من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

على حكمة ربنا وقدرته.

والله هو الذي أنزل المطر ، فاذا به يتحول بقدرة الله الى شتى أنواع النباتات ، من حقول خضراء الى جنان النخيل والأعناب والزيتون والرمان بعضها متشابه وبعضها مختلف ، وحين ينظر المرء الى ساعة أثمارها ، ولحظة ينعها ينبهر بها ، وعموما فان البشر بحاجة الى فطرة سليمة ، وغير معقدة ضد الايمان حتى يهتدي بهذه الحقائق الى الرب الكريم.

ومن الملاحظ ان القرآن الحكيم قد قسم الآيات على أنواع : بعضها للعالمين ، وبعضها للفقهاء ، والبعض للمؤمنين ، للدلالة على تدرج المراحل ، الكمالية ففي البداية علينا ألا نكون في إفك وضلالة ، وتكون القلوب نظيفة من العقد والعقائد الباطلة ، ثم نحصل على العلم ، ثم نتعمق في العلم ، حتى نحصل على غور العلم ، وعمقه وهو الفقه ، وأخيرا ننظر الى الحياة نظرة بسيطة ، نابعة من الفطرة النقية ، حتى نصبح مؤمنين بأذن الله.

هذا الدرس يأتي حلقة من مسلسل الدروس الايمانية المباشرة ، بينما كانت الدروس السابقة تمهد لمثل هذا الدرس.

بينات من الآيات :

النشأة الاولى :

[٩٥] الفلق هو : ان ينشطر شيء فينكشف عن شيء خفي ، والحب تكمن فيه المواد الحية ، ولكنها تبقى خفية حتى تنفلق وتنشطر ، فينكشف عن تلك المواد ، ولكن هذه الحالة بحاجة الى من يدبرها حتى ينفلق الحب بتنظيم ومتانة ورفق ، حتى تتم الولادة سليمة ، والله هو ذلك المدبر العزيز.

١٤١

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى)

والكلمة تدل على طريقة النشأة ، وهي أن نمو المواد الحية يسبب في انقشاع الغلاف الظاهر الذي يخفي وراءه تلك المواد ، فاذا بنا نشاهد الحياة ، بينما كانت الحياة موجودة سابقا ، ولم تكن معدومة آنئذ ، ولكنها كانت مخزونة الى هذا الوقت.

وهذا النمو يتم بإضافة المواد الميتة الى المادة الحية ، فتصبح تلك المواد الميتة ذات حياة بإضافتها الى تلك المادة الحية ، فالحب فيه مادة حيّة تستقي من الأملاح الميتة ، ومن النور الميت ومن الماء ، فتصبح حبة كبيرة ، فاذا انتهت دورة الحياة ، فان تلك المواد الميتة تزال عن تلك المادة الحية. وربما يكون هذا المعنى قوله سبحانه :

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ)

أو يكون معناه : ان الله يخرج من ضمير الأشياء الميتة شيئا حيا ، ومن رحم الأشياء الحية شيئا ميتا ، وبتعبير أخر يحول الحيّ الى ميت ، والميت الى حي ، سبحانه.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)

في أية ضلالة تتيهون ، وأي إفك يحمّل عليكم ، ويفرض عليكم.

أن الخلاص من الافك الذي تفرضه على البشر أهواؤه ومجتمعة والشيطان الرجيم ، شرط مسبق لفهم الحقائق ببصيرة الفطرة النقية.

[٩٦] والله سبحانه هو الذي خلق النور ، وفلقه ونشره ، ونظم انتشاره. كما جعل الظلام في حدود معينة ولهدف محدد وهو السكون اليه والراحة.

(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً)

١٤٢

جعلهما يسيران وفق نظام ثابت ومحسوب ، لا يحيدان عنه قيد أنملة.

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

فبعلمه سبحانه وضع الخطة ، وبعزته أجراها.

بين العلم والهدى :

[٩٧] مواقع النجوم ، وما في السماء من كواكب سيارة ، ونجوم ثوابت ، بالرغم من دوران الشمس والقمر ، انها من آيات الله العظيمة ، اننا نهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، وهذا الاهتداء يتم لعلمنا بثبات هذه المواقع ، وبأنها دليل على وجود ثبات في سنن الكون ، وبالتالي على أن للكون أنظمة بالغة الدقة ، وأن هذه الآيات وضعها الله ليهتدي البشر إليها وليستفيد منها ، أفلا تدل هذه الآيات على الواحد القهار؟! إذا كنا نهتدي بالنجوم على السبل السليمة في الحياة ، أفلا نهتدي بها على من وضع هذه السنن ما دامت طريقة الاهتداء واحدة ، وهي الانتقال من العلامة الى ما ورائها من الحقيقة؟!

