من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

يكره أحدا على فكرة الباطل ، لان الله ربهما والمطلع على شؤونهما. لا يسمح بذبح حرية أحد إلّا بمشيئة ، أو تقصير الإنسان نفسه ، فاذا توكل البشر على ربه ، واعتمد على قوته ، فانه خير من يفتح بينه وبين عدوه بالحق ، إذا فحري بالبشر الاعتماد على الله في مقاومة تهديد أهل الباطل ، وعدم الخشية من تمكنهم منه.

بينات من الآيات :

المستكبرون العائق الأكبر :

[٨٨] الناس العاديون يستقبلون رسالات الله بفطرتهم النقية ، لولا أن المستكبرين الذين يستغلون جهود الضعفاء يفرضون عليهم نهجا فكريا معيّنا بالقهر ، وهؤلاء هم الذين يشكلون حينا السلطة السياسية ، وحينا السلطة الاقتصادية ، وحينا السلطة المسمّاة بالدينية ، بيد أنها جميعا سلطة قهرية تسرق إرادة الإنسان ، وهذا نموذج من قهرهم ، أنهم هدّدوا شعيبا (عليه السلام) بالإخراج من القرية لو عارض نهجهم السياسي.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ)

والكلمة الأخيرة تدل على صفة الجبر والقهر في السلطة القائمة في مجتمع مدين ، وبالتالي على نظام الطاغوت الذي يعتمد على الملأ من الناحية الطبقية ، وعلى الاستكبار من الناحية الاجتماعية والثقافية ، وعلى الإرهاب من الناحية السياسية.

الصمود شاهد صدق :

[٨٩] الذي يحمل رسالة الله الى الناس حقا لا يتنازل عنها تحت ضغط الظروف ، وتلك شهادة بيّنة على صدقه ، أما الذين يفترون على الله الكذب ويدّعون

٣٨١

أنهم رسل الله باطلا ، فإنهم يتركون الرسالة حين يتعرضون للضغط ، من هنا قال المؤمنون من قوم شعيب :

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها)

وحيث إن الله أنجاهم من ضلالة الطاغوت بالرسالة ، فالعودة الى ملتهم السابقة إنما تكون بعد وعي كاف ببطلانها ، فيكون ذلك تكذيبا متعمدا للحق ، وجحودا سافرا بآيات الله ، والعذاب سوف يكون عليهم مضاعفا.

ومن جهة أخرى العودة الى الملة الباطلة التي أنقذهم الله منها لا تكون ممكنة بالقهر والإكراه ، لان الله قد ضمن للبشر حريته وكرامته ، ولن تكون القوى الشيطانية قادرة على إلحاق أيّ نوع من الأذى ، أو إيجاد أيّ قدر من التأثير على أحد من دون مشيئة الله واذنه سبحانه ذلك لان قوى الطاغوت لا تعصي الله عن غلبة ـ سبحانه ـ أو بتجاوز ملكوته .. كلا ، وإنما لأن الله أمهلهم وأعطاهم فرصة الاختيار الحر لفترة محدودة لهذا فان الطاغوت لا يقدر على جبر المؤمنين على الكفر لأن الله لا يسمح له بذلك.

(وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)

وكما ان قدرة الله مهيمنة على الكون فلا يقدر الكفار على تجاوزها ، كذلك علمه النافذ في كلّ شيء ، ولكي يقاوم المؤمنون قوى الطاغوت المادية يلتجئون أكثر فأكثر الى قوة الله المعنوية ويقولون :

(عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ)

المؤمنون لا يسعون نحو تحقيق الانتصار على عدوهم بالباطل ؛ أي دون أن يكون لديهم مؤهلات النصر ، أو دون أن يكونوا أفضل من عدوهم ، بل إنما يريدون الفتح

٣٨٢

بالحق.

(وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)

الخسارة العظمى :

واقتربت النهاية لقوم شعيب ، حيث انهم اعتمدوا على القوة المادية زاعمين أنها كلّ شيء ، وإن من يخسرها فانه يخسر كل شيء ، لذلك قالوا للمؤمنين : انكم لخاسرون ، يزعمون أن الثروة والسلطة والجاه التي يملكونها والتي يحرمون المؤمنين منها تعتبر خسارة ، بينما المؤمنون يعرفون ان القيم الباطلة التي يقوم عليها بناء مجتمع الطغيان والفساد تنسف كل تلك الماديات الظاهرة.

