من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

الطبيعة لا بد ان يتقول حسب أفكار المجتمع وحتميات الطبيعة ، إلا أن الله سبحانه يرسل رسالته على الإنسان لكي ينقذه من الحتميات الاجتماعية والطبيعية التي تحيط به.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

ولحكمته ولعلمه لا يرفع كل شخص الى رفيع الدرجات عبثا ، انما يرفع من يكون مؤهلا لذلك بجده واجتهاده ، وبحثه عن الحقيقة ، وعدم خوفه من الحتميات الباطلة.

١٢١

وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)

١٢٢

خط إبراهيم (ع)

في سلسلة الأنبياء (ع)

هدى من الآيات :

تلك الرسالة التي أهبطها الله على قلب إبراهيم (ع) ، بعد ان وجده أهلا لها ، ثم بعد ان دخلت مرحلة الصراع المرير ، أصبحت اليوم تيارا يهدى به الله ، مجموعة من الأنبياء العظام ، وقبلهم جميعا نوح (ع) حيث هداه الله ، وداود وسليمان و.. و..

ولم يكن هؤلاء وحدهم في الساحة ، لقد كان معهم الآباء والذرية والأخوة الذين اجتباهم الله على علم منه بهم ، نظرا لصلاحيتهم للعمل الرسالي.

وإذا كان هؤلاء على صراط مستقيم فانما بإذن الله وبهداه ، ولم يكن باستطاعتهم الوصول الى هذا المستوى من دون التوحيد الخالص ، إذ أنهم لو أشركوا لأحبط الله أعمالهم.

بينات من الآيات :

انتصار إبراهيم :

[٨٤] ماذا كان عاقبة الصراع بين إبراهيم وقومه الذين أبطل إبراهيم حجتهم.

١٢٣

ان العاقبة كانت انتصارا ساحقا لإبراهيم حيث أن الله أمدّ إبراهيم بأبناء وذرية وأنصار.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا)

حيث كوّن إسحاق ويعقوب ـ بني إسرائيل ـ تلك الامة المؤمنة الصبورة.

(وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ)

فلم يكن اهتداء إبراهيم بدعا جديدا ، بل كان سنة قائمة منذ مدة طويلة.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ)

هذه الأسماء التي تحولت في تاريخ البشرية الى رموز لكل قيم الخير ، ان نقطة البداية عندهم كانت الهداية الى الله ، والهداية بدورها جاءت نتيجة إحسانهم ، وفعلهم الخير.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

ونحن بدورنا لو فعلنا الخير لهدانا الله ، ولأصبحنا بأذنه رموزا لقيم الخير في التاريخ.

خط إبراهيم (ع) :

[٨٥] وهناك رموز اخرى اتبعت ذات الطريقة القويمة والمنهج السليم ، وكانت النتيجة أنهم أصبحوا صالحين. أفكارهم سليمة ، وأخلاقهم قويمة ، وأعمالهم خيّرة ، وأهدافهم نبيلة ، وبالتالي كلما يراه الضمير السليم للإنسان ، أنه صلاح يتمثل فيهم.

١٢٤

(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)

[٨٦] واخرين اتبعوهم على الهدى ـ وفضلهم الله على الناس لهذا السبب ـ.

(وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ)

بعلمهم وجهادهم.

ان هذه الأسماء اللامعة في سماء الانسانية معروفة لمن يتلو آيات القرآن ، حيث ذكرها الله أكثر من مرة ، وفصّل كثيرا من قصص حياتهم ، وعبر تاريخهم ، وانما فعل ذلك ليصبحوا قدوات للبشر ، وليقول لهم : أيها الناس إن هؤلاء كانوا بشرا مثلكم ولكنهم أحسنوا فهداهم الله ، وأصبحوا ثناء على كل لسان ، ومثلا لكل فضيلة أفلا تقتدوا بهم وتتبعوا منهجهم؟!

