من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)

____________________

٤٦ [الأعراف] : الأمكنة المرتفعة ، والعرفاء من الناس أعلاهم منزلة ، والعريف الشرطي.

٣٢١

جزاء الظالمين

الذين يصدّون عن سبيل الله

هدى من الآيات :

في صورة حوار يجري مستقبلا بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، يجسد القرآن الحكيم حقائق الحاضر ، وأبرزها أن ما يقوله الله حق ، وأن لعنة الله على أولئك الذين يظلمون أنفسهم فلا يستجيبون للحق ، بل يصدّون الناس عن سبيل الحق ، ويحرفون السبيل ليضلوا الناس وهم يكفرون بالآخرة.

بين الجنة والنار مرتفع من الأرض أشبه ما يكون بسور يقف عليه أئمة الصلاح ، الذين يعرفون المؤمنين والكافرين بسيماهم ، وينادون أصحاب الجنة ويسلّمون عليهم. ويأذنون لهم بدخول الجنة ، وقد استجيبت كل طلباتهم ، فلا يطمعون في شيء آخر.

بينما لا ينظرون إلى أهل النار ، إذا صرفت أبصارهم تلقاء جهنم فزعوا من هول جهنم ، وخافوا ان يصبحوا من أهل النار من شدة فزعهم ، وقالوا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

٣٢٢

إن هذا الدرس يتابع فكرة الدروس السابقة التي هي تصوير للحقائق ، لعل البشر يخرج من قوقعة ذاته إلى رحاب الحقيقة.

بينات من الآيات :

كيف نتذكر الحقيقة

[٤٤] لكي يتغلب البشر على مشكلة النسيان في ذاته ، ويتمكن من تذكر الحقائق التي يهتدي إليها بعقله ، ويحيط بها علمه ، وبالتالي لكي يشاهد بأحاسيسه وببصيرته الحقائق القادمة ، فعليه أن يتسلح بالتصور ، وتجسّد الحقائق امامه يقرّب بالخيال واقعيات المستقبل التي لا يعلم بها إلّا رمزا.

مثلا : الجندي الذي يتدرب في المعسكر ، والذي يعلم انه سوف يخوض في المستقبل معركة المصير ، وأنه لو تدرب جيدا فسوف يتغلب فيها وإلا فلا. على هذا الجندي أن يتصور أبدا ساحة المعركة ، ومدى المكسب فيها عند الانتصار ، ومدى الضرر عند خسارتها ، وكذلك الباحث في مكتبه ، والعامل في مصنعه ، والمدير في دائرته ، كل أولئك لو فكروا في مستقبل أعمالهم ، وتذكروا ذلك المستقبل إذا لعملوا أفضل وأفضل.

والقرآن الحكيم يصوّر لنا المستقبل في صورة حوار بين المؤمنين والكافرين ، وهذا الحوار يتم بشكل مناداة فاذا بالقشور السميكة التي تحيط بقلوبنا تتفتت بفعل هذا الصوت المخترق.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) فما دام كلام الله حقا ، ووعده صدقا ، فلما ذا التكذيب به؟! ولماذا الامتناع عن

٣٢٣

الاستجابة له وفيه منافعه؟! إن ذلك ظلم عظيم ، ورحمة الله تتمثل في جنته ، وتوفيقه بعيد عن الظالم ..

وسوف نتحدث إنشاء الله عن المؤذن الذي نتصور أنه هو صاحب الأعراف الآتي ذكره.

ظلم النفس والمجتمع :

[٤٥] الظالم لا يبقى في حدود ظلمه لنفسه. بل أنه سوف يظلم الناس أيضا ، وسوف يدعو الناس الى منهجه الباطل ، ويقف عقبة امام توجّه الناس الى الله ، بل ولا يدع الناس يعملون الخير.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ)

[٤٦] (وَبَيْنَهُما حِجابٌ)

وبين أهل الجنة والنار حجاب ، والحجاب في الآخرة تعبير عن الحجاب في الدنيا بين المؤمن والكافر ، ذلك هو الفرق بين فريقي المؤمنين والكافرين ، واختلاف جبهتيهما ، حيث إن المؤمن الذي لا يؤمن بهذا الحجاب يشك في إيمانه.

