من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)

____________________

١١١ [أرجه] : أخّر أمر عقوبتهما.

[حاشرين] : جامعين للسحرة.

١١٦ [واسترهبوهم] : خوّفوهم تخويفا شديدا.

٤٠١

تضليل الملأ ضد رسالات الله

هدى من الآيات :

كانت تلك الرسالة رسالة الله ببيناتها ودلائلها ، فلننظر الى ذلك الطرف لنرى ما هو جواب المستكبرين من قوم فرعون؟

انهم اعتمدوا على عدة وسائل لمقاومة رسالة الله ، ولم يكن بينها بالطبع الاهتداء بها أو مواجهتها الحجّة بالحجة.

فأولا : قالوا لموسى انه ساحر عليم ليضللوا الناس عن رسالته.

ثانيا : استثاروا حب الأمن لدى الناس ، واتهموا موسى بتعكير الأمن عليهم.

ثالثا : توسلوا الى القوة واعتقلوا موسى وأخاه.

رابعا : جمعوا المشعوذين من سحرة البلاط ، وهكذا جاء السحرة لفرعون ولكن لم يكن لهم رسالة اجتماعية أو اصلاحية بل جاؤوا اليه طلبا للمال والجاه ، فوعدهم

٤٠٢

فرعون أن يجعلهم من المقربين إليه ، فسألوا موسى (عليه السلام) أن يلقي ما لديه أولا ، فتحداهم موسى وطالبهم بالمبادرة ، فلما ألقوا سحرهم سحروا أعين الناس واسترهبهم سحرهم وقد كان سحرا عظيما.

وهكذا جمع الطاغوت كل قواه المادية لمقاومة الرسالة ، ولكن ترى هل يقدر على ذلك؟

هذا ما يتحدث عنه القرآن الحكيم في الدروس القادمة إنشاء الله.

بينات من الآيات :

التهم الرخيصة :

[١٠٩] في الاجابة على تلك الأدلة الفطرية الواضحة قال الاشراف والمستكبرون من قوم فرعون : إن موسى ساحر عليم ، في محاولة لتضليل الجماهير المستضعفة.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ)

والناس كانوا يعرفون السحرة آنئذ ، ويعرفون انهم يستخدمون ما عندهم من علم وفن ليس في خدمة الناس وانما في خدمة السلاطين أو خدمة أغراضهم الدنيئة ، ودائما يحاول أعوان الطاغوت ألقاء شبهة معينة بين الناس من النوع الذي يعرف الناس أمثاله ، فمثلا : لو قام مفكر أصيل بنشر ثقافة ثورية عالية بين الناس اتهمه أولياء الطاغوت بأنه صحفي عميل ، أو كاتب مأجور ، لان الناس يعرفون كثيرا من الصحفيين العملاء والكتاب المأجورين ، حتى أنهم يشتبهون فعلا في المفكر الأصيل ، أو إذا قام عالم دين تقدّمي صالح لقيادة ثورة الجماهير قالوا : انه رجل دين رجعي ، لأنه كثيرا ما رأى الناس مثل ذلك.

٤٠٣

[١١٠] ثم توسل أشراف قوم فرعون بما يتوسل إليه عادة كل الطغاة من اتهام الثوار بمحاولة تعكير صفو الأمن على الجماهير فقالوا :

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ)

وثالث أسلوب استخدمه الملأ من قوم فرعون لمقاومة رسالة الله كان الاعتقال ، باعتباره حاجزا بين صاحب الرسالة وبين الجماهير ، وأما الأسلوب الرابع فكان حشد كل الذين يرضون ببيع علمهم وفنهم لقاء أجر محدود لمصلحة السلطات الطاغوتية لذلك.

[١١١] (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ)

أي اسجنه هو وأخاه ، وأرسل الشرطة ليحشدوا السحرة.