ويلاحظ المتدبر في نهايات هذه الآيات الثلاث ان الله سبحانه ذكر صفات ثلاث لهؤلاء الصفوة (الإحسان ، والإصلاح ، والتفضيل) ويبدو أنها صفات متدرجة ، فالاحسان هو العطاء ، والخروج عن سجن الذات ، وقوقعة الانانية الى رحاب الحق ، وخدمة الآخرين ، انه سبب الهداية ، بل سبب كل خير ، اما الهداية فهي من الله سبحانه ، وبالاسلوب الذي ذكره ربنا سبحانه بالنسبة الى إبراهيم ـ عليه السّلام ـ والصفة الثانية هي الصلاح ، وهي عاقبة الهداية ، وأثرها في حياة البشر ، حيث تجعل منه إنسانا متكاملا ، اما الصفة الاخيرة ، فهي نتيجة الهداية في الواقع الاجتماعي. حيث يصبح البشر أفضل العالمين.

[٨٧] لم تكن هذه الأسماء التي ذكرت سوى رموز ، ولن تكون هي الوحيدة في هذا الطريق بالرغم من أنها كانت أبرزها ، لذلك يذكرنا القرآن ببقية الذين ساروا على ذات النهج.

١٢٥

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

قانون الهداية :

[٨٨] (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)

ولكن الهدى لن يجتمع مع الشرك ، إذ أن الشرك بالله يعني سلب الالوهية من الله ، ونسبة الضعف والعجز اليه سبحانه ، وتحديد قدرته ومشيئته ، وكل هذه الصفات بعيدة عن صفات الله ، وبالتالي من يؤمن بها لا بد أن يكفر بالله ، لأنه ليس بإله من هو خاضع لخلقه ، وغير قادر على أن يقهر صنما حجريا منحوتا ، أو صنما بشريا يتمثل في المجتمع الفاسد ، أو في طاغوت جبار.

(وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

من خير وإحسان وصلاح لأن الصلاة مثلا : تعني الايمان بالله ، والايمان بالله يعني بدوره الكفر بالطاغوت ، إذ أنه لا إله ذلك الذي لا يستطيع قهر الطاغوت ، ولذلك إذا خضع المصلي للطاغوت لم يكن لصلاته اي معنى ، فلذلك فهي تحبط حبطا.

١٢٦

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)

____________________

٩٢ [أم القرى] : مكة.

١٢٧

أولئك هم قدوة المؤمنين

هدى من الآيات :

في الدرس السابق ذكر القرآن أسماء الأنبياء العظام ، وفي هذا الدرس يذكرنا بحقائق عنهم : فهم يشكلون خط الرسالة الذي لا انحراف فيه أبدا ، حتى وان انحرفت الخطوط الاخرى ، وقد حافظ الله على سلامته واستقامته ليكون قدوة للناس من دون ان يحملهم أجرا ، بل ليذكرهم بالحقيقة فقط.

وهناك من يشكك في بعث الأنبياء ، وهم الذين لم يعرفوا ربهم ، وماله من حكمة وقدرة ، وأنهم لم يشكروا ربهم على تلك الرسالات النيرة التي أنزلها على البشر على يد موسى عليه السّلام.

ثم هذا الكتاب الذي أنزله لكي يكون منهجا للنمو والرشد والتكامل وهو في ذات الخط الرسالي المستقيم ، والهدف منه أن ينذر به أم القرى ومن حولها.

ومن يؤمن بالله واليوم الآخر لا بد أن يؤمن بالرسالة ، إذ أن الرسالة هي نتيجة

١٢٨

الاعتقاد بهما.

بينات من الآيات :

فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ :

[٨٩] تلك كانت رسالات الله بينها الله في الآيات السابقة ، ورسله كانوا دعاة لتلك الرسالة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)

الكتاب هو الرسالة ، والحكم هو القضاء والسلطة باسم الرسالة ، اما النبوة فهي تحمل الرسالة لدعوة الناس إليها.

(فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ)

فلا خوف على الرسالة ـ ان تبقى غريبة ـ إذ سوف يقيّض الله لها رجالا يؤمنون بها ، ويفدونها بأرواحهم ، وانما الخوف على هؤلاء الذين لا يؤمنون بها.