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

لأنه من دون العلم والمعرفة لا يمكننا بلوغ معرفة الحقائق ، وفي هذه الآية جاء التأكيد على دور العلم خصوصا في معرفة الآيات المفصلة.

دورة المياه :

[٩٩] التنوع في الحياة دليل آخر على حكمة الله وعلمه وقدرته ، فبالرغم من وحدة الهدف العام ، فانك ترى كل شيء في الحياة يحقق هدفا معينا يتكامل مع سائر

١٤٣

الاهداف في وحدة شاملة لها جميعا ، واننا نجد الاهداف كلها تتحقق بذات الوسائل الواحدة ، وذلك عن طريق احداث تغيرات بسيطة في طريقة تركيبة المواد مع بعضها ، وفي كمية كل مادة وما أشبه ، فالأرض تسقى بماء السماء ، فالماء هو الماء ، والأرض هي الأرض ، ولكن النبات يختلف لونه وطعمه وفائدته ، والهدف من خلقه ، وكل نبتة أنشئت لهدف محدد يتكامل ، مع سائر أنواع النباتات.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)

ترى كم هي حكمة رائعة ان ينزل الله من السماء ماء ، والماء منبعه في الأرض ، وهو مالح ، ولكن الله يحليه بالتبخير ، ثم يرفعه الى السماء ، ويضيف اليه هناك المواد الضرورية للزرع ، بعضها عن طريق احتكاك السحب ببعضها مما يحدث الرعد ، وبعضها عن طريق امتزاج الماء بالهواء ، ثم حين تمطر السماء يتوزع هذا الماء في كل أرجاء الأرض السهل والجبل ، والمدينة والصحراء ليحقق اهدافا مختلفة.

أولا تهدينا هذه الآية الى ربنا القدير ، ثم أنظر الى آثار الماء الذي يهبط من السماء.

(فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ)

كل شيء ينمو بهذا الماء. الزرع والضرع والحيوانات.

(فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً)

كالحنطة والشعير والذرة وما أشبه مما يتراكم الى بعضها لفائدة المجتمع ، حتى يكاد البشر يعجز عن استيعاب الفائض منه ، فاذا ببعض الدول تحرق المزيد منها ، وبعضها تلقيه في البحر.

١٤٤

(وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ)

تعطيك تمرها بسهولة بالاضافة الى روعة جمالها ، وسائر فوائدها.

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ)

ولحظة ولادة الحياة لحظة رائعة ، لأنها أقرب الى الفهم العميق لطبيعة الحياة ، ولما فيها من حكمة ونظام ، ولما تحتوي عليها من شواهد عظيمة على طبيعتها المحدودة المحكومة بما فوقها من ارادة وعلم وقدرة. لذلك يأمرنا الله بالنظر الى هذه اللحظة.

(انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ)

ان هذه العبر المنتشرة في الحياة بحاجة الى الايمان بها حتى يعرفها ويستوعبها البشر إذ من دون الايمان يقتصر نظر البشر الى الحياة ذاتها ، دون النظر الى ما ورائها من حكمة وغاية معقولة ، أو لما فيها من شهادة على الرب الكريم.

(إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

الامام علي (ع) المثل السامي للمؤمن الصادق كان يقول :

(ما رأيت شيئا الّا ورأيت الله قبله وبعده ومعه)

١٤٥

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)

____________________

١٠٠ [وخرقوا] : حكموا.

١٠١ [بديع] : بمعنى المبدع ، والفرق بين الإبداع والاختراع أن الإبداع فعل ما لم يسبق الى مثله ، والاختراع فعل ما لم يوجد سبب له ، ولذلك يقال البدعة لما خالف السنة لأنه احداث ما لم يسبق اليه.

١٤٦

أسماء الله الحسنى

هدى من الآيات :

إذا تدبّرنا في الآيات الكونية التي أشار إليها القرآن الحكيم في الدروس الماضية ، نجد ان الله يعطينا معرفة بذاته ، ويأتي هذا الدرس ليذكرنا ببعض الصفات الالهية التي يعرفها المؤمن بسبب معرفته بربه ، وكلما زادت معرفة الإنسان بالله زادت معرفته بصفاته وأسمائه الحسنى ، ومن ثم معرفته بسائر المعارف التوحيدية كالعدل والنبوة والامامة والمعاد وما إليها.

