من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

الإصلاح والانتاج لا تنتشر مرة واحدة في المجتمع ، بل تتجلّى أولا في الملأ منهم الذين يشكلون طبقة المستكبرين ، وابرز صفاتهم هي :

استهلاك المزيد من النعم ، وخلق تيار معارض للإصلاح ، ولأنهم يريدون أن يأكلوا أكثر مما ينتجون ، فإنهم يسرقون انتاج الآخرين بشتى الوسائل والحيل ويستضعفونهم ، ويتسارع المستضعفون نحو الرسالة الجديدة التي تبشر المجتمع بالإصلاح والعدالة ، فيبدأ الصراع المرير بينهم وبين أولئك المستكبرين ، وينتهي الصراع بهلاك المستكبرين ونجاة المستضعفين بإذن الله.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ)

إن المستكبرين يحاولون إفساد الطبيعة والإنسان معا ، فلذلك تراهم يفسدون آراء المستضعفين ويجرونهم نحو التيه والضلالة لكي يستمروا في استغلالهم ، واستهلاك المزيد من انتاجهم ، بيد ان طائفة من المستضعفين يسارعون الى الايمان ، ويقوم الصراع بينهم وبين المستكبرين.

[٧٦] ولذلك تجد المستكبرين يكفرون بالرسالة ليس بمجرد أنها رسالة ، وانما لأنها مبدأ يؤمن به المستضعفون ويتخذون منه أداة لصراعهم ضدهم ، وهذا يبدو جليا من أقوالهم حيث

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)

المستكبرون يريدون دينا يؤيدهم في استغلالهم للناس وتسلطهم عليهم ، ولا يؤمنون بدين يؤمن به المستضعفون ، ويتخذون منه وسيلة لنجاتهم ، وخشبة خلاص لهم من ظلمهم.

٣٦١

[٧٧] ولكي يتحدى المستكبرون دين المستضعفين ، ويجردوهم من تلك الوسيلة التي تنقذهم من أيديهم ، عمدوا الى الناقة ـ رمز الرسالة الالهية عند ثمود ـ فقتلوها ظنا منهم ان إعدام الناقة يضع حدّا لتحرك المؤمنين ، لأنها رمز وحدتهم ، وعنوان نشاطهم الاجتماعي ، ولكنهم أخطئوا حيث ان عقر الناقة وما تبعه من أعمال تخريب وإفساد عرضهم لغضب الله سبحانه وعجّل في نهايتهم.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ)

ومن المعروف ان واحدا منهم فقط هو الذي عقر الناقة ، ولكن البقية رضوا بعمله فكانوا كما لو أن الجميع اشتركوا في عقرها.

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)

حيث تجاوزوا الحد في الفساد برغم أمر الله لهم بالإصلاح.

(وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)

النهاية الحتم :

[٧٨] وكما نهاية ثمود كذلك نهاية كل الطغاة المستكبرين كلما بالغوا في الفساد ، وانما يفعلون ذلك بعد تنامي حدّة الصراع بينهم وبين أصحاب الرسالة إذ أنهم يضطّرون آنئذ الى مقاومة الرسالة بالمزيد من عمليات التخريب والفساد ، وهكذا أنزل الله على ثمود العذاب حيث ارتجت بهم الأرض وتزلزلت من تحتهم ، وتهدمت مدنيّتهم ، وماتوا وهم جالسون دون ان يمهلوا حتى يمدوا أرجلهم استعدادا للموت.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)

[٧٩] إن البشر يهرع لمساعدة نظرائه واخوته ، ولكن المستكبرين لم يحزن

٣٦٢

لهلاكهم أحد ، وهذا منتهى الخزي والعار الذي قد يلحق بأحد.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)

إن قصة ثمود عبرة لكل واحد منّا كي يبادر لقبول النصح ، ويتّجه نحو التربية والإصلاح ، ويكون همّنا الانتاج والإنشاء لا الاستهلاك والإفساد.

٣٦٣

وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)

____________________

٨٣ [الغابرين] : الباقين في قومه المتخلفين حتى هلكت.

٣٦٤

قوم لوط عاقبة الجريمة الخلقية

هدى من الآيات :

وتكررت ذات الحقائق التي شهدناها عند عاد وثمود في قصة لوط ، حيث بارك الله لهم في نعمه فطغوا بها ، وشذّوا عن الصراط القويم في الانتفاع بها ، فاذا بهم يتخذون الفاحشة سبيلا لارضاء شهواتهم الجنسية ، انهم يأتون الرجال بدلا من النساء ، ويسرفون في الشهوات.

