، فرفع عنهم كل حجاب يمكن أن يمنع عنهم نور الهدى ، فحين عرف أن للعرب عصبية تحجبهم عن قبول رسالة الله التي أنزلت في غيرهم من اليهود والنصارى بعث فيهم نبيا من أنفسهم ، كما أنه لكي لا يدّعي هؤلاء أنهم كانوا مفصولين عن دائرة التأثير برسالات بني إسرائيل ، لذلك بعث فيهم رسالة خاصة بهم.

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ

٢٤٤

لَغافِلِينَ)

فلم ننتبه للرسالة ، ومن الطبيعي ان الغفلة عذر عقلي ، أولا أقل أن رحمة الله أبت أن تعذب الناس على ذنب اقترفوه غفلة.

[١٥٧] يزعم البشر : انه متكامل ، وان ما به من نقص وعجز فإنما هو بأسباب خارجة عن إرادته ، ولكي لا يزعم العرب هذا الزعم ، ويتصوروا انه لو أنزل الكتاب عليهم لكانوا أفضل من اليهود والنصارى في تطبيقه. انزل الله الكتاب عليهم وقال سبحانه :

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ)

ويتحدى القرآن الحكيم فيقول : ها هو الكتاب نزل عليهم وفيه ثلاث مزايا.

الاولى : انه حجة واضحة ، ودلالة بيّنة على الحقيقة. كما المعالم تدل على الطريق ، وكما الدخان يدل وجود النار ، والصوت على وجود صاحبه.

الثانية : انه إذا طبقه الفرد هداه الى الحقيقة ، كما إذا سار الفرد في الطريق حتى وصل الى غايته ، أو استدل بالدخان فتحرك حتى رأي النار ، ورأي صاحب الصوت مباشرة.

القرآن هدى للمتقين ، فليس فقط يقود الفرد الى الحقيقة ، بل وأيضا يجعل الفرد يلامس الحقيقة.

الثالثة : وحين يجد الفرد الحقيقة فان جانبا اساسيا من تطلعه يتحقق وهو عطشه نحو الحقيقة. اما الجانب الثاني فهو السعادة والفلاح ، وبالتالي الاستفادة من نعم الله سبحانه ورحمته ، ويلخص القرآن هذه المزايا وهو يتحداهم بالقول :

٢٤٥

(فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ)

البينة كما المعالم في طريق الحقيقة ، والهدى الوصول الى الحقيقة ، والرحمة هي : نعم الله.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها)

أعرف عن آيات الله التي تتضمن تلك المزايا التي فيها تطلع الإنسان الأساسي في الحياة ، كما إذا عطش الفرد ولكنه حين وصل الى الماء كذب بأنه ماء ، واعرض عنه ، ان فطرة كل واحد منا تتعطش للحقيقة أكثر مما يتعطش الكبد الحار للماء البارد ، وان حاجات كل واحد منا الطبيعية تتطلب اشباعها وهذا التطلب وذاك التعطش قد يكون المراد من تعبير القرآن في بداية الآية.

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ)

ولكن كم يكون ظلم الفرد لنفسه كبيرا حين يخالف فطرته وحاجاته لأجل عقدة نفسية ، أو استكباره عن الحقيقة ، أو مراعاة ظروف اجتماعية أو ما أشبه؟!

(سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ)

٢٤٦

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)

٢٤٧

عقبات في طريق التوحيد

هدى من الآيات :

في الدرس السابق ذكر القرآن ، ان الكتاب جاء استجابة لحاجة ملحة ، أمّا الآن فيبدو أن القرآن يبين العقبات التي تعترض طريق الاستجابة للرسالة الجديدة ، وهي ـ في هذا الدرس ـ ثلاث :

الأولى : التردد وانتظار شيء خارق للعادة مثل هبوط الملائكة ، أو وجود بعض الآيات ، ويعظنا القرآن أن نبادر الى الاستجابة للحقيقة. إذ ان انتظار ذلك اليوم الخارق معناه. فوات الفرصة.

الثانية : هي المعطيات الطائفية ، والقرآن يبين : أن هذا الذي يختلف في الرسالة ليس من الدين في شيء.

الثالثة : وجود الذنوب المتراكمة ، ويقول القرآن : إنّ الحسنة الواحدة تنمو وكأنها عشر حسنات ، أما السيئة فأن جزاءها واحد فقط.

