من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

(فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ٦٤ / غافر

وبعدئذ امر الله الملائكة بالسجود لآدم ، وربما كان السجود رمزا لكرامة العلم والارادة عند البشر ، ورمزا لتسخير الحيلة له بفضل العلم والارادة ، بيد أن الهدف من بيان قصة إبليس هنا ، يختلف عن هدف ذلك في سورة البقرة ، حيث كان الهدف هناك ـ حسب الظاهر ـ هو : بيان تسخير الحياة للإنسان بفضل العلم ، أما الهدف منها هنا فهو : بيان واقعة الخطيئة كيف؟ ولماذا وقعت؟

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)

لماذا عصى إبليس؟

ولقد جاء في الأحاديث أن التعبير القرآني الذي استخدم ضمير الجمع هنا دليل على واقعة الذر ، حيث خلق الله البشر جميعا بصورة (ذر) في صلب آدم ، ولذلك جاءت كلمة (ثم) للدلالة على الترتيب.

[١٢] ولكن ما هي الصفة التي كانت في إبليس ، فمنعته عن السجود بعد ما جاء الأمر الصريح؟

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)

استخدم القرآن التعبير بكلمة (ألّا) بدل (أن) ربما للاشارة الى ان صفة المنع لم تكن آنية أو محدودة بهذا العمل ، بل كانت مرتبطة بالطاعة على العموم ، أي ما منعك عن الطاعة الا تسجد.

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)

٢٨١

لقد كان جواب إبليس واضحا ، لقد كان سبب عصيانه العنصرية ، والزعم بأن عنصره أفضل من عنصر آدم ، وعموما هناك مقياسان للإنسان ، اما مقياس الذات ، واما مقياس العمل الصالح ، فاذا كان مقياس الشخص هو ذاته ، فانه سوف لا يقف عند حد في جريمته ، لأنه لا يرى شيئا أقدس من ذاته أو أعلى من نفسه ، ومن هنا فان جذر كل المشاكل البشرية ، هو : تقوقع الإنسان في ذاته ، واعتقاده بأن ذاته هي المقياس ، وما الاقليمية ، والقومية ، والعشائرية ، وكل الحواجز الذاتية ما هي سوى آثار لهذه العنصرية المقيتة.

[١٣] ولكن مقياس الحق هو : مقياس العمل الصالح ، لا فرق بين عامله من يكون؟ ومن اي عنصر؟ لذلك أخرج الله إبليس من جنته.

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها)

اي من السماء أو من الجنة ، وتدل كلمة الهبوط على الهبوط من مكان أعلى ، ومن الطبيعي ان يكون هبوط إبليس ليس ماديا فحسب ، بل ومعنويا أيضا ، ولذلك عاد القرآن واستخدم كلمة الإخراج أيضا.

(فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)

وهكذا كانت الخطيئة الاولى بسبب الاعتماد على العنصر ، والذي تجسد في صورة التكبر عن الحق ، ومن ثم كان الجزاء الهوان.

من حقائق الجزاء :

[١٤] وعلى الإنسان ان يعرف حقيقة هامة جدا هي : أن الجزاء لا يكون دائما بعد العمل مباشرة ، بل على العكس حيث يتأخر الجزاء عن العمل ، وهذا إبليس قد طلب المهلة من ربنا فأعطاه إياها.

٢٨٢

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)

[١٥] (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)

وأهمية فهم هذه الحقيقة تأتي من أن البشر بسبب محدودية الرؤية ، وضيق الأفق يزعم أنه لا يجازى على أعماله بمجرد تأخر الجزاء ، بل حتى حين يأتيه الجزاء ينسى أنه جاءه نتيجة عمله ، ولذلك لا يرتدع بالعقاب ولا يندفع الى الثواب ، وانما يستفيد من الجزاء الذين يعدمون المسافة الزمنية بين العمل والجزاء ، ويتصورون أنفسهم منذ لحظة القيام بالعمل وكأنهم في لحظة الجزاء ، فالزارع الذي يتصور وقت الحصاد ، والطالب الذي يتخيل قاعة الامتحانات ، والجندي الذي تتراقص في مخيلته لحظات الانتصار ، والمؤمن الذي يظن أنه ملاق ربه يكون عملهم أتقن وأبقى ، بينما المجرم الذي ينسى قاعة المحكمة ، والفاجر الذي يكفر بالآخرة ، والفاسق الذي يتناسى الموت يكون أجرء على الله ، وأوغل في الخطيئة.