[١١٢] ويبقى السؤال : ما هو السحر؟

إن أساس السحر هو : التأثير في الخيال في الطرف الثاني لكي يزعم شيئا معينا غير الحقيقة ، والسحر قد يكون عن طريق غسيل الدماغ الذي يستخدمه العلم الحديث ، أو عن طريق الدعايات الباطلة ، وقد يكون عن طريق بعض أنواع الشعوذة ، مثل ما فعله سحرة فرعون حيث وضعوا الزئبق في أجسام لينة تشبه العصي ثم ألقوها فتحركت بفعل تحرك الزئبق بحرارة الشمس ، وعلى العموم ليس السحر سوى استخدام الوسائل الطبيعية الغير معروفة للناس في سبيل إقناع الآخرين بغير الحقيقة.

[١١٣] والسحرة أولئك المأجورون الذين لم تكن لديهم رسالة في الحياة إلّا إشباع شهواتهم العاجلة وقد سألوا فرعون قبل كل شيء عن الأجر.

٤٠٤

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ)

ويبدو ان السحرة كانوا يخشون الهزيمة بسبب معرفتهم ببطلان سحرهم ، وأنهم لا يقولون الحق ، كما يبدو أنهم قد اجهدوا أنفسهم في الحصول على كل وسيلة ممكنة من وسائل السحر ، ولهذا سألوا فرعون الأجر.

[١١٤] أما فرعون الطاغوت الذي رأى أن كيانه يتداعى تحت ضربات عصى موسى المعجزة ، فانه كان كريما في إعطاء الوعود.

(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)

حيث عرف فرعون أن طائفة السحرة يجب أن تكون على مقربة منه لمواجهة الظروف الطارئة ، كما أن الملوك والرؤساء وطغاة اليوم يصطحبون معهم رتلا من الصحفيين المأجورين ، والمستشارين العملاء الذين باعوا ما لديهم من فكر وعلم وأدب من أجل تدعيم نظام الظلم والقهر.

التحدي الرسالي :

[١١٥] وحشدت الجماهير ، ووقف موسى يتحدى كلّ ذلك الكيان الطاغوتي ، فرعون وجنوده وسحرته ، يتحداهم وحده بالتوكل على الله ، والثقة المطلقة بوعده الصادق بنصره ، لذلك.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ)

[١١٦] (قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)

٤٠٥

ان موسى (عليه السلام) واثق من النصر لأنه على حق ، ولأنه يعتمد على ركن شديد هو الله سبحانه ، لذلك أمرهم بأن يخرجوا ما لديهم من مكر وسحر ، كما أمر نوح (عليه السلام) قومه بأن يجمعوا أمرهم وان يأتوا اليه من دون نظرة ومهل.

وهكذا كل الدعاة الى الله سبحانه يتحدون الأنظمة الطاغوتية دون خوف ، وينازلونهم في ميدان المواجهة الشاملة ، وهذا بذاته دليل صدقهم واعتمادهم فقط على الله ، وعلى الحق الذي يحملون رسالته.

٤٠٦

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)

٤٠٧

الرسالة تتحدى التضليل والإرهاب

هدى من الآيات :

وجاءت مرحلة الحسم ، وأوحى الله سبحانه الى موسى بإلقاء عصاه ، فاذا بها تتحول الى ثعبان عظيم يبتلع سحر قوم فرعون ، وإذا بالحق الذي كان يبشر به موسى أصبح واقعا ، والباطل الذي كان يحذّر منه تبين بطلانه للجميع.

وانهزم فرعون وقومه وذلوا ، وكان أول من عرف عظمة المعجزة سحرة فرعون أنفسهم حيث وقعوا ساجدين لله ، وهتفوا بأنهم آمنوا برب العالمين رب موسى وهارون ، وارتاع فرعون ، وعرف أنه لا يجديه السحر والمكر شيئا ، وأن عليه أن يستخدم آخر الأسلحة وهو سلاح الإرهاب ، فقهر سحرته وقال لهم : أتؤمنون بموسى قبل أن يصدر الاذن مني واقرر نهاية المعركة لصالح موسى باعتباري ملكا ، ثم اتهمهم بما يتهم كل طاغوت من يخرج عليه ، اتهمهم بأنهم يهدفون إشاعة الفوضى والمؤامرة على أمن البلد ، ويريدون إخراج الناس ، وهددهم بأنه سوف يصلّبهم أجمعين.