في البداية يذكرنا القرآن بان الله هو الذي خلق الجن ، ولكن الساذجين من البشر يزعمون بأن الجن شريك ، كما انهم قالوا «كذبا» ان لله بنين وبنات ، وهذا يدل على عدم علم بالحقيقة ، ولا معرفة بالله المتعالي عن الصفات السيئة.

هو الذي خلق الأشياء من العدم خلقا إبداعيا دون أن تتولد منه الأشياء ، حتى يحتاج الى آخر مكمّل له يتولد منهما معا ، كما البشر بحاجة الى صاحبة حتى يتولد منهما الطفل.

١٤٧

وأخيرا فان الله هو الذي خلق كل شيء ، وأحاط بكل شيء علما ، وعلى البشر ان يخلص عبادته لله ، لأنه الرب ، ولأنه الوحيد ، ولأنه مهيمن على كل شيء ، يدبر أمر الخلق ، ويجري فيه السنن والانظمة فهو علينا وكيل.

بينات من الآيات :

حين يجهل المخلوق قدر خالقه؟!

[١٠٠] القوى الغيبية التي يشعر البشر بوجودها (بطريقة أو بأخرى) يجهل عادة طبيعتها ، ويزعم انها قوى منفصلة عن قدرة الله المهيمنة على الحياة ، أو حتى أنها آلهة وشريكة للاله العظيم في العلم والقدرة ، وقد يتطور هذا الزعم الى خرافة عبادة الجن والمرتبطين بالجن ، من الناس كالكهنة وسدنة المعابد ، الى جانب الايمان بالله وبرسالاته.

بينما الحقيقة : ان هذه القوى الغائبة عن الأنظار ، سواء كانت عاقلة ومريدة كالجن والملائكة ، أو لا كقوة الكهرباء والجاذبية وما أشبه ، انما هي مخلوقات كسائر المخلوقات المادية ، منتهى الأمر ان علمنا بها محدود.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ)

الله خلق الجن ، لأنه هو الاخر يتميز بذات الصفات التي تتمثل في سائر الموجودات مثل : المحدودية والجهل والتعدد والتكاثر ، وكلها صفات المخلوق ، والمخلوق سواء كان ظاهرا أو غائبا فهو المخلوق.

(وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ)

نسبوا الى الله تهمة بعيدة جدا عن الحقيقة ، بل هي خرق للفطرة ، ولما هو معلوم

١٤٨

من سنن الحياة : تلك هي أن بعض هؤلاء الشركاء قريب الى الله ، فزعموا انها أبناء لله أو بنات له ـ سبحانه ـ وليس أصحاب هذه التهمة على علم بهذه الفكرة الخرقاء ، وهنا يظهر مدى بطلان كلامهم. إذ كيف يمكن ربط شيئين ببعضهما ، والادعاء بأن هذا قريب من ذلك ، من دون اي دليل أو شاهد ، وربما تشير الآية الى أن طاعة أحد باسم طاعة الله انما هي شرك وضلالة ما دام الله لم ينزل على ذلك سلطانا وبرهانا مبينا.

ثم ان نسبة شيء الى الله سبحانه ، باعتباره بنتا أو أبنا له لدليل على عدم معرفتهم بالله ، إذ ان من يعرف الله يعرف أنه منزّه عن الشريك ، ومتعال عن صفات الخلق ، ان هذه الصفات هي صفات المخلوقين ، ولاننا نجد مثل هذه الصفات في المخلوقات ، نعرف ان الخالق منزه عنها ، ولو نسبنا الى الله سبحانه مثلها ، إذا لاحتاج هو الاخر الى رب أعلى ، لأنها تدل على انه بدوره مخلوق مثل سائر المخلوقات.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)

وينسبون الى ربهم من صفات المخلوقين.