[١٦] والهالك يسحب من حوله الى الهلاك ، كما الناجي يريد لمن حوله النجاة مثله ، وإبليس حين أمره الله بالسجود تكبر فأخرجه ، وهكذا أضمر حقدا مركزا ضد أبناء آدم الذي بسببه طرد من السماء.

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)

انه يقعد لنا ، اي يرصدنا ويمكر بنا ، ومكره يتجسد في محاولة سلب نعمة الاستقامة منا.

[١٧] ويسعى إبليس بكل وسيلة ممكنة لكي يضللنا.

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ)

٢٨٣

قد تكون هذه الجهات رمزا لاحاطة الشيطان بأبناء آدم من كل مكان ، حتى يتحسس البشر بمدى الخطر الذي يهدده ، فلا يكون في الحياة مهملا ، فارغ البال ، ضعيف العزيمة ، بل يكون جديا ذا فعالية كبيرة.

وقد تكون رمزا لأساليب الشيطان ، حيث يخدع البشر بالمستقبل القادم من بين يديه حينا ، حيث يمنيه غرورا ، ويزين له أشياء يعده بها ، وقد يضله بتصوير الماضي بطريقة تدفعه الى الأعمال السيئة ، أو بسيرة الآباء ، أو بفلسفة التاريخ أو .. بمن حوله من الناس ، بأولاده وزملائه ، أو بأعدائه والمنافسين له.

المهم : ان يعرف البشر أنه لو لم يتصل بالله سبحانه ، ويستعد استعدادا كاملا ، لأحاط به مكر الشيطان واراده وأهلكه ، فلا يصبح شاكرا لأنعم الله وجميل فضله.

(وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)

وهذا في الواقع أسلوب حيث يستخدمه إبليس ، حيث يربط النعم بنفسه ، أو بالأولياء من دون الله ، والذين هم أدوات له وليس بالله سبحانه.

[١٨] والله أعطى البشر العلم والارادة ، وحذره من الشيطان ، وبذلك كلفه مسئولية الدفاع عن نفسه ، ضد هجمات إبليس.

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً)

اي انه بعيد معنويا وماديا حيث انه يذم ويطرد.

(لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)

أي بالتأكيد ان من يتبعك من البشر سيكون مكانه جهنم مع إبليس.

٢٨٤

وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ

____________________

٢٠ [ليبدي] : الإبداء الإظهار ، وهو جعل الشيء على صفة ما يصح أن يدرك وضدّه الإخفاء ، وكل شيء أزيل عنه الساتر فقد أبدي.

[وري] : المواراة جعل الشيء وراء ما يستره ومثله المساترة وضدها المكاشفة.

[سواتهما] : عوراتها.

٢٨٥

الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)

٢٨٦

الغرور الشيطاني سبب الهبوط

هدى من الآيات :

كانت قصة إبليس وعنصريته ، وتكبره وخروجه من السماء ، ووعده أنه سوف يغوي أبناء آدم ، وبالتالي كانت قصة الخطيئة الاساسي هي موضوع الدرس السابق ، والآن جاء دور آدم وأبنائه كيف أنهم انخدعوا بإبليس ، وكيف ينبغي تجنبه؟

أسكن الله آدم وزوجه الجنة ، وسمح لهم بتناول كل الطيبات باستثناء شجرة واحدة ، والتي انما نهيا عنها بسبب حكمة ، بيد ان الشيطان وسوس لهما ليظهر ذلك العيب الذي ستره الله ، وخدعهما بأن الله لم ينه عن هذه الشجرة الا لكي لا يصبحا ملكين خالدين ، وبذلك اثار فيهما حب الرئاسة وحب البقاء.

وحلف لهما بأنه ينصحهما ، ولكن ذلك كان غرورا ، فلما طعما من الشجرة ظهرت العورات الخفية لهما ، وإذا بهما يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وهناك ناداهما الله ربهما ، وقال : أو لم أنهكما عن الشجرة وحذرتكما من عدو كما الشيطان ، وبخلاف الشيطان الذي ازداد تكبرا ، فإن آدم وزوجه ندما على عملهما

٢٨٧

واعترفا وقالا : (إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، ولكن الذنب كان له أثره السلبي حيث أهبطا وذريتهما الى الأرض ، ليكون بعضهم لبعض عدوا ، ولتكون لهم فيها فرصة محدودة.