ومن هنا أخذت قوم شعيب الرجفة فاذا بهم جاثمون ، وإذا بالخسارة الحقيقة هي من نصيبهم هم ، أمّا شعيب فلم يأسف لهم لأنه قد أبلغ رسالات ربه ، وقدم النصيحة لقومه ، ولكنهم كفروا بها فكيف ييأس عليهم.

[٩٠] ان النظرة المادية الضيقة التي يرى بها الكفار الأمور تجعلهم محدودين جدا ، لا يفهمون حقائق الحياة ، وهؤلاء يرمون الناس بالسفه وبالجنون ، ويزعمون أن الذي لا يعمل للربح المادي العاجل خاسر لحياته ، لذلك تجد الملأ من أهل مدين يعتبرون اتّباع شعيب خسارة كبيرة لهم.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)

ومنتهى ما يستطيع الملأ المستكبرون ان يلحقوه من الأذى بالمؤمنين هو : منع بعض النعم المادية عنهم ، وهذا ما كان ولا يزال الطغاة يهددون الثوريين به ، ولكن من الذين تكون له عاقبة الدار؟!

[٩١] إن الله سبحانه يعطي فرصة محدودة للبشر ليمتحن إرادتهم فيها ، ومدى

٣٨٣

قدرتهم على مقاومة إغراء الشهوات ، وقد منح هذه الفرصة لقوم شعيب ، وها هم الآن استنفذوا فرصتهم واقتربت ساعة المصير.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)

وكانت الرجفة قوية الى درجة أن الله لم يمهلهم حتى يتخذوا حالة الاستلقاء استعدادا للموت ، بل وقعوا على وجوههم ذلة وهوانا.

معيار الخسارة :

[٩٢] وهنالك تبيّن ذلك الواقع الذي حذر منه شعيب ، وآمن به القوم المؤمنون وهو : أن الخسارة والربح إنما هما بالقيم لا بالمصالح العاجلة.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)

انتهت فرصتهم ، وتداعى كيانهم ، وزالت مكاسبهم ، حتى يخيل للإنسان انه لم يكن شيئا موجودا.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ)

[٩٣] أما شعيب فقد ترك قومه الهالكين وهم صرعى دون أن يذرف عليهم قطرة دمع.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)

٣٨٤

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ

____________________

٩٥ [عفوا] : أصل العفو الترك ، وعفوا تركوا.

[بغتة] : البغتة الفجأة ، وهي الأخذ على غرّة من غير تقدمه تؤذن بالنازلة.

٩٧ [بأسنا] : البأس العذاب ، والبؤس الفقر.

٣٨٥

إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)

٣٨٦

أسباب الحضارة

ومراحل حياة الأمم

هدى من الآيات :

بعد أن ذكّرنا القرآن الحكيم بقصص الأولين من الرسل وقومهم ، عاد ليبين لنا عبرا من التاريخ وأبرزها :

١ / أن الأمم تسير عبر مراحل ثلاث : مرحلة الشدة والضنك ، ثم مرحلة الرفاه والرخاء ، ثم مرحلة الفساد والهلاك ، ورسالات السماء حاضرة في هذه المراحل ، وإرادة الله مهيمنة عليها.

٢ / هلاك الأمم ليس قدرا محتوما عليها ، إنما هو بسبب كفرهم وعدم التزامهم بالأوامر والتوجيهات ، فاذا آمنوا واتقوا الله فتح الله عليهم بركات السماء.

٣ / وراء الرخاء الظاهر قد يكمن مكر الله الخفيّ الذي ينبغي ألّا يؤمن والذي يأتي ليلا في حالة النوم ، أو نهارا في حالة اللعب والغفلة ، وإنما يخسر البشر حين يأمن مكر الله وما تخبؤه الأيام من شدة ومكروه.

٣٨٧

٤ / توارث الأمم هذه الأرض ، ولا بد من ان يتعص اللاحقون بمصير السابقين ، وليعرفوا هذه الحقيقة : أن الذنوب تحيط بالإنسان ، وتأخذه في حين غفلة ، ذلك لأن الذنب يسبب عمى القلب أيضا.