٤٠٨

أما المؤمنين فإنهم تقبلوا التهديد بكل رحابة صدر وقالوا : إن الموت هو جسر العبور للعودة الى الله تعالى ، وقالوا له : ان تهمك باطلة ، وانما تريد أن تعذبنا لأننا آمنا بآيات ربنا ، وعلامات الحقيقة حيث جاءتنا ، وطلبوا من الله سبحانه ان يمدهم بالصبر ، وأن يختم عاقبتهم بالخير.

وهكذا اسدل الستار على مشهد آخر من مشاهد صراع الحق والباطل.

بينات من الآيات :

التوكل على الله سرّ العظمة :

[١١٧] موسى الذي تحدى كلّ ذلك الطغيان الجاهلي العظيم بسحره وجبروته وارهابه لم يفعل ذلك بقدرته الذاتية ، بل بالقدرة المعنوية ـ بالتوكل على الله ـ وهذا هو سر العظمة ، إذ لو كان موسى يملك سحرا أقوى ثم يتحدى سحر السحرة ، أو كان يملك جيشا أكبر ثم يتحدى الطاغوت فرعون ، أو يملك جماهير أكثر إذن ما كان له هذا الفخر وهذه العظمة ، انما كان يتحدى الجاهلية بعصاته التي يخشى منها حين يلقيها ، لأنه لا يعرف كيف تتحول الى ثعبان ، وحين وقف موسى أمام السحرة ورأي سحرهم العظيم ، وأنهم استرهبوا الجماهير ، وكادوا يضللونهم أوجس في نفسه خيفة ، لأنه يخاف من غلبه الجهال ودول الضلال كما جاء في الحديث ، ولكن يشاء ربه امتحان الناس بهذا السحر ، وامتحان استقامته ، وحين ينتصر موسى بعصاه حينذاك تكون عظمة موسى ، لأنه يعتمد على الايمان ، ويضحي بنفسه في هذا المجال ، لذلك يؤكد ربنا على الوحي في مواجهة الجاهلية ويقول :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)

أيّ تبتلع إفكهم وانحرافهم وكذبهم.

٤٠٩

[١١٨] وحين يصبح الحق واقعا عينيا يؤمن به الجميع ، ولكن قبل ذلك لا يؤمن به سوى أصحاب البصائر النافذة والرؤى الصادقة.

(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

إنهم عملوا الباطل وأرادوا تكريسه ، ولكن الحق وهو سنة الله وفطرته وقانونه في الحياة هو الذي انتصر أخيرا ، فالظلام في الليل يزيله بصيص نور شمعة ، وكما ان هذه الشمعة قطعت الظلام كذلك النور في النهار ، وكذلك العدالة الاجتماعية وكذلك في المقابل سقوط الظلم وانهيار الفساد.

[١١٩] أما قوم فرعون فلحقهم الخزي والهزيمة.

(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ)

[١٢٠] والمفاجئة كانت حين ألقي السحرة ساجدين ، تلك كانت الاصابة في مقتل النظام الماكر.

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ)

[١٢١] (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ)

[١٢٢] (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)

فلسفة الاستبداد :

[١٢٣] للاستبداد والدكتاتورية فلسفة يعتمد عليها ويشيعها الطاغوت بين الناس ، هذه الفلسفة هي قاعدة كل تشريعاتها ، ومنطلق كل تصرفاتها ، وهي : المحافظة على الأمن ضد العدو الخارجي أو الداخلي ، حتى ان الطواغيت يصطنعون

