من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

سورة الأعراف

٢٦١
٢٦٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

١ ـ روى العيّاشي باسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال «من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فان قرأها في كل يوم جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة»

٢ ـ قال ابو عبد الله «اما إنّ فيها ايّا محكمة فلا تدعو قراءتها وتلاوتها ، والقيام بها ، فانها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربه» (١)

__________________

(١) مجمع البيان المجلد ٢ ص ٣٩٣

٢٦٣
٢٦٤

الإطار العام

هذه السورة تبحث موضوع الإنسان ، ففي البداية تبين قصة الخطيئة الاولى وغريزة حب السلطة وحب الخلود ، وكيف يغوي الشيطان البشر فيندم ، ويتعدى على حقيقته التي لا يسترها الا لباس التقوى ، وأن من عوامل الخطيئة التقليد وتقديس الآباء ، والزعم بان الله يأمر بذلك ، بينما الله لا يأمر بالفحشاء ، بل يأمر بالقسط ، والتوجه مخلصا الى الله عند كل مسجد والتزين ، وان يتمتع بالخيرات دون إسراف ، وأن من الحرام : الفواحش ، والبغي ، والشرك ، والتقوّل على الله بدون علم أو كتاب منير (٩).

والإنسان يهتدي برسالات السماء ، أما من يكذب ويستكبر ، أو يفتري على الله فانه يعذب عذابا شديدا ، حيث تلعن كل أمة أختها بسبب الطاعة لها ، أما في الجنة فهناك القلوب الصافية ، وهذا التقسيم للناس انما هو بمقياس الهداية والضلالة ، والعلاقة بينهما هي التي تظهر عند الله ، حيث يستنجد الكفار بأهل الجنة ،

٢٦٥

فيذكرونهم بأيام صدهم عن سبيل الله في الدنيا ، وبينهما أهل الأعراف من قادة المتقين حيث يعرفونهم جميعا ، ويوبّخون أولئك الذين اتخذوا الدين لهوا ولعبا ، وانتظروا نهاية الأمر (٣٤).

وعلاقة الإنسان بالله هي طلب المزيد من رحمته ، لأنه رب العالمين ، وعلاقته بالحياة وبالناس هي الإصلاح وعدم الإفساد.

وكما أرسل الله الرياح بشرا بين يدي رحمته ، فكذلك أنزل رسالاته هدى ورحمة ، وقصة نوح مع قومه تدل كيف أن رسل الله يريدون هداية الناس وإنذارهم ورحمتهم بالتالي ، ولكنهم يعاندون ويستكبرون فيهلكون (٥٣).

وكذلك هود دعا الى التقوى فكذبوه وسفهوه ، ولكنه ذكرهم برب العالمين (وصاحب الرحمة المكتملة لهم) ، وذكرهم كيف استخلفهم الله في الأرض ، فتمسكوا بضلالة آبائهم فاستمهلهم الله قليلا ، وبعدئذ قطع الله دابرهم (٦٥).

أما صالح رسول الله الى ثمود فقد زود بناقة معجزة ، وذكرهم باستخلافهم ، ونعم الرفاه والعمارة عندهم ، ولكن حالة الاستكبار واستغلال المستضعفين منعتهم من الاهتداء ، فعقروا الناقة ، واهلكهم الله (٧٣).

وانحرف الإنسان في قوم لوط بالشذوذ الجنسي ، فأمطر الله عليهم بعد نصيحة نبيهم مطر السوء ، أما مدين فقد نصحهم رسولهم شعيب بترك الفساد الاقتصادي والإصلاح ، وعدم الصد عن سبيل الله الذي اتبعه فريق منهم ، ولكن الاستكبار منعهم ، ودعاهم الى محاولة إخراج شعيب ، وتوكل المؤمنون على الله ، فأخذت الرجفة الظالمين وأصبحوا حديثا يروي ، ولم يأس عليهم رسولهم الناصح (٨٠).

ويأخذ الله كل قوم يرسل إليهم نبيا بالبأساء والضراء ، ولكنه يبدّلهم بالحسنة

٢٦٦

السيئة ، ثم إذا لم تنفعهم الحسنة أو السيئة يأخذهم بغته ، وان الايمان والتقوى يفتحا بركات السماء عليهم ، ولكن هل يأمن أهل القرى بأس الله ومكره؟! ان عليهم ان ينظروا كيف يهلك الله قوما ، ويستخلفهم بقوم آخرين (٩٤).