إنها مرحلة الغرور في قوم أنعم الله عليهم بالاستقرار والأمن والنّعم ، وتأتي صرخة السماء الهادرة تنذرهم عاقبة الفجور ، ولكن قوم لوط يحاولون إخراج لوط من قريتهم بتهمة التطهر ، والمجتمع الذي يصبح التقوى والتطهر جريمة فيه لا يرجى له الخير أبدا.

وتحين ساعة العقاب حيث ينجّي الله لوطا وأهله المؤمنين بالرسالة ، ويهلك الآخرين وفيما بينهم امرأته التي أصبحت من الهالكين بسبب اتباعها لهم ، وطريقة العقاب هي أن الله أنزل عليهم من السماء مطر السوء كما أنزل عليهم بركاته من

٣٦٥

قبل.

وهكذا ترى رسالات الله تحذّر البشر من عاقبة أفعالهم السيئة وسلوكهم الشاذ ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون نعمة الرسالة فيهلكون.

بينات من الآيات :

قوم لوط من الألف الى الياء :

[٨٠] أرسل الله لوطا الى قومه ، ويبدو لي ـ مرة اخرى ـ أن قوم لوط كانوا في البداية مستقيمين يسعون من أجل بناء حضارتهم ، لأن الخط العام لحركتهم كان سليما ، وكان مجمل سلوكهم سليما ، بيد أنّهم حين بلغوا مرحلة من التحضر أصيبوا بالإسراف ، وجاء في بعض الأحاديث أنهم أصيبوا كذلك يبخل وإسراف وهاتان صفتان نابعتان من جذر واحد هو : عبادة المادة ، والابتعاد عن القيم المعنوية.

وإذا كان قوم عاد قد أصيبوا بصفة الغرور والبطش والظلم ، وأصيبت ثمود بالفساد والاستكبار والطبقية ، فان ترف قوم لوط دفعهم الى الشذوذ الجنسي ، فكانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، وقد يكون سبب هذا الشذوذ هو البخل ، حيث ان الشاب الذي تلتهب شهوته ولا يجد امرأة يتزوجها إلّا بمهر عظيم وبشروط قاسية ، شأنها في ذلك شأن المرأة في المجتمعات المرفهة التي تبحث عن الكماليات قبل ضرورات العيش ، إن هذا الشاب الذي لا يملك ذلك النشاط الذي يدفعه الى العمل والانتاج والحصول على المال ، يفضل الجنوح نحو الجريمة واختيار الشذوذ الجنسي الرخيص على العلاقة الشريفة.

بيد ان السبب الخطر للشذوذ هو الإسراف ، ذلك لان المجتمع الذي لا يتطلع نحو بناء المستقبل الأفضل ، ولا يبحث عن قيم التضحية والفداء ، ويملك قدرا كبيرا

٣٦٦

من فائض النعم والوقت والمال ، يبالغ في الشهوات ويسرف فيها ويشذّ عن سبلها السليمة ، فيشتري عذاب الله. لذلك أرسل الله لوطا الى قومه في تلك المرحلة من حضارتهم ، حيث قعدوا عن الطموحات الكبيرة وتركوا قيمهم الفاضلة ، أرسله ليحذرهم عاقبة الشذوذ.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)

[٨١] (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)

[٨٢] أعوذ بالله من حالة الانزلاق في وادي الشهوات ، خصوصا لو شاع ذلك في المجتمع ، حيث يتواصى أبناء هذا المجتمع الفاسد بالجريمة والشذوذ كما يتواصى المتقون بالصلاح ، ولقد أصبحت الجريمة والشذوذ قيمة اجتماعية عند قوم لوط ولذلك لم يستمعوا الى نصيحته ، بل اتهموه بالطهر والتقوى ، وأمروا بإخراجه.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ)

[٨٣] والله سبحانه أنجى لوطا من تلك القرية فهاجر منها بأمره سبحانه ، وكذلك يهاجر المؤمنون من كل مجتمع يشيع فيه الفساد ولا يقدرون على إصلاحه.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)

ولم تكن امرأة لوط من أهله ، كما لم يكن ابن نوح من أهله ، لأنهما كانا على غير ملتهما.

