من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

بينات من الآيات :

كيف نعرف طبيعة الديانات ..؟

[٣١] بالنظر الى جانب واحد من مذهب أو دين نستطيع ان نعرف طبيعته معرفة تامة ، فاذا نظرت الى مسجد المسلمين فانك تستطيع ان تعرف الصيغة التكاملية للإسلام ، فالمسجد محل عبادة يعرج منه المؤمنون الى الله ، ومقام حرب بين الهوى والعقل ، وبين الباطل والحق ، ولكنه في نفس الوقت مكان للتعارف والتعاون والاجتماع ، وكلما يقرب الإفراد الى بعضهم يستحب أو يجب وجوده في المسجد كالطهارة والنظافة والزينة ، حيث أمر الله بأن يتخذ المؤمنون أفضل زينتهم الى المساجد ، حتى يكون مظهر المجتمع جذابا ، ويقرب مظاهر الإفراد بعضهم الى بعض.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)

وكما أنزل الله لبني آدم لباسا وريشا ، وكما أنعم على أبوينا باللباس كذلك أمر بالاستفادة من نعمة الزينة ، ولكن ليس في التفاخر ولا في مجالس اللهو ، وإنما للتعارف وللتعاون في المحافل الدينية وكما ينبغي الانتفاع باللباس كذلك ينبغي أن يستفيد المؤمن من نعم الأكل والشرب ولكن في حدود العدالة التي تحافظ على تعادل المجتمع ، كما تحافظ على سلامة الجسد الذي يفسده الإسراف في الطعام.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)

إن حرمة الإسراف ، وضرورة تنظيم الاكل والشرب مظهر آخر من مظاهر التكاملية في الإسلام.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)

٣٠١

الإسراف قد يكون بتجاوز حدود الشريعة ، فالذي يأكل لحم الخنزير ، ويشرب الخمرة فهو مسرف لا يحبه الله ، إذ ما دام الحلال واسعا. فلا حاجة الى الحرام ، وقد تتجاوز حدود العرف العام فتبني بيتا بمليون دينار في الوقت الذي يكفيك نصفه ، وقد تشتري سيارة بعشرة آلاف دينار بينما تكفيك سيارة بألفين ، وحدود السرف ترتبط بالظروف الاجتماعية ، بل وحتى الظروف الشخصية ، فالفقير الذي لا يملك سوى بضعة دنانير فيصرفها في شراء العطور ، ويهمل عائلته جائعين يعتبر مسرفا ، بينما لو فعل الغني مثل ذلك لم يكن كذلك ، والدول الفقيرة التي تقلد الدول الكبرى في بناء المطارات الضخمة ، أو المباني الرياضية الكبيرة ، أو بناء سفارات فخمة تعتبر مسرفة ، بينما قد لا يعتبر مثل ذلك إسرافا للدول الغنية.

هل حرّم الله الزينة؟

[٣٢] لم يحرّم الإسلام الزينة على المؤمنين ، بل اعتبرها خالصة لهم يوم القيامة ، فكيف يحرّمها الله على المؤمنين في الدنيا؟

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)

فالزينة مخلوقة للمؤمنين في الدنيا ولكنها غير خالصة من شوائب المصائب ، أما في الاخرة فهي خالصة لهم ..

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

بالعلم والمعرفة يعرف المؤمن ان الاستفادة من نعم الله لا ينقص الايمان ، وإنما ظلم الناس ، أو الخضوع للظلم ، أو السكوت على ظلم الظالمين هو الحرام وهو الأصعب مسئولية وواجبا ، ومن استطاع ان يحقق هذا الواجب ، ويؤدي هذه

٣٠٢

المسؤولية فقد اقتحم العقبة وفاز ، ولكن من دونها لا ينتفع له التخشن في المأكل وترك الزينة.