وبالرغم من اختلاط الناس ببعضهم في الدنيا فهم في الآخرة مختلفون جدا ، وبين الجنة والنار أعراف ، وهو مرتفع من الأرض يفصل بين الموقعين ؛ ويجلس عليه رجال معيّنون أهم ميزة فيهم هي : معرفتهم التامة بالناس.

(وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ)

ويبدو أن هذه الفئة هم القدوات والأئمة الذين يميّزون بين الحق والباطل ، وصفات أهلهما ، وبالتالي يعرفون كلا منهما ، هذه الفئة هم القادة المؤمنين في

٣٢٤

الدنيا ، وفي الآخرة قادة الناس جميعا ، فهم يميّزون هناك كما في الدنيا بين الطائفتين ، وهؤلاء يعطون للمؤمنين الاشارة الخضراء لدخول الجنة.

(وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)

وحين يدخل المؤمنون الجنة ، تملأ الجنة كل طموحهم وتطلعهم.

(لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ)

[٤٧] ويبقى هؤلاء الائمة متوجهين في الأكثر إلى أهل الجنة ، وإذا توجهت نظراتهم إلى أهل النار مرة واحدة أفزعتهم النار بما فيها من أنواع العذاب ، وطلبوا من ربهم نجاتهم منها.

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

٣٢٥

وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ

٣٢٦

شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)

٣٢٧

هكذا ينسى الله

الذين اتخذوا دينهم لعبا

هدى من الآيات :

في جو النداء الصارخ ومع الحوار الساخن يذكّرنا السياق القرآني بذات الحقائق التي يذهل عنها الناس وهم يصارعون المشاكل اليومية ، أولئك الناس الذين يعتمدون على العشيرة والحزب والزملاء.

ولذلك فهم يستكبرون عن الحقائق ولكن عند الله لا يغني كل ذلك عنهم شيئا ، وقد يستصغر البشر المؤمنين لقلة عددهم وضعف عدتهم ، ويحلفون بالله أنهم منبوذون عنده ، ولكن الله يدخل هؤلاء الجنة ، وهناك يطفق أولئك المستكبرون المعتمدون على كثرة العدد والعدة بالسؤال من المؤمنين أن يعطوهم الفائض من مائهم ، والفتات من نعم الله عليهم ولكن هيهات.

إن الكفار الذين حرّموا على أنفسهم نعمة الدّين ، واتخذوه أداة للتسلية ، واستهانوا به ، وانبهروا بعاجل الدنيا. إنهم حرموا على أنفسهم بذلك نعم الآخرة

٣٢٨

أيضا ، إن الله ينساهم هناك كما نسوا الآخرة ، وكما أنكروا آيات الله الدّالة على الحقائق.

والله لم يقصّر في هداية الناس حتّى يحتجّوا عليه يوم القيامة ، بل جاءهم بكتاب مفصّل ومبين في كافة حقوق الحياة ، خلفيّته العلم والمعرفة ، وهدفه التوجيه والهداية ، ونهايته السعادة والرحمة ، بينما الكفار ينتظرون تطبيق آيات الكتاب عمليا حتى يؤمنوا به ، وآنئذ لا ينفع الايمان.

بينات من الآيات :

التصور أجنحة الحقيقة :

[٤٨] في يوم القيامة حين ينشغل الجميع بأنفسهم ، يتفرغ أصحاب الأعراف وهم أئمة المتقين لمحاسبة الناس واسترجاع ذكريات الماضي.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ)

أي ملامحهم التي تتأثر بالعذاب ، وتمسخ عن الانسانية الى صور مفزعة.

(قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ)

أي ما الذي أفادتكم الجماعة التي اعتمدتم عليها ، وزعمتم انها ستنفعكم في أوقات العسر والشدة فأين هم الآن!

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)

أي أين ذلك الغرور الذي جعلكم تستكبرون به ، أين القوة وأين الشباب وأين المال وأين الصحة؟ وبالتالي أين تلك الماديات الزائفة التي غرّتكم ، وجعلتكم تتطاولون على الحقيقة ، وتحسبون أنفسكم فوق الحق ، وأعلى من القيم؟!

