من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)

٣٤١

الإنسان بين سنن الطبيعة

وبصائر التاريخ

هدى من الآيات :

لكي نفهم علاقة الربوبية التي تسود بيننا وبين خالقنا ، تلك العلاقة التي تعني ان الله يتابع نعمه علينا ، ويبارك لنا ، ويكمّل حياتنا ، لكي نفهم تلك العلاقة ونستفيد منها علميا وعمليا لا بدّ أن نلقي نظرة على الطبيعة ، ونظرة الى التاريخ ، فمن الطبيعة نستوحي التطور المادي الذي يباركه الله ، وفي التاريخ نتبصر آثار التكامل الاجتماعي والمعنوي.

للنظر الى المطر ، كيف يرسل الله الرياح مبشرات بالربيع والرخاء ، ولتحمل السحاب المليئة بالماء وتساق من قبل الله الى بلد ميت ، فاذا بالماء يحيي الأرض ويخرج نبات كل شيء ، وهكذا كما في الربيع عند ما يحيي الله الأرض ويبعث فيها الحياة ، كذلك في يوم القيامة يخرج الله الموتى ، والقضية بحاجة الى تذكر وتفهم.

بيد أن إنزال المطر لا يعني الحياة ، بل يجب أن تكون الأرض مستعدة لتقبل

٣٤٢

النعمة والاستجابة لها ، فالأرض الطيبة تخرج نباتها بإذن الله ، أما الأرض الخبيثة فان نباتها يخرج نكدا ، كذلك آيات الله التي أنزلت على الرسل بحاجة الى أرضية مناسبة لدى الإنسان حتى يستفيد منها ، تلك الارضية هي أرضية الشكر والاستجابة ، وإلّا فلا تنفع وهذا أعظم درس نستفيده ، من النظر الى التاريخ ، فلقد أرسل الله نوحا الى قومه ، حيث دعاهم الى عبادة الله ، وحذّرهم من عذابه العظيم ، بيد أن قومه اتهموه بالضلالة ، فنفى عن نفسه الضلالة وبيّن لهم أنه رسول من ربّ السماوات والأرض ، وأنه جاء لينصحهم لأنه يعرف من دونهم تعاليم السماء ، وكيفيّة الاستفادة منها ، ثم بيّن لهم أنه لا عجب في أن يرحم الله عباده ، لأنه ربّهم الذي ينزل عليهم بركاته دائما ، ويزيد لهم التكامل والتطور ، وأن رسالة الله تهدف الاستفادة من الإنذار لكل البشر معنويا بالتقوى ، وماديا بالرحمة.

بيد أن تكذيب الناس لنوح ورسالته سبّب غضب الله لهم ، لأنهم كانوا قوما عمين عموا عن الحق وضلوا فأضلوا.

بينات من الآيات :

الادارة الحكيمة والقدرة المهيمنة :

[٥٧] القرآن الحكيم يلفت نظر البشر الى الطبيعة الزاخرة بالحيويّة والجيشان ، وانطلاقا من الحقائق الظاهرة المشهورة يبلغوا الحقائق الغيبية المعقولة.

الحقيقة المشهورة هي أن الرياح التي تبشر بالمواسم الخيرة وتحمل السحاب الثقال ، فيسوقها الله الى البلد الميت لينزل منها الماء ويخرج به الثمرات ، هذه الحقيقة المشهورة تكشف لنا أمرين :

الأول : أن وراء الطبيعة إرادة حكيمة تسيرها.

٣٤٣

الثاني : أن تلك القدرة المهيمنة على الكون هي التي تخرج الموتى من الأرض وتبعثهم للحساب.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)

فالرياح لا تأتي عفويا ، بل يرسلها الله إرسالا ، والدليل هو هدفية الظواهر ، فالرياح تهدف البشارة برحمة قادمة ، والبشارة هدف لا يمكن تحقيقه عبثا ، ومن دون خطة حكيمة وفعل منظم.

(حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)

إن كل ذلك يتم بإرادة الله وحسن تدبيره ، ولولا ذلك لم تكن الصدفة قادرة على تحقيق هذه الأهداف ، إذ أن الهدف هو البشارة بالرحمة ، وإحياء البلد الميت ، وإخراج الثمرات ، ولا يمكن تحقيق ذلك بمجرد تحرك السحاب ، بل بمجموعة عوامل متفاعلة ومتزامنة كأن تكون الأرض مستعدة ، والطقس مناسبا ، والأمن مستتبا ، وأن يكون مقدار المطر كافيا ، غير ناقص ولا زائد عن الحد ، وهكذا حتى يحيى الأرض ويخرج النبات ، وذلك يدلّ على أن هناك هدفا وراء السحاب يجريه الله سبحانه بعلمه وقدرته.

وإذا تبصرنا قدرة الله في الطبيعة آمنا بأن هذه القدرة المطلقة الحكيمة هي التي تخرج الموتى للحساب ، فلا تبقى عقبة في طريق إيماننا بالبعث والنشور.

(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى)

ولكن لا يمكننا أن نفهم حقائق الكون من دون تذكر وتبصر وربط للحقائق ببعضها.

٣٤٤

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

فالتذكر يربط الحقائق ، ويستنتج من خلاله المعلومات ، ويلقي بالمسؤوليات والواجبات.

بين البصيرة والاستنباط :

[٥٨] حين يزود الإنسان بسلاح البصيرة النافذة ويتذكر يستنبط الحقائق المختلفة ، أو بالأحرى الأبعاد المختلفة من الظاهرة الواحدة ، فمن ظاهرة السحاب والمطر وإحياء الأرض يتوصل إلى أن نبات الأرض مختلف بالرغم من أن الماء الذي ينزله الله على الأرض واحد ، مما يدل على أن استجابة الأرض للماء شرط أساسي لحياة الأرض ، كذلك استجابة البشر لرسالة الله شرط لانتفاعه بها.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً)

أي عسيرا وبخيلا.

(كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)

فالذين لا يشكرون النعمة ولا يقدرونها حق قدرها لا ينتفعون بالآيات ، كما أن الأرض الخبيثة لا تنتفع بالمواسم الخيرة ، وفي القصص التالية عبر كافية لهذه الحقيقة.

لماذا نوح بالذات؟

[٥٩] لأن الله رب العالمين ورب الإنسان الذي يحب للبشرية التكامل والرقي ، فقد أرسل نوحا الى قومه ولم يرسل غيره ، لأنه منهم وأثره في تطورهم أبلغ ، ولم يدع نوح قومه الى نفسه بل الى ربهم الله الذي لا إله غيره.

٣٤٥

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

[٦٠] أما الملأ الذين كانوا يستثمرون الجماهير ويتسلطون قهرا عليهم فقد قاوموا رسالة الله.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

إنهم وقفوا عقبة إمام انتشار نور الهداية بين الناس ، فاتهموا نوحا بالضلالة ، وزعموا أنهم يرون ذلك رؤية ظاهرة.

[٦١] ونفى نوح وجود أيّ نوع من الضلالة عنده ، وبيّن لهم انه رسول أرسل إليهم من قبل الرب الذي ينزل بركاته على العالمين.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

[٦٢] وينبغي أن يستجيب الجميع لنوح لعدة أسباب :

أولا : لأنه مبلغ لرسالات الرب ، ومن الطبيعي أن تكون تلك الرسالات ذات محتوى تكاملي للبشر ، لأنها صادرة من ربهم الذي يطوّرهم الى الأفضل.

ثانيا : لأنه ناصح يعمل في سبيل رشدهم.

ثالثا وأخيرا : لأنه أعلم منهم ، وعلمه مستلهم من الله ، ويرتبط بتعاليم الله وشرائعه.