٥ / بالرغم من أن الله يبعث رسله الى الأمم حين تتدهور ، لكن كفرهم السابق وذنوبهم التي أعمت قلوبهم لا تدعهم يؤمنون برسالات الله ، كما لا تدعهم يفون بعهد الله عليهم ، لذلك كانت الأمم هذه لا عهد لها ولا دين وبذلك هلكت.

بينات من الآيات :

المصاعب امتحان وتربية :

[٩٤] في هذه الآية نجد حكمة الصعوبات التي تعصر البشر والهدف التربوي منها ، الذي لو عرفه الإنسان وسعى اليه فليس فقط لا يتضرر منه ، وإنما يستفيد منها كثيرا يقول الله :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)

فالضراعة هي هدف البأساء والضراء في الحياة ، والبأساء حسبما يبدو لي : كل سوء يصيب البشر بأيديهم كالحروب ، والفقر الناشئ من وضع اجتماعي سيء ، والظلم والإرهاب ، بينما الضراء هي : الخسارات التي تصيب البشر بالطبيعة كالامراض والضغط وما أشبه.

والضراعة هي : العودة الى واقع الذات وما فيه من نقص وعجز وانحراف ، بعيدا عن أيّ غرور أو استكبار ، أو عزة بالإثم ، والضراعة الى الله تعطينا الثقة بقدرتنا على تجاوز كل ذلك بعون الله.

٣٨٨

وربما تكون هذه الآية توضيحا لبداية انطلاقة المجتمعات وشروطها الواقعية ، وهي ظروف قاسية يمر بها المجتمع فيتحداها بالضراعة ، وهي وعي الذات وما فيه من نواقص يجب تكميلها ، وامكانيات يجب تفجيرها.

[٩٥] وبعد الضراعة وتكميل النواقص بالتوكل على الله ، وبالاعتماد على قيمه السامية ، تأتي مرحلة الرفاه حيث تتبدل الصعوبات الى يسر وسلامة ، ومن بعدها تأتي مرحلة الرخاء حيث تفيض النعم عن الحاجة ، وهناك يفسد المجتمع بسبب الطغيان والترف والبطش فيصيبه الدمار ، بيد أن الدمار لا يصيب المجتمعات شيئا فشيئا بل يصيبهم فجأة ومن دون شعورهم به.

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا)

أي حتى كثرت النعم وأصبحت عفوا وزيادة تترك.

(وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

لا حتميّات بل حقائق :

[٩٦] إن هذه المسيرة الدورية في المجتمعات ليست ضرورة حتمية ، أو سنة إلهية ، بل حقائق تاريخية باستطاعة البشر تغييرها عن طريق الايمان والتقوى ، فان الايمان ضمانة ايديولوجية وثقافية واجتماعية لبقاء عوامل الحضارة ، والتقوى ضمانة تشريعية سياسية واقتصادية وسلوكية لبقاء إطارات الحضارة.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)

ربما تكون البركات هي كلّ ما يكمل حياة البشر ويطورها للأفضل.

٣٨٩

(وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

إذ أن الظروف القاسية التي تصيب البشر تأتي بسبب تكذيبه للحقائق ، واكتسابه للمنكرات من هنا نستطيع أن نستنبط فكرة جديدة في فلسفة التاريخ ، وفلسفة الحضارات بين الفكرتين المتطرفتين وهما :

الفكرة الأولى : التي تقول ان للحضارات دورة حياتية حتمية مثل مراحل الحياة للشخص ، من الطفولة الى الشباب الى الشيخوخة فالموت.

والفكرة الثانية : التي تقول أن الحضارات انما هي نتيجة فكرة حضارية تنمو حولها وبها امكانيات المجتمع حتى تصبح حضارة.

والفكرة الثالثة : التي يمكن استنباطها من هذه الآيات ـ لو صح التفسير الذي فسرناه بها ـ هي :

أن هناك سببين للحضارة ، سبب طبيعي هو تحدي الصعوبات الفاسدة من ظروف قاسية أو من صراعات اجتماعية ، إذ ينشأ من هذا التحدي الضراعة فإصلاح النواقص فالرخاء والرفاه ، وهذا السبب الطبيعي يتحرك وفق سنن طبيعية تقريبا كسائر القوانين الاجتماعية.

والسبب الثاني هو : الايمان بفكرة رسالية والالتزام بمناهجها (الايمان والتقوى) ولهذا السبب سنّته الذاتية ، بمعنى أن الحضارة تبقى مع الايمان والتقوى.