تحريم الفواحش جوهر الدين :

[٣٣] ركّز القرآن على حرمة الفواحش والبغي والشرك وهي جوهر الدين وأثقل مسئولية ، وهذه المحرمات الثلاث تتصل بثلاث أبعاد من حياة الفرد هي :

الأول : العلاقات الجنسية : حيث حرم ربنا الفواحش ، ومن أبرز مظاهرها الشذوذ الجنسي الذي يهدم الأسرة ، ويفسد العلاقات الاجتماعية ، وسيئ التربية وهكذا ، وليست الفواحش الظاهرة كالزنا هي المحرمة فقط ، بل الباطنة أيضا منهي عنها مثل : مصادقة النساء ، وربما تشمل الفواحش الباطنة تلك الأسباب التي تؤدي إليها مثل الخلاعة ، ووضع العقبات أمام الزواج.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)

الثاني : السلوكيات الشخصية التي حرم ربنا فيها الإثم وهو كل حرام مثل شرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ، والمحرم من اللحوم خصوصا ما لم يذكر اسم الله عليه.

الثالث : ظلم الناس وتجاوز حقوقهم سواء كانت الحقوق المالية كحرمة السرقة ، والرشوة ، والضرائب المجحفة ، والغش ، وأخذ المال من دون عمل مناسب. أو كانت حقوقا اجتماعية مثل حرمة الغيب والتهمة والنميمة وما الى ذلك ، إن كل ذلك ظلم وحرام ..

(وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ)

وربما يكون كلمة (بغير الحق) تفسير للبغي ، وأنّ كل تجاوز للحق يعتبر بغيا

٣٠٣

وظلما حراما.

وبعد هذه المحرمات يأتي دور المحرّم الخطير!؟ وهو المرتبط بالسياسة حيث يحرم الخضوع لسلطان غير سلطان الله ، أو اتباع شخص أو جهاز لم يأذن به الله ، وبالتالي يحب التمرد على هذه الانظمة التي تحكم الشعوب بأسماء غير اسم الله ، أو تدّعي أنها تمثل سلطان الله كذبا وزورا وهذا هو الشرك.

(وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ)

في سلطانه وسيادته القانونية والسياسية.

(ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً)

فاذا أنزل الله سلطانا بجواز اتباع أحد عبر ادلة عقلية واضحة لا يرتاب فيها الشخص ، آنئذ فقط يجوز أن يخضع الفرد له وذلك الشخص مثل الرسول (ص) والائمة الهداة (ع) ، والعلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه.

أما ان يتخذ الفرد شخصا قائده وامامه ، أو يتخذ حزبا يقلده ويتبع برامجه بصورة عشوائية ، فذلك امر لا يجوز أبدا.

وإذا كانت الولاية لله ، ولمن أنزل الله فيه سلطانا يجب ان تكون الثقافة السائدة على هذا المجتمع ثقافة حقّة ، لان الثقافة هي الخلفية الرصينة لهذه الولاية ، وذلك لا يكون إلّا بعد سكوت الجاهل ، وعدم إشاعة الأفكار الباطلة ، فاذا سكت من لا يعلم بحث الناس عن العلم الصحيح ، ووصلوا اليه عبر قنواته السليمة.

(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

أما إذا شاع الافتراء على الله ، فقال كل واحد كلاما ونسبه الى الله ، فان طريق

٣٠٤

الحق يضيع بين طرق الضلال ، وكلمة علم واحدة تختلط بألف كلمة جهل ، ولا سبيل آنئذ للإنسان للوصول الى الحقيقة.

هذه هي المحرمات التي لو واجهت الفرد المسلم أو المجتمع المسلم في تنفيذها لبقي جزء منها غير مطبق ، إلّا من عصمه الله لأنها صعبة للغاية ، أما إذا تجنب الفرد جانبا من الطيبات ، وتصور أنه زاهد ، أو اعتبر الدين كله مجرد الابتعاد عن بعض اللذائذ ، فان ذلك خداع ذاتي لا أكثر.

