من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

إن تلك الأفكار التبريرية التي كانت تشجع على الفساد بأمل الاستغفار لم تكن أفكارا دينية ، لان ميثاق الكتاب وعهده يقضي بألّا ينسبوا الى الدين إلّا الحق ، وكان الحق السليم هو الاهتمام بالآخرة وأولويتها على عرض الدنيا.

وفي ظلمات تلك العصور كان يشع نور الطليعة الرسالية الذين تمسكوا بقوة بالكتاب ، وأقاموا الصلاة ، وكان همهم هو إصلاح الناس بعد إصلاح أنفسهم ، والله لا يضيع أجر هؤلاء حيث إنه بنسبة عملهم كان يرفعهم.

بينات من الآيات :

التقليد داء المجتمع :

[١٦٧] لقد مسخ فريق من بني إسرائيل قردة خاسئين ، وبالرغم من ان ذلك الفريق السيء الحظ قد هلك بعد ثلاثة أيام أو سبعة أيام حسب ما جاء في التاريخ ، إلّا أن تلك الحالة قد استمرت بعدئذ في أجيال بني إسرائيل التي عصت ربها واتبعت شهواتها ، أو حتى لم تحترم قوانين الدين.

ما هي تلك الحالة؟

لا بدّ أن نعرف مسبقا أن أبرز سمات القرد هو التقليد والتشبه بالآخرين ، وهذا يستدرج منتهى درجات الذلة والقماءة ، ولذلك فان الحالة التي استمرت مع الأجيال الصاعدة من بني إسرائيل كان الاستعباد والذلة ، حيث سلط الله عليهم طاغوت الظلم والإرهاب ، وأنظمة القهر والديكتاتورية فاذاقتهم سوء العذاب ، وذلك بسبب عصيانهم لربهم أو سكوتهم عن المعاصي.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ)

٤٨١

أي أعلن ذلك بوضوح كاف ..

(لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ)

ما داموا في معصية الله أو بالسكوت عن المعاصي ، وإذا غيروا ما بأنفسهم غيّر الله لهم حالهم ..

(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ)

بالرغم مما يتراءى للبشر ان عقابه بطيء .. كلا إنه سريع يلحق بالبشر في الدنيا ، وقبل الوقت الذي يسوف العاصي فيه التوبة ، ويمني نفسه بتأخر العذاب.

ثم إن عقاب الله ما دام ثابتا لا محالة ، فان كلّ آت قريب يحدوه إليه الليل والنهار بسرعة فائقة ، ولا يقدر البشر على الفرار منه إلّا اليه سبحانه ، وبالعودة الى مناهجه ، وإصلاح الفاسد ، ذلك لان رحمة الله واسعة ..

(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

نتائج الظلم الاجتماعي :

[١٦٨] الظلم الذي مارسه بنو إسرائيل من هتك حرمة السبت كان ظلما اجتماعيا عاما وسبب في تبدل النظام السياسي ، وتسلط الطغاة على الحكم وقيامهم باضطهاد الشعب ، (كما تكونوا يولى عليكم) وكان من نتائج هذا الظلم الاجتماعي وأشباهه الانهيار في مجتمعهم ، حيث تساقطت حدود المجتمع وتفرقت بنو إسرائيل مجموعات .. مجموعات ..

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ)

وكانت تلك بدورها مرحلة من مراحل سقوط هذا المجتمع المؤمن ، حيث تفرقوا

٤٨٢

واختلفوا ، ولكن بقيت فيهم أمة صالحة وأمم متدرجة في الصلاح ، ولكن الله أنزل عليهم الحسنات حينا والسيئات حينا لكي يختبرهم ويمتحن مدى صمودهم أمام إغراء الحسنات وعذاب السيئات ..

(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

حيث إن فلسفة الاختبار هي : ظهور ما خفي على الإنسان من واقعة الضعيف حتى يصلحه ويكمل نفسه.

ثقافة التبرير :

[١٦٩] أما المرحلة الاخطر التي هبط إليها بنو إسرائيل فقد كانت انتشار الثقافة التبريرية التي تتخذ من الدين ستارا لاتباع الشهوات ، كما هو الحال عند بعض المسلمين حيث انهم يعملون المعاصي بعد التحايل على الدين ، بزعمهم بطريقة أو بأخرى ، فيرابون باسم البيع ، ويسكتون عن الظالم باسم أنه وليّ الأمر ، أو باسم أن العصر هو عصر التقية والانتظار ، أو يشجعون الخلافات باسم أنها الاولى بالاهتمام ، وهكذا .. كانت بنو إسرائيل في هذه المرحلة تتوسل ببعض النصوص وتفسرها حسب آرائها ، وتعمل المعاصي باسمها.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ)

ولكنهم لم يعملوا به وإنما كانوا ..

(يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)

إن تفسيرهم للاستغفار ساذج وبعيد عن الحقيقة ، ذلك لأن الاستغفار هو في واقعه الندم والعزم على ترك المعصية ، وإصلاح آثار الذنب السابق ، أما هؤلاء فقد

٤٨٣

زعموا أن مجرد التمني بالمغفرة كاف في درء خطر العذاب ، علما بان ذلك كان نتيجة اتخاذ الدين وسيلة تبرير لأخطائهم ، والدليل على ذلك أنهم يعودون الى الذنب كلما وجدوا عرضا زائلا من إعراض الدنيا ، وخطورة هذا النوع من التفكير أنه يكرس ضلالة البشر ، إذ أن وسيلة إصلاح البشر وهي الدين قد اتخذت عندهم وسيلة تبرير للفساد فكيف يمكن إصلاحهم؟! لذلك فان القرآن شديد أبدا على أولئك الذين يحرّفون الدين ويفسّرون نصوصه وتعاليمه تفسيرا خاطئا وقد اتخذ مسبقا العهود والمواثيق على من أرسل عليهم الكتاب بالّا ينسبوا الى الله غير الحق المتمثل في توصية الناس بأن الآخرة أفضل من الدنيا ، وذلك هو هدى العقل إذا انتفع الإنسان بعقله.

(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ)

وكانت تعاليم السماء واضحة بالنسبة الى الدنيا وأنها عرض زائل ..

(وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

[١٧٠] وبالرغم من أن أكثر هؤلاء قد انحرفوا وحرّفوا الدين ونسبوا الى ربهم أفكارا باطلة ، إلا أن طائفة منهم تمسكت بالكتاب تمسكا شديدا ، وطبقت تعاليمه ومنها : إقامة الصلاة ، والاستلهام من الله في تصرفاتهم ومواقفهم عن طريق إقامة الصلاة ، والله سبحانه لا يضيّع أجر هؤلاء لأنهم مصلحون ، لا يكتفون بالصلاة بل بإقامتها وتطبيق سننها في الحياة.

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)

٤٨٤

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)

____________________

١٧١ [نتقنا] : النّتق قلع الشيء من الأصل ، وكل شيء قلعته ثم رميت به فقد نتقته.

٤٨٥

الميثاق الإلهيّ

لمواجهة اتباع المبطلين

هدى من الآيات :

متى أخذ الله من بني إسرائيل ذلك الميثاق الذي كان من أبرز بنوده ألا يقولوا على الله الا الحق؟

الجواب : مرتين ، مرة حيث قلع قسما من الجبل وجعله فوقهم كأنه ظلّة أو سقف ، تصوروا أنه سيقع ويقضي عليهم ، وهنالك أخذ ميثاقهم وقال لهم : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ، وليكن هدف ذكر ما فيه التقوى والالتزام بواجبات الله سبحانه.

هذه مرة ، ومرة اخرى حين أخرج الله ذرية آدم في صورة ذر ونشرهم في الفضاء ، وأشهدهم على أنفسهم وقال لهم : «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» وآنئذ حذرهم الله من التبريرات التي قد يتخذونها وسيلة لعدم الالتزام بالحدود ، ومنها : أن يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ، أو يقولوا : «إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ» كلا .. ان كل جيل مكلف ومسئول عند ربه بما أتاه الله من

٤٨٦

فطرة وعقل ، وبما اتخذ عليه من شهادة في عالم الذر ولذلك لا يصح أن يقول أحدهم «أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ».

ان هذه الآيات التي يفصلها ربنا سبحانه تهدف اعادة الإنسان الى فطرته النقية ، الى حيث تعاليم الله.

بينات من الآيات :

خذوا ما أتيناكم بقوّة :

[١٧١] في قصة سبق الحديث عنها في سورة البقرة ، اقتطع ربنا جانبا من الجبل وجعله فوق رأس بني إسرائيل ، وأمرهم بأن يتعهدوا بأخذ ما آتاهم أخذا قويا دون ان يتكاسلوا أو يتوانوا فيه ..

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ)

اي رفعنا جزء من الجبل فوقهم.

(كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ)

اي كأنه شيء يظلهم كالسقف والسحاب.

(وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ)

أي واقع عليهم ، وفاتك بهم.

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ)

اي اجمعوا عزمتكم ، وسخروا همتكم ، واثبتوا تصميمكم على اتباع الدين ، فالدين ليس متكأ لكل خاوي العزيمة ، ضعيف الهمة ، فاقد التصميم ، أو لكل

٤٨٧

كسول جبان متعاجز ، انما هو رسالة الله الى الإنسان ، ورسالة المؤمن الى نظرائه من البشر ، انه يصقل شخصية البشر ويفجر طاقاته ، ويظهر مدى تحمله للصعوبات وتعهده بالمسؤولية ، انك لا تستطيع أن تطلب من الدين شيئا قبل أن تعطيه من نفسك ومن قدراتك التضحية والإيثار ، وأن تكون لديك العزيمة الكافية لاتباع مناهجه مهما كلف الأمر.

وحين تخونك عزيمتك ، وتخشى أن يداخلك الشيطان ويفسد عليك تصميمك ، عليك أن تعود الى الكتاب وتتدبر في آياته ، وتذكر تعاليمه حتى تخشى الله ، وتتعهد بالمسؤولية ، وتتسلح بالتالي بالتقوى.

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

وبقيت لنا كلمة في هذه الآية وهي : أن كل الناس وبالذات الرساليين منهم يمتحنهم الله كما امتحن بني إسرائيل ، فيأخذهم بالبأساء والضراء حتى يتعهدوا بالمسؤولية ويأخذوا الدين بقوة ، ولا يجب دائما ان تكون الظلّة قطعة جبل ، فقد تكون الظلّة كابوس نظام ظالم ، أو فقرا مدقعا أو مرضا مزمنا ، وقد يكون الرسول الذي يبلغه ضرورة الالتزام بالدين والتعهد باتباعه بقوة ، قد يكون أحد المبلغين القادمين ، أو حتى آيات في الكتاب يتذكرها المؤمن في تلك اللحظات ، ومنها هذه الآية التي تصدق في كل مكان ومع كل إنسان ولكن بطرق شتى.

كيف نبلور جوهر الذات؟

[١٧٢] كما حبة حية يدفنها التراب والوحل والسماد ولكنها تنشط وتتحدى وتخرج الى النور وتبرز حيويتها ، وقدراتها ، وامكاناتها وتعطي ثمراتها ، كذلك كل واحد من أبناء البشر يدفنه ركام الخرافات ، ووحل الضغوط والشهوات ، عليه أن ينشط وان يتحدى وأن يبلور جوهرته الانسانية ، وأن ينبعث خلقا جديدا ، وهذه

٤٨٨

مسئولية الإنسان ، وذلك ميثاق الله الذي تعهد به كل فرد من أبناء آدم وحواء.

ولكن كيف يبلور الواحد منا جوهر الانسانية في ذاته ، ويصبح ذلك الإنسان الذي فضّله الخالق وأكرمه وخلقه في أحسن تقويم؟

انما عن طريق الاتصال المباشر بالله ، والانطلاق من الايمان به نحو بناء حياة جديدة لنفسه ، مستقلة عن تقليد الآباء ، وحرّة بعيدة عن الغفلة والنسيان.

لقد كنا في صورة ذر كما جاء في أحاديث صحيحة ، وكنا في صلب آدم ، أو كان بعضنا في صلب البعض ، وأخرجنا الله سبحانه واشهدنا على أنفسنا.

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)

قد يكون معنى هذه العبارة أن ربنا اخرج كل ولد من ظهر والده.

(وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ)

الغفلة لا تكون تبريرا مقبولا للبشر عند الله ، بل يجب أن يتحدى البشر حجاب الغفلة بنور التذكر ، وبوهج العقل الذي يشع في ضمير البشر في بعض الأحيان ان لم يكن دائما.

[١٧٣] (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)

ان هذا التبرير ليس سليما ولا مقبولا عند الله ، إذ أن الله قد أخذ الميثاق من كل واحد منا وحمله مباشرة مسئولية الايمان ، وإذا قصّر جيل في إيمانه فأن الأجيال القادمة غير معذورة باتباع ذلك الجيل الأول ، وهذه الآية تحذّر من التقليد ببلاغة

٤٨٩

كافية.