[٩٧] ولان هلاك المجتمعات الفاسدة يكون فجائيا بعد تراكم السيئات ، وإحاطتها بالذين يكتسبونها ، فان علينا أن نترقب بأس ربنا في كل لحظة ، ليلا ونهارا ، في حالة النوم أو في حالة الغفلة!!

٣٩٠

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ)

[٩٨] (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)

[٩٩] (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)

من هم الخاسرون؟ الخاسرون هم الذين يحسبون ان تراكم المكاسب الظاهرية ، وبناء العمارات الشامخة ، والشوارع المعبدة والمضاءة ، والمصانع الكبيرة ، والملاعب الواسعة ، والجيوش المسلحة بأحدث الأسلحة ، إن كلّ ذلك يكفي في بناء الحضارة وتحقيق طموحات البشر .. كلا ، ان ذلك ما كان ليتم لولا القيم السليمة ، والتطلعات المشروعة ، والمناهج الصائبة ، ولولا ذلك لحملت الحضارة نقيضها في ذاتها ، حيث يلتف عليهم العذاب من حيث لا يشعرون فيقضي عليهم ، ذلك هو مكر الله ، إن المدنية القائمة على الظلم أو الطغيان ، والمجتمع القائم على الاستغلال والطبقية ، والثقافة القائمة على المصالح الذاتية كلّ ذلك مهدد بالزوال في كلّ لحظة وبصورة مفاجئة.

إذ أن المظلومين المستغلّين ، والمستضعفين المقهورين سوف ينتفضون بعد أن يطفح بهم كيل الغضب ، فلا يهابون الموت فيدمرون كلّ شيء في لحظة ، والله سبحانه ينزل عليهم صاعقة من عذابه بعد أن تنتهي الفرصة الممنوحة لهم ، والأجل المحدود لاختبارهم ، فيقضي عليهم ، انه مكر الله ولا يأمن مكره أحد.

ان المكر هو : الالتفاف حول شيء وأن يأتيه الأمر من حيث لا يحتسب الفرد ، والذي لا يحسب لمكر الله حسابا يخسر ، لأنه يبني دون أن يملك ضمانة لاستمرار بنائه ، وهو أشبه بجيش لا يسد على نفسه الثغرات الخلفية ، وينظر فقط من جهة واحدة ، حيث أن العدو يأتيه من الخلف فيقضي عليه ، إن على البشر أن يلاحظ

٣٩١

خلفيات الأمور ، وعوامل الهدم والدمار ، وقيم التقدم والاستمرار.

[١٠٠] لكي تكون لديك بصيرة نافذة ، تعرف بها عوامل الدمار التي لا ترى ظاهرا ، عليك أن تعتبر من التاريخ ، وتدرس حال الأمم التي بادت وأورثك الله الأرض من بعدهم ، أولئك الذين أحاطت بهم ذنوبهم ، وأغلقت قلوبهم فلم تسمع الحقيقة ، وأنت أيضا مع مجتمعك يمكن أن يصيبكما الله بذنوبكما ، فتغلق قلوبكما وتندحر حضارتكما.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها)

أو لم يكن ذلك الاستخلاف والتوارث هداية كافية لهم ليعرفوا.

(أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)

كما أصاب الله أولئك بها الذين من قبلهم ليكونوا هم الوارثين.

(وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)

آثار الذنوب :

إن الذنوب تعكس خطين من الآثار السلبية في حياة البشر.

الخط الأول : في الواقع الخارجي ، فالظلم والإرهاب والجريمة كل ذلك يخلف الخراب والغضب والتحدي في واقع الطبقية والمجتمع.

الخط الثاني : في الإنسان العامل بالذنب ، فالظلم يغشي القلب ، ويضعف الارادة ، ويقتل الوجدان ، ويحجب العقل ، وكذلك الإرهاب والجريمة ، والقرآن يشير الى أن هلاك الأمم كان يتم بسبب تراكم آثار الذنوب على كلا الخطين ، فمن

٣٩٢

جهة كان الله يصيبهم بذنوبهم وتراكمات آثار الخطين في الواقع الخارجي ، ومن جهة ثانية كان الله يطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون بسبب تراكمات الآثار النفسية ، ولا يقدرون على الاستجابة لمغيرات الحياة أو الانتباه الى أجراس الخطر التي كانت تدق على مسامعهم ، بل حتى أنهم كانوا يكذّبون بآيات العذاب وهي قادمة إليهم ، فمثلا كان بعض الهالكين من الأمم السابقة يرون سحابة العذاب فيزعمون أنها سحابة رحمة ممطرة ، فتمطر عليهم العذاب بدل الرحمة ، كذلك بعض الأنظمة اليوم تزعم أن الانتفاضات الجماهيرية انما هي من خارج أراضيها ، بينما هي من الفساد في ذات النظام.