كذلك جاء موسى بالآيات لملأ فرعون الذين ذكروا بها ، وانتهت حياتهم الفاسدة ، وذكرهم موسى بالحق ، وطالبهم بتحرير بني إسرائيل ، فطالبوه بآية (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ، وأراهم يده البيضاء ، ولكنهم رموه بالسحر واتهموه بتهديد الأمن ، وسجنوه ، وجمعوا السحرة ، وأغروهم بالسلطة والمال فسحروا أعين الناس ، ولكن عصا موسى ابتلعت سحرهم ، فآمن السحرة وانقلبوا صاغرين ، وعذّب فرعون السحرة المؤمنين فصبروا ، وطالب الملأ فرعون بعقاب موسى فتوعد فرعون موسى ، ولكن قوم موسى استعانوا بالله وصبروا انتظارا لوراثة الأرض ، فأخذ الله آل فرعون بالسنين والمصائب ، ولكنهم نسبوا الحسنة الى أنفسهم والسيئة الى موسى ، واستكبروا عن الايمان وتظاهروا بالايمان عند السيئة ، وكفروا عند الحسنة ، فانتقم الله منهم فأغرقهم ، وأورث الله الأرض الذين كانوا يستضعفون ، ودمر فرعون وقومه (١٠١).

ويستمر السياق القرآني في بيان الطرح البشري بين فريقي المهتدين والضالين الى الآية (١٥٦) حيث يحدثنا عن مجمل قصص موسى مع قومه.

ويحدثنا السياق عن الرسالة الجديدة التي جاءت محررة للبشرية من أغلالها النفسية والثقافية وذلك على يد النبي الأميّ المبشر به في الكتب السابقة ، والتي هي رسالة جميع البشر (١٥٧).

ويعود السياق الى امة موسى وأقسامها واخطائها ومنها : عدم تناهيهم عن المنكر في قصة السبت ، وكيف مسخوا قردة ، وكيف تركوا الدين بالرغم من أن

٢٦٧

بعضهم ظل متمسكا بالكتاب ، وكيف أمرهم الله بأخذ الكتاب بقوة وذلك بعد ان نتق الجبل فوقهم (١٥٩).

ولكن السياق يعود بنا الى العهد الانساني الاول ، حيث أخذ ربنا من بني آدم عند ما كانوا في ظهر أبيهم ميثاقا باتباع الهدى ، وكيف أن بعضهم يشرك الآن بسبب شرك آبائهم وأن بعضهم ينقض هذا العهد عهد العلم والمعرفة ، حيث يخالف ميثاق المعرفة (١٧٢).

لذلك يختار الله اليهود تارة والعرب تارة ، حسب ظروف فترة الاختيار ، ويبين مدى الجريمة عند من يكذب بالدين ، وكيف أن ربنا قد قدّر لهم جهنم مصيرا ، لأنهم لم يستفيدوا من مداركهم (١٧٧).

ويبين الله أسماءه الحسنى ، وكيف أن طائفة يلحدون في أسمائه سبحانه ، وأنّ الله سيستدرج المكذبين ويملي لهم حسب خطه حكيمة لأنهم لم يتفكروا ليعرفوا أن رسولهم ليس بمجنون ، ولم يتفكروا ليعرفوا ما في السموات والأرض من آثار التدبير والتقدير ، وانه عسى قد يكون أجلهم قد اقترب ، وأنه ان لم يؤمنوا بهذا الحديث فبأي حديث بعده يؤمنون (١٨٠).

والله يضل ومن يضلله الله فلا هادي له وأن الساعة علمها عند الله ، واما الرسول فلا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا (١٨٦).

ويبين السياق : كيف أن الله قدّر حياة البشر ، وخلقه بوحدانية المتعالية عن الشركاء ، ولكن المربين أفسدوا ضميره وأشركوا فيه ، بينما الله هو ولي البشر ، ووليّ الصالحين منهم بالذات ، بينما الشركاء لا يستطيعون نصر البشر ، والشركاء لا يملكون السمع (١٨٩).

٢٦٨

وعلى الرسول ان يأخذ العفو ، ويأمر بالفطرة والعقل ، ويبتعد عن الجهل ، وعلى البشر أن يتقوى بالله على شيطانه ، وان يتذكر ربه حتى يمسح نفسه آثار مس الشيطان ويبصر الحقائق ، وإذا لم يكن الإنسان متقيّا فان الشيطان يمده في الغيّ والعمه مثلا نرى يطالبون أبدا بآية لم ينزلها الله دون أن ينتبهوا الى ان الرسول مقيد بالوحي ، وان القرآن بصائر ، وعلى الإنسان نفسه ان يتبصر الحقائق ، وان يستمع الى القرآن ، وان يذكر ربه تضرعا وخفية ، وان يتجنب الغفلة ، ولا يستكبر عن عبادة ربه ، ويسبحه ويسجد له ، ذلك هو برنامج بناء الشخصية المؤمنة والإنسان المتكامل الذي تتناوله موضوعات سورة الأعراف (١٩٩).