٢٤٨

بينات من الآيات :

عقبات الايمان بالرسالة :

السبب الأول :

[١٥٨] لقد زود الله البشر بعقل وفطرة ومعايير قادرة على فهم الحقيقة بعد التذكر بها من قبل الله سبحانه ، ولكن عليه أن يبادر بالاقدام وتجاوز حاجز التردد والخوف والانتظار ، ان هذه هي الشجاعة العلمية التي كانت وراء اكتشافات العلماء ، وهي الشجاعة الايمانية التي كانت وراء تضحيات الصالحين ، ويتساءل ربنا عن هؤلاء الذين لا يؤمنون.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ)

هل ينتظرون هبوط الملائكة كأمر خارق حتى يثير فيهم الحماس ويدفعهم نحو الايمان بالله.

(أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)

عبر آياته الكبرى ، فالله سبحانه لا ينتقل من مكان لمكان لأنه لا يخل منه مكان سبحانه.

(أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ)

حيث تتجسد الحقائق. مثل ان يكون النهي عن الإسراف لأنه يؤدي الى شلل الاقتصاد ، أو الظلم لأنه يؤدي الى الفساد والدمار ، أو الدكتاتورية التي تؤدي الى التخلف والعجز أو الثورة أو الأخلاق السيئة فانها تؤدي الى المرض والفرقة ، فلا يطبق الإنسان هذه النصائح بانتظار تلك العواقب التي حذر عنها ، وحين تأتي تلك

٢٤٩

العواقب فما ذا ينفع قبول تلك التحذيرات.

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)

ان لم يصدق المريض قول الدكتور وهو يحذره من سوء حالته بسبب الارهاق ، وانتظر الارهاق ذاته فما ذا ينفعه؟! أو صدقه ولكنه لم يفعل بنصيحته؟!

كذلك حين ينظر الفرد فلا يؤمن حتى تبدو آثار كفره ، فهناك يؤمن فما ينفعه الايمان.

(قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)

نحن ننتظر ونحن مؤمنون ، اما أنتم فتنظرون على كفركم ، والزمن يعمل لصالحنا دونكم.

الإنسان يجب أن يتوكل على الله ، ويتّق نعمه عليه ، فيتحرك بكل قوة نحو ما يهتدي اليه دون ان ينتظر شيئا.

السبب الثاني :

[١٥٩] والنظر الى الدين باعتباره مادة للعصبيات العرقية والقومية ، أو الجدليات الفارغة أحد أسباب الخطأ في فهم الدين ، وبالتالي في الايمان به والقرآن يصرّح بأنه ليس ذاك الدين الذي يتخذ مادة للخلاف هو دين الله.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)

والله هو الحاكم في عباده ، وكثير من الخلافات المذهبية لا يمكن أن تحلها

٢٥٠

الجدليات ، بل يجب أن تتحوّل الى يوم القيامة والى الله والمستقبل.

(إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)

السبب الثالث :

[١٦٠] يشجع القرآن البشر الى المبادرة نحو الايمان بالله سبحانه ، فيعدهم بأن يجازيهم بالحسنة عشر أمثالها. بينما لا يجازيهم بالسيئة الا مثلها.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

ولكن كم يكون الظلم للنفس كبيرا حتى يرد على ربه هذه النعمة الكبيرة فلا يعمل بتلك الحسنة التي تحتوي عشر أمثالها.

٢٥١

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ

____________________

١٦١ [حنيفا] : مائلا عن الباطل الى الدين الحق.

١٦٢ [ونسكي] : النسك العبادة ، ورجل ناسك ، ومنه النسيكة الذبيحة ، والمنسك الموضع التي تذبح فيه النسائك ، فالنسك كل ما تقرب به الى الله تعالى الّا أنّ الغالب عليه امر الذبح.

١٦٤ [ولا تزروا] : ولا تحملوا.

[وازرة] : نفس حاملة.

[وزر] : الوزر الثقل بوزر الجبل ويعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل.