٣٢٩

إننا إذ نتصور ذلك اليوم ، وتلك الساعة التي يخاطب أصحاب الأعراف واحدا منا إذا كان مستكبرا ـ لا سمح الله ـ لنعود ونرتّب أوراقنا من جديد ، ونتساءل عما إذا كنا في ذلك اليوم غير قادرين على التوبة ، أو على العودة إلى الحياة للتوبة ، فما دمنا نملك فرصة الحياة إذا دعنا نتوب الى ربنا ، ونصلح أنفسنا ونتقرب الى أصحاب الأعراف الذين مثلهم بيننا مثل الأنبياء بين أقوامهم ، يعرفون ملامح المؤمنين وملامح الكفار ، ويتضرعون الى الله لإصلاح الناس بعد صلاح أنفسهم ، نتقرب إليهم ونستمع الى نصائحهم التي تشبه نصائح الطبيب الذي يكشف المرض ، ويعرف ملامح المريض لعل ذلك يؤثر في مصيرنا ، ومرة أخرى ، أقول : دعنا نتصور ذلك الموقف الرهيب ، فان التصور أجنحة الحقيقة التي تجعلك تلامس الواقع المستقبلي ، وترى الغيب البعيد.

[٤٩] وينظر أصحاب الأعراف الى أهل الجنة ، ويسألون أهل النار.

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ)

وحلفتم زورا وكذبا ، وتماديا في غروركم واستكباركم.

(لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ)

هذه رحمة الله تغمرهم ، ثم يخاطبون المؤمنين :

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)

فعلى الإنسان ألّا يزعم أن تأكيده وحلفه يغيّر الحقيقة ، بل يفضحه أكثر فأكثر ، فهناك يستبد به الخوف على مستقبله والحزن على ماضيه.

[٥٠] ويكون مصير الكافر بالحقيقة الاستجداء من المؤمنين ، الذين كان إيمانهم

٣٣٠

بها سببا لحصولهم على الجنة ، وتسخيرهم إياه لنعمه.

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ)

[٥١] الكافرون لم يتحركوا عبر المنهج المرسوم بل واستهزءوا به أيضا ، فبدل أن يزرعوا أحرقوا وبدل أن يبنوا هدموا وبدل أن يسيروا على الطريق أحرقوا معالمه كل ذلك جعلهم يعضون أناملهم حين الحصاد ، ويفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويضلون الطريق.

الدين منهج حياة :

[٥٢] الدين منهج حياة يهديك الى العمل الصالح في الدنيا الذي يتجسد في الآخرة نعيما مقيما ، إنه أرض خصبة تزرعها وتأخذ نتاجها حين حصادها ، ومعالم على الدرب تعمل على هداها حتى تبلغ غايتك.

ومن الناس من يتخذ الدين لهوا يعمل به دون هدف ، أو حتى لعبا يضعه حسب مشتهياته ، فانه آنئذ لا ينتفع بالدين ، وهو بالتالي لا يحصد نتائجه.

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً)

أما قيادة هؤلاء فهي بيد أهل الدنيا ، لأن الدنيا قد استعبدتهم.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)

إن هؤلاء ينسون مستقبلهم ويختصرون حياتهم في حدود الحاضر.

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا)

٣٣١

من ينسى يوم الحصاد ينساه الناس في ذلك اليوم ، لأنه قبلئذ كلما قالوا له : ازرع لم يسمع ، وجحد بآيات الله.

(وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)

قيمة العقل :

[٥٣] قيمة العقل الاساسية انه يرشدك الى الحقائق المستقبلية ، ويجعلك تتجنب المشكلات والصعوبات قبل وقوعها ، والرشيد حقا هو : الذي يتنبأ بالمستقبل ، بينما الغبي حقّا هو : الذي لا يعترف إلا بالواقع الحاضر ، فاذا قيل : إن هذا الجدار يريد أن ينقض ، اتكأ عليه وقال : انني لم أهدم الجدار ، وحين ينهدم الجدار سأقوم عنه ، ولكن إذا أنهدم الجدار هل يبقى له اختيار؟ كلا ..

كذلك المؤمنون والكفار ، أولئك يعقلون المستقبل ويتنبئون به ، ويعملون وفق الرشاد الذي يهديهم اليه العقل ، بينما هؤلاء ينتظرون وقوع الحقائق وحضورها عندهم ، وهذا ما يسميه القرآن بالتأويل ، أي عاقبة الأمر وما يؤول اليه ، وبعد التأويل وحضور المستقبل لا ينفع العلم به شيئا ، إذ آنئذ حتى الحمار يراه!!