٣٠٥

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ

٣٠٦

ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)

٣٠٧

عاقبة الذين يفترون

على الله الكذب

هدى من الآيات :

بيانا وتوضيحا للدروس السابقة ، جاء هذا الدرس ليذكرنا بأن حياة البشر محدودة بأجله ، وأن اجله لا يتأخر ولا يتقدم ، فليس بامكانه أن يطلب المهلة ولو لوقت قصير ، وأن الفرصة الوحيدة هي الحاضر ، حيث جاءت الرسل تقص آيات الله ، فعلينا أن نتقي الله ، ونصلح العمل حتى لا تضرّنا العاقبة ، بينما التكذيب بآيات الله ، والاستكبار عنها ينتهي بالنار الخالدة ، ولكن لماذا التكذيب؟ أو ليس ذلك ظلما يظلم به البشر نفسه وبلا سبب ، حيث يكتب عليه القانون ما ينبغي له ، وآنئذ لا يجد له ملجأ يلجأ اليه ، أما أولئك الشركاء الذين كان يتوعدهم الله ، فإنهم يغيبون عنه ولا يجد لهم أثرا ، وهناك يقول الله لهم : ألحقوا بأسلافكم من الكفار ، أولئك الذين يستقبلونكم باللعنة ، ويقول المتأخرون : يا رب؟ عذّب هؤلاء الذين أضلونا عذابا مضاعفا ، لأنهم كانوا السبب في وقوعنا في العذاب ، بيد أن الله يقول : وأنتم بدوركم سينالكم العذاب المضاعف لأنكم فعلتم الذنب ، ولأنكم اتبعتم السابقين من دون سلطان ، بيد أن للسابقين كلمة أيضا ، حيث يقولون للآخرين :

٣٠٨

ماذا انتفعنا باتّباعكم لنا؟!

بينات من الآيات :

بين الأجل والعمل :

[٣٤] ان يعرف البشر أن عقاب أعماله ليست عاجلة ولكنها مؤجلة لوقت محدد ، إن ذاك يعطيه مزيدا من الكبح الذاتي ، وينمي وجدانه الرادع ويربيه ، ولكن قد يزعم البشر أنه ما دام العقاب مؤجل فمن الممكن ان نستفيد من تأخير العقاب مرة بعد اخرى ، حتى نتوب أو نعمل صالحا فيرتفع العقاب رأسا ، ولكن القرآن يسفه هذا الزعم : بأن لكل أمة أجلا حدده الله ، وبالرغم من ان هذا الأجل مجهول إلّا أنه معلوم عند الله ، وإذا بلغ أجله فلن يتبدل ، فعلينا إذا انتظار ذلك الأجل في كل لحظة ، ولا مفر منه ولا تأخير فيه ، وليس لدينا قدرة على مقاومته إلا بالعمل الصالح الذي يجعل الأجل في صالحنا.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ)

أي وقت تستنفذ الأمة خلاله كل إمكانات التذكر والايمان.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)

وكم يكون خطيرا هذا الأجل إذا جاء دون أن يعمل الإنسان صالحا.

[٣٥] ولذلك فعلينا أن نستعد للأجل المحدد الذي لا يتغير ، والاستعداد لا يتم الا بالاستجابة لرسالات الله.

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي)

فعليكم الاستجابة لهذه الرسالة ، التي تفصّل لكم كل شيء تفصيلا.

٣٠٩

(فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

لا خوف عليهم بسبب أعمالهم الصالحة ، فهم لا يخشون بلوغ الأجل ونهاية الفرصة ، كما الطالب المجد لا يخشى الامتحان ، وكما البريء لا يخشى المحاكمة ، وهم لا يحزنون على ماضيهم الذي استغلوه بالعمل الصالح. استعدادا لهذا اليوم ، وربما تكون التقوى هي : الجانب النفسي والإصلاح هو : الجانب العملي.