[١٧٤] وربنا الحكيم يذكرنا بهذه الحقائق لكي نعود الى فطرتنا ، ونبلور جوهر الإنسان في ذواتنا ، ونرفع عن أنفسنا غشاوة الغفلة ، وأغلال التقاليد.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

٤٩٠

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)

٤٩١

ردة العالم ومثل الكلب اللاهث

هدى من الآيات :

حين يتخذ الدين اداة لشحذ العزيمة ، ووسيلة لتكامل البشر ، فان ذلك سيكون وفاء لميثاق الإنسان وعهده مع ربه ، ولكن حين يكذب البشر بآيات الله ، ولا يتمسك بها بقوة ، بل ينسلخ منها إذا تعرض لضغوط ما ، فإن الشيطان سيلحق به ليملأ قلبه الذي فرغ من آيات الله فيصبح خاويا ، والله قادر على ان يرفع البشر بآياته ، ولكن بشرط ان ينبعث البشر بذاته عن جاذبية الأرض ، ولا يتبع هواه ، أما إذا أخلد الى الأرض ، وركن إليها ، واعتمد على العرض الزائل من الدنيا ، فمثل هذا الشخص كمثل الكلب في خسته ودناءته ، وارتباطه بالدنيا واتباعه لأهلها بأقل شيء ، وهناك صفة اخرى له هي أنه يلهج بآيات الله التي لم يستفد منها إلا ألفاظا وأسماء ، فهو حين تجادله في آيات الله يلهث بها ، أو تتركه يلهث بها مراء ونفاقا.

ولقد ضرب الله هذه الامثلة لعل الناس يتفكرون ، ولا يتخذون الدين تقليدا أو أسماء بلا معاني.

٤٩٢

ان الذين يكذبون بآيات الله هم المثل السيء الذي يعكس واقعا فاسدا لأنهم يظلمون أنفسهم بتكذيبهم آيات الله.

ان الهدى من الله ، لا ما يتخيله البشر بفكره القاصر ، اما الضلالة فهي نتيجة طبيعية لفقدان هداية الله ، ومن لم يهده الله فإن أساطير البشر وخيالاته هو لا تعطيه الهداية ، بل تزيده خسارة وضلالا ..

بينات من الآيات :

ضرورة الالتزام :

[١٧٥] لا بد للإنسان ان يتبع منهجا ، ويلتزم بميثاق ، فان اتبع منهج الله وميثاقه فقد فاز ، والا فسوف يملأ الشيطان فراغه ، فيتبع منهجه ، ويصبح من حزبه ، وحين يؤتي الله فردا نعمة الرسالة ، فينزل عليه آياته ، فعليه أن يتعهد بميثاق الله فيها ، وهو الالتزام المطلق بها دون ان يترك شيئا منها ، تحت ضغط الشهوات أو سبب الإهمال.

أما إذا ترك جانبا من آيات ربه بعد أن استوعبها ، فإن الشيطان سوف يصبح قرينه وساء قرينا ، ويكون مثله مثل الكلب كما علماء السوء. والأحبار والرهبان ، وكل من أوتي علما فتركه.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)

[١٧٦] (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها)

ان الله قادر على ان يجعل آياته سببا في رفعة البشر ، بشرط أن يسعى هو من أجل ذلك ، أما إذا لازم الأرض وما فيها من ذلة وصغار ، وشهوات عاجلة زائلة ، فإن الله

٤٩٣

يتركه لشأنه ..

(وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ)

واتباع الهوى هو نتيجة مباشرة للخلود الى الأرض ، والاكتفاء بها وشهواتها ، وعدم التطلع الى السماء ، والى القيم الروحية والى المستقبل الأفضل ، والى مرضاة الله والى الجنة.

ان العلم معراج البشر ، ولكن إذا ركن الفرد الى الأرض وشهواتها وجاذبيتها ، فإن العلم سوف يترك مكانه للجهل ، والعقل للشهوات ، وتصبح كلمات العلم عند صاحبها كلهث الكلب.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)

ان كل الحيوانات تلهث حين تتطلب الحاجة الى اللهث ، كما إذا حمل عليها فإنها تلهث دفاعا أو استعدادا للخطر ، أما الكلب فأنه يلهث بمناسبة وبدون مناسبة لان عادته اللهث كذلك العالم الذي يتبع هواه ، يلهج بالعلم لا من أجل العمل به ، أو توجيه الناس الى الخير به ، بل من أجل المباهاة والتعالي على الناس باسمه ، فالعلم بدون هدف أو العلم الذي يستخدم لأغراض دنيئة ، كما لهث الكلب لا فائدة من ورائه ولا كرامة.

(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

الذين يكذبون بآيات الله لا يجدون علما يهتدون به ، أو نورا يستضيئون به ، وانما يتعلمون كلمات يلهجون بها ، كما يلهث الكلب بلا هدف.