طبيعة العجز البشري :

[١٩] يبدو أن الجنة التي سكن فيها آدم وزوجه مثل حي لنعمة الحياة المرهفة التي يوفرها الله سبحانه للبشر إذا اتبع مناهجه ، حيث إن مناهج الله ليست سببا للشقاء ، بل سببا للسعادة والفلاح ، والله لم يحرم الطيبات ، بل حرم بعضا مما أوجبته حكمته سبحانه ، كما أباح لأبينا آدم وزوجه أكل ما شاء ولكن حرّم عليهما شجرة واحدة ، والتي لو اقتربا منها لأصبحا ظالمين حيث إنها كانت تضرهما.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)

[٢٠] قبل أن يواجه الإنسان التحديات والشهوات يزعم أنه قادر على مواجهة الضغوط والمشكلات ، وأنه صالح ، ولكن الضعف والعجز كامنان في طبيعة البشر ، ويظهر ان في الامتحان ، وعلى البشر أن يستعد للقيام بعد السقوط ، والتوبة بعد الذنب ، وألّا يغتر بنفسه ، ولا تأخذه العزة بالإثم.

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما)

والوسيلة التي استخدمها الشيطان هي الوسوسة ، وحسب الظاهر فان الوسوسة هي : التشويش على رؤية الإنسان وعمله وفطرته ، وذلك عن طريق اثارة الغرائز التي تصبح حاجزا بين العقل والحقائق.

واستخدم إبليس اسلوبين آخرين :

٢٨٨

أولا : تفسير الحقائق وتحويرها تفسيرا باطلا.

ثانيا : الكذب والحلف عليه ، اما التفسير الباطل فحين كذب.

(وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)

جذر الخطأ :

لقد أثار إبليس صفتين في آدم موجودتان في كل أبنائه ، أولهما : حب الملك والعزة والرفعة ، والثانية : حب الخلود والبقاء والاستمرار وهاتان الصفتان هما تعبيران عن حب الذات والعنصرية المقيتة التي كانت السبب في إغواء إبليس ، بيد أن إبليس أظهر السبب صراحة ، وعلينا ان نسعى من أجل مراقبة هذه الصفات التي ينفذ من خلالها الشيطان الى قلوبنا ويفسد أعمالنا.

ومن الملاحظ ان نقص المواد الغذائية ، أو فقدان المسكن والملبس وما أشبه لم يكن سبب معصية آدم ، انما هو حب الخلود والملك ، وهكذا في أبنائه فلو استطاع البشر مقاومة هذا الحب لتخلص من كثير من المعاصي.

[٢١] ولم يكتف إبليس بتفسير النص الالهي تفسيرا خاطئا لهما واثارة الغرائز عندهما ، بل كذب عليهما كذبا صريحا ومؤكدا بالقسم.

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ)

وأصل المقاسمة : ان تكون من طرفين كأية صيغة أخرى من دون المفاعلة ، بيد أن إبليس قد يكون حلف حلفا مكررا كان يعارض حلف الطرف الآخر.

[٢٢] وكل ذلك التفسير والكذب والحلف كان غرورا ، اي تركيزا للنظر في

٢٨٩

جانب واحد فقط ، وترك الجوانب الثانية مهملة ، حيث إن أصل الغرور هو الثوب حتى لا يتبين كل جوانبه ، والشيطان ينفذ الى قلب البشر من خلال الغر حيث يسعى الى تأكيد جانب واحد فقط من الحقائق وترك سائر الجوانب.

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ)

وأخيرا طعما شيئا من الشجرة ، فظهرت لهما عوراتهما فاذا بهذا يرى عورة الثاني فاستحيا ، فأخذا يجعلان أوراق الشجر على بعضها عسى ان تصبح على هيئة اللباس فيواري عوراتهما ، وبالطبع فان أبناء آدم حين يتبعون الشيطان تظهر نقائصهم ، وضعف إرادتهم ، وقلة مقاومتهم للشيطان.

(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)

وهنا انتهت مرحلة الامتحان ، فناداهما ربهما وقال لهما : الم أنهكما عن هذه الشجرة ، وهكذا يستيقظ الضمير بعد ارتكاب الجريمة.