[١٠١] ومن علائم طبع القلب وانغلاقه عن الاستجابة للمتغيرات ، أو فهم إشارات الخطر : أن الرسل كانوا يأتون إليهم بالبينات والآيات الواضحة ولكنهم يكذبون بها ، حتى يدمر الله عليهم قريتهم.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ)

إنهم كذبوا بالقيم أول ما انحرفوا ، فجاءت الرسل تنذرهم بالخطر من بعد أن تراكمت ذنوبهم وأحاطت بهم فلم يعبأوا بذلك.

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ)

حين يكفر المرء يؤثر الكفر في قلبه فينغلق دون التوجيه السليم ، ذلك لأن الكفر يأتي نتيجة الاستكبار عن الحق ، والغرور بالذات ، وحين يستجيب المرء للكفر يزداد تكبرا وغرورا ، وهكذا حتى تنسدّ منافذ قلبه جميعا ، حيث إن الاستكبار عدو الفهم السليم.

٣٩٣

[١٠٢] والله سبحانه حين أهلك الأمم السابقة لم يهلكهم إلّا بعد أن توافرت فيهم أسباب الهلاك ومنها : نقض العهد ، والفسق ، أما نقض العهد فهو حالة نفسية تنعكس في تعامل الإنسان مع القيم والتزامات البشر ، فالكذب والغيبة ، والتهمة وإخلاف المواعيد ، والغش والتدليس ، والنفاق كل ذلك من مظاهر نقض العهد ، حيث يتظاهر الفرد بشيء ، ويتعهد به ظاهرا ولكنه ينقضه ، وكذلك عدم الدفاع عن الوطن ، وعدم التعاون في مقاومة الظلم أو مواجهة مشكلات طبيعية.

أما الفسق فهو تجاوز الحد في السلوك الشخصي مثل : أكل الحرام ، والتهاون في الحقوق.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)

٣٩٤

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)

____________________

١٠٥ [حقيق] : جدير وخليق.

١٠٨ [مزع] : النزع ازالة الشيء عن مكانه الملابس له المتمكن فيه كنزع الرداء عن الإنسان ، والنزع والقلع والجذب نظائر ، وفلان ينازع إذا أرادت روحه أن تفارق جسده.

٣٩٥

الظلم بآيات الله

وعاقبة المفسدين

هدى من الآيات :

بعد الحديث عن تلك المجتمعات التي بادت وهلكت بسبب فسادها ، جاء الحديث يبيّن لنا عاقبة مجتمع آخر أعرق حضارة وأشد جاهلية وأطول صراعا ، ذلك هو مجتمع فرعون وملائه ، ويطول الحديث القرآني حول هذا المجتمع هنا وفي سور أخرى ، ربما لأنه أقرب صورة للمجتمع الذي سوف يتكون بالإسلام.

موسى (عليه السلام) يبعثه الله بالآيات البينات الى فرعون وملائه من المستكبرين حوله ، ولكنهم يظلمون الآيات ، فاعتبر بعاقبة هؤلاء المفسدين ، تلك العاقبة المشتركة في الجذور والسنن بالرغم من الاختلاف في التفاصيل المشتركة بين قوم موسى وقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، تلك العاقبة التي لو استخلص المرء عبرها لاستطاع أن يتجنبها.

وجاء موسى (عليه السلام) الى فرعون ليعرّف نفسه بأنه رسول رب العالمين ،

٣٩٦

وأنه يجب ألّا يقول على الله إلّا الحق ، وانه جاء ببينة من الله وبرسالة هي إنقاذ بني إسرائيل المستضعفين.

وتحدى فرعون موسى (عليه السلام) وطالب بالآيات إن كان صادقا ، واستجاب موسى (عليه السلام) لتحديه (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ).

وهكذا بدأ الصراع بين فرعون ورسول الله الذي يحدثنا السياق عنه عبر دروس عديدة.