الخلق وليست الولادة :

[١٠١] يبدو ان الآية السابقة نفت الفكرة القائلة بأن هناك في عالم الالوهية درجات ، كل اله له درجة ، بعضها كالأب وبعضها كالابن ، بيد ان هذه الآية تنفي وجود التوالد والتناسل ، فيذكرنا القرآن هنا : بأن نشوء الخلق ليس كما يزعم المبطلون ، من أنه عن طريق التوالد ، بل هو عن طريق الخلق المباشر.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ)

١٤٩

إذ ما من شيء يلد الّا وكان له صاحبة. إذ من دون ذلك من المستحيل الولادة ، إذ يسبب في نقصان الشيء الاول وانتهائه ، وإذا كان ربنا بحاجة الى جزء مكمل حتى يخلق الخلائق ، فما الفرق بينه وبين أي مخلوق آخر ، ولماذا أساسا نعتقد بوجود اله؟ ان المخلوقات تشهد على عجزها وحاجتها الى الخالق وبحاجتها الى بعضها ، ولا بد ان يكون الخالق بريئا من ذلك ، ولنفرض مثلا حاجة شيء الى شيء آخر لتتم عملية خلق شيء ثالث ، أفلا يحتاجون إذا الى قوانين وانظمة لهذا التزاوج حتى يتم وكيف وبأي قدر وكمية؟ بلى ومن يضع هذه القوانين ، ومن يجريها؟ أو ليس شخص ثالث؟ وهو أعلى منهما؟ إذا هو دون هذين الشخصين.

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)

خلقا مساويا ، فنسبة أي شيء اليه هي نسبة سائر الأشياء دون زيادة أو نقيصة فهو خالقهم جميعا.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

[١٠٢] وهذه بالضبط ، صفات الخالق من دون المخلوقين ، انه بريء عن نسبه البنين والبنات اليه وعن الأولاد والصاحبة ، وعن الضعف والجهل ، فهو الذي تشهد فطرتنا بأنه الخالق الذي نتطلع اليه.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)

والعبادة لا تنبغي الّا له ، لأنه خالق الأشياء ، ولأنه الذي بيده أمور الأشياء ، فهو الذي يجري عليها الانظمة ، ويهيمن على أمورها اليومية.

١٥٠

القريب البعيد :

[١٠٣] وصفة حسنى لله ، هي صفة القرب المتعالي ، فبالرغم من ان الأبصار لا تدركه لأنه متعال عن الحدود والابعاد والاتجاهات والأبصار ، كما العقول لا تدرك شيئا مطلقا لا حدود له ولا أبعاد ، بالرغم من ذلك فهو قريب من الأشياء ، فهو يدرك الأبصار ، ويحيط علمه بما في العقول والأفكار.

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)

وهذه الصفة تدل على منتهى اللطف ، حيث انه يدرك كل شيء لأنه يحيط بكل شيء.

(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

١٥١

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)

____________________

١٠٥ [درست] : الدرس أصله استمرار التلاوة ، ودرس الأثر دروسا إذا انمحى لاستمرار الزمان به ، ودرست الريح الأثر دروسا محته باستمرارها عليه.

١٠٨ [عدوا] : اعتداء وظلما.

١٥٢

مسئولية البشر في الهداية

هدى من الآيات :

بعد ان ذكّرت آيات الدرس السابق بالله سبحانه ، جاءت هذه الآيات لتؤكد المعنى الذي سبق في الدروس السابقة وهو أن وجود الآيات لا يكفي في هداية البشر ، بل إذا لم يرد الإنسان لنفسه الاهتداء ، فانه لا يهتدي وهو المسؤول عن ذلك.

وتصريف الآيات اي ذكرها بصفة مكررة انما هو بهدف توضيح الحقائق لمن يعلم أنه يجب عليه أن يتبع الحقائق ، دون خوف ممن يخالفها كالذين أشركوا ، والمشركون لا يعجزون الله إذ لو شاء الله ما أشركوا ، فشركهم انما هو بإذن الله (دون ان يكون برضاه سبحانه) والرسول ليس مسئولا عن شركهم ، ولا هو وكيلهم ، انما عليه ان يبلغهم الرسالة ، ثم إذا لم يستجيبوا يعرض عنهم الى غيرهم.

ان الشرك مضلل لأهله حتى انهم أصبحوا يقدّسون أصنامهم ، ولا يجوز سب هذه الأصنام لأنهم آنئذ سوف يسبون الله ظلما وعدوانا. وان الله الذي سوف يرجعون اليه سوف يجزيهم بما فعلوا ، وكيف أنهم خالفوا الحقائق.

١٥٣

ويبدو أن معرفة العلاقة المعقولة والمناسبة بين من يؤمن وبين من يشرك. ذا أمر ايجابي في استيعاب المؤمنين للحقائق. إذ من دونها ينشغل ذهن المؤمنين بمصير المشركين.