[٨٤] وجاءت أخيرا العاقبة السوء حيث دمر الله قرى لوط بعذاب بئيس يفصّله القرآن في سور أخرى.

٣٦٧

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)

للنظر الى عاقبتهم ، ونعتبر من قصصهم لكي لا نصبح مثلهم ـ لا سمح الله ـ.

٣٦٨

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)

____________________

٨٥ [مدين] : قبيلة سميت باسم جدهم «مدين» حفيد إبراهيم (ع).

[أخاهم شعيب] : وهو من أحفاد إبراهيم (ع) ، فهو أخ القبيلة.

[ولا تبخسوا] : البخس النقص عن الحد الذي يوجبه الحق.

٣٦٩

رسالات الربّ

وسيلة الإصلاح الاقتصادي

هدى من الآيات :

وأهل مدين كما ثمود وقوم لوط ، انهارت مدنيّتهم على رؤوسهم بسبب فسادهم ، وأبرز مظاهر الفساد عندهم كان البخس في الميزان ، وإفساد الأرض زرعا وضرعا ، وقطع طرق الخير على عابريها ، والصدّ عن سبيل الله ، وتحريف الدين.

لقد جاءت رسالة الله على لسان شعيب لتنهاهم عن الفساد بعد الإصلاح ، والتخلف بعد التقدم ، والتدهور بعد النشاط ، فانقسموا على أنفسهم فريقين ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، والله سوف يحكم بين الفريقين ، والزمن شاهد على صدق النبوءة.

واحتدم الصراع وبدأ الكفار بمنع الناس عن الايمان بالرسالة واعتبار ذلك خسارة ، وانتهت قصتهم بعذاب أنزله الله عليهم في صورة رجفة قضت عليهم ، وشهد التاريخ ان الخاسرين إنما كانوا هم الذين كذّبوا بشعيب لا المؤمنين به ، وتلك النعم التي اغتروا بها لم تنفعهم في ساعة العذاب.

٣٧٠

أما شعيب فلم يحفل بمصيرهم لأنه نصحهم وأبلغهم رسالات ربهم ، فكفروا بها ، فلم يأسف لمصيرهم ، ويبدو لي : أن أهل مدين كما أصحاب الحضارات السابقة كانت علاقتهم بالأشياء والأشخاص علاقة العطاء والتربية والإصلاح فبنوا تلك المدينة ، ولكنهم بدّلوا تلك العلاقة وأصبحت علاقتهم علاقة الإسراف والاستهلاك والإفساد فدمرت حضارتهم.

بينات من الآيات :

التمثيلية التاريخية :

[٨٥] وتتكرر مشاهد في التاريخ حتى ليكاد المرء يتصور أنها جميعا مشهد واحد لا يتغير سوى الممثلين فيه ، وان كانت هناك اختلافات فانما هي في المظاهر الخارجية للأحداث ، فكل الجرائم والانحرافات التي يبتلى بها المجتمع تنشأ من عدم التسليم لله وعدم اتباع مناهجه كاملا ، والشرك به عن طريق طاعة غيره من الطواغيت والأصنام الحجرية أو البشرية ، أو التشبث بالقشور والأسماء التي لا يوجد وراءها شيء ، لذلك تجد رسالات السماء تؤكد أولا وقبل كل شيء على الوصية بعبادة الله ، ففي القصص السابقة بدأ كل نبي حديثه مع قومه بهذه الكلمة : اعبدوا الله.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)

ماذا تعني عبادة الله؟

عبادة الله لا تعني مجرد التسليم النفسي له ، بل ويجب التعبير عن صدق هذا التسليم عمليا في صورة الكفر بالطاغوت والتمرد ضد النظام السلطوي الذي يتّخذ من القوة أداة للسيطرة والقهر ، وبالتالي الثورة ضد كل حكم لا شرعي.

إن أنبياء الله (عليهم السلام) كانوا يهدفون تغيير النظام السياسي في المجتمع ،

٣٧١

من نظام شركي قائم على أساس الحاكم والمحكوم ، إلى نظام توحيدي يقوم على أساس رفض الحاكميات جميعا سوى حاكمية الله الحي القيوم ، ولذلك تجد الآيات السابقة التي تحدثت عن رسالات الله أكّدت قبل كل شيء ضرورة رفض الآلهة التي تعبد من دون الله ، والذي يعني : رفض الحاكميات البشرية والتسليم لحاكمية الله وعبادته سبحانه.