٢٦٩
٢٧٠

سورة الاعراف مكية وهي مائتان وست آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)

٢٧١

الرسالة الميزان الحق

هدى من الآيات :

(أل م ص) هذا كتاب أنزله الله على قلب الرسول الذي ينبغي ان يتسع له ولا يضيق به ، ولا يتردد في قبوله وادائه ، وإنذار الناس به حتى يؤمنوا فاذا آمنوا فان الكتاب سيكون ذكرى لهم ..

وعلى الناس اتباع قيم الكتاب ، والذين يجسدون هذا الكتاب ، أما غيرهم الذين يتخذون من دونهم أولياء لا على أساس القيم فحرام اتباعهم ، لأنهم سوف يقودون البشر الى الهلاك ، فكم من قرية أهلكها الله فاذا بعذاب الله يأتيها ليلا ، أو عند فترة القيلولة صباحا ولم يدعوا شيئا ، وانما اعترفوا بذنبهم ، وأنهم ظلموا أنفسهم.

والله سبحانه يحاسب الذين أرسل إليهم الكتاب ، كما يحاسب الذين أرسلهم لتبليغ الرسالة ، ثم يبين الله لهم الحقائق لأنه سبحانه كان شاهدا عليها ولم يكن غائبا عنها ، ثم بعد الحساب الدقيق يوزن ايمان واعمال العباد ، فمن كانت موازينه ثقيلة فانه من أهل الجنة والفلاح ، بعكس ذلك الذي كانت موازينه خفيفة أنه قد

٢٧٢

خسر نفسه ، وضيع الفرصة عليها ، والسبب أنه حين جاءته الآيات الكريمة لم يستمع إليها حتى يهتدي بها ولا يظلم نفسه ..

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[١] (المص)

هذه هي فواتح السور التي قيل عنها أشياء كثيرة قد يكون أغلبها صحيحا ، باعتبار القرآن الكريم ذو أبعاد مختلفة ، بيد أن من الممكن ان تكون هذه الأحرف رمزا تدل على ذاتها دون اي شيء وراءها ، كما سبق وأن تحدثنا عنه في سورتي البقرة وآل عمران ، وعلى هذا الأساس تكون الكلمة التالية لها خبرا لها.

ربانية الكتاب :

[٢] ولم يكن القرآن من تأليف محمد (صلّى الله عليه وآله) ولا من نبوغه ، بل هو كتاب أنزله الله ، وأحد أبسط الأدلة على ذلك أن صدر الرسول يكاد يضيق به ، ولذلك أمر الله رسوله بأن يتسع قلبه الشريف لهذه الرسالة.

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)

الرسالة بحاجة الى سعة الصدر حتى يتحمل الفرد ثقل الحقائق التي فيها وو حتى يتحمل جهد العمل بها ، وصعوبات تبليغها ، وسعة الصدر تأتي من الايمان بالغيب ، بالمستقبل البعيد ، بالآفاق الواسعة ، ومن التوكل على الله ، والثقة بالقدرات التي أودعها في كيان البشر ، والامكانيات التي سخرت له ، وبالتالي فان سعة الصدر نابعة من الخروج عن زنزانة الذات ، والانطلاق في رحاب الله من أجل خدمة البشرية جميعا.

٢٧٣

زنزانة الحياة :

ان الشهوات ، والآمال والطموحات الخاصة ، والجهل بالمستقبل ، والانحسار ضمن اللحظة الحاضرة كل تلك جدران معتقل البشر التي تضيق عليه رحاب الكون.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (١)

وعلى من يريد حمل رسالة الله ان يتمتع بسعة الصدر بهذا المفهوم الواسع للكلمة ، والهدف من الكتاب هو : إنذار غير المؤمنين ، وتذكرة المؤمنين حتى يزدادوا ايمانا.

(لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)

[٣] لقد أنزل الله الكتاب لكي لا يتبع الإنسان سوى القيم السماوية ، والذين يجسدون تلك القيم ، ولا يخضعون لهذا أو ذاك باي أسماء مخترعة ..

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ)

اي لا تتركوا اتباع القرآن باتباع الأولياء الغرباء ..

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)

إذ البشر قلما يستطيع التحرر من جاذبية الأشياء والأشخاص ، والتحليق في سماء القيم ، وإذا تمت هذه الحرية فإنما عن طريق التذكّر بالله وباليوم الآخر.

__________________

(١) الأنعام / ١٢٥.

٢٧٤

[٤] وحين يتبع الإنسان اولياء من دون الله فأنه هالك ، ويأتيه عذاب الله على غفلة منه دون ان يستطيع له ردا ..

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)

أي ليلا أو في منتصف النهار حين يستريحون الى نوم القيلولة ، أو بتعبير آخر ليلا أو نهارا.