[٣٦] بيد أن الخوف والحزن من نصيب الكفار الذين يكذبون بالآيات بعد وضوحها ، فهي علائم صريحة على الحقيقة التي لا يصدّقون بها استكبارا ، واستجابة لأهوائهم ، وعقدهم النفسية.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها)

إن جزاء هؤلاء هو الاقتران بالنار ، والتلاحم مع عذابها دون أن يجدوا خلاصا.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

وخلود هؤلاء في النار يعتبر الجزاء المناسب لعنادهم الذي لا رجاء في إصلاحه ، ولاستكبارهم الذي جعل قلوبهم في صندوق حديدي لا ينفذ إليه النور والهواء ، بالرغم من قوة ضياء النور أو زيادة دفع الهواء.

[٣٧] إذا كم يكون ظلم البشر لنفسه كبيرا حين يجعل نفسه في هذا المأزق الخطير ، ويستكبر عن الحقيقة.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ)

إن البشر حين يستكبر ويتطاول على الحقيقة يخدع نفسه والآخرين بصنع بديل للحقيقة ، فهو من جهة يكفر بالحقيقة والآيات والعلائم الواضحة التي تدل عليها ،

٣١٠

ومن جهة ثانية يخلق لنفسه أفكارا وينسبها الى الله كبديلة عن الحقائق ، وجزاء هؤلاء هو : أن تلك الحقائق التي كفروا بها ستحيط بهم وتنتقم منهم.

(أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ)

إن نصيب المؤمنين العاملين بالكتاب هو تحقق المكتسبات الرسالية الحسنة لهم ، أما نصيب الكفار الرافضين للكتاب فهو تحقق العقوبات التي ينذر بها الكتاب ..

(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)

أي تلك الأفكار ، وأولئك الشركاء الذين كانوا يجسدون تلك الأفكار في الواقع العملي ، أين هم الآن؟ وقد كنتم تعتمدون عليهم ، وتزعمون بأنهم يشكلون البديل المناسب عن الحقيقة ، وعن آيات الله!

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)

كافرين بالحقيقة ، وبالتالي شهدوا على أنفسهم بأنهم يستحقون العذاب.

حوار التابع والمتبوع :

[٣٨] لأن هؤلاء كانوا مستكبرين ، لذلك كانوا يفتخرون بأنسابهم وبعشيرتهم ، وبالسابقين من آبائهم وكبرائهم ، وحين اجتمعوا في النار ببعضهم ، كان بين التابعين والمتبوعين منهم حوار نافع لنا.

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها)

بالرغم من ان الأمم اللاحقة تعتمد على الأمم السابقة في الدنيا ، لكنها في

٣١١

الاخرة ولوضوح الحقائق عندهم جميعا يلعن بعضهم بعضا ..

(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً)

أي اجتمعوا إلى بعضهم ، وأدرك بعضهم بعض.

(قالَتْ أُخْراهُمْ)

أي تلك الأمم المتأخر.

(لِأُولاهُمْ ، رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ)

لأنهم أضلوا وسنوا سنة سيئة ، فسرنا عليها فهم يستحقون ضعفا من العذاب.

(قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ)

لأولئك بسبب أسبقيتهم بالكفر ، لأنهم سنّوا تلك العادات السيئة ، وروجوا لتلك الأفكار الباطلة ، وكل من يدعو الى فكرة باطلة فله عذاب من يعمل بها.

أما أنتم فعليكم ضعف من العذاب ، لأنكم اتبعتّم أولئك من دون سلطان من الله أنزل عليكم ، فالذي يعمل السيئة بسبب شهواته عليه من العذاب بقدرها ، أما من يعملها تقليدا لغيره فعليه بالاضافة الى عذابها عذاب التقليد الباطل ، لأنه يحرم شرعا أن تتبع أحدا من دون الله ، فان اتباعك له شرك وضلالة بذاته ، إنه كفران بنعمة الحرية ، وتحطيم لكرامة الله عليك.

(وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ)

[٣٩] والسابقون أجابوا أتباعهم بأنهم لم يزيدوهم باتّباعهم شيئا ، فما الذي انتفع به فرعون من اتباع ملوك مصر له ، وما الذي انتفع به هتلر من اتباع حكام

٣١٢

لبلاد الإسلامية له ولأساليبه؟ لا شيء.