٤١٠

عادة أعداء وهمين ، أو يستزيدون عداء الشعوب فيختلقون الحروب لكي يعتمدوا عليها في ترسيخ كيانهم الباطل ، وفرعون كذلك عاد الى تلك الفلسفة الباطلة لكي يخرج من ورطته المخزية ، حيث أنهار عمود من أعمدة حكمه وهو السحر ، ووقع السحرة ساجدين لله لذلك.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)

إن فرعون انطلق من فكرة خاطئة هي : أن ملكه ونظامه هو أساس امن البلد ، لذلك فانكم حين آمنتم بموسى قبل ان تستصدروا الاذن مني فانكم خالفتم هذا الأساس ، لذلك قال فرعون :

(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ)

أو بالتعبير الشائع اليوم انها مؤامرة قمتم بها في البلد.

(لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

[١٢٤] وعاد الى السلاح الأخير وهو الإرهاب ، ذلك السلاح الذي تعتمد عليه الديكتاتورية قبل كل شيء ، بالرغم من أنها لا تصرح به ، ومن أهم نتائج الصراعات الرسالية مع الديكتاتورية هو : فضح اعتمادها على الإرهاب ليعرف الجميع أن الادعاءات الاخرى إن هي إلّا غطاء لهذا السلاح.

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ)

أيّ تقطيع الرجل من طرف واليد من طرف آخر.

(ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)

وذلك للجمع بين النوعين من أنواع الاعدام ، الاعدام بنزف الدم من اليد

٤١١

والرجل المقطوعتين من اليمين واليسار ، والاعدام بالصلب في جذوع النخل ، وذلك بشد الفرد على الجذوع حتى يقضى عليه تنكيلا به ، وليشهد موته كل الناس فيكون رادعا لهم عن الايمان بالرسالة.

[١٢٥] (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ)

[١٢٦] (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ)

وهكذا استعد السحرة التائبون لمواجهة مكر فرعون وكيده ، تضليله وإرهابه ، فمن جهة قالوا له : إنّ غضبك علينا ليس إلّا لأننا عدنا الى حريتنا واستقلالنا وآمنا بالحق من دون إذنك ، ومن جهة ثانية تضرعوا الى الله ليرزقهم الصبر الشامل ، والاستقامة حتى الموت ، وذلك لمواجهة إرهاب فرعون وبذلك أتمّ الله حجته على سائر الملأ من قوم فرعون الذين ظلّوا على جهالتهم خشية فرعون وبطشه ، حيث ان السحرة أيضا تعرضوا لمثل ذلك ولكنهم صبروا واستقاموا بالتوكل على ربهم ، وأتمّ الله حجته على بطانة المستكبرين عبر التاريخ انهم قادرون على التوبة الى الله إن شاؤوا ، كما فعل سحرة فرعون التائبون ، وأتم حجته على الناس ليعلموا ان إيمان المؤمنين لم يكن بدافع مصلحي أبدا.

٤١٢

وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)

٤١٣

حكمة حياة البشر تجربة إرادته

هدى من الآيات :

وانتهت الجولة الاولى من المعركة بين موسى وفرعون وملائه بانتصار الرسالة ، واستعادة موسى حريته ، واتبعته الجماهير المستضعفة من قومه ، وجاء المستكبرون يخبرون فرعون بأن موسى وقومه يفسدون عليه الأمر ، ويهدمون نظامه الطاغوتي ، ويتمردون عليه وعلى نظامه السياسي والديني ، فخطط فرعون لمرحلة جديدة من الإرهاب وقال : سنقتّل أبناء بني إسرائيل ونبقي على نسائهم أحياء ونستخدم القوة القهرية عليهم ، وقال موسى لقومه وهو يحثّهم على مقاومة الضغوط استعينوا بالله ـ بالايمان به ، وبالثقة بوعده ، وبالمناهج الثورية التي وضعتها لكم القيادة الحكيمة ـ وأمرهم بالصبر وبيّن لهم أن الأرض ليست ملكا لفرعون وقومه حتى يستحيل انتزاعها منهم ، بل هي ملك لله يعطيها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين.