وعلى امتداد التاريخ هناك رجال يؤمنون بخط الرسالة المستقيم دون أن يخالط ايمانهم شك أو وهن أو ارتداد.

[٩٠] والله سبحانه يبارك هذا الخط السليم بهدف ان يكون قدوة في الهدى.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)

وهذه الهداية انما هي للناس جميعا وهؤلاء لا يتقاضون أجرا على تبليغها.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)

١٢٩

الايمان بالرسالات جوهر الايمان :

[٩١] الايمان بالله ، ومعرفته سبحانه هي النقطة المركزية للايمان بسائر الحقائق ومعرفتها ، وأنّ أبرز هذه الحقائق الايمان برسالات الله التي من ينكرها فانما ينكر الله أو لا يعرفه حق معرفته ، فالله الذي خلق السموات والأرض وكل شيء فيهما إنما خلقه بهدف وحكمة ، وخلق الإنسان ولم يتركه سدى ، بل بعث اليه رسلا يوضحون له درب السعادة ، فمن أراد السعادة اتبعهم ، ومن لم يرد ، فمصيره النار وساءت سبيلا.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)

ثم ان ابسط دليل على اي شيء هو وجوده العيني الخارجي ، والله قد انزل رسالته على البشر متمثلة في كتاب موسى عليه السّلام الذي يستحيل عقلا أن يكون من غير الله ، فاذا هو من الله.

(قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ)

انه من الله بدليل أنه نور يستجلي العقل ، ويوقظ الضمير ، وينبه الفطرة البشرية ، ولأنه نور فهو كاشف للحقائق سواء تلك التي تمتّ الى الدنيا أو الآخرة ، والكتاب بالاضافة الى ذلك هدى للناس يهدي به الله الى سواء السبيل في الآخرة ، والهدى أخص من النور ، لأنه يهدي صاحبه حتى ولو لم يؤت نورا شاملا.

انّ الأنبياء والصديقون والعلماء يؤيدون بنور العقل فيكشفون بأنفسهم الحقائق. أمّا الناس فأنهم قد لا يؤتون النور ولكن يهديهم الله الى الصراط المستقيم عن طريق توضيح السبل لهم كالأعمى الذي يأخذ بيده البصير ويقوده في مسيرته.

١٣٠

(تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً)

لأنكم خشيتم منه على مصالحكم والآن تنكرون البقية رأسا ، أو ليس في هذا التناقض دليلا على بطلان كلامكم.

(وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ)

فجاءت الأفكار بعيدة عن الجو الثقافي الذي كان سائدا عليكم ، مما يدل على أنها كانت أفكارا غيبية.

وأخيرا : ان جدل هؤلاء في رسالة النبي نابع من مرض قلبي دفين ، لا ينفع معه اقامة الحجج ، لذلك يجب أن يتركوا لشأنهم حتى يأتيهم جزاء أفعالهم.

(قُلِ اللهُ)

الله هو الحاكم بيني وبينكم ، والله هو الشاهد والشهيد عليكم ، والله هو الذي لو آمنا به حقّا لآمنّا بالرسالات ، ولأصلحنا عقد أنفسنا.

(ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)

اي يلعبون فيما يخوضون فيه ، ويناقشون فيه من أفكار خاطئة وأهواء. انهم لا يتبعون العلم ، بل يتلاعبون بالألفاظ والأهواء.

خصائص رسالتنا وأهدافها :

[٩٢] الايمان بالرسالات عموما ، ركن من أركان الايمان بالله ، الا أن ذلك لا يكفي. إذ يجب ان نؤمن بالرسالة التي تخص حياتنا بالذات ، والرسالة الاسلامية هي تلك الرسالة التي لا بد ان نؤمن بها لعدة أسباب.

١٣١

أولا : لأنها مباركة تحفز البشرية نحو التقدم والرقي ، والنمو والخير ، وهذا هو تطلع البشر الأسمى.

ثانيا : لأنها تتفق في أصولها مع سائر رسالات السماء ، مما يدل على وحدة المشكاة التي انبعثت منها.

ثالثا : لأنها جاءت لتحقيق يقظة في عالم يغط في سبات الجاهلية ، وذلك في شبه الجزيرة العربية.

