من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

ولذلك فهم يكذبون من يحذرهم الآخرة ، ويوعدهم العذاب.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ)

وتكذيب رحمة الله مخالف للفطرة ، ولما نشاهده في عالم الواقع ، ولذلك أكد الأنبياء هذه الصفة الحسنى لله ، ولكنهم أكدوا على الصفة الاخرى أيضا.

(وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)

٢٢١

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)

٢٢٢

الشرك بين التصور والتوهم

هدى من الآيات :

حين يكون معيار الحق والباطل عند البشر ذاته ، وليس الواقع والحقيقة ، يزعم أنّ كلما يفعله يطابق الحقيقة عند الله ، وان أعماله وأقواله تستمد شرعيّتها من الله عز وجل ، إذ ما دام يعتقد هو بها وان ما تعتقده نفسه فهو صحيح. إذا فالله أيضا أمر به لذلك ينسب المشركون من أهل الكتاب أو من غيرهم شركهم وتشريعاتهم الى الله ، ولكن الله سبحانه لم يصدقهم إذ عذبهم ببأسه في الدنيا قبل الآخرة حتى ظهر لهم ولغيرهم أنهم ليسوا على حق ، ويتساءل القرآن كيف يزعمون أن أفكارهم صحيحة. هل علما بذلك أم ظنا وتوهما؟!

الله لا أنا وأنت فالذي عنده الهدى ، وله الحجة البالغة على الهدى ، وهو قادره على هداية الناس اليه ، أما هؤلاء فإنهم يكذبون بالحق ولا حجة لهم عليه ، ولا شهود صادقين ، ولذلك أمرهم القرآن بإحضار شهداءهم ، ولكنه نهى عن الشهادة لهم لأنهم.

٢٢٣

أولا : يتمحورون حول ذواتهم وأهوائهم.

ثانيا : يكذبون سلفا وبلا تردد بكل العلامات التي تدل على الحق لأنهم لا يهدفون بلوغ الحقيقة.

ثالثا : انهم يكفرون بالآخرة ويقصرون حياتهم على الدنيا.

رابعا : وأخيرا إنهم لا يميزون بين الله وبين خلقه سبحانه.

بينات من الآيات :

جذور الانحراف :

[١٤٨] وياتي هذا الدرس في بيان الجذور الخبيثة للتشريعات البشرية الباطلة في القضايا الاجتماعية التي بسببها يتبع البشر هواه ، ويعبد ذاته ، ويترك الحق ومسئوليته ، ويتشبث بتصورات باطلة وأوهام بعيدة تستمد شرعيتها من الهوى ، فيقول بالحتميات الباطلة. مثلا : ان الليل والنهار وحوادث الحياة هي التي تجبره على اتخاذ مواقفه ، أو يقول : ان الله أجبره على ذلك لان الله هو خالق ما في الوجود ، والقاهر فوق العباد ، فهو الذي اضطره على ذلك أو ما أشبه ، أو يتشبث بالخرافة الباطلة التي تقول : ان الله فوّض أمور العباد الى أنفسهم ، فهم يقرّرون لها ما شاءت عقولهم ، (وهنا يخلطون بين العقل والهوي خلطا متعمدا عجيبا).

وسواء تشبثوا بهذا النوع من التصور أو ذاك فان الهدف منه شيء واحد هو إعطاء الشرعية لعبادة أهوائهم ، والتمحور حول ذواتهم ، واعتبار افكارهم وتشريعاتهم مقدسة ، بل ومدعومة من قبل الله من فوق عرشه سبحانه ، وهذه آخر مرحلة من الضلالة عند البشر.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ)

٢٢٤

فالله كان قادرا على منعنا من الشرك ، والتشريع الباطل ، فلم يفعل فهو راض بما نفعله ، ويجيب القرآن الحكيم على ذلك :

أولا : ان هذا الفريق هو الذي يكذب بالحق لذلك فهم يتشابهون مع كل من يكذب بالحق في التاريخ علما بأن أحد الطرق لكشف حقيقة جماعة هو الكشف عن التيار العام الذي يقعون فيه ويتسابقون معه ، فإذا مصدر هذا الزعم وسببه هو انهم يكذبون بالحقائق ، وإذا عرف الداعي النفسي الى فكرة ما افتضحت طبيعتها وحقيقتها ، مثلا : إذا عرفت ان زيدا الذي يتحدث عن فكرة انما يتحدث عنها لأنه ينتمي الى حزب كذا عرفت جوانب كثيرة من الفكرة.