أما قوم موسى فقد فرغ صبرهم وقالوا له : إننا تحملنا الأذى قبل وبعد مجيئك

٤١٤

إلينا ، ولكن موسى طمأنهم وقال : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) بالانتصار عليهم ، والهدف من استخلافكم هو : اختياركم ، وامتحان عملكم بعد الانتصار.

بينات من الآيات :

بعد العسر يأذن الله بالنصر :

[١٢٧] وينصر الله سبحانه الرساليين في أوقات الأزمات الشديدة كما نصر موسى عند ما أراد فرعون سحق رسالته بالسحر ، بيد أن من واجب الرساليين آنئذ ألّا يدعو لحظة واحدة لا يستفيدوا منها في توعية الجماهير وتنظيمهم ، وترسيخ دعائم الثورة ، وهدم أسس النظام الفاسد ، وذلك استعدادا لجولة جديدة من المعركة الساخنة مع النظام الطاغوتي ، فهذا موسى (عليه السلام) بعد ان انتصر على فرعون ، واستعاد منه حريته ، جمع حوله الأنصار ، وأخذ يفسد نظام فرعون الطاغوتي من كل جهة ممكنة ، ويهدم أساس كيانه وهو الاعتماد على السلطة السياسية الطاغوتية التي يمثلها فرعون رأس النظام ذاته ، وأيضا السلطة الدينية والثقافية الفاسدة التي كان يمثلها : الكهنة والأحبار لذلك جاء كبار رجال فرعون ومستشاروه اليه يخبرونه بالأمر ، ويحذرونه منه.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)

يبدو لي : أن مرادهم بالفساد في الأرض هو هدم الانظمة التفصيلية ، والكيانات والمؤسسات المختلفة للدولة ، بينما المراد من ترك فرعون هو ترك سلطانه السياسي ، والمراد من ترك الآلهة ترك خلفية هذا النظام السياسي والثقافي.

٤١٥

[١٢٨] وحين استخدم فرعون سلاحه الأخير ، وأراد تصفية المستضعفين جسديا ، أمر موسى قومه بالاستعانة بالله ، ويتساءل المرء : ما هي الاستعانة بالله؟

ونعرف الاجابة إذا تذكّرنا بأن لله الأسماء الحسنى ، وحين يؤمن العبد بربه يسعى لتجسيد ما استطاع من تلك الأسماء في ذاته ، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وحين يتصل العبد بالله تتجلى فيه صفة العزة الالهية ، كما تتجلى فيه صفة القدرة ، وعدم الخضوع لضغوط الشهوات ، أو الاستسلام للمتغيرات الآنية العاجلة ، وبقدر ذلك تتجلى فيه صفة الرحمة والشدة والحكمة والعلم و.. و..

وكلما زادت الأسماء الالهية الحسنى في المؤمن تجليا وظهورا كلما أصبح أقدر على مواجهة المصاعب وتسخير الحياة ، والله سبحانه خلق لعباده وسائل للتقرب اليه ، وللاتصال بينابيع قدرته وعظمته ، والأخذ بتلك الوسائل هو الاستعانة بالله ، فكلما تمسك المؤمن بتلك الوسائل كلما أصبح أشد قدرة وأكبر عظمة ، والتقوى هي جماع تلك الوسائل ، أما تفاصيلها فهي تلك المناهج التشريعية المعروفة في الإسلام وفي سائر الرسالات.

ومن أبرز تلك الوسائل هي : الولاية الالهية التي تتجلى في القيادة الرسالية النابعة من المبدأ ، حيث ان الاستعانة بالله تعني بالضرورة المزيد من التمسك بهذه القيادة ، وتوحيد الجهود تحت رايتها ، لذلك فحين أمر موسى (عليه السلام) قومه بالاستعانة بالله كان يعني كل ذلك ، ولكن مع ذلك ركّز موسى (عليه السلام) على صفتين أساسيتين هما : الصبر والتقوى ، الصبر لرؤية المستقبل والاستقامة على مشاكل الحاضر ، والتقوى للالتزام بكل المناهج المفصلة التي تضمن تفجير الطاقات ، واستغلال المواهب ، وتربية الشخصية الرسالية العاملة ، وبالتالي توفير كافة عوامل النصر في الفرد والمجتمع الرسالي من عوامل مادية أو معنوية .. من هنا :