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)

إن انتظار الشفيع ، أو العودة الى الماضي هو نوع من الغباء أيضا ، إذ كيف يبني الله الحكيم الجزاء على أساس عمل الآخرين ، وليس على أساس عمل الشخص ذاته مباشرة أو غير مباشرة؟! وكيف يعود الماضي؟!

إن للإنسان فرصة واحدة فقط هي مدة عمره ، فاذا انقضى أجله ، ولم يستفد من الفرصة ضاعت عليه نفسه والى الأبد.

٣٣٢

(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)

إن نفسك مقسّمة على ساعات عمرك ، فكلما ضيعت ساعة أكل الندم جزء من نفسك.

أما الباطل الذي لا يستمد وجوده وشرعيته من الحق والواقع ، فانه يضل كما السراب في الصحراء ، إن تصوراتك تعتمد على وجودك فاذا خسرت نفسك فهل تنفع تصوراتك وخيالاتك؟ فالسعي مردود ، والجهد خائب ، وهذا وذاك في ضلال مبين.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

٣٣٣

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)

____________________

٥٤ [حثيثا] : الحثيث السير السريع.

٥٥ [تضرعا وخفيه] : التضرع التذلل وهو إظهار الذل ، والخفية الإخفاء.

٣٣٤

بالدعاء

يستنزل المحسنون بركات الله

هدى من الآيات :

في الدروس السابقة تذكرة بمصير المؤمنين والكافرين ، وحان الآن وقت توجيه القلوب الى الله الذي لو عرفه البشر لصلحت سريرته وعلانيته ، ومعرفة الله تتم بآياته المنتشرة في السماء والأرض ، فهو الذي أبدع السماوات والأرض ، وكلما توسع العلم في السماء أو تعمق في الأرض ، كلما ازداد معرفة بالله وبعظمته ، لقد خلق الله الخلق في ستة أيام علامة لقدرته وسيطرته التامة والمستمرة على الخلق ، والدليل على ذلك : ان الله يدبر أمور الكون ، وهو الذي يجعل الليل يغشي النهار ويلاحقه باستمرار ، وهو الذي يسخّر الشمس والقمر والنجوم فيأمرها ويجبرها على الطاعة ، ذلك لأنه خلق الخلق في البدء وأجرى أموره بصفة مستمرة ، لذلك فهو واسع المقدرة ، مبارك تنمو خلائقه وهو رب العالمين.

وعلى العباد ان يتوجهوا إلى ربهم بالدعاء والتذلل بروح متواضعة ، ذلك لأن الله يحب المتذللين له ، ولا يحب المعتدين الذين بسبب تكبرهم على ربهم ، وعدم تربية

٣٣٥

أنفسهم بالدعاء يعتدون على الناس.

وبسبب معرفة الله ، والتذلل له تنمو عند البشر روح الإصلاح ، ومن دونهما تفسد سريرته وتجنح نحو الإفساد ، والله أصلح الكون بخلقه الصالح وبهداه ، وإذا التزم الإنسان الدعاء ، وخشي غضب الله ، وطمع في رحمته كان صالحا ومحسنا.

بينات من الآيات :

من هو الرب وما هو دور الزمن؟

[٥٤] من هو رب البشر الذي يتوكل عليه ويستلهم منه هداه ومنهجه؟ أنه ليست هذه الأصنام الحجرية ، ولا تلك الأصنام البشرية ، الذي خلق السماوات والأرض ، وكانت خلقته متدرجة للخلائق ، لذلك فهو ربّ يربّي الأشياء كما يربّي الأشخاص.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

ربما تكون الأيام الستة رمزا لستة مراحل مرت بها الخليقة ، أو اشارة الى فترة من الزمن ممتدة ومتدرجة ، وبالتالي إشارة الى دخول عنصر الزمن في ذات الأشياء ، أو تكون توجيها الى نقص الأشياء أو تطورها نحو الكمال وفق سنة الله سبحانه وبأمره ، إلّا أنّ الفكرة التي نستوحيها من الأيام الستة في الخليقة هي : أنها بحاجة الى تربية الله وحسن توجيهه ، والذي ربي الخلائق أحرى به بأن يتّخذ ربا للبشر.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

فبعد ان خلق الخلق لم ينته اشرافه على الكون ، كما يصنع أحدنا الساعة ويكوّنها فتتحرك من دون أشراف له عليها ، كلا .. إن ربنا استوى على عرش السلطان والتدبير ، وأخذ يجري تلك السنن التي وضعها في الخلائق بعلمه وقدرته.