ثانيا : ان النهاية التي جعلها الله لمثل هؤلاء هي العذاب الشديد. إذا فهم ليسوا بخارجين عن دائرة المسؤولية التي من أجل الهروب منها تشبثوا بمثل هذه الأفكار الباطلة.

(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا)

ثم ـ وبعد ان يشكك هؤلاء بأفكارهم ـ يطرح عليهم هذا السؤال : هل هذا علم أم ظن؟ ان مجرد طرح هذا السؤال يعني جعل شرعية الأفكار مناطة بالعلم لا بالمصلحة ، وبالتالي فضح جذور الفكرة ، وأنها نابعة من الهوى ، وبما انهم لم يدّعوا العلم لأنهم لا يعترفون بالحق (بل بذاتهم) حتى يبحثوا عن العلم الذي يهديهم اليه ، ولكن مع ذلك لا يمكنهم انكار شرعية العلم.

ثم يؤكد القرآن الحقيقة في أمر هؤلاء ، ويقول : ان اعتماد هؤلاء هو على التصور والوهم والتصور (الظن) هو الكذب المتعمد ، والوهم هو الشك (الخرص).

(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا

٢٢٥

تَخْرُصُونَ)

وهم لا يستطيعون انكار ذلك. إذ انهم لو أنكروه فقد فتحوا باب المباحثة البناءة ، والحوار الفاعل على أنفسهم ، وهو يضرهم لأنه يعيد الشرعية للحق والعلم لا للهوى والظن.

لا للحتمية :

[١٤٩] لم يحتم الله على البشر الضلالة ، ولا رضي بها. إذ لم يجبرهم على ترك ضلالتهم ، بل وفّر لهم فرصة الهداية كاملة ، فأعطاهم الحجة البالغة ، وبقي عليهم ان يقوموا بدورهم في استيعاب الهداية ، كما ان الله قادر على أن يجبر الناس على الهداية ، ولكنه لم يفعل ، كما لم يجبر الناس على الشرك .. فليس تركه للناس دليلا على رضاه سبحانه لأنه أتم الحجة عليهم.

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)

الاستشهاد :

[١٥٠] احدى الوسائل الفعالة لتمييز الحق عن الهوى ، والعلم عن الظن ، والصدق عن الكذب ، هي طرح الأفكار على عقول الناس ، واستشهادهم عليها ، ذلك لان الناس حتى ولو كانوا يتبعون الهوى والظن فإنهم حين يقيّمون أفكار الآخرين ، فليس من الضروري القبول بها أو التصديق ، ذلك لان مصالح الناس مختلفة ، وأهواءهم متفاوتة ، وبالتالي كل حزب بما لديهم فرحون. بيد أن شهادة الناس ليست دليلا على الحق ولو كانت دليلا على بطلان الهوى. فهي مفيدة سلبيا فقط (تنفي ولكنها لا تثبت).

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ)

٢٢٦

أي اجمعوا شهداءكم ، لأنه بجمعهم تفترق كلمتهم لأنها باطلة ، ولذلك من وسائل كشف عصابة الاجرام جعلهم جميعا يشهدون على الواقعة فنرى كم أنهم يختلفون ، بل ويتناقضون مع بعضهم لأنهم ان اتفقوا على مخالفة الحق فلن يتفقوا على نوع الباطل ، لذلك فصّل القرآن وقال :

(الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا)

ولكن الاتفاق على الباطل لا يصبح دليلا عليه.

(فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا)

والقرآن الحكيم يبين هنا المزيد من جذور الشرك. حيث يبين ان السبب في عدم اتباع الحق لا تلفها الهوى هو عدم الايمان بالآخرة هذا أولا ، ثانيا : عدم معرفة الله وخلط الله وخلط الله بخلقه.

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)

ومن يعدل الله بخلقه لا يعرف الله ولا خلق الله.

٢٢٧

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)

____________________

١٥١ [إملاق] : الاملاق الإفلاس من المال ، ومنه الملق والتملق لأنه اجتهاد في تقرب المفلس للطمع في العطية.