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

[٦٣] وليس بعيدا أن يبعث الله رسولا لعدة أسباب هي :

٣٤٦

أولا : لان الله رب الناس الذي ينزل بركاته المادية المشهودة عليهم في كل لحظة.

ثانيا : لأن البشر بحاجة الى تذكرة حتى يهتدوا ويكتملوا ، والرب يوفر كلما يحتاج البشر إليه.

ثالثا : لأن الله لا يعذب الناس حتى يبعث سلفا رسولا إليهم ، فينذرهم ، ويوفر لهم فرصة التقوى والحذر من العذاب ، ولكي يوفر لهم بالتالي فرصة الرحمة والرخاء والحياة السعيدة.

(أَوَعَجِبْتُمْ)

ولا عجب مما تقتضيه سنن الحياة وفطرة البشر ، ومن ذلك ..

(أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

[٦٤] ولكن مع كل ذلك البيان كذب قوم نوح برسالة الله ، وجاءت العاقبة المناسبة للمؤمنين حيث أنجاهم الله ، والكافرين أغرقهم الله لأنهم لم يستفيدوا من نعمة البصيرة.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ)

هكذا تتجلى صفة الربوبية في قصة نوح وقومه ، إن الله يبعث رسالته رحمة بالناس وتكميلا لنواقصهم ، بيد انهم يرفضون الانتفاع بها ، كما الأرض الخبيثة لا تستجيب للسماء حين تبعث إليها السحاب الثقال.

٣٤٧

وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا

____________________

٦٦ [سفاهة] : السفاهة خفة الحلم ، وثوب سفيه إذا كان خفيفا.

٦٩ [آلاء] الآلاء النعم.

٣٤٨

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)

____________________

٧١ [رجس] : الرجس العذاب.

٣٤٩

الإنسان بين رسالات الرب

والأسماء التافهة

هدى من الآيات :

تتكرر قصة نوح بين هود رسول الله وقومه عاد ، حيث أمرهم بتقوى الله ، ولكنهم اتهموه بالسفاهة ، وكادوا يكذّبونه ، فنفى هود عن نفسه السفاهة ، وقال : إنه رسول من الله الذي ينزل بركاته على العالمين ، وبيّن أنّ ذلك لم يكن بعيدا عن سنن الله ، وعن حكمة العقول ، إذ ان الله أنزل بركاته المادية على عاد ، وجعلهم الوارثين للأرض بعد قوم نوح وزادهم من نعمه ، فكان عليهم أن يعترفوا بنعم الله ويتذكروا أن الرب الرحيم الذي أنعم بها عليها هو الذي أرسل رسالته المباركة بواسطته.

لكن عادا كذبوا هودا وتحدّوه ونازلوه واستعجلوا العذاب ، بيد أن هودا كان يرى في تكذيبهم رجسا وغضبا ، لأنهم خضعوا لمجموعة أصنام لا رصيد لها من الواقع ، بل هي حروف بلا معاني وبلا سلطان من الله عليها ، ثم استجاب هود لتحديهم وطلب منهم الانتظار.

وقد أنجاه الله والذين معه برحمة منه وأنهى مدينة عاد ومن بها ممن يكذب بآيات

٣٥٠

الله لأنهم كفروا بالله.

وهذا مثل آخر لنعم الله التي تتجلّى بها صفة الربوبية ، فلو استجاب لها البشر لانتفع بها ، وإلّا فانها سوف تتبدل الى نقمة عليهم.