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)

إن العذاب الذي يذوقه الكفار انما هو بسبب ما اكتسبوه من أعمال ، لا بسبب هذا الشخص أو ذاك.

٣١٣

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا

____________________

٤٠ [سم] : الثقب.

[الخياط] : الإبرة.

٤١ [مهاد] : الوطاء الذي يفترش.

[غواش] : الغواش جمع غاشية وهو كلّ ما يغشاك أي يسترك.

٤٢ [غل] : الفعل الحقد الذي ينفذ بلطفه الى صميم القلب ، ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة الى دقيق الخيانة.

٣١٤

لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)

٣١٥

عاقبة المكذبين والمستكبرين

هدى من الآيات :

في الدرس السابق. ذكّرنا القرآن بسفاهة الاستكبار ، وفي هذا الدرس يبيّن لنا جزاء الاستكبار ، الذي هو في الواقع متصل بطبيعة الاستكبار.

التكذيب بالآيات ، والاستكبار عنها معناه الخلود الى الأرض ، والاعتقال في السجون المادية ، ولذلك لا يعرج المستكبر في سماء التقرب الى الله ، ولا يحلّق في أجواء المعرفة والكمال ، وكأن أبواب السماء مغلقة في وجهه ، أما الجنة في الآخرة فإنها مغلقة دونهم ويستحيل عليهم دخولها ، كما يستحيل ولوج الجمل بضخامته في ثقب المخيط.

إن ذلك جزاء المجرمين بسبب جريمتهم التي ارتكبوها ، أما منزل هؤلاء في جهنم فأرضها من نار ، وسقفها من لهيب ودخان ، وهذا جزاء من يظلم نفسه.

وفي الطرف الثاني : المؤمنون الذين يعملون الصالحات حسب طاقتهم ووسعهم

٣١٦

يدخلون الجنة ويخلدون فيها. وأبرز نعمة يسبغها الله عليهم هي نعمة الراحة النفسية ، والصفاء بين بعضهم ، حيث ينزع الله ما في صدورهم من غلّ وحسد ونفاق ، أما النعمة الثانية فهي : الأنهار التي تجري من تحتهم ، والنعمة الثالثة هي : رضاهم وتحقيق طموحاتهم ، وشكرهم لربهم وشكر الله لهم ، حيث يناديهم بأن الجنة إنما هي ميراث اكتسبوه بأعمالهم.

بينات من الآيات :

كيف يخسر المستكبرون

[٤٠] (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا)

الذين كذبوا بآيات الله زاعمين ان التكذيب. يخدم ذواتهم ، ويشبع إحساسهم بالعلوّ والعظمة خسروا مرتين : مرة حين سدّوا على أنفسهم بسبب التكذيب أبواب الرحمة ، وآفاق العلم ، ورحاب الحياة ، إذ أن التكذيب كان معتقلا حصينا سجنوا أنفسهم بين جدرانه الضخمة المرتفعة ، والشرط الأول للاتصال بالحياة هو معرفتها ، وبعد المعرفة يسهل تسخير الحياة لأهداف البشر ، والذي لا يعترف بالمعرفة ، ويكذب بآيات الحقيقة ، بل لا يعترف بأن هناك واقعا عليه أن يوفق نفسه واعماله حسبه ، كيف يتسنى له تسخير الحياة؟! من منا يكفر بالحياة ، ويهدم على نفسه السلالم التي لا بد أن يتسلقها ، والخسارة الثانية انهم يخسرون مكانهم في الجنة ، ويدخلون النار.

ان التعبير القرآني يسمو الى منتهى اللطف والدقة حيث يقول :

(لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ)

ثم ان البشر يسمو بمعنوياته وبدعائه وبإيمانه وبإرادته وبرؤيته البعيدة ، وكل

٣١٧

ذلك مسلوب ممن يكذب بآيات الله ، لأنه لا يعترف بالله ولا يريد الايمان به.