٢٢٨

هكذا يفسد الشرك

النظام الاجتماعي

هدى من الآيات :

بعد بيان المحرمات المعدودة التي ترتبط بالماديات ، جاء دور المحرمات الاجتماعية الأكثر أهمية والأكثر مصداقية والأكثر صعوبة ، وهي كالتالي :

أولا : الشرك بالله.

ثانيا : الإحسان الى الوالدين ، اي حرمة إيذائهم ، وحرمة إهمال حقوقهم.

ثالثا : حرمة إهمال حقوق الأولاد من الفقر.

رابعا : الفواحش التي بينها الله في كتابه ، سواء الخفية منها أو الظاهرة.

خامسا : قتل النفس المحرّمة.

هذه وصايا ربنا التي تنفعنا ، والتي يمكن لنا أن نعقلها ببساطة.

٢٢٩

بينات من الآيات :

حرمات الله :

[١٥١] الجاهلية بشكلها القديم والجديد ، الظاهر والمغلف تحاول تضخيم جوانب من الدين على حساب جوانب اخرى هي الأهم والأصعب ، وهي المحتوى واللباب ، ورسالة الله تذكر الناس بأن الدين لا يبعّض ، وأن ذلك التضخيم والمبالغة والاحتياط في غير محله ، بل حرام أساسا ، وفي الآيات السابقة رأينا كيف ان الله بيّن ان تحريم الجاهلية للطيبات من الرزق ، باسم الدين كان باطلا ، بينما المحرمات تلك كانت محدودة بل وجانبية ، أما المحرمات الكثيرة والاساسية التي تناساها الجاهليون القشريون عمدا ولخطورتها وأهميتها فهي التي تذكر بها هذه الآيات ، فعلينا الاهتمام بها ان كنا فعلا مؤمنين ولا نخادع أنفسنا في الدين.

المحرمات الاساسية هي التي تنظم الحياة الاجتماعية للإنسان ، ابتداء من حياة الاسرة وحتى السياسة ، ولكن كلّ الانظمة الاجتماعية في الإسلام مصطبغة بالتوحيد ورفض الشرك بالله سبحانه ، لذلك بدء الله هويته به وقال :

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)

يجب ان نخلص العبادة لله سبحانه ، والّا نخضع أو نستسلم لشيء من دون الله ، والا نقبل ضغطا أو زورا ، بل يكون بناء حياتنا على الحرية المطلقة (إلا في حدود القانون) والعزة والكرامة.

محتوى التوحيد هو الحرية والحرية ممارسة وسلوك وفعل يقوم به الشخص ذاته قبل ان تكون حقا ، ونظاما وانفعالا. كلا .. فحريتي تبدء حين أرفض الخضوع لشيء أنّى كان اسمه لاني اعتبر كل شيء خاضعا لله ، وانا أيضا خاضع لله

٢٣٠

ولقانونه ، ولمن أمرني باتباعه ، وفيما وراءه لا شيء يمكن أن يخضعني لا الثروة ولا السلطة ولا الإرهاب الفكري أو التعذيب.

الشرك اولا ثم الروابط العائلية :

وإذا ساد في المجتمع نظام الشرك ، فان القانون لا يمكن ان يكون الهيا لان كل بند من بنود القانون ينقض تحت ضغط الثروة أو السلطة أو الإرهاب الفكري. لذلك بدء الله النهي عن المحرمات الاجتماعيّة بالنهي عن الشرك لأنه الشرك لأنه الشرط المسبق لتنفيذ سائر المحرمات.

وبعد ان نتعهد بالتسليم لله وحده لا لشيء آخر يأتي دور بناء العلاقات الاجتماعية وأهمها العلاقة بين الأجيال ـ بين الجيل السابق (الوالدين) والجيل اللاحق (الأبناء) ـ العلاقة مع الوالدين يجب أن تكون علاقة الإحسان.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)

والإحسان هو : العطاء الفضل الذي يتجاوز الحق الى الخير ، وهو بالتالي لا يعني التسليم المطلق (كما تعني العبادة) كما لا يعني الطاعة للوالدين. إذ أن الطاعة تعني بدورها الخضوع ، والمؤمن لا يخضع لغير الله ، نعم الطاعة بمعنى قبول عرض منهما بالنسبة الى عمل دون أن يكون ذلك فرضا من قبل الوالدين أو تسليما من قبل الأولاد ، هذه الطاعة مطروحة.