بينات من الآيات :

افتراءات الملأ :

[٦٥] أرسل الله الى عاد واحدا منهم وهو أخوهم هود الذي دعاهم الى الله الذي لا ملجأ لهم إلّا اليه ، وأمرهم أن يحذروا منه ويتقوه.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)

[٦٦] وهنا وقف جماعة من قومه يعارضوه ، وهؤلاء هم الملأ الذين اختاروا الكفر بوعي وإصرار ، واتهموا هودا بالسفاهة لأنه تحدى حضارتهم ، وواجه قوتهم التي كانوا مغرورين بها ، زاعمين أن منهجهم في الحياة منهج سليم ، بدليل أنهم قد بلغوا عن طريقه الى هذه الحضارة ، وهذه القوة الكبيرة ، بل إنهم كادوا يتهمونه بالكذب ، والفرق بين السفاهة والكذب إنما هو في النية ، فالسفاهة هي الإصرار على الخطأ بنية صالحة وذلك لقلة العقل ، بينما الكذب هو تعمد الخطأ مع العلم به وذلك للوصول الى هدف باطل ، وقوم عاد كانوا يرون في هود الصلاح والزهد ، لذلك لم يكونوا يجرءون على اتهامه بالكذب لذلك

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ)

[٦٧] وحين يصر صاحب الفكرة على فكرته برغم تحذير الآخرين له ، فانه يدل

٣٥١

على انه عارف بفكرته واع لأبعادها ، ولذلك فهو ليس سفيها غير عارف بطبيعة فكرته.

وهود نفى عن نفسه السفاهة ، وأصرّ مرة اخرى على أنه رسول.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

الله الذي استوى على عرش السماوات والأرض يدبر أمورهما ، ويكمل خلقهما ، إنه هو الذي أرسل هودا إلى عاد ليكمل عليهم نعمه ، ويكمل حياتهم.

نزاهة الرسول دليل صدقه :

[٦٨] لم يكن هودا داعيا الى نفسه بل الى ربه ، فلم تكن لديه مصلحة ذاتية في دعوته ، وكانت دعوته الى كلّ خير وحق ، فلذلك فهي في مصلحة الناس وعليهم أن يهرعوا إليها.

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ)

وأمانة الإنسان حقيقة ظاهرة ، لا يمكن أن يفرضها ويتكلف في التظاهر بها ، بل هي كما سائر الصفات النفسية الحسنة والسيئة ، تظهر على أفعال الفرد وأقواله ، شاء أم أبى ، لذلك كان الأنبياء (عليهم السلام) يستدلون بهذه الصفة الموجودة في أنفسهم على صدق رسالاتهم دون أن يكذبهم أحد ، لأنها كانت صفة ظاهرة.

[٦٩] ويصدق البشر بالحقائق المألوفة بسهولة ، بينما الحقائق التي لا تقع إلّا عبر فترات متباعدة لا يسهل التصديق بها ، مثلا : التصديق بالثورات والتحوّلات الاجتماعية الكبيرة ليس بسهولة وكذلك التصديق بموت أحد عزيز ، بالرغم من أن هذه وتلك حقائق واقعة وسنن فطرية ، ومن هنا كان أحد العقبات الرئيسية في

٣٥٢

طريق إيمان الناس برسالات الله هي انها لم تكن وقائع مألوفة ، فكان الأنبياء يذكرون الناس بأنها حقائق فطرية يصدق بها وجدان البشر ، وهي من السنن التي تقع بين فترة وفترة.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ)

ولا عجب في ذلك لأن الرب الذي يدبّر أمور عباده ، وينزّل عليهم بركاته جدير بأن يهدي الإنسان ، ويذكره بالحقائق ، ثم ان من رحمة الله انّه انزل ذكره على واحد منهم لأن هدفه هو إنذارهم ، والإنذار سيكون أبلغ لو كان عن طريق واحد منهم.

ولان قوم عاد كانوا مغرورين بقوتهم وبطشهم ، لذلك ذكّرهم أخوهم هود بان هذه القوة نعمة من الله وليست من أنفسهم ، بدليل أنها كانت قبلئذ عند قوم نوح فأخذها الله منهم وأعطاهم إياها ، فالقوة هذه يجب أن تكون مدعاة لقبول الرسالة شكرا لنعمة الله.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

الفلاح والسعادة يأتيان نتيجة معرفة أسباب النعمة ، وعوامل الحضارة ، واليقظة في المحافظة عليها ، لتستمر وتزداد ، لذلك حين يتذكر البشر أن النعم من عند الله سيكون واعيا لاستمرارها.