رابعا : ان الهدف من اعتناقها ليس هدفا ماديا كالوصول الى السلطة أو الغنى ، بل هدف معنوي بدليل أن حملة الرسالة هم رجال الله ، فهم يحافظون على صلواتهم ، وعموما المؤمنون بهذه الرسالة هم المؤمنون باليوم الآخر الذين لا يهدفون من ورائه الدنيا وزينتها.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)

١٣٢

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

____________________

٩٤ [ما خولناكم] : ما أعطيناكم من متاع الدنيا.

١٣٣

الافتراء على الله أشد الظلم

هدى من الآيات :

الظلم ظلمان ، فقد يغتصب الفرد حق صاحبه المادّي ، وهذا الظلم قد ينتهي بالتوبة وأداء الحق ، ولكن قد يغتصب الفرد فكر الناس ، ويضلّهم ويضل نفسه عن الحق ، ويحرف مسيرة البشرية ، وهذا أكبر خيانة وأخطر ضررا.

فإذا قال أحد : ان الله يقول هذا. كذبا وافتراء ، أو ادعى النبوة وهو ليس بنبي أو ادعى قدرته على إبداع أفكار ، ومناهج مثيلة لأفكار ومناهج الرسالات ، فانه آنئذ أظلم الناس ، وجزاؤه عذاب الهون الذي يأتيه عند ما تهبط عليه ملائكة الغضب بكل عنف وخشونة ، ينتزعون منه نفسه ، لأنّه كذب على الله ، ولأنه استكبر على الحق.

وإنما يعتمد الظالم على قدرته الجسدية أو المادية أو الاجتماعية ، ولكن حين تنتزع الملائكة نفسه ، تتبخر هذه القدرات ، فالجسد خائر القوى ، والأموال والممتلكات تنتظر الورثة ، أما الناس الذين زعم أنهم وراءه فهم غير موجودين هناك ، أو غير نافعين له ، أما الأفكار الباطلة التي اخترعها فقد أصبحت كالسراب الزائل.

١٣٤

بينات من الآيات :

الجريمة المنظمة :

[٩٣] في عالم الجريمة السارق الوحيد عقوبته محدودة ، بينما على العصابة عقوبات مشددة ، لأن جريمتهم أخطر ، وأخطر من تلك السرقات الكبيرة التي تتستر تحت قناع الايدلوجية الباطلة ، كسرقة الاقطاعيين والمترفين من المحرومين ، أو سرقة الطواغيت والامبريالية من الشعوب المستضعفة ، وأكثر ما عانت البشرية في تاريخ الجريمة انما كانت بسبب هذا الطراز من المجرمين.

أن هؤلاء يخترعون أولا أفكارا باطلة تساعدهم على استثمار الجماهير ، واستغلال بساطتهم ، ثم يبدءون بامتصاص جهودهم الى أخر قطرة دم في عروقهم.

وكثيرا ما ينسبون افكارهم الى الله لإعطائها المزيد من الشرعية ، ولإتاحة الفرصة لأنفسهم للمزيد من الابتزاز ، وقد يستخدمون رجال الدين المزيفين لهذا الغرض البشع.

وأخطر من ذلك أنهم قد يدّعون النبوة ، وأن الله يوحي إليهم ، أو حتى يكابرون على ربهم ، ويزعمون أن خرافاتهم وضلالاتهم مثيلة لبصائر رسالات الله وهداها.

هذا الفريق أظلم الناس جميعا.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)

ولعل هذه الكلمة تشمل كل من يدعي كذبا أنه قد فهم الحقيقة حتى ولو لم ينسب كلامه الى الله مباشرة ، إذ أن مجرد هذا الادعاء يجعل هذا العمل مرتبطا بالله سبحانه.