بينات من الآيات :

بصائر الرسالة ومسئولية الاهتداء :

[١٠٤] البصيرة هي الآلة التي تساعد على التبصر ، والقرآن بصائر ، لأنه يحتوي على مناهج للفكر وآيات للحقيقة ، والقرآن يزكي النفس ، ويرفع عنها حجاب الكبر حتى ترى الحقيقة.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)

والكلمة المشهورة في أدبنا الحديث والتي تستخدم مكان البصيرة هي الرؤية ، بيد ان البصيرة (وجمعها بصائر) أقرب الى المعنى المطلوب ذلك لان الرؤية تطلق حينا على الأبصار ، وحينا على اتخاذ رأي ، بينما البصيرة هي التي تساعد على عملية الأبصار ، ومشاهدة الحقائق عن كثب من دون احتمال للخطأ.

والقرآن لا يحمّلك رأيا ، أو يفرض عليك اتجاها فكريا ، بل يساعدك على تلمس الحقيقة مباشرة من دون وسائط ، بيد ان لارادتك دورا في ذلك ، فان شئت استخدمت البصيرة ، والا فأنت كمن لا يستخدم عينه فلا يرى.

(فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها)

والرسول هو الآخر لا يهدف تحميل رؤية عليك لأنه ليس حفيظا عليك. أي إنّ الله لم يكلفه بحفظك وهدايتك ، بل أنت المسؤول عن نفسك.

١٥٤

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)

[١٠٥] والآيات هذه بيّنها الله ببيان واضح.

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

قالوا في معنى الآية : ان تصريف الآيات ، وذكر بعضها بعد بعض وتنزلها بصورة تدريجية يعتبر زيادة في شقاء الضالين وزيادة بيان للمؤمنين.

ذلك لان الكفار كانوا يتخذون من تنظيم نزول القرآن ذريعة لكفرهم فيقولون :

ان النبي يتعلم من العلماء ويدرس عندهم ويتفكر في المسائل ويدرسها ثم يحولها الى آيات. وإلّا فلم لم يأتي بها جملة واحدة كما فعل موسى.

[١٠٦] وعلى البشر ان يتبع الوحي دون نظر للآخرين الذين لا يؤمنون ، لأن أولئك مسئولون عن أنفسهم ، وانا بدوري مسئول عن نفسي ، فالانشغال بهؤلاء قد يجعلني انحرف قليلا أو أترك جانبا من الوحي ، ان المقياس الاول والآخر هو الحق ، وعلى البشر أن ينظر اليه فقط في مسيرته.

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)

[١٠٧] والتفكر في المشركين وفي مصيرهم ، وأنه لما ذا يذهبون الى النار بالرغم من أنهم بشر مثلنا؟ هذا التفكر يجعلنا نشتبه في بعض الحقائق ، أو لا أقل لا نتبع مسيرتنا الى نهايتها ، لذلك يذكرنا القرآن بأن شرك المشركين ليس بمعجز لله ، بل هو ضمن اطار اذن الله وهيمنته على الكون ، وإذا كان على البشر أمر أكثر من مجرد دعوتهم الى الايمان. لكان الله سبحانه يفعل لهم ذلك.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)

١٥٥

فانتظارهم خطأ لأننا لسنا مكلفين بحفظهم أو وكلاء عنهم.

لا تسبوا المشركين :

[١٠٨] دع المشركين في ضلالهم ، انهم بعد أن أرادوا الشرك واختاروه على الهدى ، وكلهم الله الى أنفسهم ، وزين لهم الله أعمالهم ، لذلك فهم يقدسون منهجهم في الحياة ، ومن الخطأ أن يسب المؤمن مقدسات المشركين ، لأنه سوف يسبب في رد الفعل من جانبهم ، فيسبوا الله ظلما وعدوانا ، ولأنه قد زيّن لهم هذه الأعمال ، فلما ذا نكلّف أنفسنا ، وأننا نعلم ان مصير هؤلاء الى الله حيث يحاسبهم ويجازيهم؟!

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

إذا : يجب الاعراض عن المشركين والاستمرار في بناء الكيان الاسلامي ، بعيدا عنهم لأنه لا أمل فيهم ، وحسابهم غدا على الله.

١٥٦

وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)

____________________

١١١ [قبلا] : معاينة.