٤١٦

(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)

ومعرفة هذه الحقيقة وهي : أن السلطة الحاكمة ليست أبدية ، وإنما هي نتيجة عوامل ومعادلات سياسية اجتماعية ، وانه لو غيرنا المعادلة والعوامل سقطت السلطة ، وجاء بديلها السلطة الأكثر قوة وكفاءة ، وهي حكومة المتقين ، معرفة هذه الحقيقة تفجر طاقات الجماهير المستضعفة وتعطيها الأمل والصمود.

[١٢٩] وأما قوم موسى فقد طفح كيلهم ، وكاد اليأس يحيط بقلوبهم حيث :

(قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا)

ولكن حين تفقد الامة قدرة الاحتمال من شدة الضر الذي يصيبها ، وحين تتضرع الى الله وينقطع أملها من النجاة بالوسائل الاصلاحية المتدرجة ، وتعرف أن تغييرا جذريا في شخصيتها وفي علاقاتها مع بعضها ومع الطبيعة أنه الكفيل بنجاتها ، وهذا لا يمكن إلّا عن طريق الايمان بالله وبرسالاته ، حينذاك فقط تنزل عليها رحمة الله سبحانه لذلك ذكرهم موسى و..

(قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)

والانتصار إنما هو بهدف الامتحان ، وعلى الأمة ألّا تفكر في ذلك الانتصار الرخيص الذي هدفه استعلاء طائفة ، واستكبار فريق مكان فريق آخر ، بل تفكر سلفا أن الانتصار لا يحصل لفريق أو لحزب أو لطائفة بل للمبدأ ، وتعمل الأمة في هذا المجال حتى تنجح بإذن الله.

لذلك فان الحركات الحزبية التي همها انتصارها هي لا انتصار الأمة ، تفشل في الأكثر ، لأن الله لا ينصر أمة إلّا بعد أن تتضرع إليه ، ويكون هدفها رساليا خالصا.

٤١٧

وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ

____________________

١٣٥ [ينكثون] : انكث نقض العهد الذي يلزم الوفاء به.

٤١٨

كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)

____________________

١٣٧ [يعرشون] : يبنون ، يقال عرش مكة أي بناؤها.

١٣٩ [متبّر] : مهلك مدمر.

٤١٩

وهكذا نصر الله عباده بالغيب

هدى من الآيات :

وهذا مشهد آخر من مشاهد الصراع بين الرسالة والرجعية الجاهلية ، حيث إن الله أراد أن يهدي آل فرعون عن طريق كسر غرورهم ، وتذليل نفوسهم المستكبرة بالمصائب والمشكلات ، ولكنهم استكبروا وكانوا يزعمون أن الخير والرفاه هو الأصل في حياتهم وهو منهم ، وأما الشر والمصائب فهي من نحس موسى (حاشاه) ولم يكونوا يشعرون بأن كل خير أو شر انما هو من عند الله ينزله بسبب أعمال العباد.

وحين لم تنفع هذه الوسيلة في هدايتهم ، بل صرحوا بأن الآيات هذه (سواء العصى واليد البيضاء أو المصائب والمشكلات كالجدب ونقص الثمرات) لا تجديهم نفعا ، وأنهم لن يؤمنوا بالرسالة مهما كان ، آنئذ أخذهم بالعذاب.

ولقد أرسل الله عليهم الطوفان ، وانتشر فيهم الجراد والقمّل والضفادع والدم بأمر منه سبحانه وكانت هذه الآيات مفصلة وواضحة ، لكنهم استكبروا عنها وكانوا قوما مجرمين ، فاذا كانوا فاسدين فكريا وعمليا.

٤٢٠