[٥] ولم تكن حجتهم إذ ذاك الا الاعتراف بظلمهم.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)

لقد كان ظلمهم بوعي ، وبعد إتمام الحجة عليهم ، لذلك اعترفوا به حين الهلاك ولم يدّعوا ـ حتى مجرد الادعاء ـ بغير ذلك.

[٦] ولم تنته العقوبة بالنسبة لهؤلاء بالهلاك الدنيوي ، إذ جاء بعدئذ دور الحساب الأخروي.

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)

اي نسأل المبلغين للرسالة كيف بلّغوا وبماذا أجيبوا؟ ونسأل الناس لماذا لم يجيبوا بعد إتمام الحجة عليهم؟

[٧] ولكن هذا السؤال ليس عن جهل أو عن غيبة ، بل لمجرد المحاسبة ، ولكي يعترف الظالمون بجريمتهم ، فان الله سوف ينبئهم عن كافة تفاصيل حياتهم بعلم ، لان الله لم يكن غائبا حين اكتسابهم للأعمال ..

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)

٢٧٥

[٨] وبعد المحاسبة يأتي دور الجزاء العادل ، لان ما يوزن به الأعمال حق ودقيق ، وليس فيه أدنى نقص.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

لأنهم أصابوا الفلاح المادي والمعنوي بالجنة والرضوان ، وقد انتهت صعوبات الحياة ومخاوفها بحياة رغيدة آمنة.

[٩] ولكن الخسارة كل الخسارة هي أن يكتشف الفرد خفة موازينه ، إذ لا يملك البشر سوى فرصة واحدة للعمل هي أيام عمله المعدودة في الدنيا ، فاذا خسرها فما ذا يبقى له هناك؟

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)

انهم ظلموا الآيات فلم يسمعوها ، ولا عملوا بها ، فاذا بهم يخسرون كل ما يملكون.

٢٧٦

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ

____________________

١٣ [الصاغرين] : الصاغر الذليل بصغر القدر ، وصاغر إذا رضي بالضيم.

١٨ [مذءوما] : الذم والذيم أشدّ العيب.

[مدحورا] : الدحر الدفع على وجه الهوان والاذلال ، يقال دحره إذا دفعه بقوة وقسوة.

٢٧٧

شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)

٢٧٨

جذور الانحراف في حياة البشر

هدى من الآيات :

في هذا الدرس يبدو ان القرآن الحكيم يذكرنا بالموضوع الاساسي في هذا السورة حيث تبين طبيعة الإنسان ، وأسباب انحرافه ، لقد خلق الله الإنسان. وجعل له الأرض مكانا ومحلا للرزق ، ولكن رد فعله لم يكن الشكر ، ولكن لماذا لم يشكر؟

ان هذا يعود الى قصة الخطيئة الاولى ، حيث خلق الله آدم وجعله في أحسن صورة وتقويم (وأعطاه الروح ، والعلم ، والارادة) وأمر الملائكة بالسجود له ، فلم يسجد إبليس له لأنه خلق من نار بينما خلق آدم من طين ، وهكذا تكبر إبليس فطرد من السماء واخرج صاغرا ، بيد أن إبليس طلب المهلة ، فأعطاه الله ما طلب ، فاستغل إبليس مهلته في إغواء البشر عن الصراط المستقيم ، واقسم انه سيأتيهم من قدامهم ومن خلفهم ، ومن قبل إيمانهم وشمائلهم ، ليحرفهم عن الشكر لله ، لذلك اخرج ربنا إبليس كما أخر الذين يتبعونه ، وأوعدهم النار ، وأن يملأ بهم جهنم جميعا.

٢٧٩

هكذا كانت جذور الانحراف عند الإنسان ، اما المثل الحي لهذا الانحراف فسوف يحدثنا عنه القرآن في الدرس القادم.

بينات من الآيات :

بين النعمة والجريمة :

[١٠] من نعم الله على الإنسان تمكينه في الأرض ، وتذليل الأرض وتسخيرها له ، وجعل الله فيها معايش البشر ، وما به تستمر حياتهم.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ)

بيد ان البشر لا يفكر في أسباب النعم وعواملها ، لذلك لا يشكر عادة من أنعم بها عليه.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)

[١١] من اين تنشأ عادة الجريمة؟

في قصة آدم وإبليس توضيح لهذا السؤال ، لقد خلق الله البشر وصوّر خلقه جوهرا وصورة وهيئة ، وربما المراد من الصورة هي ما أودع الله عند الإنسان من صفات وأخلاق ، ومن غرائز وفطرة ، وبالتالي العقل والارادة كما قال سبحانه :

(وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ٢٩ / الحجر

وقال سبحانه :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ١٣٠ / التين

وقال :

٢٨٠