ورفض أيّ نظام سياسي باطل لا يعني الفوضوية بل إقامة كيان سياسي صحيح مكانه ، ذلك هو كيان التوحيد القائم على رسالة بينة ينتفع بها المجتمع ، يؤمنون بها ويخضعون لها.

(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)

فعليكم باتباعها ، تلك البينة هي رسالة الله ورسوله المطاع باذنه.

وبعد تثبيت دعائم السلطة السياسية السليمة ، أمر شعيب قومه بتصحيح مسيرة الاقتصاد ، وإصلاحه من اقتصاد قائم على أساس الاستغلال والاستثمار الى اقتصاد قائم على أساس الوفاء بالحقوق ، وإعطاء كلّ ذي حق حقه بالكامل.

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ)

حين يكون المجتمع رشيدا من الناحية الاقتصادية فانه لا ينهب ولا يغش ، بل ولا يفحش في الربح أيضا أو يسعى كل طرف للحصول على المنفعة الأكبر ، وهذا هو التطلع الأرفع الذي يجب أن يهدفه المصلحون في حقل الاقتصاد. أن يرى كل طرف منفعة الآخرين بمثل ما يرى منفعته فلا يبخس أحدا شيئا.

وبعد النظام الاقتصادي ، يأتي دور الإصلاح في مجمل سلوك البشرية تجاه الأشياء والأشخاص ، ذلك الذي أكدت عليه رسالات السماء ، حيث أمرت

٣٧٢

بضرورة إيجاد علاقة الإصلاح بين الناس والطبيعة ، وبين الناس بعضهم مع بعض ، فلا يكون هدف المجتمع الانتفاع بالحياة فقط بل يكون هدفه :

أولا : تفجير طاقات الطبيعة لمصلحة الانسانية ، وتنمية هذه الطاقات ، وتطويرها الى الأفضل ، مثلا : زراعة الأرض ، وصناعة المعادن ، وتعبيد الطرق ، وبناء الجسور ، وعمارة المدن ، والمحافظة على البيئة بكل أبعادها ، كالمحافظة على نقاء الهواء والطيور وأنواع الوحوش والدواب ، وأنواع الأسماء ، وبالتالي كل ما يصلح الأرض لا ما يفسدها.

ثانيا : تنمية طاقات البشر ومواهبه ، والمجتمع الراشد يسعى من أجل دفع المستوى الخلقي لأبنائه والمستوى التعليمي ، ويربّي المزيد من الكوادر المتقدمة في كافة الحقول ، إنه مجتمع يربي القادة والمفكرين والمخترعين والأبطال ، ولا يكتفي بذلك بل ويسعى من أجل تعميم الحضارة على كل المجتمعات القريبة فيما يخص أبناءه ، ومساعدتهم على التقدم والنمو ، لذلك قال ربنا على لسان شعيب :

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها)

وقد تكررت هذه الكلمة في الآيات السابقة أيضا ، ويتساءل المرء لماذا جاءت هذه الكلمة في صورة النهي ،أو لم يكن الأفضل أن يقول ربنا سبحانه : وأصلحوا في الأرض؟

أتصور أن هذه القصص بالذات تعكس وضع الحضارات في ظروف شيخوختها ، وتنامي نقاط الضعف فيها ، وأفول نجمها حيث إن الحضارة تنشأ وتتنامى فيها نقاط القوة ، ولكن الغرور والإرهاب والاستكبار كل ذلك يبدل نقاط القوة فيها الى نقاط ضعف حتى تقضي عليها ، ورسالات السماء تسعى من أجل إيقاف تدهور الحضارات ودمار العمران بتوعية الناس بأسباب قوتهم السابقة ،

٣٧٣

وعوامل الانقراض ومنها بل ومن أبرزها هي : الفساد بعد الإصلاح. أيّ تحول تلك العلاقة الانتاجية والعمرانية والإبداعية التي كانت حاكمة سابقا بين أبناء المجتمع بعضهم مع بعض أو مع الطبيعة الى علاقة استهلاك واستغلال وترف.