انما يستفيد البشر بالعلم إذا تفكر ، وتحول العلم الى جزء من شخصيته ، وتعلم

٤٩٤

علما يفيده ، وكان تعلمه لهدف مقدس ، اما وسيلة تعلمه فهي القصص الواقعية التي يستلهم منها رشدا وعبرا ودروسا.

حب الشهرة :

[١٧٧] ان أكثر ما يخدع رجال العلم فيدفعهم نحو المتاجرة بالعلم هو حب الشهرة ، بيد أنهم سوف يشتهرون بالسوء أكثر ما يشتهرون بالخير ، وهم يضربون بذلك أسوء الأمثلة.

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ)

إنهم أسوء مثل ، لأنهم وجدوا فرصة للفلاح فظلموا أنفسهم بترك الفرصة.

[١٧٨] من أسباب هلاك البشر هو اتكاله على نفسه ، وغروره الذي يستغني به عن هدى الله ، وعظمة رسل الله والعلماء بالله ، وخصوصا علماء السوء فإنهم يهلكون بهذا الزعم كثيرا ، ولذلك يؤكد ربنا على ان الهدى من الله ، وعلى البشر ان يتمتع بالتسليم والقنوت له سبحانه حتى يهتدي ، أما إذا لبس رداء الغرور والكبرياء فسيضل ، لأنه سوف لا يهديه ، وليس هناك مصدر آخر للهداية.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)

٤٩٥

وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)

____________________

١٧٩ [ذرأنا] : الذرء بمعنى الإنشاء والاحداث والخلق.

١٨٣ [أملي] : الاملاء التأخير والامهال.

٤٩٦

كيف ندعو الله بأسمائه الحسنى

هدى من الآيات :

لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، وزوده بكل وسائل الهدى ، ولكن حيث ترك الانتفاع بها أصبح حقيرا الى درجة لا ينفع الا لجهنم ، وكأنه قد خلق لها ومن أجلها ، لقد زود الله البشر بالقلب وجعل التفقه به من مسئولية البشر ، وزوده بالعين ولكن التبصر بها من واجبه ، وكذلك الإذن جعلها من أجل السماع الاستماع لا يمكن الا بإرادة البشر وبقراره.

ان الإنسان الذي لا يقرر الانتفاع بوسائل الفقه والمعرفة التي عنده يشبه الانعام ، بل أضل منها منهجا وطريقا ، لان الانعام لا تملك قدرة ولبشر يملكها ولا ينتفع بها ، وهؤلاء غافلون عن قدراتهم العاملة ، وعن المستوى الذي بامكانهم بلوغه.

ولله سبحانه الأسماء الحسنى ، وكل اسم من أسمائه يشير الى قوة فاعلة في الحياة ، أو سنة جارية فيها ، فإذا عرفنا الله بآياته عرفنا تلك الأسماء ، ومن خلالها استطعنا أن نكيف أنفسنا مع الحق ، ودعاء الله بأسمائه الحسنى يكرس روح

٤٩٧

الحقيقة في البشر ، أما من يغير أسماء الله فعلينا ان نتركهم للجزاء العادل.

وهناك من يحكم بالحق ويجعله مقياسا لتقييم الحياة ، أما الذين يكذبون بآيات الله فإنهم سوف يتدرجون الى النار من حيث لا يعلمون ، وان الله يملي لهم ويمهلهم الى حين.

بينات من الآيات :

الحكمة الربانية :

[١٧٩] أن ربنا رحيم ورحمته واسعة ، ولكن رحمته سبحانه قد حددها بحكمته البالغة ، بأولئك الذين ينتفعون بالنعم ويقررون الاستفادة منها ، أما من لا يشتغل قلبه وسمعه واذنه وبالتالي مداركه فان رحمة الله تتبدل بالنسبة اليه الى نقمة شديدة ، حيث يلقى به في جهنم وكأنهم قد خلقوا لها.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها)

من الآية يظهر بوضوح أن الهدى من الله ، ولكن الاهتداء بالهدى من البشر ومن صنعه ، فهو الذي يقرر التفقه بالقلب ، والتبصر بالعين ، والسماع بالاذن ، ومن دون هذا القرار فان الله لا يكره أحدا على الهدى.