مواقف المجتمع المتخلف :

[٧٠] وحين أفحم هود قومه ، وأثار فيهم دفائن عقولهم ، واستوضح لهم فطرتهم ووجدانهم ، لم يبق لهم سوى الاتكاء على ماضيهم فقالوا : إننا لا نغير واقعنا ولا نريد لأنفسنا التطور الى الأفضل لأن آباءنا كانوا هكذا ، فسوف نبقى نحن الأبناء

٣٥٣

على سنة آبائنا ، وقال لهم هود : إذا لا رجاء في إصلاحكم.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

لقد بلغ فيهم الجمود حدّا يستعجلون معه العذاب ولا يرضون بالتغيير ، وحالهم حال كل الأمم المتخلفة والمغرورة ، أنهم يقبلون بالأمر الواقع حتى مع علمهم بفساده وخطورته عليهم ، وكلما يدعوهم المصلحون بضرورة تغيير الواقع لا يسمعون لقولهم ، لتشبّثهم بالواقع القائم وخوفهم من أيّ تغيير.

[٧١] وقال هود وهو الذي يسعى لهدايتهم بكل وسيلة : أن الواقع الذي تعتزون به واقع فاسد ، وهو رجس وغضب ، رجس فيه كلّ ضلالة وانحراف ، وغضب فيه كل سوء ودمار.

(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ)

وربما تقدم الرجس لفظيا على الغضب لأنه سابق له واقعيا ، حين يبدأ الانحراف ، ثم يظهر في صورة عذاب.

(أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ)

تلك القيم الزائفة التي تحجبكم عن رؤية الحقائق ليست سوى ألفاظ منمّقة وأسماء بلا معاني.

(ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)

[٧٢] وانتهت قصة قوم عاد بنجاة هود والمؤمنين من قومه ، ودمار الكفار لأنهم كذبوا بآيات الله ومعالم الحقيقة ، ولأنهم كفروا بالله وبرسالته.

٣٥٤

(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا)

أيّ برحمة مشهودة وواضحة.

(وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)

٣٥٥

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا

____________________

٧٤ [بوّاكم] : التّبوئة التمكين.

[تعثوا] : العثي الفساد.

٣٥٦

بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)

____________________

٧٧ [عتوّا] : العتو تجاوز الحد في الفساد.

٧٨ [الرجفة] : الرجف الاضطراب يقال رجاف بهم السقف يرجف رجوفا ٢ ذا اضطرب من تحتهم.

[جاثمين] : الجثوم البروك على الركبة.

٣٥٧

رسالة الربّ

تبير سلطة المستكبرين

هدى من الآيات :

وباختلاف بسيط في التفاصيل ولكن ضمن خط رسالي واحد يأتي (صالح) رسول الله الى قومه ثمود ليقول لهم : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

ثم أوضح لهم أن هذه آية بينة واضحة ، قد جاءتهم من الله ربهم الذي لا زالت نعمه تترى عليهم ، فهذه ناقة الله اتركوها في أرض الله ولا تمسوها بسوء ، فان ذلك سوف يسبب لكم العذاب.

ثم بين لهم ان العلاقة التي تربطهم بالله هي علاقة الربوبية والعطاء ، حيث أورثهم الأرض من بعد قوم عاد حتى تمكنوا في الأرض وبنوا القصور والبيوت ، وأمرهم بأن تكون علاقتهم بالأشياء والأشخاص علاقة إيجابية ، فلا يسعوا في سبيل الفساد بل في طريق الإصلاح والتربية ، بيد أن صالحا كما اخوته في الرسالة لم يجد الاستجابة المطلوبة ، حيث وقف المستكبرون عقبة في طريق انتشار الرسالة ، وحاولوا تضليل المستضعفين المؤمنين عن الرسالة ، وعقروا الناقة التي كانت آية إلهية ، تحدّيا

٣٥٨

للرسالة وإفسادا في الأرض.