٢٥٢

بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)

٢٥٣

الركائز الأساسية لملة التوحيد

هدى من الآيات :

لكي يشجع ربنا عباده على الايمان بالكتاب. ضرب لهم مثلا برسوله الذي هداه الى الصراط المستقيم ، والذي يتطلع اليه الجميع ، ذلك الدين القويم الذي يمثل جوهر القيم وذات الاستقامة على نهج إبراهيم (ع) وشريعته وخطه (خط التوحيد ونفي الشركاء) ويتمثل خط التوحيد عند إبراهيم (ع) وفي دين محمد عليهما وآلهما صلوات الله. يتمثل في توجيه الحياة كلها في خط التوحيد. سواء كانت الصلاة والنسك (العبادات) أو أمور المعيشة في الحياة والممات ، وان ينفي الشركاء ، وأن يسلم لله رب العالمين دون أن يعير انتباها الى سائر الناس وهذا معنى الحنيف ، وإذا انحرف البشر عن عبادة الله فإلى أين يتجه ، هل يستبدل الله الذي هو رب كل شيء بغيره ويكتسب إثما؟! إنه إن يكتسب إثما فانما يكتسبه على نفسه ، ولا يحمل أحدا أثقاله. إذا فالبشر مسئول عن عمله ، وغدا سيلاقي جزاء عمله ، ويرى الحقائق واضحة.

٢٥٤

أما الطبقات الاجتماعية فلا تدل على ان الطبقة الأعلى رب صغير ، وعلى أبناء الطبقة الأدنى اطاعتهم .. كلا. انما هذه الطبقات هي من صنع الله ، وهدفها اختبار البشر ، وهي زائلة ، والله سريع العقاب ، ولكنه قد يمهل البشر لأنه غفور رحيم.

بينات من الآيات :

ملة إبراهيم :

[١٦١] من الفوائد الاساسية لبعث الرسل في صورة أشخاص أنهم يصبحون قدوة حيّة للآخرين ، والبشر بطبيعته يتأثر بالقدوة أكثر من تأثره بالفكرة المجردة ، وقد كان الأنبياء عليهم السلام يدعون الناس بسلوكهم المستقيم ، وأخلاقهم الحسنة ، كما كانوا يدعون بأقوالهم ، ولقد دعوا اتباعهم الى مثل ذلك كما جاء في الحديث.

(كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم)

وحين يكون الشخص مستقيما في فكره يكون مستقيما في سلوكه ، والسلوك المستقيم ينعكس ايجابيا في الفعل ، فيصنع واقعا قائما بذاته ، ويؤثر بالطبع ذلك الواقع في الحياة ، ولنضرب مثلا صغيرا : إذا أصبحت مستقيما فما ذا أفعل؟

أولا : لا أكذب ولا أخون الوعد أو العهد أو الامانة ، لتزداد ثقة الناس بي ، وأصبح قطبا لاهتمامهم ، ومركزا لقيادتهم.

ثانيا : تستقيم آرائي وترشد ، فأكون موضعا لاستشارة الناس ، ومركزا لقيادتهم.

ثالثا : أكون شجاعا مقداما لا أخشى أحدا ، فأكون موكلا للمستضعفين وملجأ لهم.

٢٥٥

رابعا : أستقيم في تربية أبنائي ، وتهمية اموالي ، وتهذيب زملائي و.. فأكون مثلا للقوّة.

ترى كم تخلّف الاستقامة من أثر في الواقع الخارجي فتخلق تغييرا فيه ، هكذا تصبح استقامة الأنبياء ، ومن أبرز البينات على صدق دعوتهم ، وكذلك العلماء والمصلحين.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

والاستقامة ليست طبيعية في البشر ، بل انها بحاجة الى مناهج عملية متكاملة ، انك بحاجة الى خريطة واضحة حين تريد المشي في طرق الغابة ، اما طرق الحياة فهي أكثر تعقيدا من طرق الغابة فأين هي برامج الاستقامة؟ انما هي في الدين القويم.

(دِيناً قِيَماً)

اي دينا علا كلّه استقامة ، والدين القيم لم يكن بدعا في التاريخ ، بل كان خطا اجتماعيا متمثلا في نهج إبراهيم (ع).

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)

وإبراهيم (ع) كان متحديا لانحرافات الناس.

(حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

عشرات الأفكار رفضها إبراهيم حتى أصبح موحّدا ، ومئات الأنواع من الضغوط تحداها حتى تحرر منها ولم يرضخ لوجهتها ، ومئات القيود كسرها وحطمها حتى أصبح حرا طليقا ، تحدى قيد الاسرة فرفض كلام أبيه آزر (عمه) الذي امره بالكفر ، تحدى قيد المجتمع وقاومه ، وتحدى السلطة واستهزء بها ، وتحدى حب الأولاد فأراد

٢٥٦

ان يذبح ابنه استجابة لأمر الله ، وهكذا أصبح حنيفا حرا ، ولم يكن مشركا بالله أحدا من خلقه أو شيئا من نعمه.