(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)

[٢٣] وعاد الرشد الى آدم وزوجه كما يعود الى ابنائه العاديين بعد الجريمة ، وهذه من ميزات البشر على إبليس الذي لم يعترف بالخطيئة ، اما التوبة وإصلاح الفاسد من أبرز وأعظم الصفات الحسنة لو استغلت.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)

[٢٤] وخسر البشر بذلك فرصة البقاء في الجنة ، وهبطوا الى دار الدنيا بسبب حب الخلود والرفعة ، وانتشرت بينهم الخلافات ، والصراعات الاجتماعية الدائمة

٢٩٠

والمقيتة وكل ذلك وليد هذه النفسية المذنبة ، ولكن الله أنعم عليهم ببعض الاستقرار على الأرض ، وببعض المتاع والتمتع المؤقت ..

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)

[٢٥] هنا دار الحياة والممات ، ومن ثم البعث.

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)

٢٩١

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما

____________________

٢٧ [قبيلة] : القبيل الجماعة من قبائل شتى ، فاذا كانوا من أب وأم واحد فهم قبيلة.

٢٩ [بالقسط] : العدل.

٢٩٢

بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)

٢٩٣

كيف يواري لباس التقوى

سوأة الإنسان؟

هدى من الآيات :

كما نزع إبليس لباس أبينا آدم حتى بدت له سوءاته ، كذلك يسعى من أجل أن ينزع لباس التقوى منا نحن أبناء آدم ، ذلك اللباس الذي يواري سوءات البشر ، وعلينا ان نتذكر هذه الحقائق : ان الشيطان أقوى منا في الخداع ، لأنه يرانا دون أن نراه ، ولكنه لا يستطيع ان يسيطر الا على الكفار ، لان الايمان يقاوم إغراء الشيطان.

أما الكفار فإنهم يخدعون من خلال مجموعة أفكار خرافية مثل : اتباع الآباء ، والاعتقاد بأنّ كل ما يعمله الآباء فهو دين ومأمور من قبل الله سبحانه ، بينما ربنا لا يأمر بالفحشاء ، وهؤلاء يقولون ما لا علم لهم به ، وانما اتباعا لأهوائهم ، ولا يتذكر هؤلاء أن أباهم آدم قد خدعه الشيطان ، فكيف بسائر الناس؟!

إذ المقياس ليس ما يقوله الآباء ، بل ما يأمر به الله سبحانه الذي أمر بالقسط.

٢٩٤

بينات من الآيات :

لباس التقوى :

[٢٦] لقد انزل الله لبني آدم لباسا يواري عوراته ، وأعطاه ريشا وزينة يتجمل بها ، بيد أن لباس التقوى الذي يواري سوءات البشر المعنوية خير له ، وعليها لا يكتفي بلباس البدن وحده.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ)

وربما استخدم القرآن كلمة (أنزلنا عليكم) لان البركات كلها من السماء.

(وَرِيشاً)

اي زينة ومتاعا.

(وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ)

من لباس البدن بالرغم من ضرورة الاهتمام بهذا وذاك معا.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ)

اي هذه حجة من حجج الله ، وآية تدل على عظمة الله ، وهذه الحقيقة يجب أن يستوعبها الناس.

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)

ان معرفة حاجة البدن الى اللباس قد لا تحتاج الى تعمق بقدر فقه حاجة الروح اليه ..

٢٩٥

[٢٧] ومرة اخرى يذكر الله البشر بأنهم أبناء آدم الذي فتنة الشيطان وأخرجه من الجنة ، وعليهم أن يتحذّروا من فتنة الشيطان.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ)

والشيطان كما نزع لباس أبوينا فانه يسعى لينزع عنا لباس التقوى.

(يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما)

وكذلك حين يفتن البشر يرى الواحد سلبياته وضعفه وعجزه ، فيكون أول من يندم ويوبخ نفسه ، والشيطان يملك وسيلة ضد البشر هي المكر والخداع ، فاذا تسلح الإنسان باليقظة والحذر استطاع ان يقاوم كيد الشيطان.

(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)

بين ولاية الله وسلطان الشيطان :

ولكن ليس للشيطان سلطان على البشر ، لأن البشر يملك الارادة والعقل والضمير ، ولكن الكفار يفقدون إرادتهم في مقاومة الشيطان ، فيصبح وليهم بسوء اختيارهم.