وجاءت العاقبة حيث زلزلت الأرض من تحتهم فأصبحوا جاثمين في دورهم ، وأنقذ الله صالحا الذي لم يذرف الدمع عليهم ، لأنه نصحهم نصيحة بليغة فلم يسمعوا له ، وهذه قصة جديدة لكنها تتكرر كل يوم لتعطينا عبرة جديدة ، لعلنا نهتدي بها الى الحقيقة.

بينات من الآيات :

رسالات الله منطلق التحضّر :

[٧٣] يبدو أن ثمودا كما قوم عاد وقوم نوح ، بدأت حياتهم الاجتماعية بفهم سنن الله في الحياة ومنها ضرورة الإصلاح ، وتسخير امكانات الطبيعة من أجل الأهداف النبيلة ، إلّا انهم بعد نموّ مدنيّتهم ، وتواتر نعم الله عليهم فسدوا وأفسدوا ، فجاءت رسالة الله تحذرهم من عاقبة الإفساد ، وتذكرهم بأن هذه النعم التي يرونها ليست ذاتية لهم ولا هي أبدية ، وإنما هي آلاء الله ، كانت عند قوم فأهلكوا بسبب فسادهم وافسادهم وأورثها الله لهم ، فاذا فسدوا وأفسدوا يهلكم الله أيضا ، وربما تكون الناقة التي أخرجها الله لثمود من بطن الجبل آية كبيرة ، ربما تكون رمزا لتلك النعم ، فلو اهتموا بها ولم يمسوها بسوء ، ولم يتعرضوا لها بقتل لانتفعوا بها ، ولكن عذبهم الله.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

[٧٤] (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ

٣٥٩

مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ)

لقد كانت تلك حضارتهم ، حيث استقروا في الأرض من دون خوف من الطبيعة أن تقسو عليهم ، وذلك بسبب توفر وسائل الحياة في تلك الأرض ، حتى كانت لديهم القدرة على نحت الجبل ليتخذوا منه بيوتا ، أو حتى رفع الأبنية فوق السهل قصورا ، ولكن كانت ثمود تتجه نحو الفساد شأنها شأن الحضارات التي تغتر بمدى قدرتها فتتآكل وتتداعى وتنهار ، لذلك وقف رسول الله إليهم صالح (عليه السلام) محذرا وقال :

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)

والفساد ضد الإصلاح ، وليس بين الفساد والإصلاح عمل آخر وصبغة اخرى ، ذلك لان علاقتك بالأشياء قد تكون علاقة التربية والسعي للتغيير نحو الأفضل ، وأن تضيف إليها من نفسك شيئا جديدا كأن تبني الأرض ، وتنشأ الحقل ، وتربّي الطفل ، وتصنع من الحديد آلة مفيدة ، وهذا كلّه إصلاح ، أو تكون علاقتك هي الانتفاع بالأشياء فقط ، فتملك البيت دون أن تبنيه أو ترممه ، وتأكل من الحقل دون أن تنشأ بديله أو تسقيه ، وتترك ابنك لتربية الشوارع والأزقة ، وتستهلك الآلات والمكائن دون أن تصنع بديلها أو تقوم بصيانتها ، وتلك كلها علاقة الفساد ، والمجتمعات قد تكون متجهة بصفة عامة نحو الإصلاح والبناء والتصنيع وتغيير الأشياء الى الأفضل ، فتكون آنئذ متجهة نحو الحضارة والمدنية ، أو متجهة نحو الاستهلاك والانتفاع والتغيير نحو الأسوأ ، فتهدم حضارتها وتهوي نحو التخلف ، ورسالات الله تأمرنا بالإصلاح الذي يبني الحضارة وتسوق الأمة نحو التقدم.

صفات المستكبرين (الملأ) :

[٧٥] إن حالة الإسراف والتبذير ، وصبغة الفساد والاستهلاك من دون

٣٦٠