معنى التوحيد :

[١٦٢] ومن ابرز تجليات الاستقامة في حياة الرسول وحدة وجهته في أبعاد حياته.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

فلم تكن صلاته وذبائحه لغير الله حسب ما كانت عليه الجاهلية ، أو صلاته لله عبر عبادته للأصنام. كلا .. ولم تكن حياته لقيصر ومماته لله ، فاقتصاده وسياسته ، وأخلاقه واجتماعه ، وتربيته وبناء بيته ، وحتى حركاته وسكناته كلها كانت لله ، وباتجاه مرضاته ، ولتحقيق قيمه سبحانه ، وفي خطّه كما كان مماته لله ، فكان يختار الشهادة في الله إذا دعت الضرورة الرسالية ذلك.

[١٦٣] وعاد القرآن وكرر ان معنى التوحيد هو كسر القيود ، وقطع الحبال التي تربط بأي مركز آخر.

(لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)

لقد امر الله نبيه مثلما أمرنا بالّا نركع لايّ ضغط انّى كان نوعه ، وأن نسلم لمناهج الله.

[١٦٤] والسؤال لماذا التوحيد ، ولماذا إخلاص العبودية لله؟

والجواب أولا : لان الله هو رب كل شيء ، فعبادة الأشياء التي هي خاضعة لسلطة الله دون ربها ليست إلّا غباء.

٢٥٧

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)

والنظام القائم في الكون انما هو بتدبير الله وهو الذي يجريه ، فعلينا ان نخضع لذلك النظام.

ثانيا : ان الارتباط بغير الله من خلقه لا يرفع عني وزرا ولا مسئولية ، فلا يمكن ان أغمض عيني وأقلّد آبائي أو مجتمعي ، أو الأسماء اللامعة في الثقافة ، لاني بهذه العملية لا أستطيع أن ارفع عن عنقي المسؤولية ، أو أن أضع وزري على عاتق من اتبعه. كلا .. أنا مسئول ، وذنبي يتبعني شئت أم أبيت.

(وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)

ثالثا : الله هو المقياس الحق لتقييم الفكرة السليمة عن نقيضتها الباطلة ، أو لتقييم السلوك السليم عن المنحرف ، وليس مقياس الحق والباطل أكثرية الآراء أو القوة أو الشهرة أو القرابة.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)

[١٦٥] رابعا : ان الله هو الذي جعل طائفة من الناس بعد طائفة ، وجيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن ، فليست أسبقيّة هؤلاء دليلا على أنهم أقرب الى الله زلفى ، بل كلهم عند ربهم سواء ، ولذا لا يجوز أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا ، فيعبد الخلفاء من كان قبلهم. كلا .. كما ان الله هو الذي أنعم على بعض الناس بنعم أكثر من غيرهم أو بنعم مختلفة عن نعم الآخرين ، وهذا لا يدل على أنه سبحانه أقرب الى هؤلاء أو أولئك ، بل ان الهدف من ذلك هو مجرد اختبارهم في النعم ، فيمتحن الغني بثروته والفقير بفاقته ، والعالم بعلمه ، والجميل بما لديه من جمال.

وهكذا ينسف القرآن أصول الشرك من النفوس حيث يحترم الفرد السابقين ،

٢٥٨

فقد يعبدهم مبالغة في احترامهم ، وقد ينبهر بهم وينجذب إليهم فيختار عبادتهم لهذا السبب.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ)

فبعضكم يخلف بعضا ، ويأتي مكانه.

(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

والله سبحانه إذا أراد ان يعاقب أحدا فهو سريع في عقابه ، ولكنه لا يريد أن يعاقب أحدا لأنه يغفر ذنبه أو يؤخره لعله يتوب ، من هنا فعلينا ألا نعتمد أبدا على أن الله لم يعذبنا بشركنا باحترام آبائنا الى حد الشرك والطاعة والعبادة لهم ، أو حب المال والجمال والسلطة الى درجة الانجذاب إليهما وعبادتهما ، كلا ان الله إذا أراد أن يعاقب فهو سريع لا يعطيك فرصة للفرار.

٢٥٩
٢٦٠