إن أبواب السماء مفتوحة أمام أعمال المؤمنين ودعواتهم ، بعكس الكفار.

ويأتي القرآن ليبيّن الخسارة الثانية فيقول :

(وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)

ولأنه مستحيل أن يدخل الجمل بضخامته في ثقب المخيط لصغره ، فإن دخول الجنة هو الآخر غير واقع.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)

فليس ذلك فقط بسبب كفرهم واستكبارهم ، بل وأيضا بسبب إجرامهم العملي ، وبقدرة الله أيضا وقبل كل شيء.

[٤١] محل هؤلاء النار ، حيث يستقرون في جهنم وفوقهم ظلل من اللهيب والدخان ، تغشاهم وتسترهم.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)

بظلمهم وبقدر ذلك الظلم.

وحسبما يبدو لي : إن الجمل الاعتراضية في القرآن كالتي سوف تأتي في الآية التالية وهي (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إنها والجمل النهائية مثل آخر الآيتين الأخيرتين وما أشبه هي إشارات الى الفطرة البشرية التي يهدي إليها العقل ، ويذكّر بها الوحي ، وتبنى عليها شرائع السماء جميعا ، فالجريمة والظلم قبيحان وجزاؤهما يجب أن يكون شديدا ، والمستكبر المكذب بآيات الله. مجرم ظالم ، وهذه

٣١٨

الإشارات تشكل القيم الأساسية في القرآن الحكيم.

عاقبة المؤمنين

[٤٢] تلك كانت عاقبة المكذبين الظالمين ، فما هي عاقبة المؤمنين الصالحين؟

أولا : هؤلاء لا يكلفون فوق طاقتهم ، فليس الايمان أو الواجبات شيئا شاقا حسبما يوهم الشيطان للبشر ، بل هو عمل ميسور.

ثانيا : ان مصير الايمان والصلاح الجنة والرضوان ، وصاحب الايمان والصلاح هو صاحب الجنة والرضوان ، ذلك حق لا ريب فيه.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

[٤٣] ثالثا : أن الايمان بالله هو مثل للخروج من معتقل الذات الى رحاب الحقيقة ، ومن نتائجه الاولية الواقعية في الرؤية ، وأن يرى الشخص نفسه ، ويرى الآخرين معه ، فلا تضيق نفسه بما أنعم الله عليهم ، ولا ينافق معهم ، ولا يسلب منهم نعم الله أو يحب ذلك ويعلم أن فضل الله على أيّ أحد يتناسب وطيبة نفسه ، ومقدار عمله ، وحكم الله في الحياة ، فاذا لماذا الحقد والحسد؟ ولماذا الفسق والتزوير والنفاق؟ هذه الصفة تنعكس في الآخرة على شكل مؤانسة وصفاء بين قلوب المؤمنين.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ)

الرضا من نعم الله على المؤمنين في الجنة ، فهم كما رضوا في الدنيا بما قسم الله عليهم وأسلموا لربهم ، راضون في الآخرة لأنهم رأوا عاقبة عملهم الصالح.

٣١٩

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ)

إذا فهي نعمة كبري لا يبلغها الفرد بذاته ، بل بالله سبحانه ، ومن هنا يستوجب المزيد من الشكر ، والمزيد من الحمد والرضا.

(لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ)

كانوا يؤمنون بهذا الحق في الدنيا إيمانا غيبيا ، وها هم يرونه عين اليقين أمامهم ، وكما ان المؤمنين يشكرون ربهم ، فان الله يشكرهم ويشعرهم بأن أعمالهم الصالحة هي التي أوجبت لهم هذا الفضل العظيم ، وبهذا يزدادون إحساسا بالرضا والاعتزاز ، إذ فرق بين أن تحصل على نعمة صدفة أو تخطط لها وتتعب نفسك ، فتصل إليها بجهدك.

(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ)

العظيمة الواسعة النعم.

(أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

فأعمالكم الصالحة هي التي جعلتكم تملكون هذه الجنان إرثا حلالا.

٣٢٠