٣٣٦

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً)

فالليل لا يغشى النهار بصورة طبيعية ، بل الله هو الذي يجعله يغشي النهار ويلاحقه بإصرار.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ)

ذلك الأمر المتجسد كل يوم وكل ساعة ولحظة.

(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)

الخلق الأول والأمر المتجسد.

(تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)

الله مبارك لأن رحمته مستمرة ومتنامية ، ومبارك لأن خلقه في تكامل ، ومبارك لأنه رب العالمين ، فهو الذي يعطيه القدرة والتطور والرحمة.

الدعاء مصنع الإنسان :

[٥٥] ولكن أيّ رب ندعو؟ الله أم الأصنام؟

(ادْعُوا رَبَّكُمْ)

انه ربكم غير تلك الآيات المخلوقة ، وليكن دعاؤكم من أجل خروجكم من غلظة الأنانيّة الى رقّة الضراعة ، ومن فقر الاستكبار وذل المعصية الى غنى العبادة وعزّ الطاعة.

إن الإنسان يولد ـ كما زبر الحديد ـ فيحتاج الى صقل ، والدعاء هو : ذلك

٣٣٧

المبرد الذي يصقل النفس الانسانية ، لأن الدعاء يولّد في القلب إحساسا بالنقص ، وثقة بإمكان التغلب عليه ، والدعاء يعرّف الفرد بمواطن ضعفه وضرورة جبرانها ، والدعاء يجعلك واقعيا تعترف بجدواك ، لذلك فهو أفضل وسيلة لكبح شهوة الاعتداء على الآخرين والبطش بهم.

(تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)

التضرع لكي يكون الدعاء واقعيا ، ولاصلاح الذات ، ولعلاج داء الاستكبار ومرض الفخر والعزة بالإثم ، اما الخفية فلأجل ألا يصبح الدعاء رياء ، وبالتالي تكريسا لمرض التكبر والفخر.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)

الذين بسبب عدم تضرعهم لله وخضوعهم لعظمته يجنحون نحو الاعتداء على الآخرين ، وبدل إصلاح أنفسهم بالطريقة السليمة فهم يحاولن تعويض نواقصهم عن طريق الظلم واغتصاب حقوق الآخرين ، أو يحاولون تعويض شعورهم بالنقص بالاستكبار على هذا أو ذاك.

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) :

[٥٦] الاحساس بالمحبة للحياة ، وبضرورة إصلاحها هو الشعور المنبعث من الخضوع لله ، والدعاء اليه تضرعا وخفية ، وبالتالي فانه انعكاس ايجابي للايمان بربوبية الله سبحانه ، ومحاولة تقليد هذه العلاقة (علاقة الربوبية) فيما يتصل بتعامل البشر مع الحياة ، فكما ان الله يرحم العباد ، ويخلق الأشياء ويسخرها ، ويتسلط عليها من أجل اجراء السنن الاخيرة عليها ، ومن أجل تكميلها وإنزال بركته عليها ، كذلك عليه ان يتقمص صفة الخلق والبناء والإصلاح لا صفة

٣٣٨

الاستهلاك والهدم والإفساد.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها)

والسؤال هو : كيف ننمّي في أنفسنا صفة الإصلاح؟

الجواب : عن طريق دعاء الله ، والمزيد من التقرب الى الله.

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً)

خوفا من عذابه وسلب نعمه ، وطمعا في المزيد.

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

الذين دأبهم ليس فقط إصلاح الحياة ، بل إصلاح الناس أيضا ، والعطاء من أنفسهم لهم ، إن الخوف والطمع من الله يخلق في البشر صفة الإحسان الى بعضهم أكثر فأكثر.

٣٣٩

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى

____________________

٥٧ [أقلت] : الإقلال حمل الشيء بأسره حتى يقل في طاقة الحامل له بقوة جسمه.

٥٨ [نكدا] : النكد العسير الممتنع من إعطاء الخير على وجه البخل.

٣٤٠