والمنطق المتخلف جعل التسليم للوالدين واجبا شرعيا ، فكرّس الروح العشائرية في النفوس ، بينما لا نجد في الإسلام سوى الأمر بالإحسان الى الوالدين ، بل وجدنا بالعكس من ذلك تماما ، نهى الإسلام عن الاتباع الأعمى للآباء ، وهذا ما يجرنا اليه المنطق المتخلف.

٢٣١

وكما يجب التسليم لله والإحسان الى الوالدين لا بد أن تكون علاقة الإحسان هي العلاقة السائدة بين أبناء المجتمع ، أما العلاقة بين الإنسان وبين أبنائه وعموما الذين هم أقل منه مستوي فهي علاقة المحافظة عليهم ، وألّا يزعم الأب ان أولاده منافسين له فيقتلهم خشية أن يتأثر وضعه الاقتصادي بهم.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)

الاملاق هو الفقر ، والجاهلية هي التي تجعل الاختلاف صراعا ، والصراع حادا الى درجة التناقض ، فتجعل النظرة الجاهلية ضيقة (والتي هي نظرة الشرك) الآباء وكأن بينهم وبين الأبناء صراعا على البقاء ، ولذلك كانوا يقتلون أولادهم قديما ، أو يجهضون أولادهم بزعم أنهم يزاحمونهم في نعم الحياة ، أو يمنعون النسل بهذه الحجة.

هذه النظرة الشركية هي التي أوحت الى الماركسية بتصور التناقض الحاد بين أبناء المجتمع ، كما أوحت الفرو يدية بأن الابن الذكر ينازع أباه على أمه والأنثى تنازع أمها على أبيها.

بينما النظرة التوحيدية السماوية توحي الى الإنسان بحقيقة التكامل في الحياة ، وأن نعم الله ليس فقط تسع كل الناس من دون صراع حاد ، بل وأيضا أنها تزداد كلما ازدادت العناصر الطالبة لها ، وربما لذلك أشارت الآية الى ان الرزق سيتناوله الآباء قبل الأبناء في حالة تواجدهم مع بعضهم.

ما هي الفواحش؟

العلاقة الحسنة بين الآباء والأولاد تتكامل مع العلاقة السليمة بين الزوجين ، حيث يجب أن تكون علاقة البناء لا الهدم ، والزواج لا الفاحشة ، لذلك حرم الله الفواحش كلها.

٢٣٢

(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)

قد تكون الفاحشة ظاهرة كالزنا والشذوذ ، والعادة السرية وما إليها ، وقد تكون باطنة وهي التي لا تحقق أهداف الزواج السامية كالصداقة مع النساء ، أو حرف الغريزة بما تخدم أهداف الشيطان كالاكتفاء بالصور الجنسية أو بالافلام الخليعة عن العلاقة الجنسيّة السليمة.

وقد يكون من مصاديق الفاحشة الباطنة عدم إيجاد جو التكامل في محيط البيت بما يخدم مصلحة الطرفين ، أو عدم أداء الحقوق الواجبة من قبل أيّ واحد من الطرفين كالمهر والنفقة والتمكين ، أو أن تكون نظرة أحد الزوجين متوجهة الى غير زوجه من سائر الذكور والإناث.

وكذلك قد تكون من الفاحشة الباطنة أن يستهدف كل من الزوجين إشباع غرائزه دون أن يفكر في مصلحة الطرف الثاني ، فلا يتبع غريزته في وقت هيجانها ، أو لا يفكر في تكامله ونموه وراحته بقدر ما يفكر في نفسه فتكون قرارته ذاتية بحته.

هذه علاقة الزوجين ، أما علاقة الناس ببعضهم فيجب أن تكون تكاملية ولا تكون حدية نابعة من نظرة الشرك التي توحي أبدا بالصراع الباطل.

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ)

فقتل النفس المحرمة مظهر من مظاهر الصراع الشركي ، وحين يجب تصفية أحد جسديا ، كما إذا كان قاتلا أو مفسدا في الأرض فانه يجب ذلك.

ان هذه المحرمات هي مما يذكّر بها الله ليفتح العقول بها. إذ أنها مرتكزة في فطرة البشر لذلك عبر القرآن عنها بالوصية التي هي خير ظاهرة للإنسان.

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

٢٣٣

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)

____________________

١٥٢ [أشدّه] : الأشد جمع شد ، والشد القوة وهو استحكام قوة الشباب اي حتى يبلغ قوى شبابه ، وهو انما يحصل بالبلوغ والرشد.