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)

اما المؤمنون فالله وليهم وهم أحرار من قيود الشيطان قال تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ١١ / محمد

ان الذي يتبع شهوة الثروة ويخضع لسلطان الطاغوت ، ويستسلم لارادة رئيس العشيرة ، ويخوض مع تيارات المجتمع حيث خاضت ، انه يفقد أرادته ويصبح ذرة في مهب الرياح الشيطانية.

٢٩٦

[٢٨] وعلامة فقد الارادة ، أن هذه الفئة لا تملك حرية التفكير وتتعرض لأسوإ استعمار واستعباد وهو فقدان الاستقلال الفكري والثقافي الذي هو مقدمة لسائر أنواع الاستغلال والاستثمار.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا)

زاعمين أن ذلك يكفي شرعية للعمل ، وأسوء من هذا أنّهم كانوا يزعمون أن أفكار الآباء تمتلك قداسة سماوية.

(وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ)

تلك التي يوافقها الفرد بعقله ، وكلما يأمر به الآباء أو الأحبار أو السلاطين ، ولكن العقل كان يعارضه فهو بعيد عن القداسة وعن الله.

(أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

[٢٩] العدالة فطرة كامنة في البشر وطموح كبير وإذا لم يهو أحد القيام بالقسط بنفسه فلا ريب أنه يحبه للآخرين ويطالبه منهم ، والله لا يمكن أن يأمر بغير القسط ، والعالم كله يشهد له بالعدالة في كل شيء.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ)

وأمر الله بالّا يعبد الا هو ، وحتى في المواضع التي يعبد من دون الله شركاء ، يجب رفض الشركاء وعبادة الله الواحد القهار.

(وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)

أنّى كان ميعاد السجود علينا ان نسجد لله لا للشركاء ، رمزا لخلوص عبادتنا

٢٩٧

ووحدة اتجاهنا ، ودعائنا كذلك يجب أن يكون خالصا لله.

(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)

فلا يتجزأ الدين ليؤخذ منه جانب العبادات وتترك المعاملات الاقتصادية ، أو القضايا السياسية أو ما أشبهن ، وليس هناك تمييز بين أبناء آدم حتى يعبد بعضهم بعضا ، أو يترك بعضهم جانبا من الدين إرضاء للبعض الآخر.

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)

سواسية كأسنان المشط.

[٣٠] نعم هناك اختلاف واحد بين أبناء آدم يعترف به الإسلام هو : اختلافهم من حيث الايمان والعمل الصالح (أو بتعبير آخر اختلاف الارادة والسلوك).

(فَرِيقاً هَدى)

اي هداهم الله فاستجابوا للهداية.

(وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ)

وكتبت عليهم الضلالة بسبب توجههم الى غير الله.

(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)

حينما يهبط البشر الى هذا الدرك لا يرجى له الشفاء ويصبح ممن حقت عليه الضلالة ، حيث يتخذ الشيطان ، الذي هو عدو وليا وقائدا له ، ويكفر بالله خالقه وراحمه ، والانكى من ذلك أنه يحسب نفسه مهتديا ، وهو في الضلال البعيد.

٢٩٨

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)

____________________

٣٣ [البغي] : الاستطالة على الناس ، وحّده طلب الترؤس بالقهر من غير حقّ.

٢٩٩

تشريعات الرسالة تكامل وواقعية

هدى من الآيات :

في الدرس السابق ، أمر القرآن بإخلاص الدين لله ، ومعناه أن تكون وجهة البشر نحو الله في كل جوانب الحياة ، وأن تكون برامج الله سائدة على كل أبعاد الحياة ، وفي هذا الدرس يضرب القرآن لنا مثلا واقعيا حيث يأمرنا بالتزين عند كل مسجد فالمسجد عبادة ، والزينة حياة كما يأمرنا بالأكل والشرب ضمن حدود التقوى ، ثم تساءل القرآن عمن حرم زينة الله ، وطيبات رزقه التي هي خالصة للمؤمنين في يوم القيامة؟ ثم نهى القرآن عن مجموعة شؤون حياتية كالفواحش والإثم والبغي فالفواحش والإثم مثلا للسلوك الشخصي المنهي عنه والبغي مثلا للسلوك الاجتماعي المنهي عنه.

كما نهى مرة اخرى عن الشرك. الذي من مظاهره الخضوع للسلطان الظالم ، ونهى عن القول بغير علم مثلا لتوجيه القرآن في الثقافة ، هذا هو الدين وخلوصه يعني الا يتبع الفرد شريعة ومنهاجا من غير الدين.

٣٠٠