بينات من الآيات :

ظلم الحقائق :

[١٠٣] الظلم قد يقع على البشر وقد يقع على فكرة أو حقيقة ، والبشر المظلوم لا بدّ أن يأخذ حقه عاجلا أم آجلا ، كذلك الحقيقة المظلومة التي ترك الظالم العمل بها أو حتى الاعتراف بها ، وحين تظلم الحقيقة يعم الفساد ، وعاقبة الفساد هي الهلاك ، وهكذا كانت قصة موسى مع قومه.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ)

أيّ من بعد تلك الرسالات وأولئك الرسل.

(مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ)

كما في المجتمعات السابقة كذلك في مجتمع فرعون ، كان الناس منقسمين الى الملأ وهم كبار القوم والعامة.

٣٩٧

(فَظَلَمُوا بِها)

أيّ بتلك الآيات ، والآيات هي العلامات التي تدل على الحقيقة ، والظلم بها يعني ظلم الحقيقة أو بالأحرى ظلم الإنسان لنفسه عن طريق ظلم الحقيقة وكفره بآياتها.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)

أو لم يهلكوا بخزي وعار ، إن الفساد هو كل حركة مخالفة لسنن الله في الحياة ، ومخالفة لآيات الحقيقة ، وإذا تدبرنا في هذه المجموعة من الآيات ابتداء من الآية (٥٦) من هذه السورة حيث تقول : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) وحتى آخر القصص التي تحكي عن صراع الأنبياء مع مجتمعاتهم الجاهلية يتبين لنا هذا المعنى العام للفساد وهو مخالفة سنن الله وآيات الحقيقة.

[١٠٤] والله سبحانه يصلح العالم ، وينزل عليه بركاته ، ويكمل وجوده ويطوره نحو الأفضل ، فهو رب العالمين ، ولذلك فهو يبعث رسولا من لدنه الى البشر لذات الغاية التي من أجلها سخر الشمس والقمر والنجوم ، ولذات الهدف الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته.

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

بين التكذيب والتصديق :

[١٠٥] كان الرسل (عليهم السلام) يؤكدون في دعوتهم على هذه الحقيقة وهي : أن الكذب على الله جريمة كبيرة وذنب عظيم ، وهذا التأكيد يكشف للناس أنهم (عليهم الصلاة والسلام) لا بدّ أن يكونوا واحدا من نوعين من الرجال : فاما أن يكونوا مجرمين من الدرجة الاولى ـ حاشاهم ـ وسيرتهم حافلة بالأمانة

٣٩٨

والصدق والفداء وهذه الصفات تكشف للناس غير ذلك ، وإما أن يكونوا صادقين ، ولولا هذا التأكيد المكرر على أن الافتراء على الله ضلالة كبري وجريمة نكراء ، لكنا نحتمل أن يكون النبي كاذبا لمصلحة الناس مثلا دون أن يعرف أهميّة الكذب أو مدى قبحه ، وموسى (عليه السلام) بدأ حديثه مع فرعون بهذه الكلمة.

(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ)

أيّ يجب الا أقول على الله إلا الحقيقة ، وهذا الوجوب أعرفه جيدا واعترف به ، فاني بعيد عن الكذب على الله بسبب اعتبار ذلك جريمة ، وأكثر من هذا اني أملك بينة واضحة على ذلك.

(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ)

لقد كانت رسالة الله على موسى ذات صفة اجتماعية واضحة ، حيث طالب موسى فرعون بكف الظلم عن بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون ، ومن المعلوم ان موسى (عليه السلام) كان يهدف أيضا نجاة فرعون وقومه من ضلالتهم ، لكن بدأ رسالته من حيث كان الانحراف الكبير أو الفساد العظيم ، وهكذا ينبغي ألا تكون دعوة المصلحين في الفراغ ، بل متجهة الى أكبر انحرافات المجتمع لكشفها وإصلاحها.

[١٠٦] أما فرعون رأس هرم المجتمع الفاسد ، وقائد الملأ الكاذب فانه تحدى موسى (عليه السلام) ، وطالبه بالآية التي جاء بها.

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

[١٠٧] واستجاب موسى (عليه السلام) للتحدي فورا.

٣٩٩

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ)

[١٠٨] (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)

كانت يده (عليه السلام) التي تشع بالبياض. آية واضحة على صدق رسالته.

٤٠٠