٢٣٤

وهكذا ينظم التوحيد

الحياة الاجتماعية

هدى من الآيات :

بعد أن تحدث القرآن عن ادانة منطق الشرك الذي يدعو الى الصراع والتناقض ، فحرم القرآن جانبا من آثار هذا المنطق الباطل ، بعدئذ نهى القرآن عن آثار هذا المنطق في الواقع الاقتصادي للمجتمع ، حيث يسعى كل فريق نحو ابتزاز الآخرين ، فحرم الله الاعتداء على أموال الآخرين وبالذات أكل أموال الضعفاء كالأيتام ، وأكل الأموال بطرق ملتوية كالغش ونقص المكيال والميزان. صحيح أن الفرد حين المعاملة يتدخل ما له بأموال غيره من حيث لا يريد ـ وهو ليس بحرام ـ لان الله لا يكلف الإنسان إلّا بقدر طاقته ، ولكن حرام أن يتعمد ذلك تعمدا ، أو على الأقل يعمل بالتطفيف في الميزان.

ولذلك أيضا أوجب الله الاستقامة على الطريق ، وعدم الانحراف عنه يمينا أو شمالا ، وذلك بقبول القيادات الباطلة ، أو الخضوع للتيارات المنحرفة ، وهذا هو لب التقوى ، ومحتواها الحقيقي الذي لا يصل اليه الإنسان إلّا باجتهاد عظيم ، وجهاد

٢٣٥

أعظم.

بينات من الآيات :

كيف نتصرف في مال اليتيم؟

[١٥٢] من الميزات الهامة في التشريعات القرآنية هي الواقعية ، فتأتي واجبات ومحرمات القرآن مطابقة لانحرافات الواقع الخارجي ومركزة عليها. مثلا : في باب الاقتصاد لا يكتفي القرآن ببيان حق الملكية الخاصة ، وحرمة الاعتداء على أموال الناس ، بل ويهتم أبدا بتلك الحلقات الأكثر عرضة للاعتداء ، فيركّز حديثه عليها ، ولذا يتوقّف المجتمع عن الاعتداء في الحلقات الأكثر عرضة للاعتداء ويسرا ، فأنه بالطبع لا يعتدي على غيره ، ومن هنا ذكر القرآن الحكيم هنا مال اليتيم ، والنقص في المكيال والميزان ، أما مال اليتيم فلأنّ صاحبه ضعيف لا يقدر على المطالبة به ، ولأنه أيسر وأقرب للضياع ، واما النقص في المكيال فلأنّه أسلوب شائع وبعيد عن ملاحقة القانون لان من الصعب التعرف عليه.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

اي من أجل تنميته ، أو المحافظة عليه ، وإلّا فلا يجوز أساسا وضع اليد على مال اليتيم لأنه لا يعرف رضا صاحبه بذلك.

(حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)

فاذا بلغ أشده ، وبلغ سن الكمال وكان رشيدا فلا بد ان تعاد اليه أمواله ، ولا يجوز حتى التصرف بالتي هي أحسن فيها ، كما جاء في آية أخرى.

«وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ

٢٣٦

أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا» (١)

وقد يكون بلوغ النكاح وحده نهاية السماح بالتصرف في أموال اليتيم لأنه بعد ذلك سيصبح سفيها ، ومسئول عن أموال السفهاء من جهة اخرى.

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ)

فيحرّم الغش في المكيال لأنه نوع خفي للاعتداء على ثروة المجتمع ، وعلاقة شركية وليست توحيدية بين أبناء المجتمع ، والوفاء بالكيل واحد من مصاديق احترام حقوق الآخرين أشار اليه القرآن لمعرفة سائر المصاديق مثل الغش والغبن ومماطلة المدينين ، واستعجال الدائن.

في المجتمع الاسلامي الذي تسود علاقاته نظرة توحيدية لا يقتصر الفرد في النظر الى نفسه ، بل الى الآخرين أيضا ، ويرى ان بلوغ الآخرين الى مآربهم جزء من أهدافه ، بل هو طريق لبلوغه هو الى مآربه.