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ)

لان الانعام تهتدي بفطرتها نحو منافعها ، وهؤلاء ينحرفون حتى انهم ليضرون بأنفسهم بوعي ومن دون وعي ، كالذي يشرب الخمر ويضرر بنفسه ، والذي يسلط الطاغوت ليستعبده ، والذي يعاقر المخدرات ويمارس الفاحشة ليضر بنفسه ، مما لا يفعله الحيوان لأنه يهتدي بفطرته الى مصالحه ..

٤٩٨

(أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)

الغافل هو : الذي يملك ذخائر المعرفة ولكنه لا يستفيد منها فيقع في المهالك.

الكفر بالأسماء والصفات :

[١٨٠] بسبب الإلحاد والانحراف في أسماء الله ، ينحرف كثير من الناس فيزعمون مثلا أن الله واسع الرحمة وانه لذلك لا يعذب أحدا لان رحمته تأبى ذلك ، أو يزعمون بأنه لو زلّ أحد فانه قد سقط نهائيا وسوف يعاقبه الله لأنه شديد العقاب ، ولا يرجى له الخير أبدا ، هذا التصور الخاطئ أو اذاك يكرس انحراف البشر ، بينما الاعتقاد السليم أن الله واسع الرحمة وأنه شديد العقاب كل في محله وحسب الحكمة ، وان الرحمة والنقمة تأتيان بعد ارادة البشر ومشيئته ، فلو أراد الرحمة لنفسه لحصل عليها ، ولو شاء العذاب لابتلي به ، هذا الاعتقاد السليم يبعد البشر من انحرافاته ، وهذا الاعتقاد السليم انما يبلغه الإنسان بفطرته النقية وعقله وبصيرته ، حيث ينسب بها الى ربه أحسن الأسماء.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)

إنّ دعاء الله بأسمائه الحسنى يكرس الضمير الحسن عند الإنسان ، فيهتدي الى السنن الحاكمة في الحياة والتي يجريها ربنا بأسمائه الحسنى.

(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

والإلحاد في أسماء الله يسبب انحرافات عملية ، وعلى تلك الانحرافات يعاقب الله عباده ، لا على مجرد التصور الخاطئ ، بل نستطيع أن نؤكّد ان الانحرافات العملية هي السبب المباشر في الإلحاد في أسماء ربنا ، إذ من دون سبب وإذا ترك البشر فطرته النقية عرف الله بأسمائه الحسنى ، ولذلك لا ينفع الجدل في أسماء الله

٤٩٩

والمناقشة مع الملحدين فيها ، لان سبب الانحراف والإلحاد ليس سوءا لفهم بل سوء النية ، وربما لذلك أمرنا الله بترك هؤلاء الملحدين وشأنهم ، إذ المجادلة مع المنحرفين بوعي مسبق وإصرار عليه تشوش رؤية البشر الصافية ، وتشككه في حقه.

وتبقى كلمة في أسماء الله وهي :

يبدو أن الخليقة تقاد بقوى معينة مثلا بالعلم ، والحكمة ، والقدرة ، فالشمس تجري لمستقر لها ، ولكن كيف؟

الحكمة هي التي تجعل للشمس هدفا تتحرك نحوه من أجل تحقيقه ، والعلم هو الذي يحدد مسيرة الشمس بحيث تبلغ الهدف ، والقدرة هي التي تنفذ الحكمة والعلم وتقهر الشمس على اتباع تلك المسيرة المحددة ، هذه هي أسماء الله سبحانه ، وتجلياته ، فالعلم اسم من أسمائه الذي يتجلى في كل صغيرة وكبيرة في الكون ، والحكمة كذلك ، والقدرة وهكذا ..

وحين ندعو الله بأسمائه ونقول يا عليم ، يا قدير ، يا حكيم ، أو نقول نسألك بعلمك ، وبقدرتك ، وبحكمتك ، فاننا في الوقت الذي نكرس في أنفسنا قيمة العلم ، والقدرة ، والحكمة ونستخدمها في واقعنا ، فان هذه القيمة لا تكون منفصلة عن توحيد الله وعن عبادته ، وعن الايمان بأنه أعلى من أسمائه ، وأن علينا التوكل عليه لا الاعتماد فقط على أسمائه.

التوسّل بالذات لا بالصفات :

ان من أكبر أخطاء البشر هو التوسل بأسماء الله سبحانه دونه ، لان ذلك يشكل جزءا من الحقيقة الكونية ، وهو يؤدي الى الايمان ببعض الحقيقة ، فمثلا ، الايمان بالعلم دون الحكمة يسبب جعل العلم معبودا وحيدا كما فعل الفرنسيون في منطلق

٥٠٠