إن حالة الاستهلاك القائمة اليوم في بلادنا الاسلامية ، وصفة الترف والتوسع في الحاجيات الكمالية ، والرغبة عن الأعمال الانشائية مثل العمران والتصنيع إنها جميعا تشكل أخطر عوامل التخلف عندنا ، ويا ليتنا نتدبر في هذه القصص لنكشف فيها سر تخلفنا ، وأسباب النهوض ببلادنا بعد الركود والتخلف.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

الهدم أصعب :

يزعم البعض ان الإسراف خير من الاقتصاد في المعيشة لأنه يمتعك باللذائذ أكثر وبجهد أقل ، أو يزعم ان استغلال جهود الآخرين واستهلاك ما ينتجونه خير من الاجتهاد والانتاج لأنه تجاوز للتعب والارهاق ، وإشباع للغرائز بأقل قدر من العمل ، وبالتالي يزعم أكثر الناس أن الهدم خير وسيلة للدفاع ، وأفضل وسيلة لادارة الصراع بنجاح ، ولكن ما أبعد الحقيقة عن هذه المزاعم.

إنك حين تسرف في النعم فانك تهلك انسجة بدنك بقدر ما تستهلك من المواد ، وتفسد عاداتك ونفسيتك بقدر ما تفسد الطبيعة.

إنك حين تنتج فانك ترتفع الى مستوي الانتاج وتتكامل قدراتك وتنصقل مواهبك بذات النسبة والبلد الذي ينتج الفانتوم يختلف عن الذي يشتريها اختلاف الأم التي تنجب طفلا عن تلك التي تتبنى طفلا.

إن هذا البلد تتكامل قدراته وترتفع الى مستوي انتاج الفانتوم ، إنه يصنع بدائل

٣٧٤

لها وهكذا ، كذلك المزارع الذي يحرث الأرض ويسقي الحقل حتى يجني الثمرات ، ليس أبدا مثل ذلك الذي يلتهم الفاكهة دون أن يعرف قيمتها الحقيقية ، إن المزارع يتفاعل مع الثّمار ويتكامل بها لأنه ينتجها ، بينما الذي يأكل الفاكهة يستهلك بقدر ما يستهلك.

ومن قال ان الهدم أفضل وسيلة للدفاع ، وخير أداة في الصراع؟

إنك حين تقتبل جنديا عدوا تزداد قوتكم بقدر جندي واحد ، أما حين تضيف جنديا الى جنودك من أعدائك فان باستطاعة هذا الجندي أن يستقطب إليك جنودا كثيرين.

وحين تهدم مصنعا للعدو تزعم بأن قدرتك الاقتصادية ازدادت بقدر مصنع واحد ، ولكن هل هو واقع أم خيال؟ بينما لو أضفت مصنعا الى مصانعك فان هذا المصنع يكمل حلقات مصانعك ويرفع النقص الموجود فيها ، وبالتالي يعطيك قدرة على تنامي مصانعك.

وفرق بين أن تحرق مزرعة للعدو أو تنشئ مزرعة ، إن المزرعة التي تنشأها لا تضيف قوة اقتصادية الى اقتصاد بلدك فحسب ، بل وتزيدك قوة إنتاجية ، بمعنى ان الحبوب المنتجة من المزرعة تصلح ان تزرع في أرض اخرى ، وان اليد العاملة في المزرعة تقدر على أن تزرع اخرى ، والنظام المشجع على إنشاء مزرعة ينشئ مزارع عديدة وهكذا ..

وهكذا يصبح البناء أفضل وسيلة لهدم كيان العدو ، والإصلاح أفضل وسيلة لتصفية دعاة الفساد ودعائمه ، وصدق الله العلي العظيم حين يقول :

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

٣٧٥

مراحل الانحطاط :

يتدرج المجتمع في الانحطاط عبر عدة مراحل ، ففي البداية تفسد السلطة السياسية ، ثم تفسد طريقة التعامل ، ثم أساليب الانتاج ، ثم فساد القيم وهو أخطر مراحل الفساد ، لذلك نجد شعيبا (عليه السّلام) بدأ حديثه الناصح بالتحذير من الفساد السياسي والاقتصادي ، ومن ثم الفساد الثقافي والقيمي.

فحذّر من النهي عن المعروف والصّد عن سبيله ، ومحاولة تضليل الناس عن سبيله الأقوم في الحياة ، ومحاولة توجيههم الى السبل المنحرفة ، وأمرهم بتذكر الماضي حيث إنهم كانوا أقلّاء فكثرهم الله بالسبل القويمة ، كما نصحهم بالاعتبار بما أصاب المفسدين السابقين ، وأمر شعيب المؤمنين من قومه بالصبر حتى يحكم الله ، وتبين العاقبة.