١٣٥

(أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ)

عند ما تنتزع الروح :

اما جزاء هؤلاء فيصوره القرآن الحكيم ، في لحظة مفارقة الدنيا ، تلك التي من أجل متاعها الزائل تسبب هذا الفريق المجرم في حرمان الألوف من البشر حقوقهم ، أو حتى في هلاكهم ، عند ما تهبط عليهم ملائكة العذاب وهم في أشد لحظات الفزع والاحتضار ، حيث تغمرهم أمواج الموت موجة بعد أخرى ، والملائكة واقفون على رؤوسهم ، وقد بسطوا أيديهم الغليظة ، وهم يقولون بكل عنف : أخرجوا أنفسكم ، وينتظرون انتزاعها لتعذيبها بعذاب الهون.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)

ان تصور هذه اللحظات الحاسمة ينفع كل واحد منا في الّا نتورط في ظلم الآخرين.

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ)

اما العذاب ف ..

(بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ)

اما الهون والخزي والعار فانه جزاء الاستكبار.

(وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)

من لضعف الى الضعف :

[٩٤] لماذا يستكبر الإنسان عن الحق ، ويخترع أفكارا باطلة ، وينشرها بين

١٣٦

الناس ، ويمنع الجماهير من نعمة الله؟ هل لأنه يريد جاها أو مالا أو قوة ، واين تذهب أمواله وشفعاؤه عند ما تأتيه ملائكة الموت؟!

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)

أنتم ضعفاء ، بدليل أن خلقكم الاول ، مبنيّ على الضعف والانفراد ، وانما بسبب نعم الله عليكم التي لم تصبح جزء من كيانكم ، بل لم تصبح ملككم أصبحتم كذلك وأنتم تحسبون انكم أقوياء ، لقد خول الله لكم هذه النعم. أي أعطاكم إذنا باستخدامها في طرق معينة ، وسوف تذهب عنكم حينما يشاء الله.

(وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ)

أما المجتمع الفاسد الذي اعتمدتم عليه في اختراع هذه الأفكار وترويجها ، اما الطبقة المترفة والمفسدة ، كالرأسماليين الكبار ، ورجال الأمن الفاسدين ، فهم الآن غائبون عنكم ، فأين هم؟!

(وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)

اي انفصلت القوى الرابطة بينكم وبينهم ، أما الأفكار الجامعة بينكم وبينهم كفكرة الطبقة الحاكمة أو الحزب الطليعي ، أو النخبة المثقفة ، هذه الخرافات التي اخترعتموها لاستثمار الجماهير قد تلاشت وغاصت في الرمال.

(وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

من الشرك بالله واعتقادكم بأفكار باطلة.

١٣٧

إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ

____________________

٩٨ [فمستقر] : مستقر في أرحام الأمهات.

[ومستودع] : في أصلاب الرجال. وجاء في الحديث عن أبي عبد الله ان المستقر هو الثابت من الايمان والمستودع هو الايمان العواري الذي يبقى لفترة من الوقت ثم يزول.

١٣٨

النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)

١٣٩

الطريق الى معرفة الله

هدى من الآيات :

كيف يختار لنا الشيطان طريق الضلالة والافك والانحراف عن مسيرة التوحيد ، والله هو الذي خلق الحب والنوى ، وهو الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء ، وهو الذي يخرج الإصباح من رحم الظلام ، ويجعل الليل مأوى للأحياء حيث يسكنون الى ظلامه وهدوئه ، وسواء الصباح أو الليل ، فهما يجريان وفق نظام دقيق يدل على علم المدّبر لهما وقدرته.

ومواضع النجوم ، وحركتها المنظمة مدبرتين بحكمة بالغة ، لا يكشفها الا أهل العلم والمعرفة ، ولا يعرفون مدى ما فيهما من حكمة ، فيتساءلون : إذا كنا نهتدي بالنجوم على الطريق في الليالي المظلمة ، فكيف لا نهتدي الى الله بآياته الباهرة؟

وإذا أمعن البشر النظر في طريقة تناسل الإنسان ، وكيف انشأ الله كل البشر من نفس واحدة ، فمنهم من يستمر في البقاء ، ومنهم من يموت ، ومال هذا يموت وذلك يحيى؟! وإذا ما أوتينا الفقه عرفنا ما وراء الموت والحياة من حكم بالغة تدل

١٤٠