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)

الوفاء بالكيل وعدم بخس الميزان لا يعني ضرورة الدقة العقلية في ذلك مما يصعّب عمليّة التبادل التجاري ، بل يعني أن يكون هدف الفرد القسط ، ولا يتعمد التجاوز على حقوق الآخرين ، ومن هنا جاء في الآية الكريمة : أن الله لا يكلف نفسا الا وسعها. أي حسب استطاعتها دون حرج أو عسر ، ذلك لأنّ المجتمع المسلم تنتشر فيه روح المسامحة والإحسان الى جانب الالتزام بالحقوق.

المسؤولية الاجتماعية :

وحين يلتزم سائر الإفراد بالحقوق تنتهي المشكلة ، ولكن إذا تعاسروا واختلفوا

__________________

(١) النساء / ٦

٢٣٧

فان أبناء المجتمع يجب أن يصبحوا قضاة عدولا ، ولا يحكموا ضد أو مع هذا وذاك ، من دون دليل ثابت حتى ولو كان الشخص من اعدائي أو من اقاربي. لا بد ان يكون كلامي عدلا.

(وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)

وإذا امتلك المجتمع روحا قضائية عادلة حكم أبناؤه لصاحب الحق وضد الظالم انّى كان ، فانه يصبح ذا مناعة كافية عن انتشار الظلم فيه ، وعن نمو الجريمة ، إذ أن الظالم لا يبدأ ظلمه بظلم كبير ، وكذلك المجرم لا يقترف جرائم كبيرة مرة واحدة ، انما يتدرج نحوها شيئا فشيئا ، فاذا ظلم الشخص مرة فعارضه أقرب رفاقه وأقاربه فسوف ينسحب لصالح المظلوم ، يتأدب ، ويتخذ لمستقبله درسا لا ينساه ، وكذلك المجرم لو قام في البدء بجريمة صغيرة في محيط معارض له فسوف يتوقف عن الاستمرار في الجريمة.

(وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا)

هناك صلات طبيعية بين أبناء المجتمع كصلة الآباء ، بالأبناء ، وقد سبق الحديث عنها في الدرس السابق ، وهناك صلات حضارية أساسها التعاون على الخير ، والمصالح المشتركة وقد تحدث عنها القرآن في هذا الدرس ، بيد أن شرط بقاء هذه الصلاة هو تحكيم النظرة التوحيدية في العلاقات ، وذكرها الله سبحانه متمثلا في حرمة الحقوق ، وعدالة القضاء ، والآن ذكر الله سبحانه العهد باعتباره الحبل المتين الذي يشدّ المجتمع ببعضه ، ومن دون تقديسه واحترامه لا يثق المجتمع ببعضه ، فيختل التعاون ، بل يستحيل التعاون ، إذ لا يمكن أن تعوّض القوانين المستوردة والضابط الالكتروني بالعهد ، حيث إن البشر قادر على تجاوزها والالتفاف حولها ، ولكنه لا يستطيع تجاوز ضميره ، والالتفاف حول وجدانه.

٢٣٨

وقد جعل الله العهد بين الناس وثيقة بينه وبينهم مباشرة فسماه عهد الله حتى يعطيه الضمانة الايمانية لاجرائه.

ان هذه وصايا ربنا الاجتماعية التي لو أمعنا فيها النظر لرأينا أنها حقائق واضحة كنا غافلين عنها ، فذكرنا ربنا بها :

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

الخطوط السياسية في المجتمع :

[١٥٣] في الآيات السابقة بيّن الله ضرورات بناء المجتمع المتكامل ، وعلاقاته الداخلية بينما في هذه الآية يبين الله وجهة هذا المجتمع العام ، وتياراته السياسية وعلاقاته العامة ، فيأمر الله المسلمين باتباع الصراط المستقيم الذي لا ينحرف مع ظروف سياسية متغيرة.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)

الجماعة السياسية تعيش كما الفرد في المجتمع بين تيارات مختلفة منشؤها سائر المجموعات السياسية المجاورة لنا ، وكما على الفرد ان يلتزم خط الاستقامة بين افراد المجتمع كذلك المجموعة السياسية يجب أن تلتزم بالحق بين سائر المجموعات.

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

وحيث يكون الخط السياسي العام خطا صحيحا يكون من السهل على أبناء هذا المجتمع الالتزام بالواجبات الشرعية والتقوى عن المحرمات ، بينما لو لم يكن الخط العام كذلك فان مساعي الإفراد في الالتزام بالخط الاسلامي تكون قليلة الجدوى.

٢٣٩

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)

٢٤٠