[٨٦] قد يفسد البشر عمليا ، بينما يبقى من الناحية النظرية مؤمنا بالقيم ومعترفا بخطئه حين لا يعمل بها ، ويرجى لمثل هذا الشخص الفلاح بالتوبة ، ولكن إذا بقي على ضلالته العملية قد ينحدر شيئا فشيئا الى الكفر بتلك القيم رأسا ، أو لا أقل من تفسيرها تفسيرا خاطئا يتوافق مع سلوكه الباطل ، وهذا الشخص يصعب إصلاحه.

لأنه ليس فقط يعمل الأخطاء بعمد وإصرار ، بل ويدعو الناس إليها ، وقد يجرّ الآخرين الى اتباع منهجه ، وقوم شعيب بلغوا هذا الدرك الأسفل فنهاهم رسولهم (عليه السّلام) عن ذلك وقال :

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ)

أيّ تهددون السالكين فيه من الذين يبتغون الوصول الى الله والحق والعمل

٣٧٦

الصالح.

(وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ)

أيّ لا تسمحون للمؤمنين بالله أن يسلكوا السبيل الموصل اليه سبحانه.

(وَتَبْغُونَها عِوَجاً)

أيّ تحرّفون نصوص الدين ، وتزعمون أن السبل الملتوية هي الطرق البالغة.

الثقافة التبريرية نسيج التخلف :

إن الأمم المتخلفة تصنع لنفسها نسيجا من الأفكار الباطلة ، والثقافات التبريرية التي تكرس واقعها الفاسد ، ولكي تتجاوز الأمة هذه الثقافة التبريرية الكسولة عليها أن تصلح نظرتها الى الحياة ، ولا تزعم أن النعم الموجودة فيها مستمرة وذاتية ، بل تتذكر ماضيها الحافل بالمشاكل والعقبات ، وكيف تحدتها ، وبفضل أيّ نوع من القيم والأفكار ، ثم تدرس حياة المجتمعات الأخرى التي فسدت خزائنها ، كيف وبسبب أيّ نوع من السلوك زالت تلك المجتمعات؟ لذلك ذكّر شعيب قومه بماضيهم وبماضي المجتمعات الزائلة وقال :

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)

[٨٧] وكانت نصيحة شعيب للكفار المناهضين لرسالته هي الكف عن مقاومتهم لنور الرسالة ، أما وصيته لأنصاره المؤمنين فهي الصبر والاستقامة حتى يحكم الله بينهم وبين الكفار فقال :

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)

٣٧٧

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا

____________________

٩٢ [يغنوا] : غني بالمكان ، يغني غناء وغنيانا أقام به كأنه استغنى بذلك المكان عن غيره والمعاني المنازل وأصل الباب الغنى.

٣٧٨

شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)

____________________

[آسى] : الأسى شدة الحزن.

٣٧٩

المكذبون برسالات الرب

هم الخاسرون

هدى من الآيات :

كانت رسالة شعيب التي نصح بها القوم ذات قيم فطرية ، يهتدي إليها العقل وتعارضها الشهوات العاجلة ، وقد تحدى الملأ شعيبا ، والملأ هم كبار القوم الذين استكبروا في الأرض وجعلوا فيها الناس ضعفاء ، لقد تحدوا هذه الرسالة ليس بالحجة وإنما بالقوة ، حيث هددوه (عليه السلام) بالإخراج من قريتهم أو العودة الى دينهم الفاسد ، وتساءل شعيب : كيف تسمحون لأنفسكم إجبارنا على العودة الى ملتكم الفاسدة كرها ، أوليس في ذلك شهادة على أن ملتكم فاسدة ، وأن منطق القوة وليس القناعة هو السائد عليها؟

وإذا كانت القوة حاكمة فقوة الله أعظم من قوتكم ، فلا نرضى بالتسليم لكم ، والافتراء على الله كذبا ، والكفر بنعمة الهداية التي أسبغها الله علينا فأنجانا بها من الملة الفاسدة.

وهل يستطيع البشر أن يتجاوز إرادة الله؟ كلا .. لذلك لا يستطيع أحد أن

٣٨٠