١٥٧

لما ذا المطالبة بالآيات الجديدة؟

هدى من الآيات :

في سياق الحديث عن ضرورة الاعراض عن المشركين باعتبارهم معاندين ، في هذا الدرس ، يتابع القرآن هذا الحديث ببيان ان المشركين يحلفون بالله ـ الايمان المغلظة ـ انهم سوف يؤمنون بشرط نزول آية معينة عليهم ، أو دليل قوي ، بيد أنهم يكذبون ، وبالرغم من ان الله قادر على ان ينزل آية مما يطالبون بها ، ولكن ما الضمان لقبولها ما داموا يرفضون الآيات الواضحة ، وتحدثنا الآية الثانية ، عن أن الكفر بالآيات يسبب في تبديل القيم والمقاييس ، وعدم قدرة الفكر على التمييز ، ذلك لان الكفار طغاة والطغيان يحجب العقل ، ويدع القلب مظلما.

وفي الآية الاخيرة : يذكر القرآن انه حتى لو أنزل الله أكثر الآيات وضوحا ، مثل نزول الملائكة ، وتكلم الموتى ، وحشر كل شيء أمامهم ، فإنهم لا يؤمنون لأن الجهل محيط بأكثرهم.

١٥٨

بينات من الآيات :

الايمان الكاذبة :

[١٠٩] التعرف على طبيعة المشركين ، يساعدنا في تكوين علاقات سليمة معهم ، انهم انما يكفرون استجابة لشهواتهم ، أو تسليما لضغوط مجتمعهم ، أو خشية من طاغوت حكومتهم ، أو ما أشبه ، ولكنهم يبررون كفرهم بأنهم غير مقتنعين بالحق ، أو ان الآيات والمعاجز غير كافية لهم ، ولكي يبالغوا في تغطية كذبهم ونفاقهم ، لا يدعون قسما الا ويحلفون به على صدق نواياهم وهم كاذبون.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)

اي بآخر ما يستطيعون عليه من الأيمان.

(لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها)

أي آية معينة يذكرونها ، أو آية يصدق عليها كلمة آية ـ في زعمهم ـ مثل ان تكون آية كبيرة جدا كإحياء الموتى.

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ)

فالله قادر على أن يأتي بآية ، ولكنه لا يأتي بها الّا حين تقتضي حكمته ، وليس كلما شاءت أهواء الكفار ، أو حتى ارادة الرسول (ص) الحريص جدا على هداية الناس.

(وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)

وأي ضمان نملكه نحن لأيمانهم بعد مجيء مثل تلك الآية ، علما بأن هؤلاء

١٥٩

كفروا سابقا بكل الآيات الواضحة.

محكمة الفطرة :

[١١٠] للإنسان فطرة أولية أنعم بها الله عليه ، وبهذه الفطرة يميز البشر الخير من الشر ، والهدى من الضلالة ، وإليها يحتكم أهل الأرض حين يتنازعون ، فالفداء والإحسان والشجاعة والسخاء والبطولة ، صفات جيدة ، وعكسها رذيلة ، تجد هذا عند المسلم والكافر ، والحضري والبدوي ، وحتى الإنسان البدائي شبه الوحشي ، انها مقاييس عامة زود الله البشر بها ليتلمس بها طريقه.

وبهذه الفطرة الاولية عرف البشر ربه ، وآمن به ، ولكنه بعد أن تعرض لضغط الشهوات والطغاة والخرافات. استسلم لها وكفر بالله ، وحين كفر بربه أرسل الله اليه الرسل ، فمنهم من آمن وتحدى الضغوط ، ومنهم من كفر ، وهؤلاء لم يفقدوا نعمة الرسالة السماوية فحسب ، بل أن الله سبحانه أفقدهم نعمة الفطرة الاولى أيضا.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ)

الأفئدة هي القلوب التي كانت سابقا محلا للفطرة النقية ، وللمقاييس السليمة ، اما الأبصار فهي الحواس التي تتبع القلوب ، فاذا تحولت وتبدلت معايير البشر ، فان حواسه هي الاخرى تتحول دون ان يقدر على الاستفادة السليمة منها ، وآنئذ يصبح هؤلاء بسبب فقدان الفطرة.

(كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)

والسبب ان هؤلاء طغوا ، والطغيان يسبب قلب الافئدة ، وتبدل المقاييس.

فالبشر الذي يتبع عقله ، ويتبع الحق ، والحق هو هدفه ، مزود بمقاييس لمعرفة هذا

١٦٠